الباب الرابع

ليلوة

الجزء الأول

وجملته ثمانية وعشرون فصلًا

(٧–١) قال منشيوس: «مهما عُرف عن «ليلو» من حدة بصرٍ (رجل اشتُهر في زمن توحيد الصين بقوة البصر)، ومهما كانت عند «كونشو» من مهارات صناعية (نجار، في زمن دولة لو، اشتهر بمهارته في صناعة الأثاث ولوازم البناء؛ حتى إنه صنع سُلمًا استخدمته قوات دولة تشو في حصارها للدول المتحاربة معها)، فلم يكن لأي منهما أن يحدد شكلًا مربعًا أو دائريًّا دون استخدام الزاوية «الهندسية» والفرجار؛ وبرغم ما تميز به الموسيقار «شيكوان» (الكفيف البصر، ابن دولة جين، أقدر الموسيقيين القدماء على ضبط الأنغام وتمييزها) من دقة وبراعة في تمييز درجات النغمات الموسيقية، إلَّا أنَّه ما كان ليستطيع أن يُحدد النغمات الخمس (السلم الموسيقي) على نحو دقيق وصحيح، إلا مستعينًا بآلة الضبط النغمي «ذات الأوزان الستة»؛ ولم يكن ممكنًا لمبادئ الحكم التي أرساها «الحاكمان القديسان» «باو» و«شون» أن تثبت دعائمها وتسير على هديها الممالك إلا بسياسة رشيدة «رحيمة».

وعلى الرغم مما هو ذائع ومعروف عن كثير من الأمراء، الآن، من نوايا طيبة وتجارب حقيقية في العمل بسياسة تقوم على البر والرحمة، إلَّا أنَّ الناس لم يلمسوا بعدُ الآثار الطيبة لتلك السياسات الرشيدة، «فهي إذن سياسات» غير جديرة بأن تُوليها الأجيال القادمة أي اعتبار، (حرفيًّا: تضعها موضع المتابعة والتقدير)؛ وذلك لأنَّ أولئك الأمراء لم ينهجوا على منوال الأباطرة الحكماء الأقدمين، فمن ثم «نقول بأن:» لا يكفي في حكم الممالك الاعتماد، فقط، على النوايا الحسنة، ولا يكفي كذلك، اعتماد «آليات!» أنظمة تنفيذية طيبة لضمان الوصول لنتائج ممكنة التطبيق، وقد ورد في نصوص كتاب الشِّعر القديم هذه الأبيات:

«ليبقَ الكل ذاكرًا،
وليبقَ الجميع مخلصًا
لنهج الأولين …
سرمدًا … دائمًا.»

لم يحدث قط أن كان الالتزام بسيرة الملوك والحكام الأقدمين مؤديًا إلى الضلال أو الوقوع في الخطأ، قد بذل القديسون، من قديم، غاية جهدهم ونظروا بثاقب بصرهم، واستعملوا باقتدار كل أدوات التشييد والبناء؛ (من فرجار، وزاوية معدنية، وموازين استواء، وخيوط تسوية) لعمل كل التصميمات الهندسية المختلفة (من مربعات، ودوائر، واستواء، واستقامة)، وهي كلها تصميمات ذات استخدامات متعددة ودائمة، «وكذلك فقد» أرهف الأقدمون أسماعهم فاستخدموا آلة «الميزان السداسي» لضبط السلم الموسيقي (الأصوات الخمسة)، فعزفوا كل الأنغام بأصوات لا تنتهي درجاتها، ولا يفنى إبداعها، ولم يبخل الأقدمون بجهد في سبيل انتهاج سياسة تحمي الشعب من الوقوع في شَرَك «الأزمات»، تعميمًا للبر في ربوع الممالك؛ لذلك فقد قيل إنَّه لا بد لمَن أراد تشييد سور حجري عالٍ من الاستناد إلى تلٍّ سامق الارتفاع، ولا مفر لمَن أراد تعميق بحيرة، من البدء بأقل منسوب في قاع بركة ضئيلة؛ «وهكذا فليس من الحكمة في شيء، محاولة إصلاح شئون الممالك دون الاستناد إلى نهج الحكماء الأولين، ولا ينبغي لغير المتوسلين بالبر والرحمة اعتلاء مواقع الحكم؛ ذلك أنَّه لو أتيح لغير هؤلاء الصعود إلى مراتب القيادة لاتخذوها منبرًا لإشاعة السوء وتعميم الشر والفساد وسط الناس».

