الباب الثالث

تنغ وان

الجزء الأول

وجملته خمسة فصولٍ

(٥–١) لما كان الماجد الأشرف «أون» عظيم دولة تنغ في مرتبة الإمارة (قبل أن يترقى إلى سُدة الحكم) قاصدًا الذهاب إلى دولة «تشو» فقد مرَّ في طريقه بدولة «شونغ»، والتقى بالفيلسوف منشيوس، الذي كان منهمكًا في أقواله حول «الطبيعة الإنسانية المجبولة على الخير»، وبطبيعة الحال فقد امتدَّ الحديث حتى ذكر طرفًا من سيرة «الملكين الحكيمين» «ياو»، و«شون».

ثم إنَّ عظيم دولة «تنغ» [الأمير أون وقتئذٍ] مرَّ في طريقه وهو عائد من دولة تشو بالحكيم منشيوس أيضًا. فقال له: «هل تشك في كلامي يا سُمُو الأمير، إذا قلت لك ليس هناك سوى مبدأ واحد صحيح لكل الأشياء، وقد حدث ذات مرة أن تكلم «شنجيان» (أحد أبطال دولة تشي) مع عظيم دولة تشي «جينكون» فقال له: «إنَّ هؤلاء جميعًا بشر، مثلما أنا بشر أيضًا، لا فرق بين أحد من الناس، فلماذا ينبغي أن يخشى بعضنا بعضا؟» وبهذا المعنى تحدث يان يوان، فقال: «إنَّ مثلي مثل الملك الحكيم شون؛ بل كل مَن قدَّم إنجازًا تاريخيًّا خالدًا، يقف معه على قدَم المساواة ويحظى بمثل مكانته القديرة.»

وقال «كون مينغي» (من تلاميذ سنغ زي، الشيخ الكونفوشي الكبير): «قد كان الملك أون أستاذي ومعلمي الذي عرفت الحكمة على يديه، فكيف يمكن لواحد مثل النبيل الماجد «تشو» أن يخدعني (مَن تعلم على يد الملوك فلن يمكن لأعظم الأمراء أن يخدعه بسهولة!)، وأرى أنَّ دولة تنغ تقع على مساحة من الأراضي يبلغ محيطها ما يقرب من خمسين لي متكاملة، «وهي مساحة صغيرة، لكنها …» تتوافر فيها شروط تأسيس دولة ناجحة»، وقد ورد في كتاب «الشِّعر القديم»، ما نصه:

«لن يذهب عنك الداء
ما لم يتجرع حلقك مرَّ الدواء،
ويتخبط رأسك الألم، وتدمع الأجفان».»

(٥–٢) لمَّا توفي الملك «دين» عظيم دولة «تنغ» ذهب الأمير يستشير أستاذه «رانيو» قائلًا له: «كنتُ قد التقيتُ — وأنا بدولة سونغ، منذ زمان — بالحكيم منشيوس، وقال لي كلامًا ما زلت أذكره حتى هذه اللحظة، أما وقد ألمَّ بنا هذا المصاب اليوم فإنِّي أريد أن أرسلك إلى منشيوس تسأله النصح والمشورة قبل البدء في طقوس الدفن والعزاء.»

وبالفعل فقد ذهب رانيو إلى دولة «تسو»، حيث التقى بالشيخ الحكيم، وطلب إليه أن يشير عليه بما يجب عمله «في هذه الظروف …»، فقال له: «إن كنتَ جئتَ تسألني عما ينبغي عمله، فنِعم مجيئُك إذن؛ لأنه يجب على المرء أن يبذل كل اهتمامه وعنايته فيما يليق بطقوس دفن والديه؛ وكان الحكيم سنغ زي قد قال ذات مرة: «لا بد أن يكون الوالدان موضع رعاية الأبناء وهم على قيد الحياة، فإذا قضيا نحبهما، أُقيمت لهما طقوس جنائزية على النحو الذي تقضي به الأصول والآداب، وقُدمت لهما الأضحية عند قبريهما، فذلك من البر والرحمة؛ فأما بخصوص آداب إقامة طقوس الدفن عند الأمراء وقادة الممالك، فليس عندي شيء مما تقضي به الأصول (المدارس الفكرية) في ذلك؛ إلا أنِّي سمعتُ «أنَّ الأعراف تفرض» ارتداء ثياب الحداد الخشنة غير المخيطة مدة ثلاث سنوات، وألَّا يُقدم على الأسمطة من الطعام إلَّا حساء الأرز، فريضةً على كل من مات والداه، يستوي في ذلك الكل من ملك وحاشية ورعية، من أرفع القوم قدرًا إلى أدناهم، فذلك هو التقليد الراسخ منذ أيام الأسرات الملكية الثلاث القديمة (شيا، شانغ، جو).»»

وعاد رانيو أدراجه فأبلغ الأمير بما دار، وهنالك قرر سموه أن تُقام مراسم العزاء مدة ثلاث أيام؛ إلا أنَّ شيوخ القوم وكبار رجال الدولة ضجوا بذلك القرار ولم يذعنوا له، قائلين إنَّهم لم يسمعوا بشيء من ذلك فيما عرفوا من سيرة أجداد وملوك دولة «لو» الأقدمين، ولا ورد لهم خبر يقضي بصحة تلك الطقوس فيما عرفوا من آبائهم وأجدادهم في دولة «تنغ»، فليست هذه إلَّا بدعًا وضلالات من لدن «أمراء هذا الزمان»، وهو ما لن يقبلوا به أبدًا، هذا فوق ما طالعوه في كتاب «التاريخ»؛ حيث ورد ما نصه: «يجب الالتزام في إقامة طقوس العزاء ومراسم تقديم القرابين بما قرره الأجداد من قديم»، واجتمعت كلمتهم في ذلك بأنَّه «يجب اتباع ما تواصى الأقدمون بالعمل به»، وعندئذٍ قال الأمير لأستاذه: «لم ألحظَ من مطالعتي في العلوم بالشيء الكثير؛ ذلك أنِّي كنتُ أهوى الفروسية وألعاب السيف، وأرى أنَّ جهلي (بأمور الحداد والعزاء وطقوس الدفن) قد أثار عليَّ غضب الشيوخ والحكماء والمقدمين من رجال الدولة، وربما كان من نتيجته ذلك أن أقع في مزيد من التقصير عن إقامة الحداد الرسمي وطقوس التعزية، فاذهب ثانيةً، إلى منشيوس وانظر ماذا تجد عنده من المشورة في هذا الأمر.» فسافر رانيو إلى دولة تسو مرةً أخرى وقابل الشيخ الجليل الذي أجاب بقوله: «نعم، هذا عين الصواب، وليس من الحكمة أن نطلب من الناس إتيان ما يتجاوز طاقتهم، وقد قال كونفوشيوس في هذا المعنى قولًا مفاده:

«إذا تُوفِّي الملك، آلت شئون الحكم إلى رئيس الوزراء؛ «… أما الأمير ﻓ» لا يَرفع إلى فمه إلَّا حساء الأرز، حتى يمتقع وجهه كمدًا وحزنًا، ويظل مقيمًا بمكانه وهو يذرف دموع الحزن. وعلى الوزراء وكبار المستشارين الاجتهاد في إظهار مشاعر الأسى؛ اقتداءً بأميرهم وكبيرهم، إنَّ إرادة الكبار غالبة وواجبة على كل مَن هو دونهم. إنَّ سلوك النبلاء كالريح الرامح في الأجواء، أمَّا تصرفات العامة والدهماء فكأنَّهما أعواد النبات التي لا معدل لها عن الميل باتجاه الريح، فالأمر كله يصير إلى الأمير، في أول الأمر ومنتهاه.»

وعاد رانيو ليبلغَ الأمير بما سمع، فإذا بسموِّه يقول له: «هذا هو القول الصحيح، فالأمور تصير إليَّ في كل الأحوال!»، ثم إنَّ الأمير راح ليقيم في كوخ الحِداد مدة خمسة أشهر «كما هي العادة بالنسبة للأمراء، حيث يقيمون في أكواخ جافة غير مبنية بالطوب، ولو أنَّ القاعدة الأخلاقية تنص على ألَّا تقل مدة الإقامة للأمراء عن سبعة أشهر، وللنبلاء خمسة أشهر متصلة» دون أن يتدخل في سلطة إصدار أيَّة قرارات قيادية [حرفيًّا: دون إصدار قرارات بالتصديق أو الحظر].

وهو الأمر الذي لقي استحسان الكافة، من العامة والخاصة؛ حيث عُدَّ سلوكه على هذا النحو مطابقًا للمفهوم والمعهود من الشرائع والعادات، فلما حان موعد إقامة طقوس الدفن توافدت الجموع لمشاهدة المراسم، وظهر وجه الأمير متجهمًا مغبَّرًا تعلوه مشاعر الحزن الشديد، تفيض على وجنتيه الدموع، فكان ذلك من دواعي الغبطة والرضا [هكذا] عند وفود المعزِّين جميعًا.

(٥–٣) التقى الأمير «أون» عظيم دولة «تنغ» بمنشيوس، فسأله في عدة موضوعات بشأن مبادئ سياسة الممالك، فقال الشيخ الحكيم: «إنَّ شئون الحكم ومصالح الناس ليست من الأمور التي تحتمل الإهمال، وقد ورد في كتاب «الشِّعر القديم» ما نصه:

«أكرم بمَن خرج في نهاره ليحتطب،
وعاد في المساء ليفتل بأكفٍّ صلبة أوتادَه،
وظل ساهرًا يرتق ثغرات في الجدار،
ثم صحا ليحرث أرضه،
ويبذر زرع الربيع.»

أما الأحوال التي تكتنف حياة الناس فهي على هذا النحو، لطالما كان ذوو الدخول الثابتة من الناس يعيشون حياةً هادئةً والعكس صحيح، فإذا تكدرت الأحوال بسبب عدم ثبات الدخول انتشرت الفوضى ودبَّ الانحلال وعمَّ الفساد «… وصار كل فعل جائزًا، وكل أمر يؤتي بغير ضبط ولا ربط»، حتى إذا شاعت الجرائم أخذت بنواصيها أحكام القضاء وعقوبات القانون؛ مما يعد اتهامًا كيديًّا ومزورًا يمس شرف الناس، فكيف يمكن أن يُقال بأنَّ نظام الحكم قائم على الرحمة والإنسانية؛ بينما هو يتهم الناس زورًا وبهتانًا؟

وهكذا فينبغي على «الملك» الحكيم أن يأخذ الأمور بالحذر والحيطة، وأن يتواضع في خُلقه، ويقتصد في نفقاته، ويتقرَّب إلى البسطاء ويُلين لهم جانبه، ولا يفرض على الناس ضريبة إلا بقدر محدود ومعلوم، ولقد تحدث يانخو (أحد كبار الوزراء بدولة لو) مرةً، فقال: «إنَّ الباحث عن المال لن يكون رحيمًا، والساعي إلى العطف والشفقة لن يصير ذا مال.» (كان نظام جباية الضرائب في الأسر الملكية الثلاث الماضية كالتالي:) في أسرة «شيا» جرى فرض نظام «قونغ» (التحصيل الجبري) على كل أرض بلغت مساحتها خمسين «مو».

وأثناء حكم أسرة شانغ، كانت الضريبة المسماة ﺑ «تشو» (أي المعونة) تُجبى من كل أرض مساحتها سبعون «مو».