إذا لم يجد الأمراء معايير صارمة لاختبار صدق ونزاهة مرءوسيهم، في الوقت الذي يفتقد فيه الوزراء «من تحتهم» قواعد ملزمة من القوانين والنظم، لضاعت هيبة العدالة داخل ردهات القصور الحاكمة، ولضرب الأهالي بالقوانين عَرض الحائط، فخرج الكبار (السادة المهذبون) عن مبادئ الأخلاق، واجترأ الصغار (عامة الناس) على مخالفة اللوائح (مواد العقوبات)، وصار بقاء الوطن نفسه ضربًا من ضروب الحظ السعيد أو الصدفة الطيبة.

ومن ثم، فقد قيل إنَّه ليس مما يفتُّ في عضد الأوطان أن تكون حصونها متداعيةً، وجنوها أقل عُدة وعتادًا، ولا من قبيل الخطر أن تكون البلاد قليلة الموارد المادية ومحدودة الأرض المستصلحة للزراعة؛ بل الخطر كله ألَّا تجد المبادئ الأخلاقية طريقًا إلى إقناع الأمراء «في مواقع الحكم»، ولا تجد التعاليم المقدسة طريقها إلى عامة الناس، مما يجعل مقاليد الحكم في يد الغوغاء المتمردين، ويصير ذلك إيذانًا بسرعة سقوط البلاد في براثن الضعف والانحلال.

وقد جاء في كتاب «الشِّعر القديم» ما معناه:

«لمَّا أذنت السماء
بسقوط عروش حاكمة (يقصد أسرة جو الملكية)،
فقد كنتَ خليقًا
بأن تنفض عنك
الهدوء والدعة،
وأن تسارع إلى
تدارك الخطر!»

أما كلمتا «الهدوء»، «والدعة» الواردتان في هذا المتن، فتشيران إلى معنى «التبلد والخمول».

و «مما يعد من قبيل «التراخي» و«التبلد»:» الإهمال في مباشرة أمور الدولة الكبرى [مراعاة شئون جلالة الإمبراطور، والتفاني في خدمته] وتجاوز حدود الآداب، سواء في تولى الوظائف الرسمية، أو في التقاعد عن أدائها، وتناول سيرة الحكماء الأقدمين بما يُسيء إليهم بالقول والتلميح اللفظي.

ولذلك، فقد قيل إنَّ من دلائل «تبجيل» الملوك حثَّهم على مواجهة العقبات (العمل بمبادئ الحكم الرشيد)، فأمَّا الاهتمام بعرض «الجوانب الطيبة» من الأمور على الحاكم، وحجب كل «الخطط والأفكار السلبية»؛ فذلك ما يُقال له «آداب الاحترام والتعظيم»، أمَّا الاعتذار عن لسان «الإمبراطور» بالعجز عن تدبير سياسات رشيدة، فذلك هو ما يسمى ﺑ «الضعة الحقيرة».»