أما في أسرة «جو» فقد كانت تؤخذ ضريبة اﻟ «تشي» (الخراج التام) عن كل مائة «مو» كاملة من الأراضي؛ والحق أنَّ نسبة الضرائب في كل ذلك لم تتجاوز مقدار العشر.

والمقصود بنظام «التشي» (الخراج التام)، هو العمل على التحصيل الكلي للضريبة؛ أما نظام اﻟ «تشو» [المعونة] فهو يُشير إلى الاستعانة بالعاملين في زراعة الأراضي التي في الحيازة العامة.

وقد قال «لونزي» (أحد حكماء العصر القديم) ذات مرة: «عند العمل بنظام التحصيل الضريبي على الأراضي، فليس هناك أفضل من نظام «المعونة»، وليس أسوأ من نظام اﻟ «قونع» [التحصيل الجبري]»، ففي هذا النظام الأخير، يجري احتساب متوسط حصاد عدة سنوات كمعيار محدد لتحصيل الخراج، وعندما يحل عام حصاد وافر، توضع الغلة أكوامًا مكدسةً، وتزاد نسبة الضريبة المقررة عليها شيئًا قليلًا بما لا يبلغ حد التجني الفادح؛ أما في سنوات القحط، عندما تقصر الأرض والحصاد عن الوفاء بما بذل في التسميد والبذار من جهد، فليس أقل عندئذٍ من تحصيل النسبة التامة للضريبة المقررة.

كيف لمَن يزعم لنفسه مكانة الأب الحامي والأم الرءوم لشعبه، عندما تمتلئ صدور الناس منه غضبًا، «وتنظر إليه العيون شزرًا»، ولا يفيد أحد من جهده مهما اجتهد لأجل الغير؛ بل يجد رعاياه من الفاقة والمشقة ما يضطرون معه إلى الاستدانة للوفاء بما تقرر عليهم من جزية، مما يؤدي ببعضهم إلى الهلاك، «… فتجد الشبان والشيوخ، والآباء والأبناء قد لقوا حتفهم في قيعان الوديان»؛ أيستحق مَن يتعذَّب الناس تحت سلطانه، أن يُسمي نفسه مثل هذه الأسماء (الأب الحامي …)؟

ثم إنَّ كبار الموظفين ينعمون على مرِّ الزمان بالحصول على رواتب حكومية متميزة وهو نظام تأخذ به دولة تنغ من زمان بعيد (في حين لا يملك العامة شيئًا يقيم أودهم) وقد ورد في كتاب «الشِّعر القديم» — في هذا المعنى — ما نصه:

«فلتسقط قطرات المطر
فوق كل الأرض [الحيازة العامة]،
حتى إذا فاض القطر،
ارتوت منه حقول آحاد الناس.»

ومن ثم فلن تقوم لنظام الحيازة العامة قائمة إلَّا بواسطة تطبيق الجباية الضريبية المسماة ﺑ «المعونة»، ويتضح من أبيات الشِّعر السابقة أنَّ دولة «جو» كانت (في قديم الزمان) تُطبق هذا النظام أيضًا. ولا بد من إقامة مؤسسات تربوية لنشر العلم والأخلاق بين الناس، «والمؤسسات من هذا النوع تنقسم إلى:» «شيانغ»، بمعنى المدرسة التأهيلية، و«شياو» أي المدرسة التوجيهية، وشيو، التي تفيد «مدرسة الرماية». وكانت تلك المؤسسات التربوية المحلية تتخذ أسماءً مختلفةً في كل أسرة ملكية على حِدة؛ «فمثلًا» كان يُطلق عليها في أسرة شيا الحاكمة اسم «شياو»، ثم أصبح الاسم «شيو» إبان أسرة شانغ، أمَّا في عهد أسرة جو فقد صار اسمها «شيانغ» (هذا بينما أُطلق عليها جميعًا في الأُسر الثلاث مؤسسات تربوية محلية، اسم «شيوي»). وكانت مهمتها إرساء قواعد المعاملات والأخلاق العامة، وهي مجموعة المبادئ التي إذا ما استقرت في وعي وسلوك السادة المهذبين (النبلاء، كبار الموظفين) نشأ الود والتفاهم بينهم وبين العامة؛ «ذلك أنَّه» إذا تأسس سلطان الحكم على الحكمة والفضيلة اقتدى به الناس جميعًا، وهو ما يجعل من عرشكم (إذا ما وعيتم هذا النصح) منارًا للحكمة، «ويجعل من جلالتكم شيخًا وأستاذًا لكل مريد.»

وقد جاء في كتاب الشِّعر القديم، ما نصه:

«لما أصابت يدُ البِلى
دولةً قديمة العهد،
كدولة جو،
أفاء عليها القدَرُ
بنعمة الشباب المتجدد،
(في شخص الملك الأكرم!)

ومن الجدير بالذكر أنَّ هذه الأبيات وردت في مديح الملك أون (حاكم دولة جو)، فما عليك، يا مولاي، لو بذلت جهدًا أكبر لتحقق الازدهار المنشود، فيتجدد شباب وطنك بعزمك وإرادتك.»

ثم إنَّ الملك «ون» (حاكم دولة تنغ) أرسل وزيرة «بيتشان» إلى منشيوس ليسأله حول موضوع نظام تقسيم الأراضي (نظام المربعات التسعة)، فلما استقبله الحكيم قال له: «ما دام أستاذك (مليكك) قد اختارك دون الآخرين جميعًا لأمر يريد به سياسة رشيدة تقوم على الرحمة والإنسانية، فلا بد أن تعمل كل جهدك لإتمام ما جئت لأجله على خير وجه؛ أما بالنسبة للسياسات التي تستهدف العمل بمبادئ الرحمة والإنسانية، فإنَّ أول ما ينبغي أن تأخذ به هو تعيين حدود تقسيم الأراضي الزراعية؛ ذلك أن العبث في هذا الأمر أو التقسيم غير المتكافئ يتسبب في توزيع جائر للأجور والمرتبات، وهو الأمر الذي يفتح الطريق أمام استبداد الحكم وفساد الإدارة الحكومية كي تتمادى في العبث بحدود التقسيم. وهكذا، فليس هناك سوى حلٍّ واحد لضمان تحديد الأجور وتوزيع أنصبة الأراضي على نحوٍ عادل بين الناس، ألا وهو التقسيم المتكافئ لحدود الأراضي.

من المعلوم أنَّ أرض دولة تنغ ضئيلة المساحة، «ومع ذلك فأيًّا كانت مساحة الأراضي في أي بلد»، فيجب أن يدخل الإدارة الحكومية موظفون رسميون (جُدد)، ولا بد أيضًا أن يكون هناك فلاحون لزراعة الأراضي، فبدون رجال الإدارة يتعذر تنظيم عمل المزارعين، وبغير فلاحين، لن تقوم لرجال الإدارة الحكومية قائمة (لن يجدوا مَن يعول حياتهم)، ومن ثم فيجدر اقتطاع نسبة التُّسع، في المناطق البعيدة عن مراكز المدن الكبرى عملًا بنظام الجباية «بالمعونة»، أما في المناطق الحضرية ومراكز الأقاليم فيجري العمل بنظام اﻟ «قونغ» أي خراج الأراضي الإلزامي؛ حيث تقتطع نسبة العُشر من حصيلة إنتاج الأرض الإجمالية، ومن حق كبار الموظفين وصغارهم، سواءً بسواء، أن يحوزوا أراضيَ مخصصة لإقامة طقوس القرابين (قويتيان)، لكل فرد منهم خمسون «مو»، على أن تزيد تلك النسبة خمسة وعشرين «مو» إضافية، إذا كان هناك فائض في عدد العاملين بالأراضي، ولا يجوز لأي شخص أن يجاوز حدود القرية أو المدينة محل إقامته لأي غرضٍ كان (حتى لو كان الغرض إنشاء مقبرة للدفن، أو الانتقال إلى مسكن جديد)، وكل مَن يشتركون بحكم الجوار في قطاع واحد من تسعة مربعات «من الأرض» يحافظون على علاقات طيبة ويسود بينهم حسن الجوار، سواء في الذهاب والإياب، أو الإقامة والسفر؛ يتناوبون الدفاع عن ممتلكاتهم، ويتزاورون في حال المرض والأزمات فيعم بينهم التآخي والتآزر.

«ويكون التقسيم قائمًا على أساس أنَّ …» لكل مِيل مربع منطقة من المربعات التسعة، كل منطقة منها تبلغ تِسعمائة «مو»، ووسط كل مائة «مو» يقع حقل جماعي، ويوزع على كل ثمان عائلات أرض خاصة بهم تبلغ مائة مو، على أن يشترك الكل في زراعة الحقل الجماعي؛ بحيث لا يملك أحد أن يباشر شئونه الخاصة إلا بعد الانتهاء من العمل المكلف به تجاه الأرض ذات النفع العام، هناك يكمن الفرق بين مسئوليات الموظفين العموميين والمزارعين.

وليس هذا كلُّه سوى إطار عام «للأفكار»، أمَّا فيما يتعلق بكيفية الضبط، والإنجاز على أتم وأكمل وجه ممكن، فذلك شأنك أنت وجلالة الملك؛ (حيث يبرز دوركما ومقدرتكما الفذة على العمل والإبداع).»

(٥–٤) نزل على الملك «تنغ» — حاكم دولة «أون» — ضيف قادم من دولة تشو، يدعى «شيوشين»، وهو من أتباع مذهب الإله «شن نونغ» (إله الزرع والحصاد، في قديم الزمان، الذي علَّم الناس كيفية استخدام أدوات الزراعة واكتشف أسرار الطب والدواء)، ثم إنَّه تحدَّث إلى جلالته، فقال: «بلغني أنَّ جلالتك تحكم بسياسةٍ تقوم على الرحمة والعدل، فجئتُ من أقصى البلاد قاصدًا أرضك أملًا أن تمنحني دارًا للسُّكنى وتجعلني تحت تاجك، واحدًا من رعيتك»، فأعطاه الملك ما طلب، وكان رفاق الرجل وأتباعه كثيرين، يرتدُون خشن الثياب، ويتكسَّبون معاشهم من صناعة الحصير والسلال والأحذية الكتانية.

وفي ذلك الوقت كان «تشن شيان» (أحد تلاميذ «شن ليانغ») وأخوه الأصغر «تشن شين» قادمَين من دولة سونغ، في طريقهما إلى «تنغ» يحملان أدوات الزرع والفلاحة، فلما مَثُلا بين يدي الملك قالا له: «سمعنا أنَّ جلالتك تسير في الناس بسياسةٍ رحيمة، مثل الحكماء القديسين، وإنَّا نراك شيخًا فاضلًا حكيمًا، وينبغي أن نكون من رعاياك»، فلما التقى تشن شيان مع شيو شن اغتبط كلاهما بتعارفهما، ونبذ تشن شيان ما كان قد تعلَّمه على يد أستاذه السابق «تشن ليان» وصار تابعًا لصاحبه الجديد، يترسَّم خطاه، ويتعلم على يديه.

وكان تشن شيان قد التقى مع منشيوس، فحدَّثه بما قال شيو شن من أنَّ … «جلالة الملك أون — حاكم تنغ — هو الشيخ الحكيم، والرجل العاقل حقًّا، لكنه، برغم ذلك، لا يفقه القاعدة الأساسية لحكم الممالك؛ ذلك أنَّ الحاكم الفاضل هو مَن يفلح أرضه بنفسه، ويرتب مائدة طعامه بيديه، مثلما يدير شئون الممالك، ثم إنَّ دولة تنغ أصبحت الآن ذات مخازن هائلة للغِلال والأمتعة والأموال، مما يُعَدُّ إضرارًا بحياة الناس وأرزاقهم … [بما يقف بينهم وبين استثمار المواد المكتنزة]، فكيف يُمكن أن يتسم الحاكم بالنجابة والقداسة؟» … وعندئذٍ تساءل منشيوس قائلًا: «أيُمكن، إذن، أن يكون شيوشن ممن يزرعون أرضهم بأنفسهم، ويكسبون قوت يومهم بعمل أيديهم؟» فأجابه «تشن»: «نعم، هو ذاك حقًّا»، فسأله «منشيوس»: أيُمكن أن يكون شيو شن ممن لا يرتدون إلا الثياب التي ينسجونها بأنفسهم؟

– كلا، بل لا يرتدي إلا ثيابًا صوفية خشنة.

– وهل يرتدي قبعةً.

– نعم.

– وما شكلها؟

– قبعة من حرير أبيض.

– أهي من غزل يده؟

– كلا، بلا ابتاعها مبادلةً ببعض الحبوب.

– فلماذا لم يغزلها بنفسه؟

– لأنَّه لا يريد أن يهمل زرعه.

– وهل يستعمل آلات الحرث الحديثة في فلاحة أرضه، والقدور في طبخ طعامه؟

– نعم.

– أهي أدوات من صنع يده؟

– كلا، بل أشياء ابتاعها مبادلةً.»

فقال له منشيوس: «أعندما يبتاع امرؤ أدوات الفلاحة وآنية الطبخ بمبادلة الحبوب، لا يُعد هذا إضرارًا للحدَّادين والفَخَّارين، أمَّا إذا أجرى هؤلاء مبادلة مع الآخرين، فأعطوهم الأواني وآلات الحرث؛ ليحصلوا بالمقابل، على الحبوب، أفلا يكون في ذلك بالغ الضرر بالمزارعين؟ ولماذا يتقاعس الفاضل الأكرم شيو شن عن أن ينشئ القمين فيصنع فيه الأواني، ويشعل التَّنُّور فيصهر فيه حديد المحاريث كي يضمن أن تكون كل أدواته من متاع بيته، دون أن يدخل في صفقه مبادلة بغير داعٍ مع الحرفيين والصُّنَّاع؟ لماذا يثقل كاهله بمتاعب لا لزوم لها؟»

«فأجابه تشين:» «إنَّ طبيعة عمل الحرفيين لا تسمح لهم بمزاولة تصنيع الأدوات بجانب فلاحة الأرض؛ فإما هذا أو ذاك.»

فقال منشيوس: «ما دام الأمر كذلك، فكيف نطلب من المسئول عن إدارة مملكة كبرى أن يملك القدرة على زرع الأرض، وحرث الحقول، ومتابعة مهامه في إدارة الشئون الحكومية في الوقت نفسه؟

إنَّ لكلٍّ عملَه الموكل إليه بإتمامه؛ فكبار المسئولين لهم مسئولياتهم المحدودة، وصغار الموظفين لهم أعمالهم المعهودة، ثم إنَّ المطالب الحيوية للناس تحتاج في إشباعها للجهود الوظيفية التي يقوم بها صاحب كل حرفة في مجاله، وإلَّا فإنَّ اشتراط قيام الفرد نفسه بصنع وإعداد كل ما يلزمه بيديه سيجعل من قيادة الدول والممالك مطلبًا يفوق حدود طاقة الجهد الإنساني؛ لذلك يقال عادةً «في الأمثال السائرة» بأنَّ الناس صنفان، «صنف يبدع بطاقته الذهنية وآخر يعمل بقدراته الجسمانية»، فالأول هو مَن يقود الناس والثاني هو مَن يُقاد غالبًا؛ فصاحب القدرة الجسدية هو الذي يقوم بما يحتاج إليه الناس في معاشهم من حاجات، أمَّا أصحاب الإبداع الذهني فهو الذي يعتمد على العامل بيديه في سد احتياجاته، وهذا مبدأ نافذ وشريعة عامة تحت السماء «… في كل مكان».

ولقد جاء على الأرض زمانٌ لم تكن تنعم فيه بالسلام والاستقرار — إبان حكم الإمبراطور الحكيم «ياو» — إذ فاضت الأنهار وسالت ضفاف البحار، وأغرق السيل كل الأنحاء، وصار العشب كثيفًا وتشابكت أشجار الغاب وامتلأت الأرض بالوحشي من الدواب والطير، ولم تعد الحقول تنبت زرعًا مما يأكله الإنسان (المحاصيل الخمسة: البُر، والأرز، والذرة، والشعير، والدخن)، وصارت وحوش الطير تتهدد حياة البشر، وقد امتلأت اليابسة بالسباع الهائمة في كل درب، وآثار مخالبها محفورة فوق الأديم، مما أوقع الغم والضيق في نفس الملك الحكيم «ياو»، فأرسل مساعده «شون» ليضع الأمور في نصابها ويشرف على المسئوليات الجسام، وكان أول ما قام به شون هو أنَّه كلَّف «بوي» بالإشراف على آلات إشعال الحرائق؛ مما ساعده على القيام بإشعال لهب النار في الحشائش الكثيفة حول البرك والمستنقعات وفوق الوديان والجبال، فاندفعت أسراب الطير الهائمة تهرب إلى أعشاش بعيدة، وصدرت الأوامر للمسئول «يو» بتطهير القنوات النهرية [للبحار التسعة «حرفيًّا»، بمعنى: معظم القنوات والأنهار]، وهكذا فقد تمكَّن من تعميق نهرَيْ «تشي»، و«طاء»؛ مما ساعد على تصريف مياههما في البحر الكبير؛ بل إنَّه شقَّ أنهارًا جديدةً، مثل نهرَيْ «رو»، و«هانشوي»، وقام بتطهير المجرى المائي لكل من نهرَيْ «هواي»، و«سيشوي»، وأوصلهما بمجرى نهر جيانغ [أي: اليانغتسي]، وعندئذٍ، صار من الممكن لأهالي المناطق الوسطى أن يقوموا بزراعة الأرض وكسب العيش.

ثم شاءت الظروف للمسئول الكبير «يو» أن يواصل مهمة إصلاح القنوات والأنهار طيلة ثماني سنوات أخرى دون انقطاع، حتى إنَّه تصادف أن مرَّ بمنزله ثلاث مرات، دون أن يجد وقتًا لزيارة أهله وعشيرته لكثرة ما وُكل إليه من مسئوليات، فانظر وتأمَّل … أيمكن لهذا المسئول الحكومي البارز أن يجد وقتًا لزراعة الأرض وحرث الحقول «… وهو الذي يكاد لا يجد فرصةً لزيارة عائلته؟!»

كانت «هوجي» (إلهة الزرع والحصاد) هي التي علَّمت الناس الزرع والحصاد وإنبات الحبوب الخمسة (كل أنواع الحبوب) مما كان يُقيم أود الرعية ويشبع بطونهم ويحفظ حياتهم. ثم برزت مسألةٌ مهمة في العلاقات الإنسانية، وهي أنَّ الناس إذا أكلوا فشبعوا، وارتدوا حَسن الثياب فنعموا بالدفء ورغد العيش، بعد إذ استقر بهم المقام في منازل آمنة دون أن يصيبوا شيئًا من العلم، صاروا كالبهائم والوحوش والجوارح؛ مما أثار قلق واهتمام الملك الحكيم خشية أن يصل الحال برعيته إلى تلك الدرجة، فكلَّف الوزير «شيه» بمسئولية الإشراف على توعية الناس وتنويرهم بمبادئ الأخلاقيات «كي يفهموا ويحسنوا إدراكَ» أنَّ العلاقة بين الأب وولده تقوم على المودة. وبين الملك ووزرائه، فالعلاقة أساسها الاحترام والتقدير. أمَّا ما بين المرء وزوجه فالأساس هو تقدير الفارق الجوهري بين وظيفة كلٍّ منهما ودوره. وبين الصغير والكبير، فهناك فارق السن. وما بين الأصدقاء ترتكز المعاملات على الوفاء والإخلاص.

وقد قال الإمبراطور الحكيم «ياو» — في هذا الشأن — (وهو ينصح وزيره المكلف بمهمة التثقيف الشعبي قائلًا له): «ابذل لهم (الناس) كل التقدير والتحية والرفق، والتوعية، والإرشاد، والعون، والحماية، والاهتمام الصادق؛ كي يجد كل واحد منهم بغيته فيما تقدمه له من توعية؛ بل عليك أن تتفضَّل على الجميع بمزيد من الدأب والمؤازرة والإنعام …»

فلئن كان الأباطرة القديسون يوجِّهون اهتمامهم على هذا النحو تجاه شعوبهم … فترى، متى كانوا يجدون من الوقت ما يكفل لهم حرث الأرض وإنبات البذور؟

إنَّ أشد ما كان يجلب الضيق إلى قلب الملك «ياو» هو خشيته من ألَّا يجد بجانبه رجلًا حكيمًا مثل «شون»، وكذلك فقد كان أكثر ما يدخل الحزن والغم إلى نفس «شون» هو ألَّا يعثر بين المسئولين من حوله، على رجال من أمثال «يو»، أو «كاوياو»، أمَّا الوحيد الذي كان يرتعد خوفًا وقلقًا من احتمال ضياع الفرصة المناسبة لزراعة محصول جيد فيما يملكه «من قيراط الأرض الوحيد» فهو المُزارع المسكين.

إنَّ إغداق المال على الناس (المحتاجين) يُسمى العطف، ومعاملة الآخرين بالحسنى هو الإخلاص، أمَّا الاجتهاد في البحث عن الشخص الكفء الجدير بخدمة الممالك على نحو يُظهر مزاياه الفريدة فهو أفضل وجوه الخير جميعًا. لذلك كان يُقال دائمًا بأنَّه من السهل جدًّا تسليم سلطة إدارة الممالك لأي قادم جديد، لكن الأمر الصعب حقًّا يتمثَّل في المقدرة على ترشيح الرجل المناسب ذي الكفاءة والخلق. وقد قال كونفوشيوس ذات مرةٍ: «ما أعظم مكانة «ياو» حاكمًا قديرًا للممالك، لكن السماء أعظم كثيرًا، ولئن كان لياو نصيبٌ من الجدارة في شيء، فلأنَّه يقتدي بمبادئ السماء … نعم، ما أحلمَه وأجدره بالثناء الجليل! وما أكرمَ الملكَ «يو»، ذلك المتواضع برغم واسع مُلكه، وأزهرَ نور بهائه.» فهل يمكن أن نتصور كلا الحاكمين وقد خلت ساحتهما من أي نشاط يقومان به لمصلحة شعبهما ومملكتهما سوى أن يتفرغا لفِلَاحة الأرض وزرع الحقول؟

قد سمعتُ أنَّ التحضر والتمدن الذي اشتهرتْ به المناطق الوسطى، هو الذي أوقع التأثير الهائل في القبائل الشمالية البربرية المتخلفة؛ لكني لم أسمع قط أنَّ العكس قد حدث.