(٧–٢) قال منشيوس: «لئن كان الفرجار وزاوية الرسم الهندسي هما معيار ضبط الشكل الدائري والمربع، فإنَّ القديسين هم معيار ضبط السلوك الإنساني؛ فينبغي لمَن أراد أن يحوز مكانة السيادة بين قومه أن يجتهد في تحصيل أسباب السيادة والشرف، مثلما يجب لمَن أراد الترقي في المنصب الحكومي البارز أن يتفانى في تحقيق شروط الجدارة التي تؤهله للفوز بأرقى منصب رسمي، وكلاهما بالغ مبتغاه إذا ما ترسَّم خطى القديسَيْن الحكيمَيْن «ياو»، و«شون»؛ فمَن لم يتفانَ في خدمة سيده، على نحو ما تفانى «شون» من أجل مليكه «ياو»، فقد أساء إلى مكانة أستاذه بالغ الإساءة؛ ومَن لم يقم على أمر الناس ويذل نفسه لرعاية شئونهم مثلما فعل «ياو» تجاه مواطنيه (في زمنه)، فقد أوقع شعبه في أخطر شَرَك.

وقد قال كونفوشيوس، ذات مرة: «ليس هناك (فيما يتعلق بإصلاح شئون الوطن) سوى طريقتين اثنتين لا ثالثة لهما، إمَّا الرشاد «بالحسنى» أو نقيض ذلك.» ومن ثم، فمَن كان من الملوك على أهله فظًّا مستبدًّا، فقد خسر النفس (تعرض للاغتيال) وأضاع الوطن؛ وأمَّا مَن تراخت قبضته، وفترت عن القيام بضبط الأمور عزيمتُه، فقد عرَّض للخطر حياته، وأظهر التخاذل، وبدد هيبة الوطن، وصار يُلقَّب (بعد موته) بالغشوم الجهول [حرفيًّا: المجهول، غير معلوم الأحوال!]، ومهما كان له من أبناء بررة وأحفاد طيبين، فلن يمكنهم — على طول المدى — تغيير سوء القدر «الملازم لهم» (تعديل اللقب السيئ الذي أورثهم إياه).

وقد جاء في كتاب الشِّعر القديم، ما نصه:

«إذا ما أرادت دولة شانغ
أن تأخذ عبرةً من دروس الزمان،
فإنَّ الدرس ليس ببعيد؛
ليس إلا أن تتأمَّل
أحوال دولة شيا
فيما قبلها بزمان قريب».»

(٧–٣) قال منشيوس: «ما استطاعت الأسر الحاكمة الثلاث: شيا، شانغ، جو، أن تحكم قبضتها فوق الممالك، إلَّا «بتطبيق» سياسة رشيدة «رحيمة»؛ «وبالمثل» فلم تفقد سطوتها وتضِع عروشها ويتبدد سلطانها فوق الأرض، إلَّا عندما حادت عن سياستها الرشيدة، وهو الحال نفسه الذي نلاحظه في قيام وسقوط الإمارات، وبناء وفناء الدويلات.

إنَّه لا يثبت الحكم فوق الدول لمَلك إلا بسياسة رشيدة، ولا تقوم لحكم الأمراء قائمة «فوق الدويلات» إلَّا بالعدل والرحمة؛ ولا يستقر للنبلاء قرار في معابدهم (إقطاعاتهم) إلَّا بتطبيق مبادئ إنسانية، ولا يملك السادة المهذبون وأولاد الناس (عامة الشعب) أمرهم، ويحيون حياتهم إلا باتباع مبادئ الرحمة والعدل.

فإذا ما قيل «الآن» إنَّ البعض يحرصون على الحياة حرصهم على معاندة المبادئ الإنسانية، فهذا أشبه ما يكون بمَن يخشون أن يسكروا بينما يفرطون في شرب الخمر.»

(٧–٤) قال منشيوس: «إذا أحبَّ المرء الناس ولم يبادلوه مشاعر الحب والود، فينبغي عليه مراجعة نفسه [حرفيًّا: أن يسأل نفسه، بصدق، أيحب الناس حقًّا؟] وإذا كان يلي أمرًا من أمور الناس وقام بمسئوليته على خير وجه، ثم تبدَّى له وجه التقصير، فيجب عليه، حينئذٍ، أن ينظر في رجاحة عقله وحكمة تدبيره، فإذا كان يقوم بواجب الاحترام تجاه الناس، دون أن يردوا عليه بمثل ذاك، فلا بد أن يُسائل نفسه عن مدى صدق تبجيله وتقديره للآخرين.