قد كان «تشين ليانغ» واحدًا من أبناء دولة تشو، تربَّى فوق أرضها وترعرع بين أهلها، فلما كان معجبًا غاية الإعجاب بتعاليم وأفكار كونفوشيوس وجوكون؛ فقد غادر بلاده الجنوبية ورحل صوب الشمال طلبًا للعلم، ثم إنَّه بلغ في ذلك درجةً عاليةً لم يَبزَّه فيها دارس ولا أستاذ؛ مما جعله جديرًا بأن يُلقَّب بأعظم الألقاب العلمية في زمانه، وأُتيحت لكم الفرصة أن تتتلمذوا جميعًا على يديه سنوات طوال، فما إن مات حتى لفظتم كل ما علَّمكم إياه وكفرتم بتعاليمه، وهو الشيء الذي لم يجسر تلاميذ وأتباع كونفوشيوس أن يفكروا فيه قط إبان وفاته؛ بل ظلوا مقيمين إلى جوار مدفنه ثلاث سنوات كاملةً قبل أن يتجهزوا للرحيل إلى أوطانهم، فلما حانت ساعة سفرهم أعدوا أمتعة السفر وذهبوا إلى زميلهم «تسيكون» ليلقوا إليه تحية الوداع، فلما مثلوا بين يديه، تأثروا جدًّا وظلوا يبكون ساعةً قبل أن ينطلقوا في طريق السفر، أمَّا تسيكون فقد أصرَّ على أن يقيم وحده بجوار مقبرة أستاذه ثلاث سنوات أخرى، قبل أن يعود إلى موطنه، وحدث أنَّ المريدين الثلاثة: زيشيا، وزيجانغ، وزيو؛ رأوا ثلاثتهم في زميلهم «يورو» شبهًا قريبًا من ملامح معلمهم الأكبر «كونفوشيوس» فأرادوا أن يقدموا له طقوس الاحترام التي كانوا يفعلونها أمام أستاذهم في حياته، «ويبدو أنَّ زميلًا آخر لهم — سن زي — اعترض على مشاركتهم في ذلك ﻓ» حاولوا إثناء سن زي عن رأيه المضاد لهم، إلَّا أنَّه أبى قائلًا: «مستحيل أن أوافق على ما ترونه؛ فيكيف يمكن لما ابتلَّ بمياه نهر الهان واليانغتسي، واستضاء بنور شمس دافئة، حتى جفَّ وصار نقيًّا طاهرًا نقاء النور الساطع، أن تجدوا له شبيهًا من جنسه (فمَن ذا يشبه كونفوشيوس)؟»

وأتطلع الآن حولي، فأرى «شوشين» ذلك الهمجي الجنوبي المتكلم بلسان الزيف في فم الحماقة، وهو يذيع آراءه ومقولاته التي ينال فيها من مكانة الملوك الأقدمين، وقداسة الحكماء الأبرار، والأسوأ من ذلك أنَّك أنت نفسك قد خالفت نهج أساتذتك واتبعت أهواءه، فأين هذا من موقف «سن زي»؟!

وقد بلغني (فيما سمعت من أبيات كتاب «الشِّعر القديم») أنَّه قيل:

«تهجر الطيور أوكار الظلام؛
لتحط فوق رءوس الشجر؛
حيث الرفعة والسمو،
والنور الولي،
والبيت السامق وبهجة الأغاريد.»

لكني لم أسمع أبدًا أنَّ الطيور قد تركت أعشاشها في الذرا والنور؛ لتتخذ مساكنها في كهوف الوديان المحفوفة بالظلمة والخطر. جاء في كتاب «لوسونغ» «مدائح دولة لو» ما نصه:

««أكرم بالأمير إذ …» طارد قبائل الشمال البربرية،
وسلط سيف الغضب والاستنكار
ضد قبائل الجنوب الهمجية.»

وكانت تلك القبائل هدفَ غارات الأمير جوكون فيما مضى من الزمان، فما بالك أنت «تأتي اليوم وتخالف المعهود ﻓ» تطلب العلم بين أظهرها، فشتان بينكما … ويا له من فرقٍ هائل عجيب!

فقال تشين: «لو قُدِّر لأفكار «شيوشين» أن تكون موضع تطبيق، لصارت أسعار السلع في الأسواق ثابتة لا ينالها غش ولا تلاعب، ولاختفت، على الفور، كل السلوكيات الفاسدة؛ كالخداع والنصب والتحايل، حتى كان بمقدور صغار الأطفال أن يبتاعوا السلع في الأسواق فلا تزاد عليهم أثمانها، وقد تباع الأُثواب القطنية والحريرية بسعر واحد لا خلاف عليه، وربما بيعت أكداس القطن والكتان معًا بنفس السعر دون زيادة لأحدها فوق الآخر؛ بل كان يمكن أن تعرض كل أنواع الحبوب للبيع تحت سعر ثابت بغير زيادة فاحشة أو نقصان معيب، وكذلك الأحذية وباقي المشتريات».»

فردَّ عليه منشيوس بقوله: «إنَّ الأشياء (المصنوعات) تتفاوت في النوع والكم والمقياس، وذلك بحكم واقع الحال، ومن ثم تختلف الأسعار، وقد يبلغ الفرق ضِعفًا أو خمسة أو عشرة وأحيانًا مائة حتى عشرة آلاف ضعف، فإذا أردت أن تفرض سعرًا موحدًا (رغم أنف الواقع) فسينجم عن ذلك اضطراب يعم كل الأسواق، وإذا افترضنا أنَّ أسعار الأحذية الجيدة (الفاخرة) ستتساوى مع سعر الأحذية الأقل جودة (الخشنة الثقيلة) فالسؤال هو: مَن سيقوم بصناعتها ومَن سيرضى بذلك؟

إنَّ العمل وفق تصورات شيوشن سيدفع الناس إلى ألوان من التواطؤ ومزيد من الغش والتحايل والخداع، فكيف يمكن، عندئذٍ، إصلاح أحوال الممالك وإدارة شئون الحكم؟»

(٥–٥) كان التابع الموهي (أحد مريدي الفلسفة الموهية، نسبةً إلى الفيلسوف، «موتسي») المدعو «إيتشي» يسعى إلى مقابلة منشيوس، فكلم في ذلك «شيوبي» (أحد أتباع الشيخ الحكيم)، فأجابه منشيوس: «قد كنت أريد أن ألتقي به غير أنِّي مريض الآن، فلنؤجل ذلك حتى أقوم من فراش المرض، فلا يرهقن نفسه بالحضور؛ بل سأبادر على الفور بالذهاب إليه.» ولم يمضِ زمان طويل، حتى عاد الزائر يطلب لقاء منشيوس، فقال: «يمكنني، الآن، مقابلته «وسوف أتحدث إليه بصراحة تامة»؛ فالمرء إن لم يضع الأمور في نصابها على نحو صريح، فلن تتجلى الحقيقة في أي شيء وسوف أتكلم معه بوضوح؛ إذ علمت أنَّه من أتباع موتسي، أولئك قوم يقولون بوجوب إقامة طقوس دفنٍ وتعزيةٍ في غاية البساطة، فذلك هو مبدأهم، ولا بد أن «إيتشي» يسعى إلى تغيير العادات الاجتماعية لتتلاءم مع ذلك المبدأ الجديد، معتبرًا أنَّ ذلك واجب ذو شأن، لكن الشيء الغريب في الأمر، هو أنَّ «إيتشي» نفسه، قد أقام لوالديه — عند وفاتهما — طقوسًا مبالغًا فيها على نحو تفصيلي شديد الدقة والتعقيد، فكيف سمح لنفسه أن يتصرف هكذا حيال دفن والديه، متخذًا طقوسًا، هو نفسه يبغضها ويدعو إلى التخلي عنها؟!»

وسارع شيوبي بنقل ذلك التساؤل إلى إيتشي الذي أجاب: «إنَّ تعاليم اﻟ «روجيا» (الكونفوشيين) يحلو لها أن تُردد دائمًا بأنَّ الملوك القدماء كانوا يحبون الشعب مثلما يحبون صغارهم، فما معنى هذه العبارة؟ ويبدو لي أنَّ المعنى يذهب إلى أنَّ مشاعر الحب لا تعرف أي فروق في الدرجات، ويقصد أيضًا أنَّ تلك المشاعر تنشأ، أساسًا، بين أحضان الوالدين»، فلما نقل شيوبي هذا الكلام إلى منشيوس أجاب قائلًا: «أيعتقد السيد المهذب «إيتشي» أنَّ المرء يمكن أن يُحب أبناء جيرانه مثلما يحب أبناءه سواءً بسواء؟ وليفكر جيدًا في المسألة على هذا النحو: هب أنَّ رضيعًا راح يحبو فوق الأرض حتى أوشك على السقوط في بئر، فهل يكون ذلك خطأ الطفل الرضيع؟ كلا … بل إنَّ السماء قد خلقت كل الأشياء وفق مبدأ واحد؛ بينما أنَّ السيد إيتشي يريد أن يجعلها مبدأين. «وربما كان منشأ الأمر كله أنَّ» الناس في الماضي لم يكونوا يعرفون طقوس دفن آبائهم، فما إن يمت الوالدان حتى يُلقى بجثتيهما في واد سحيق، وبعد أيام تكون الثعالب قد تكالبت على الموتى، وراحت تنهشها الجوارح ويتكاثر فوقها الذباب، فيصيب أهل المتوفَّى شعور بالخجل فتزورُّ أعينهم عن المشهد، ليس خشيةً لما قد يُعايرهم الناس به، وإنَّما هو شعور حقيقي بالخجل والعار ينتابهم ويؤرق وجدانهم ويتبدَّى على الوجوه برغم كل محاولات الكتمان، مما يدفع أبناء الموتى إلى إهالة التراب على الأجساد التي جيَّفت فيما يشبه عملية الدفن المعهودة، وبالتالي فدفن الموتى تصرُّف صحيح؛ بل هو من علامات البر والرحمة بالآباء.» فلما نقل شيوبي هذا الرأي إلى إيتشي، تردد قليلًا وبانت على وجهه علامات الحيرة وقال: «قد وعيت وفهمت!»

الجزء الثاني

وجملته عشرة فصول

(٦–١) تحدث تشن طاي (تلميذ منشيوس) إلى الشيخ الحكيم فقال له:

«أرى يا سيدي أنَّك بامتناعك عن مقابلة كبار الأمراء تُقيِّد نفسك بأغلال واهية، فماذا لو سمحت لنفسك بالخروج عن تلك القاعدة؛ ذلك أنَّ مجرد التقائك بالكبير منهم يساهم في دعم إمكانية وصوله إلى مصافِّ العرش الملكي، كما أنَّ مقابلتك للأقل مكانةً فيهم يمكن أن تمنحه فرصة الترقي إلى درجة ذات شأن، وقد جاء في كتاب «تشي» (حوليات التاريخ) ما نصه:

«يُمكن للمرء أن يمد ذراعه ثمانية أشبار إذا تحامل على نفسه مرةً، وضمها إلى صدره شبرًا واحدًا فقط، (يعني: يمكن للمرء أن يتحمل العُسر مرةً واحدة وفي مسائل بسيطة، مقابل أن يطالب باليسر مرات كثيرة) وأتصور أنَّ ذلك أمرٌ يمكن القيام به بسهولة».»

فقال منشيوس: «كان حاكم دولة تشي الملك «جينكون» في رحلة صيد بالحقول العامة ذات مرة، وحدث أنَّه أشار برايةٍ مُزدانةٍ بريش الطيور، تجاه أحد حرَّاس الحدائق الملكية يريد منه المثول بين يديه فلم يمتثل الحارس للنداء فيما اعتبره إهانة له، فهمَّ الملك بقتله، إلا أنَّ الشجاع لا يهاب أن يلقى حتفه بأية وسيلة (بالسقوط في بطن الوادي، أو بقطع الرأس)، أتعرف بماذا امتدح كونفوشيوس ذلك الحارس الشجاع؟ لقد أثنى على إصراره على الحفاظ على كرامته وإبائه؛ إذ رفض الامتثال لإشارة الاستدعاء التي صدرت عن الملك بطريقة غير لائقة ولا صحيحة.

فإذا بادرنا بالذهاب إلى كبار الأمراء دون انتظار دعوتهم لنا، فما القصد من وراء ذلك، ثم إنَّ القول بفكرة … «ضم الذراع شبرًا واحدًا ريثما يحين الوقت كي تمده ثمانية أشبار» … لهو قول يقوم على فكرة السعي لتحقيق المصلحة الذاتية قبل كل شيء، وما دام الأمر كذلك فليس مهمًّا إن ضممت ذراعك إلى صدرك شبرًا أو مائة شبر، ما دمتَ ستتمكن في كل الأحوال من أن تمد ذراعك إلى الأمام ولو شبرًا واحدًا فقط!

«وتحكي كتب التاريخ» أنَّ الأمير جاوجيان (عظيم دولة جين) أصدر أوامره ذات مرة، إلى «وانغ ليان» (من أشهر ذوي الخلق الكريم في زمن «الربيع والخريف») كي يقود المركبة المخصصة للصيد؛ بحيث تكون في خدمة الوزير الأثير لدى سمو الأمير والملقَّب باسم «شي»، ومضى النهار كله دون أن يتمكَّن سيادة الوزير من اصطياد طائر واحد، فكتب تقريرًا جاء فيه: «إنَّ «وانغ ليان» من أغبى قادة المركبات على الإطلاق.» فلما بلغ هذا الكلام «وانغ ليان» نفسه قال: «فلنجرب الخروج للصيد مرة أخرى إذن، وسأقود المركبة أيضًا.» وهنالك وقعت في نفس الوزير «شي» ألوان من الحيرة والاضطراب، ووافق أن يخرج للصيد ثانية، على مضض، فما كادت تنقضي سحابة النهار حتى كان الصيد، يومذاك، وفيرًا، فكتب «شي» في تقريره: «إنَّ أذكى وأبرع شخص في الدنيا كلها هو السيد «وانغ ليان».» «فلما بلغ ذلك الأمر الأمير جاوجيان …» قال للوزير: «ما دام الأمر كذلك فسوف أُعيِّنه قائدًا لمركبتك.» «وجرى إبلاغ وانغ ليان بهذا القرار …» فأبدى اعتذاره عن عدم الامتثال قائلًا: «كنتُ — لما توخيتُ الالتزام بالقواعد والمبادئ والتقاليد المتبعة «في حالات الصيد» أثناء قيادتي في المرة الأولى قد آثرت العمل حسب الأصول، لكن النهار كله انقضى دون أن نصطاد شيئًا؛ أما المرة الثانية، وبرغم أنِّي لم ألتزم بشيء من قواعد «رحلات الصيد» على النحو المعهود، فقد كان الصيد، في أول ساعات النهار، هائلًا جدًّا.

وقد جاء في كتاب الشِّعر القديم (ما معناه):

«ما دامت المحجة واضحةً،
والعرف والتقاليد
موضع تقدير رسمي،
في موكب للصيد الملكي؛
فالسهم مصيب،
والرمية قانصة،
وبشائر الغنيمة سانحة.»

وبِناءً على ذلك، فإنِّي أتقدَّم بطلب إعفائي من وظيفتي؛ لأنِّي لم أعتد العمل في خدمة مسئول متهاون (حرفيًّا: وضيع الرتبة، حقير المنزلة).» فإذا كان سائق المركبات يرى فيمَن يُخالف مبادئ وقواعد رحلات الصيد عارًا مشينًا، حتى لو كان في تلك المخالفة ما يأتي بالغنيمة الوافرة وأكداس من الصيد الثمين. [وأتفق مع سائق المركبات في موقفه هذا]، فما الداعي إلى أن نُجبر أنفسنا على السير في الطريق المعوجة، تبعًا لأهواء أولئك السادة (الأمراء)؛ لهذا أرى أنَّ تفكيرك قد جانبه الصواب؛ إذ إنَّ المرء لا يُمكن أن يمشي في طرق معوجة ويطالب الناس بالسير في طريق مستقيم.»

(٦–٢) كان جين شون (أحد معاصري منشيوس) قد تحدَّث إلى الشيخ الحكيم، فقال له: «ألم يكن كل من كونسونيان وتشانغي من أعظم رجال الدولة الكبار؟ (الأول، رئيس وزراء إحدى الدول القديمة، من أصحاب النظريات السياسية. والثاني رئيس وزراء دولة تشين، كان كلاهما — قديمًا — من أشهر رجال السياسة). ألم تكن غضبتهما — إذا غضبا — كفيلةً بأن تهزَّ عروش الدويلات وتقذف الرعب في قلوب الأمراء، ثم كان سِلمهما، وقت الصفاء، يشيع في كل الأنحاء الأمن والسكينة؟»

فأجابه منشيوس: «لا أدري كيف لمثل هذين أن يكونا من أعظم الرجال؟ ألم يسبق لك أن درست شيئًا من آداب وطقوس المعاملات؟ (كان من آداب وطقوس التربية أنَّه …) إذا بلغ الشاب الحُلُم أقيمت له طقوس البلوغ؛ حيث تُعقد له ضفائر شعره، ويتزوج، ويتلقى أصول المعاملات على يدي والده؛ أمَّا الفتاة فكانت إذا بلغت قامت والدتها بتلقينها النصح والإرشاد، وهيأتها للزواج، حتى إذا جاء يوم عرسها، ودَّعتها حتى باب بيتها وهي تنصح لها قائلةً: «كوني له (للزوج) زوجةً مهذبةً، وحاضرة الفهم والإدراك، فلا تعصي له أمرًا.»

وهكذا؛ فقد كانت الطاعة هي مدار الأمر كله عند النساء، «أمَّا الرجال» فإنَّهم يقيمون بساحة الدنيا «الرحمة»، وينزلون بموضع الاستقامة «القيم الأدبية»، ويتقدَّمون على ألمع الطرق استنارة «العدل»؛ فإذا تحققت لهم الغايات وبلغوا ما طمحت إليه إرادتهم، فإنَّهم ينهجون السُّبل التي تقودهم مع الناس نحو الطريق الصحيح، أمَّا إذا تعذَّر عليهم تحقيق مآربهم، فإنَّهم يواصلون السير على الطريق دون أن يَحيدوا عن المبادئ، ثم إنَّهم لا يصيبهم فساد أو غرور مع الغنى والجاه، ولا يقع بهم الخذلان مع الفقر، ولا يتجبرون مع القوة والسلطان، فهؤلاء فقط هم الذين يستحقون أن يُقال عنهم بأنَّهم أعظم الرجال.»

(٦–٣) ذهب جوشياو (أحد مواطني دولة وي) إلى منشيوس وسأله: «هل كان الحكماء (حرفيًّا: السادة المهذبون، مثل الفلاسفة والدارسين وكبار المتعلمين والمثقفين …) في العصر القديم يعملون بوظائف حكومية؟» فأجابه: «نعم، وقد جاء في كتاب «تشوان» (المرويات التاريخية) ما يلي: «كان المعلم الأكبر كونفوشيوس إذا بقي ثلاثة أشهر كاملة دون أن يكلِّفه الحاكم بعمل رسمي يبتئس ويبدو مهمومًا حزينًا، وإذا سافر إلى إحدى الممالك كان يحمل هدية تعارف مناسبة لتقديمها إلى جلالة الملك «في هذه الدولة أو تلك».» و«هنالك تحدث «كونمين آي» قائلًا: «كان القدماء لا يُطيقون البقاء ثلاثة أشهر دون عمل رسمي يكلَّفون به من قِبل القصر الملكي، وإلَّا استدعى الأمر «مواساتهم» وتهدئة نفوسهم».»»

وعندئذٍ، قال «جوشياو»: «ألا يبدو الأمر على هذا النحو [«مواساة» العاطل عن العمل مدة ثلاثة أشهر] مُبالغًا فيه، أو على درجة من العجلة والتسرع؟» فأجابه منشيوس: «إنَّ رجلًا مهذبًا (مؤهلًا عمليًّا واجتماعيًّا) بلا عمل، مثل أميرٍ بغير إمارةٍ أو مَلك بغير دولةٍ.»

قد ورد في كتاب «لي» (الطقوس)، ما نصه: «على الأمير أن يحرث أرضه بيده كي تنبت له المحاصيل التي يقدمها قربانًا مقدسًا «لأجداده»؛ بينما تقوم الزوجة بتربية ديدان القز تمهيدًا لعمل الملابس الحريرية المخصصة بطقوس القرابين. وليعلم «الأمير» أنَّ الماشية الهزيلة، والمحصول الذي تتم تنقيته جيدًا «من شوائبه»، والملابس غير الكاملة (الأطقم) كلها لا تصلح لعمل طقوس القربان. وإذا لم يكن لدى الرجل الفاضل الحكيم ساحة لتقديم القرابين، فلن يقدر على إتمام الطقوس المقدسة، وكذلك إذا لم يكن لديه المقدار الكافي من المواشي والأواني والملابس فلن يتيسَّر له عمل القربان، وبالتالي فلن يتمكن من عمل وليمة الحفل السعيد، أي إنَّه سيجلس ساهِمَ الطرف مطرقًا حزينًا، أفلا يحتاج مثل هذا البائس للمواساة؟» فسأله جوشيان: ولماذا ينبغي على المسافر أن يحمل معه هدايا التعارف؟ فأجابه منشيوس: «مَثَل المتعلم المشتغل بوظيفة رسمية كمثل المزارع الذي يفلح حقله، هل رأيت مزارعًا مسافرًا خارج البلاد دون أن يأخذ معه الفأس والمحراث؟» فقال جوشيان: «إنَّ هذه الحال ليست غريبة على دولة جين، فهناك أيضًا يسعى السادة المتعلمون إلى الوظائف الرسمية (داخل البلاد وخارجها)، لكن الفرق الوحيد هو أن أحدًا لم يسعَ إلى التوظف بهذه الدرجة من الاستعجال واللهفة، «هذا من ناحية، ومن جهة أخرى» فإذا كان الناس يتلهفون على العمل «في بلادكم» فلماذا يقعد السادة المحترمون عن ذلك؟» فأجابه منشيوس قائلًا: «منذ أن يولد لأية أسرة ولدٌ ذكَرٌ حتى يصبح من المعلوم أنَّ والديه سيسعيان يومًا إلى تزويجه، وأمَّا الأنثى فإنَّ أهلها يعملون جهدهم، منذ أول يوم في حياتها، على إعدادها للزواج، فتلك كلها أمور معلومة للكافة «يشترك فيها كل الآباء والمربين»، فإذا أسرع الشابان (الذكر، والأنثى) إلى تبادل العلاقات الغرامية بطريقة سرية، دون علم الآباء، وبغير واسطة من الأعراف والتقاليد المتبعة، كان نصيبهما الازدراء من أولياء أمورهم ومن كل الناس، و«بالمثل» لم يكن السادة المحترمون في العصر القديم زاهدين في التوظف بالمهن الرسمية، لكنَّهم كانوا يترفَّعون عن اللجوء إلى وسائل غير ملائمة أو مقبولة «يندَى لها الجبين خجلًا» في الحصول على وظائف مرموقة تمامًا مثلما يتعفَّف الشباب (الشاب والفتاة) المقبلون على الزواج، من الوقوع في أحابيل العلاقات الغرامية عبر شقوق الجدران والنوافذ «بوسائل سرية لا أخلاقية».»