إنَّ كل سلوك لا يأتي بالنتيجة المرجوة أو المتوقعة، يتطلب من المرء أن يراجع نفسه، وأن يقوِّم تصرفاته، حتى تنقاد له الدنيا كلها طوع بنانه.

وقد ورد في كتاب الشِّعر القديم شيءٌ من هذا المعنى في هذه الأبيات:

«إنَّ الاهتداء بإرادة السماء (مثلما فعلت دولة جو)
جالب للحظ السعيد (طول البقاء للأمم)؛
فالسعادة قدر
يبلغه المرء
بما سلك من الطريق.»

(٧–٥) قال منشيوس: «إذا تحدَّث الناس في حواراتهم الذائعة «عن الوطن» فهم يُطلقون عليه اسم «كوجيا» («الموطن»، وهو ما يُشير إلى دلالة …) أنَّ الأساس في تقسيم حد الأرض هو الموطن الكبير [كو: الدولة]، وأنَّ الوحدة الإنسانية التي يقوم عليها الموطن الأكبر هي الموطن الأصغر [جيا: الأسرة]؛ «وهو ما يُشير، بالتالي إلى أنَّ …» عماد الموطن الأصغر (الأسرة) هو الفرد.»

(٧–٦) قال منشيوس: «إنَّ الإرادة السياسية ليست بالشيء الصعب على الإطلاق؛ إذ إنَّ الأساس الذي تُبنى عليه أمور كثيرة يكمن في عدم الإساءة إلى كبار المسئولين والمتنفذين (أصحاب النفوذ الأكبر … وبالتأكيد) فإنَّ مَن يرونه أهلًا للإعجاب والتقدير، سيراه الناس في الدولة كلها كذلك، ومَن تراه الدولة جديرًا بالثقة والتأييد ستراه الممالك كلها على النحو نفسه، وهو ما سيؤدي (في المحصِّلة النهائية) إلى ذيوع وانتشار المبادئ الأخلاقية «التي يُمثلها ويحمل لواءها جلالة الإمبراطور شخصيًّا».»

(٧–٧) قال منشيوس: «عندما يسوء الحكم الرشيد في الممالك، يخضع الأدنى شرفًا للأعلى مكانةً ورفعةً، ويُذعن الأقل تأدُّبًا للأسمى خلقًا، فإذا فسد الحكم، كانت يد الأكبر سلطةً «فوق الجميع»؛ فمَن وافق إرادة السماء فاز بالبقاء، ومَن خالفها أصابه الفناء.»

وقد تحدَّث الأمير جينكون (حاكم دولة تشي)، قائلًا: «إنَّ العجز عن إصدار الأوامر للآخرين «وتوجيههم» مع القعود عن الاستجابة لما يوجَّه إلينا من أوامر معناه انقطاع الصلة مع العالم والأشياء من حولنا.» ثم إنَّ الأمير فاضت عيناه بالدموع، وهو يُصدِر قراره بتزويج ابنته لعظيم دولة وي.

قد صارت الدويلات الصغرى، الآن، تتخذ من الإمبراطوريات الكبرى نموذجًا ومثالًا يُحتذى به، ومع ذلك فهي ترى في الخضوع لأوامر تلك الدول العظمى عارًا ومهانةً، تمامًا كما يُقْبِل التلميذ على أستاذه ليتعلَّم منه، لكنَّه يستنكف أن ينصاع لما يمليه عليه «ويرى في ذلك انتقاصًا من الكرامة».

«وقد يستشعر المرء العيب فيما يأمره به أستاذه …»؛ إلَّا إذا كان ذلك الأستاذ هو الملك أون؛ ذلك أنَّه أفضل أستاذ يُمكن أن تتعلم الممالك على يديه نُظم إقرار السلطة في أنحاء الأرض، فيما لا يزيد على خمس سنواتٍ فقط للدول الكبرى، وسبع سنواتٍ للدويلات الصغرى.