(٦–٤) ذهب بنكنغ إلى أستاذه منشيوس وسأله: «أراك، يا سيدي، تمشي في مواكب إثر مواكب، تسير في إثرك مركبات وأعوان، يتنقلون معك أينما ذهبت، وأنت تخرج من مملكة لتسافر إلى إمارة، حتى لم تدع مكانًا إلَّا قصدته، ولا مائدة إلَّا أكلت عليها، أليس ذلك من قبيل الإسراف وتجاوز الحدود المعقولة؟»

فأجابه: «إذا كان مسلكي مجاوزًا للمعقول فما كنت أسمح لنفسي بأن أقبل كِسرة خبز [حرفيًّا: سلة طعام] من أحد؛ أمَّا إذا كنتُ قد تصرفتُ في الحدود المقبولة والمعقولة فإنِّي لم أبلغ ما فعله الإمبراطور الحكيم «شون» عندما تسلَّم صولجان الملك من سلفه العظيم الإمبراطور «ياو» [كلاهما موضع تقديس في العصر القديم بوصفهما نماذج أسطورية للحكم الرشيد] وهو التصرف الذي لم يوصف بأنَّه يُمثل تجاوزًا من أي نوع، إلَّا إذا كنتَ أنت تراه كذلك!» فأسرع التابع بقوله: «كلا يا سيدي، لست أراه إفراطًا من أي نوع، لقد ظننتُ دائمًا أنَّه ليس من حق السيد المهذب أن يمد يده إلى صحفة طعام، ما لم يكن قد بذل ما يستحق أن تُبسط له الأسمطة»، فردَّ عليه منشيوس قائلًا: «ما لم تساعد على تبادل السلع والمنتجات، وتأخذ من الزيادة لتسد عجزًا أو نقصًا هناك، فستتراكم لدى المزارعين كميات وافرة من الحبوب، ويتكدس لدى ربات المنازل قطع زائدة من الملابس (زائدة عن الحاجات الضرورية)، فإذا جئت أنت وساهمت في تداول تلك السلع الزائدة، فستكون قد فتحت بابًا يرتزق منه النجار والحداد وصانع المركبات. «هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ﻓ…» ترى لو كان بيننا الآن رجل يبر والديه «داخل بيته»، ويبجل كبار السن «خارج المنزل» ويستمسك بسنة الحكماء الأقدمين، كي تنشأ الأجيال اللاحقة على هدى من المُثل والمبادئ المتوارثة، ثم إذا به يقصد بيتك فلا يجد لديك نصيبًا من الرزق في حين أنَّك كنت حريصًا على أن يجد النجار والحداد حظهما من موارد الحياة، أفلا نعجب لإهمالك شأن السيد المهذب البار المؤدب الذي يحرص على الالتزام بقواعد الرحمة والعدل «الأخلاق»؟»

فأجابه بنكنغ: «النجار والحداد وصانع المركبات يهدفون إلى تحصيل معاشهم، تلك هي نيتهم وغرضهم الأساسي، فماذا يا تُرى غرض السيد المهذب من التزامه قواعد السلوك الأخلاقي، أهو تحصيل مورد الرزق؟» فقال الشيخ الحكيم: «وماذا يعنيك من استقصاء أغراض الناس ونواياهم؟

إنَّ أهم شيء بالنسبة لك هو ما يقومون به من أدوار، وما يقدمونه من خدمة، ومقابل تلك الخدمة فأنت تمنحهم موارد الرزق، بمعنى أنَّك تدبر لهم وسيلة الحصول على الطعام الضروري، ولا أدري إذا كنت تدفع للناس مقابل ما يهدفون إليه من أغراض، أم ما يؤدونه من عمل وما يقومون به تجاهك من تصرف؟» فأجابه: «بل نظير نواياهم ومقاصدهم بالطبع!» فقال الشيخ: «هب أن رجلًا جاءك الآن وحطَّم أثاث بيتك، ولوَّث جدار منزلك، بدعوى أنَّ الأثاث قديم والجدار آيل للسقوط، وطلب منك أن تعطيه حاجته مقابل ما يضمره في قلبه من نوايا!» فقال الرجل: «كلا بالطبع، لن أعطيه شيئًا»، فقال «منشيوس»: «هو ذا أنت لا تأبه لمقاصده، وإنَّما ترصد سلوكه وتصرفاته ولا تدفع له إلا نظير ما يؤديه لا ما ينتويه.»

(٦–٥) ذهب وانجان إلى أستاذه منشيوس، وسأله قائلًا: «إنَّ «سونغ» دولة صغيرة ضئيلة المساحة، وقد اجتهد حاكمها في تطبيق سياسات الحكم الرشيد (الرحمة والعدل) مما أثار عليها حقد جارتيها «تشو» و«تشي»، اللتين تُعدان العُدة للإغارة عليها، فما العمل؟» فأجابه الشيخ: «كان «المدعو: شان طانغ» مقيمًا بأرض «بو» (مدينة قديمة) بمحاذاة دولة «كي»، إبان حكم الملك «كيبو» لها، وكان ملكًا غشومًا مسرفًا ماجنًا، طائش التقدير والتصرف، عازفًا عن المبادئ الخلقية، لا يؤدي طقوس القربان المقدس، فأرسل إليه «شان طانغ» يستقصي سبب امتناعه عن أداء ما يلزم للقربان، فأجابه قائلًا إنَّه لا يجد ما يلزم ذلك الغرض من الماشية والدواب. فأرسل إليه شان طانغ ما يكفيه منها، فأكلها ولم يقدم قربانًا، وعاد شان طانغ يسأله عن عدم قيامه بالطقوس المقدسة، فأجاب بأنَّه لا يملك ما يكفي لذلك الواجب من الحبوب والمحاصيل، فأرسل إليه شان طانغ أهالي بلده يحرثون ويزرعون أرضه، وكلَّف الصبية والعجائز بإمداد ذويهم بالأكل والغذاء طوال مدة عملهم في زراعة أراضي جيرانهم، فما كان من كيبو إلا أن قاد حملة من شعبه للتصدي لحاملي الغذاء وخطف ما معهم من مؤن وأمتعة، ولم يتورع عن قتل الممتنعين عن الإذعان لبطشه، بل إنَّه، لفظاعة جُرمه وفساد خُلقه، أقدم على قتل صبي كان يحمل الطعام لذويه، فنهب متاعه وسلب منه آنية الطعام، حتى ورد في كتاب التاريخ شيء من ذلك؛ حيث يقول «في أحد فصول الكتاب ما نصه:» «لم يبغض كيبو أحدًا قط مثل حاملي صحائف الطعام.» وهي عبارة تشير على نحو مضمر إلى حادثة مقتل الصبي على يديه.

ثم كانت هذه الحادثة هي السبب في قيام شان طانغ بحملة تأديبية ضد جاره، وتحدث أهل الممالك في ذلك قائلين: «لم تكن حملة الملك طانغ تهدف إلى الفوز بغنائم الحرب، وإنَّما للثأر ممن اعتدوا على أبناء البسطاء.» وكانت حملة الملك قد بدأت أول زحفها ضد دولة «كي» (ثم استمرت لتدحر عدة ممالك أخرى) وقد بلغت غاراته إحدى عشرة غارةً، لم تقم بعدها لأعدائه قائمة «وتوسَّلت به الأهالي لنجدتهم من الطغيان، حتى …» إذا شنَّ هجومه ناحية الشرق ندب أهل الغرب حظهم «أنَّه لم يبدأ بهم فينقذهم مما هم تحته من الاستبداد»، وإذا بادر «بالهجوم» صوب الغرب، اشتكى أهل الشرق سوء أقدارهم؛ «إذ تأخر عنهم فلم يسعفهم بالخلاص»، وكذلك إذا تقدم تجاه الجنوب حزن الشماليون لأنَّه تأخر عنهم وبدأ بغيرهم، ولسان حالهم جميعًا يقول: «لماذا لم يبدأ زحفه إلى بلادنا ليخلصنا مما نحن فيه؟» فكان شوقهم وتطلعهم إلى قدومه عليهم مثل لهفتهم على نزول الغيث زمن الجدب، «وأدل شيء على أنَّهم كانوا يسعدون بتلك الغزوات إلى بلادهم أنَّهم …» لم يكونوا يتوقفون عن مزاولة أعمالهم اليومية، التي يكسبون منها أقواتهم؛ فلا التاجر هجر تجارته، ولا الزارع ترك الحرث والغرس؛ «إذ إنَّ الغازي الباسل» كان يُسلط سيفه على رءوس البطش وهامات الطغيان، فيخلِّص الناس من شرورهم، فأراح الناس مما كابدوه، وكان كالمطر النازل في حينه فوق أرض عطشى ترتوي منه الوديان وتسعد به القلوب.

وقد جاء في كتاب «شو» (التاريخ) ما نصه: «كم نتطلع إلى مجيء جلالة الملك إلى أراضينا فمجيئه راحة للقلوب وتفريج للكروب.»

ليس سوى دويلة صغيرة (دولة يو) رفضت الإذعان لسطوة جلالته، فسار إليها من جهة الشرق، ودخلها منتصرًا، وفرض الأمن والسلام بين ربوعها، فاطمأنت نفوس رجالها ونسائها [هكذا حرفيًّا]، وخرجوا جميعًا لتحيته وهم يحملون صناديق الديباج الملون، ويهتفون له بالنصر والتأييد والبيعة له مَلِكًا متوجًا بالبهاء والعزة والإباء، قانعين بأن يكونوا أتباعًا لدولة جو الكبرى.

بل جاء إليه رجال الدولة (دولة يو) صاغرين، فمثلوا بين يديه وهم يحملون إليه أثمن المتاع (الذهب والحرير)؛ بينما حمل إليه بسطاء العامة الخبز والخمر [حرفيًّا: صحائف الأرز، والزجاجات المعبأة بالخمر]، فمَدُّوا الأسمطة له وبسطوا الولائم تحيةً وعرفانًا؛ إذ كانت غاراته وهجماته كلها تستهدف إنقاذهم من التردي في لُجَّةٍ لا قرار لها، ونيران لا فرار منها إلَّا بالتخلص من الطغاة الجبَّارين.

وقد ورد في كتاب «تشين شي» (البيان الأكبر:) «سأرفع راية القوة، وأتأهب لمنازلة الدويلات المتاخمة لحدود بلادي، وأطيح برأس الطغيان، وأبدد كل الملاعين، وأسطر في صفحة الدهر مآثر تفوق ما خلَّده الملك طانغ من مجد باهر.»

«ولنعُد الآن إلى موضوعنا، فمن المعلوم أنَّ دولة سونغ» يمكن لها ألَّا تكترث بتطبيق سياسات تقوم على العدل والأخلاق، لكنَّها إذا ما أخذت في اعتبارها بتطبيق سياسات الحكم الرشيد، فسوف تتطلع الممالك إلى أنوار مجدها، عارفةً بمكانتها، تنشد عونها ونصرتها، حافظةً لمقام مليكها وسيدها الأكبر، ولن ترتعد فرائصها خوفًا من دولتَي تشي وتشو مهما بلغتا من القوة والغلبة.»

(٦–٦) تحدَّث منشيوس إلى «داي بوشنغ» (أحد وزراء دولة سونغ) قائلًا: «أتريد حقًّا لحاكم بلادكم أن ينتهج سياسة أخلاقية؟ إنَّك إذا كنت سترد بالإيجاب، فسأُخلص لك النصح بغير مواربة، ولأضرب لك (أولًا) مثلًا بما أريد قوله لك: ماذا لو أراد — مثلًا — أحد كبار رجال دولة تشو أن يعلِّم ابنه كيفية التحدث بلسان أهل تشي، أيأتيه بمعلم من أهل تشي أم بأستاذ من أهل تشو؟» فأجابه الوزير: «بل بمعلم من تشي»، فقال منشيوس: «فماذا لو جيء له بمعلم من تشي يعلمه كيفية التحدث بلغة بلاده، ثم إذا هو يتعرض لتهكم وسخرية ومضايقات مواطنيه من دولة تشو بدرجة تجعل من الصعب عليه مواصلة دراسته حتى لو ضُرب ضربًا مبرحًا، «فإذا» سيق إلى أكبر وأشهر شوارع دولة تشي (شارع «جوانيو») ليُقيم في أرضها عدة سنوات، فلن يفتح فمه متحدثًا بلسان أهل تشو حتى لو تعرَّض للعذاب الأليم.

قد أفضتُ في ذكر جميل أخلاق الوزير الفاضل «شيوجي جو»، ومدى ما يتمتع به من فضل وشرف وأخلاق كريمة، وقد أثنيت عليه فأكثرت الثناء، إذن فليتبوأ ما يستحقه من مكانة داخل أروقة القصر الملكي (مستشارًا لجلالة الملك)، فإذا صار الناس جميعًا، صغيرهم وكبيرهم، عظيمهم ووضيعهم، على شاكلة ذلك الوزير، فلن يجد الملك أحدًا يبطش به مما يخرجه عن نهجه الأخلاقي المعهود عنه!

«أما إذا» كان جميع العاملين في القصر الحاكم «تحت توجيه جلالة الملك» كبيرهم وصغيرهم، شريفهم ووضيعهم، على النقيض من أخلاق وسجايا الوزير الفاضل شيوجي جو، فأنَّى لجلالة الملك أن يقيم سياسته وفق المبادئ الأخلاقية «على أسسٍ من الرحمة والعدل … ؟ فتأمَّل ذلك وانظر …» ما الذي يستطيع أن يفيد به وجود رجل فاضل واحد كسيادة الوزير المشار إليه إلى جانب جلالة الملك؟»

(٦–٧) راح كونسون شو إلى منشيوس وسأله قائلًا: «ما سر امتناعك عن مقابلة الأمراء وكبار رجال الحكم؟» فأجابه: «لم يكن من المعهود فيما سلف من الزمان أن يلتقي عامة الناس بالأمراء، ما لم يكونوا من الوزراء أو رجال الحكم المسئولين بصفة رسمية، حتى لقد «حدث ذات مرة أن» ألقى الشيخ الحكيم «توان كانمو» بنفسه من فوق الأسوار، هربًا من مواجهة الأمير «أنهو» لما ذهب لزيارته. وكذلك قام الفاضل الكريم «شيلو» بإغلاق بابه دون الأمير «لومو»؛ على ما في هذا كله من الغلو والغرابة. ثم إنَّ الضرورة قد تفرض على المرء أن يلتقي بتلك الشخصيات العامة (الأمراء ورجال الحكم) لأسباب طارئة، «ومثلًا» فقد أراد الأمير يانخو (عظيم دولة «لو») أن يطلب إلى كونفوشيوس المجيء، بنفسه، إلى دار الإمارة ليلتقي به، دون أن يتجاوز في ذلك حدود اللياقة، فما كان منه إلا أن أصدر أمرًا باستدعائه، «متعللًا في ذلك بما» تفرضه الأصول من ضرورة حضور الشيوخ العلماء بأنفسهم إلى مقر الإمارة، لاستلام ما تفضَّل عليهم به الأمراء من هبات ومكافآت، وهو ما يلزم المدعوين بضرورة الحضور إلى مقار التشريف لتقديم واجب الشكر الرسمي، حسب ما تقضي به الآداب، «ذلك إذا تصادف أن كانوا وقت إرسال الدعوة خارج مقار إقامتهم»، ومن ثم فقد انتهز سمو الأمير فرصة غياب كونفوشيوس عن منزله فأهدى إليه خنزيرًا مشويًّا، وبدوره فقد راح المعلم الأكبر يترقَّب فرصة خروج الأمير، حتى إذا تأكد من خروجه في بعض شئونه ذهب إلى دار الإمارة لتقديم واجب الشكر مثلما تقضي التقاليد وأصول المعاملات. ولو كان الأمير «يانخو» قد بادر أولًا «إلى زيارة كونفوشيوس بنفسه» لكان الشيخ الأكبر قد حرص على أن يردَّ الزيارة بأفضل منها.

قال سنغ زي مرةً: «إن مَن يتمايلون في نفاق ظاهر ويبتسمون في ودٍّ متكلف يبذلون جهدًا أشقى وأضنى من المزارعين في حقل أشواك، في صيف شديد الحرارة.» وتحدَّث زيلو (تلميذ كونفوشيوس)، فقال: «لا أحتقر أحدًا [حرفيًّا: ليس لي أن أتخذ تابعًا على هذه الشاكلة] قدر احتقاري لمَن يعرضون أنفسهم لمواقف مخزية؛ بسبب أنهم يجهدون أنفسهم للثرثرة مع آخرين حول موضوعات لا تربطهم بها نقاط اهتمام مشترك.»

وهكذا تتبدى لك من هذا كله، على نحو واضح تمامًا، الطريقة التي ينبغي للرجل المهذب العاقل أن يتبعها حرصًا على تأكيد انضباطه ومراعاته لقواعد السلوك الأخلاقي.»

(٦–٨) ذهب «تايين» أحد كبار رجال دولة «سونغ» إلى منشيوس وقال له: «لن نتمكن هذه السنة من تحصيل ضريبة العُشر ولا من إلغاء ضريبة الأسواق والجمارك، فما رأيك في تخفيض مقدارها تسهيلًا على المسددين ريثما تحل السنة الجديدة فنقوم بالإلغاء الضريبي على نحو تام ونهائي؟»، فأجابه: «بلغني أنَّ رجلًا كان يسرق كل يوم من بيت جاره دجاجة، فنصحه أحدهم بالانتهاء من ذلك باعتبار أنَّ السرقة ليست بالشيء الذي يقترفه المهذبون الفضلاء، فردَّ عليه قائلًا: «فلأحاول أولًا التقليل على نحو متدرج؛ بحيث آخذ دجاجة واحدة فقط في كل شهر، حتى إذا جاء العام المقبل امتنعت عن السرقة تمامًا على سبيل الاستقامة والصلاح.»

وبرغم ذلك، فإذا كان المرء يدرك حقًّا فداحة ما سوَّلته له نفسه وكسَبته يداه، فينبغي له أن يتوقَّف فورًا عن ارتكاب المزيد من الأخطاء، فما الحكمة في الانتظار مدة عام آخر؟!»

(٦–٩) تحدَّث كونتوتسي (تلميذ منشيوس) إلى أستاذه فقال له: «يُقال بأنَّك تحب أن تجادل الناس دائمًا في أمور شتى، فهل تسمح لي بأن أستفسر عن السبب في ذلك؟» فأجابه: «هذا غير صحيح، ولم ألجأ إلى مجادلة أحد إلَّا اضطرارًا، إنَّ هذا العالم موجود منذ الأزل، ولطالما تعاقبت عليه الأوقات؛ أوقات أمنٍ وسلامٍ ورخاءٍ، وأيام حربٍ وصراعٍ وبلاءٍ، وقد وقع فيضانٌ كبيرٌ، في زمن الإمبراطور «ياو»، فأغرق أرض المملكة الوسطى، حتى فزعت الحيَّات والزواحف (التنانين) إلى الشقوق العالية، ولم يجد الناس بيوتًا تأويهم، فأقام أهل السهول المنبسطة فيما يشبه أوكار الوحوش؛ بينما هرع سكان المرتفعات إلى مبيتهم بالكهوف.

وقد ورد في كتاب «شانغ شو» (كتاب التاريخ) ما نصه: «كان الفيضان إيقاظًا لغفلة الناس، و«الفيضان» المُشار إليه بهذا المعنى هو ما يُقصد به انسياح الماء في أنحاء الأرض إلى أقصى مدًى؛ وهنالك صدر الأمر إلى (أصدر الملك «ياو» أوامره إلى …) الوزير «يو» بتصريف مجاري السيل وإصلاح ما حطَّمه الفيضان، فما لبث حتى حفر القنوات وشق الترع، فصرف السيل إلى البحر، وطارد الزواحف حتى هربت إلى المستنقعات العشبية الكائنة في لُجَّة البحر، فلما سالت المياه في القنوات زمنًا طويلًا، تعمَّق المجرى وطالت المصارف فصارت أنهارًا تجري بين شاطئين، فهي (إلى اليوم) نهر اليانغتسي، والنهر الأصفر، ونهر «هواي» ونهر «خان». ثم إنَّه أزال كل العوائق (التي اعترضت مصارف المياه) والمخاطر والوحوش «المتربصة ببني البشر» من الطير المجنح والجوارح، فوطئ الإنسان السهول واتخذ بها مسكنه، فلما مات الملكان الحكيمان «ياو» و«شون» تبددت بعدهما تعاليم الأباطرة القديسين الحكماء، واشتد ساعد الطغاة، فبرزوا فوق عروش الحكم يهدمون المساكن ويخربون الأراضي؛ فتشرَّد الناس ولم يجدوا المبيت والمأوى، واقتُلعت عيدان النبات، وصارت الحقول اليانعة ملاهيَ وحدائق يتنزَّه في أرجائها الملوك؛ بينما شحَّ الملبس والمأكل، وشاعت الآراء الفاسدة والمقولات الضالة، وراجت أساليب البطش والطغيان، ولما كثرت الحدائق والغابات، «فقد لحقت بها في الزيادة» المستنقعات والبرك الموحِلة، وعادت الوحوش والجوارح تأوي إليها كسابق عهدها، فما إن حل زمن الملك «تشو» (طاغية أسرة شانغ الحاكمة) حتى نزل الدَّمار والخراب على الأرض، «ثم جاء زمان آخر، حيث …» قام الوزير جو إلى جوار الملك «أو» يشد عزمه ويعمل على نصرته «مما كان له أعظم الأثر؛ إذ …» استطاعا أن يخلِّصا الناس من شر الطاغية «تشو»، وشنَّا الغارة على دولة «يان»، فما انقضت ثلاث سنوات حتى كانا قد خلعا حاكمها «الفاسد» وسحبا الوزير فيليان «رأس الفساد» إلى شاطئ البحر، فقتلاه وأراحا الناس منه؛ بل استطاع كلاهما أن يقضيا على خمسين دويلة، وطردا السباع والذئاب والأفيال وكل وحوش البر إلى أقصى الأرض، فانزاح الكرب عن صدور الناس وتنفَّسوا الصعداء.

وقد جاء في كتاب «التاريخ» ما نصه: «ما أعظم وأجل ما اختطَّ الملك أون من سياسات باهرة، وما أنبل وأكرم ما قام به الملك «أو» من مآثر خالدة، تعلَّم منها الأبناء والأحفاد فكانوا خير سلفٍ لخير خَلفٍ؛ إذ لم تنسد مسارب القبح وتَعلُ رايات الحسن إلَّا بفضلهما.»