وقد جاء في كتاب الشِّعر القديم «شيء بهذا المعنى، فحواه»:

«قد بلغ أحفاد ملوك آل شانغ،
أعظم ملوك الأرض،
ما لا يُحصى ولا يُعد،
وشاءت إرادة السماء
أن يطأطئوا رءوسهم
لمَن مَلك من آل جو.
فما كان لهم أن يصيروا إلى تلك الحال؛
إلَّا أنَّ أقدار السماء لا تثبت
«بأحوال الناس» على حال؛
وقد قيل إنَّ أكابر آل شانغ،
برغم ما توقَّد في ذهنهم من نباهة،
وتبدَّى في وجوههم من ملاحة،
قد ساروا مع السائرين في ركبٍ
إلى عاصمة آل جو «هاو»؛
ليصبُّوا الخمر للشاربين
في أواني القربان المقدس.»

وقد قال كونفوشيوس: «إنَّ قيمة الإنسانية لا تُقاس بعدد أو مقدار أو كمية محددة من الناس، فإذا كان الحاكم محبًّا لقيم الإنسانية، فلن يكون له على الأرض بموجب ذلك الحب، أي خصومٍ.»

والآن، فإنَّنا لو تصوَّرنا أنَّه بالإمكان أن تخلو الدنيا من كل الخصوم، دون أن ننشد الرحمة والإنسانية، فسنكون أشبه بمَن يُقاسي شدة الحر دون أن يستحمَّ بماء بارد، وقد ورد شيء بهذا المعنى في كتاب الشِّعر القديم، كالتالي:

«مَن ذا يُقاسي حر الهجير،
والماء دونه،
فلا هو يستحم
ولا من الرمضاء يستجير!»

(٧–٨) قال منشيوس: «أمن المعقول أن يستطيع المرء محاورة «أولئك الأمراء» غير المتَّصفين بالبر والإنسانية؟ ألا إنَّهم يستسلمون للدعة وقت المحنة، ويتطلعون إلى الكسب والمنفعة وسط أجواء الكوارث، ويتخذون من أسباب بلاء الأوطان مادة للسخرية والدعابة، أما إنَّه إذا كان من الممكن محاورة غير العاملين بالبر والإنسانية، لما تدهورت أحوال الوطن وتخرَّبت البلاد!

من بين ما حفظه الزمان لنا أغنية كان يشدو بها صبي صغير، تقول كلماتها:

«ماء البحر الصافي
أغسل فيه قبعتي وخصلةً من شعري.
ماء البحر العكر
أغسل فيه قدمي الحافي.»

وقد قال كونفوشيوس لتلاميذه من حوله (تعليقًا على تلك الكلمات):

«وهكذا ترون أيها الحاضرون، فإنَّ الماء الصافي يصلح لغسل القبعة، ويصلح أيضًا وهو كدِر لغسل القدمين؛ فالماء في الحالتين هو العنصر الذي حدَّد قيمة استعمالين متناقضين.

ومن ثم، فلا بد أنَّ المرء، بذاته هو الذي يُحدد، أولًا، أسباب اجتلاب المهانة على نفسه، فيجلب على نفسه، بأعماله، العار في مبتدأ الأمر، قبل أن يسبَّه الناس ويكيلون له الشتائم؛ وكذلك تفعل العائلة، حيث تسعى بنفسها إلى أسباب خرابها وتشتت علائقها قبل أن يقوم الآخرون بتفكيك ما بين أفرادها من أواصر؛ وبالمثل تفعل الأوطان، حينما تضع بيديها أسباب استلابها ومداهمة الكوارث لها قبل أن يُقدِم الآخرون على شن الغارات عليها ومحاربتها. وقد جاء في أحد الفصول (فصل «تايجيا») «كتاب التاريخ القديم» (شانغ شو)، ما نصه: «من أسهل أن يتجنَّب المرء مصيبةً نزلت عليه من السماء، لكن الشر الذي يجلبه على نفسه بيديه هو الذي يؤدي به إلى الموت «مهما حاول الخلاص منه».»

(٧–٩) قال منشيوس: «ما كان لكل من (الطاغيتين) «جيه» و«تشو» أن يضيعا الممالك من أيديهما إلَّا لأنَّهما خسرا «مساندة» الشعب، وما كان لهما أن يخسرا المساندة الشعبية، إلَّا بما تسببا فيه من تحوُّل أماني ومشاعر وقلوب الناس عنهما. إنَّ أفضل وسيلة لضمان السيطرة التامة على الممالك كلها هي أن تكسب الناس في صفِّك، فتلك هي الوسيلة المثلى لأن تضع الممالك نفسها في جعبتك؛ أمَّا أحسن وسيلة لضمان كسب الناس في صفِّك فهي أن تكسب مشاعرهم؛ لأنَّك إذا كسبت مشاعرهم ضمنت ولاءهم المطلق لك؛ والطريقة الفريدة التي تحوز بها مشاعر الناس هي أن تُحقق لهم أمانيهم، وألَّا تفرض عليهم ما يكرهونه رغمًا عنهم، فذلك يُحقق لك غرضك.

إنَّ الناس تتبع الإنسانية والبر مثلما تنحدر المياه تجاه مصب الأنهار، أو كما يتلمَّس الوحشي طريقه إلى البراري، «فمن ثم نفهم» كيف تنطلق أسراب السمك إلى أعماق البرك إذا ما هاجمها ثعبان الماء، «فهي تلوذ بركن حمايتها عند مواجهة الخطر»، ومن ثم أيضًا، كانت هجمة الباشق تعجِّل بفرار الطير إلى الأدغال، وكانت «السياسة الحمقاء للطاغيتَين» «جيه» و«تشو» هي التي دفعت الناس إلى الفرار نحو القائدين «العادلَين» الملك طانغ، والملك أون (أسرة شانغ).

أمَّا اليوم، لو ظهر بيننا ملك يميل إلى البر والإنسانية، لتدافعت إليه جموع الناس «هربًا من طغيان الأمراء»، ولصار في مقدوره توحيد الممالك كلها «ولو لم يكن ذلك ضمن تطلعاته».

لكن ليس هناك «على الساحة الآن» سوى البعض ممن يأملون في توحيد الممالك، بطريقة أشبه ما تكون بالمريض الذي ألمَّ به الداء طوال سنوات سبع، ثم إذا هو يريد الشفاء بتعاطي دواء لم يختمر في قنينة التحضير سوى ثلاث سنوات فقط (زهرة من عشب طبي تتطلَّب وقتًا طويلًا كي تؤتي قيمة علاجية)؛ وهو ما لن يُفيد المريض شيئًا أبدًا طوال حياته، ما لم ينقضِ وقت كافٍ كي يؤتي الدواء مفعوله.

أي أنَّ الأمراء يحتاجون للعزم والتصميم على اتخاذ سياسات إنسانية وعادلة، لئلا يقعوا في براثن القلق والفشل المهين؛ بل قد يتجاوز الأمر إلى المساس بأمن حياتهم وبقائهم نفسه.

وقد ورد في كتاب الشِّعر القديم «هذا المعنى»:

«كيف للأحوال أن تنصلح،
وأن توضع الأمور في نصابها
«ما دامت» الأطراف كلها تتناحر،
ويشد بعضها بعضًا؛
ليسقط الجميع في لجة عميقة،
لا خروج منها؟»

(٧–١٠) قال منشيوس: «لا يُمكن أن يُجري المرء حوارًا مع مَن يتعمد إيذاء نفسه، ولا يُمكن مصادقة مَن يحطُّون من قدر أنفسهم؛ فالمتكلمون بما يُسيء إلى الآداب والفضائل هم أولئك المتعمدون إيذاء أنفسهم، أمَّا المسيئون لأنفسهم «بحطهم من قدرها»، فهم الذين لا يُقيمون مبادئهم على قاعدة من الإنسانية، ولا يسلكون في طريق العدل والرحمة.