ثم ساءت الأحوال ثانيةً، وضعفت شوكة الأخلاق واندحر العدل، وأطلَّ الضلال برأسه، وفي إثره جاء الطغيان، وشاعت الهمجية، حتى جاء زمان أصبح الوزراء فيه يذبحون ملوكهم، والأبناء يقتلون آباءهم، حتى ذهل كونفوشيوس وتحيَّر، ثم قرر أن يضع مؤلفه الشهير «شون شيو» (حوليات الربيع والخريف «مدونة تاريخية»)، وكان يهدف (بوضع هذا الكتاب) إلى وجوب انتباه الملوك «أبناء السماء» إلى ضرورة الالتفات إلى مسئوليتهم في تمجيد الخير وتحقير الشر؛ وهو الأمر الذي دعا كونفوشيوس إلى القول (صراحةً) بأنَّ: «السبب الرئيس في ذيوع شهرتي بين الناس هو كتاب الحوليات، وربما كان هذا الكتاب نفسه هو أيضًا السبب في كل ما لاقيته من لوم وكراهية وتأنيب.»

«ومن ثم» أفلَ نجم الملوك القديسين، واستبد الطيش بالأمراء، فساروا في الحكم على هواهم وتبذَّلوا غاية التبذل، وتكلم في السياسة وشئون الحكم مَن لا يفقهون شيئًا من مادته وأصوله، وشاعت في كل الأنحاء «نظريات» ومقولات «يانغشو» [رائد الفلسفة الطاوية، قبل الشيخ الأشهر «لاوتسي»]، و«مودي» (مؤسس الفلسفة الموهية)، حتى صار الناس فريقين «فمَن لم يتبع يانغشو «الطاوي»، فهو على مذهب مودي (الموهية).»

فأمَّا يانغشو فقد راح يدعو الناس إلى الاهتمام بشئونهم الذاتية؛ «بحيث يكون مدار الأمر في حياة المرء ما يعود عليه، هو نفسه، من فائدة» دون الاكتراث بمصلحة جلالة الملك؛ ومن الناحية الأخرى، فقد نشطت الموهية في التبشير بالمحبة لكل البشر، دون الاقتصار على «ما كانت توليه العادات من» الحب والود والطاعة للأب وحده دون الآخرين؛ «ولعَمري فإنَّ جمعًا من الناس» لا يُولي الآباء ما يستحقونه من الود، ولا يَدين للملوك بالطاعة والاحترام، لهو جمعٌ من البهائم والوحوش. وقد قال كون مينغي، ذات مرة: «لقد كان أولئك قومًا تمتلئ حظائرهم بالجياد القوية، وتعمر خزائنهم باللحوم الدسمة، في حين كانت الناس مصفرة الوجوه من شدة الجوع، والأجساد عارية كأشباح موتى في القِفار البعيدة، وهو أمر ليس بالجديد ولا الغريب على مَن تسيدوا سيادة الوحوش الآكلة لحم الإنسان.»

«وعلى ذلك» فإن لم يتم تجاهل واستبعاد مقولات وآراء يانغشو ومودي، فلن تقوم للمذهب الكونفوشي قائمةٌ، إذ تفشَّت الآراء المضللة في عقول الناس وانطبعت الأذهان بطابعها فوقفت (تلك الأفكار) في طريق الخير والعدل والصلاح.

فإذا تعطَّلت طرق الخير والصلاح أنشبت الوحوش مخالب الافتراس؛ بل صار الناس يأكل بعضهم بعضًا، فذلك هو الأمر الذي يثير قلقي واهتمامي و«يجعلني أحشد كل طاقتي كي …» أحفظ مقولات الشيوخ القديسين ذخرًا للأجيال، وقاعدة صلبة للسلوك، في وجه آراء يانغشو ومودي، تفنيدًا لمادتها وكشفًا لخلطها وفساد منطقها، حتى يُراجع أتباعهم مواقفهم، ويصمت الخطباء عن التحدث بها إلى الناس؛ ذلك أنَّها محض أباطيل تولَّدت في النفوس وتبدَّت آثارها في التصرفات والمعاملات، وهو ما يؤذن بامتداد الآثار السيئة لتنال من شئون الحكم السياسي. «وإنِّي لعلى ثقة من صواب تقديري في هذه المسألة … بل» لقد ظننت أن لو بُعِثَ القديسون الحكماء من مرقدهم الآن لما وسعهم إلَّا نُصرتي واستحسان قولي.

يذكر التاريخ للإمبراطور «يو» أنَّه الرجل الذي استطاع أن يقهر الفيضانات العاتية؛ مما كان له الفضل في تحقيق الأمن والسلام في ربوع الممالك، «وكذلك» يذكر للملك «جوكون» أنَّه قام بإخضاع القبائل الشمالية والغربية (الهمجية)، وضمهما إلى أرض الوطن، وطارد الوحوش البرية حتى قطع دابرها، فأمِن الناس شرَّ الوقوع في براثن السباع، «ولا يمكن أن يغفل التاريخ ﻟ …» كونفوشيوس أنَّه قد وضع كتاب «حوليات الربيع والخريف» وهو الكتاب الذي يُنسب إليه الفضل في ردع الأمراء المتمردين، وزجرهم عن المضي في خروجهم على سادتهم الملوك الحكماء، وتهذيب الأبناء وهدايتهم إلى طاعة آبائهم، وقد جاء في كتاب الشِّعر القديم «هذا المعنى»:

«كان حصنًا حصينًا؛
يصد القبائل الهمجية،
ويلقن المارقَينِ «جين» و«فو»
دروسًا نارية،
حتى شُلَّت يد أعادينا،
وهجست في صدور خصومنا الهواجس.»

وضرب جوكون بيدٍ من حديد على مَن يتجاهلون مكانة الآباء، ويتغافلون عن نفوذ وقداسة الإمبراطور، وبالمثل فأنا أيضًا أريد — من جهتي — أن أقوم بتصحيح مفاهيم الناس، ودحض الأفكار الخاطئة والمضللة، وأن أواجه كل سلوك متطرف؛ كي أكشف زيف وغش المقولات الخادعة، استكمالًا واستمرارًا لجهود الحكماء القديسين الثلاثة (يو، جوكون، كونفوشيوس).

فكيف يمكن أن يوصف جهدي، في هذا المضمار، بأنَّه مجردٌ، أو مساجلة نظرية؟! خصوصًا إذا كانت الدوافع (لِمَا أقوم به) اضطرارية! إذا أجدني ملزمًا بالرد الفكري واللفظي (فقط، دون أية وسيلة أخرى) على أتباع كلٍّ من يانغشو، ومودي؛ فذلك هو السبيل الوحيد أمام مَن يريد أن يستحق، عن جدارةٍ، أن يكون تابعًا وتلميذًا للحكماء القديسين».»

(٦–١٠) تحدَّث «كوان تشان» إلى منشيوس، فقال له: «ألا ترى أنَّ الشيخ «تشن جونزي» أشدُّ الناس استقامةً وعفةَ نفسٍ؟ لقد اختار لنفسه أن يُقيم بأرض «أولينغ»، وظلَّ يبيت على الطوى ثلاثة أيام كاملة «لا يذوق فيها طعامًا ولا شرابًا»، حتى صُمَّت أذناه، وغُشي على عينيه، فلما أبصر «ذات يوم بصيصًا من نور»، ورأى على حافة البئر شجرة خوخ، وكانت يرقات كثيرة ذات صدفات ذهبية قد أكلت حواف أوراقها، فتسلق الشيخ جذع الشجرة واقتطف عددًا من الأوراق فالتقمها، فما كاد يلوكها حتى عاد إليه البصر، وأرهفت أذناه السمع.» فقال منشيوس: «أرى الشيخ «جونزي» وسط الحكماء الأفاضل قطبَ الرحى وواسطة العقد (مثل الإبهام في الإصبع)، أمَّا تفرده عن الآخرين بعفة النفس والزهد، فتلك مسألة تستحق التمعن قليلًا، ومثلًا، وحسب ما رُوِّيتُ عنه، فإنَّنا إذا أردنا تعميم طريقته (السالف ذكرها) في الزهد والتقشف، بين الناس، فلن تجدي بأحد نفعًا إلَّا إذا تحوَّل البشر إلى ديدان الأرض، والدود يقتات على الأوراق الذابلة المطروحة فوق الأرض وبين شقوق الطين والوحل، ويمتص عصارة التربة «الصفراء!» الكامنة في باطنها «وهذا في حد ذاته، ولا شك، بيان على الزهد والتقشف …» لكن هل يسكن الشيخ المذكور في بيتٍ على شاكلة المنزل الذي ابتناه «بويي»؟ أم أنَّه يُقيم بنُزُلٍ كالذي أقام فيه «ليوشياجي» (أحد عتاة اللصوص في زمانه)، وهل يأكل مثل الحبوب التي استزرعها بنفسه الشيخ الجليل «بويي»، أم أنَّه يتغذى بمثل الطعام الذي ينعم به السارق الأشهر «ليوشياجي»؟ فتلك كلها — كما ترى — مسائل ونقاط أساسية لم تتضح بعد، «فكيف لي أن أعطيك جوابًا شافيًا؟!» فقال له «كوان تشان»: «كيف يمكن أن يلتبس الأمر عليك إلى هذا الحد، وهو، كما قد علمت، يصنع نعله بيديه، ولا تجد زوجته ما يسد رمقها إلا من أثواب الكتان، تنسجها بيديها وتبيعها مقابل ما يقيم أودها».»

فقال له منشيوس: «كان الرجل، في الأصل، ابن عائلة ميسورة الحال في دولة تشي، حتى بلغ راتب أخيه «تسن داي» المقيم في إقطاعية خاصة به (بأرض كيه) ما مقداره عشرة آلاف وزنة، فوقع في ظنه أنَّ أخاه إنَّما حصَّل المال بطُرق غير مشروعة، فأبى أن يذوق شيئًا من طعامه، وجال في فكره أنَّ المسكن الذي يُقيم به أخوه قد أُقيمت أركانه بمال تم تحصيله بطرق غير شريفة، فرفض أن يقيم وإياه تحت سقفه، فقام وترك أمه وإخوته وذهب ليقيم بمفرده في ضيعة «أولينغ»، ثم إنَّه عاد يومًا إلى دار أهله فرأى إوزًّا ودجاجات، قد أُرسلت إلى أخيه على سبيل التحية، فقطب جبينه وذهب مغضبًا وهو يقول لأخيه: «ماذا يعود عليك من دجاجات تُقأقئ من حولك؟» ثم قامت أمه وذبحتها بعد هنيهة وقدمت إليه بعضًا من لحومها، وتصادف أن كان أخوه عائدًا إلى البيت في تلك اللحظة، فصاح به: «ها أنت ذا تطعم لحم الداجن الذي استنكرتَ صوته يومئذٍ.» فقام وخرج من البيت، وألقى مضغة الأكل من فمه، فلم ينزل جوفه شيء مما أطعمته إياه والدته، في حين أنَّه أقبل على طعام زوجته «بشهيةٍ مفتوحة»، ثم إنَّه أقبل على السُّكنى بضيعة أولينغ، بعد إذ استنكر أن يُقيم بدار أخيه، فهل ترى «في مثل هذا التصرف الأحمق لرجل يُغضب أهله ليُرضي نفسه …» ما هو جدير بأن يكون نموذجًا يُحتذى في الزهد والتقشف؟! إنَّ أمثال «جونزي» هذا لا بد، أولًا، أن يتحوَّلوا إلى ديدان تسعى بين شقوق الأرض، قبل أن تصير نماذجَ منتقاةً للأخلاق المهذَّبة والسلوك القويم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