الإنسانية [أو الإحسان، في معنى ما …] هي موطئ راحة النفوس والضمائر البشرية؛ والاستقامة [أو العدل في صياغة أخرى …] هي أقوم الطرق جميعًا؛ فإذا ما فرغ الضمير من الراحة، وتاهت أقدام السائرين عن دليل الاستقامة، كانت تلك هي الداهية الكبرى (المأساة الكبرى)!»

(٧–١١) قال منشيوس: «برغم أنَّ الطريق قريب جدًّا، إلَّا أنَّ الناس يطلبونه في الأفق البعيد، وبرغم أنَّ الأمور سهلة وميسورة، إلَّا أنَّ الجميع يجولون في الطريق الصعب، ألا إنَّ المودة للآباء واحترام كبار السن وتوقير الأجداد «كل ذلك» جدير بأن يَنشر في ربوع الأرض السلام.»

(٧–١٢) قال منشيوس: «لا يُمكن للعاملين في أدنى الدرجات الوظيفية، ممن لا يحوزون ثقة رؤسائهم، أن يُقدموا خدمات مفيدة للناس، «ومع ذلك» فهناك مَن يضمنون لمثل هؤلاء الحصول على ثقة رؤسائهم؛ «ذلك أنَّ» مَن يعجز عن الفوز بثقة الأصدقاء، فلا بد سيخفق في الحصول على ثقة المديرين والرؤساء.

«ومع ذلك» فهناك طريقة مُثلى للفوز بثقة الأصدقاء؛ «ذلك أنَّ» مَن تفانى في خدمة والديه بكل عرفان، دون أن يُدخل الرضا والبهجة على قلبيهما، فلن يُمكنه الفوز بثقة أصدقائه.

«وبرغم ذلك» فهناك مدخل لإضفاء الرضا والسعادة على مشاعر الأبوين؛ ذلك أنَّ مَن يُحاسب نفسه ثم يكتشف بأنَّه لا يحمل في قلبه أدنى قدر من المودة الصادقة، فلن يستطيع بالقطع أن يُرضي والديه، «ثم إنَّ» هناك حلًّا يُمكن بواسطته تبنِّي موقف تتحقَّق فيه مراجعة النفس على أساس من المودة الصادقة؛ ذلك أنَّه إذا لم يستطع المرء فهم معنى الخير، فلن يُمكنه أبدًا تقدير المودة الصادقة، ومن ثم، فالإخلاص هو طريق السماء (المذهب السماوي الطبيعي)، فالبحث عن تقدير الإخلاص هو مسعى الإنسان.

ولم تشهد الحياة الإنسانية قط تجربة إنسان استطاع أن يتصف بالإخلاص دون أن يؤثر في مشاعر الناس من حوله، إنَّ مَن لم يتحقق بالإخلاص معدنه، لن يقدر على النفاذ إلى قلوب البشر.»

(٧–١٣) قال منشيوس: «كان الأمير «بويي» (الابن الأكبر لآخر حكام أسرة شانغ الملكية) عازفًا عن رؤية «الملك الطاغية» «تشو»، فذهب واختار السكنى بجوار شاطئ بهر «بيهاي»، فلمَّا بلغته أنباء ولاية الملك «أون» للعرش، قام من فوره قائلًا: «لم يعد لي أن أبقى ها هنا، فلأذهب ولأكن في صحبة جلالته، خصوصًا بعدما بلغني من حسن قيامه (يقصد الملك أون) على أمر الشيوخ والمسنين.» وكذلك كان «تايكون» (أحد تابعي الملك «أو») قد قرَّر أن ينأى بنفسه بعيدًا عن صحبة «الملك الطاغية» «تشو»، وذهب للإقامة بجوار شاطئ بحر «دونهاي»، فلمَّا سمع بقيام الملك أون على عرش البلاد، قام من مكانه (منفاه الاختياري) قائلًا: «فيمَ جلوسي، هنا، دون أن أكون في معيته، تابعًا مخلصًا، «وما لي لا أذهب …» وقد بلغني أنَّه يرعى شئون العجائز والكهول؟!

ثم إنَّ هذين الشيخين الهرمين (بويي، وتايكون) كانا أشهر وأعظم كبار السن في الممالك كلها، فلمَّا ذهبا ليتبعا جلالته، سار على أثرهما كل العجائز في البلاد، وهو الأمر الذي نتج عنه (بطبيعة الحال) خروج كل الأبناء — مثل آبائهم — تأييدًا ونصرة لجلالة الملك «فلم يكن يسع الأبناء مخالفة آبائهم!» ولو قُدِّر للأمراء أن يسيروا على نهج وسياسة الملك أون، لصارت لهم، في سبع سنوات فقط، سلطة إقرار السيادة والقانون في ربوع الممالك كلها.»

(٧–١٤) كان «رانشيو» (تلميذ كونفوشيوس) يعمل في منصب رفيع لدى جيكانزي (أحد كبار رجال دولة لو)، ولم يكن، برغم منصبه، قادرًا على تغيير سلوك وتصرفات سيده؛ بل إنَّه زاد ضريبة الحبوب المقررة إلى الضعف، مما دفع كونفوشيوس إلى مصارحة تلاميذه، بقوله: «لا أعدُّ رانشيو واحدًا من تلاميذي بعد اليوم، فقوموا وأطلقوا نفير الحرب عليه.» وإذا تأمَّلنا تلك المسألة لاحظنا أنَّ السيد المُشار إليه لم يكتفِ فقط بالامتناع عن اتخاذ سياسة قائمة على الإنسانية والإحسان؛ بل راح يدعم مسعى سيده في الكسب والإثراء على نحو غير مشروع، «وهو الأمر الذي جلب عليه سخط» المعلم الأكبر، وخصوصًا ذلك الجانب الذي يبدو فيه المرء نشيطًا ومتحمسًا لأن يقوم بدور المهاجم والمحارب، متبنيًا موقف سيده؛ فتمتلئ السهول بدماء القتلى في حروب ليس لها هدف سوى الاستيلاء على مناطق للنفوذ، وتتكدَّس أشلاء القتلى حول أسوار المدن، في حروب للاستيلاء على الحصون، وكأنَّ الأمر كله بمثابة خطة تهدف إلى إرواء الأرض بمزيد من الدماء، بعد إشباع نهمها من أشلاء الجثث، وعندما يصدر حكمٌ بالإعدام على القتلة والسفاحين، يصير الحكم بلا جدوى؛ إذ لا يُعوض مقدار الخسارة الناجمة عن الجرائم المرتكبة.

وترتيبًا على ذلك، فينبغي توقيع أقصى العقوبة على كل مَن يجيد فن القتال والحرب من الجنود، ويأتي بعدهم، في الدرجة الثانية ممن يستحقون العقاب، كلُّ مَن يقومون بتحريض الأمراء على التكتل في مواجهات دامية بين دويلاتهم، وفي الدرجة الثالثة من العقوبات القصوى يأتي كلُّ مَن يرغم أفراد الشعب قسرًا على استصلاح الأدغال (حتى لو كان الغرض طيبًا …) لتحويلها إلى أراضٍ تصلح لإنتاج المحاصيل.»

(٧–١٥) قال منشيوس: «إذا أردت أن تختبر إنسانًا، فانظر جيدًا في عينيه، فليس هناك ما هو أفضل من العين في كشف بواطن الإنسان؛ فهي لا تُجيد إخفاء النوايا الشريرة، إنَّها لا تلمع في وضوح ونقاء إلَّا عينُ امرئ سليم الطوية، صريح الرأي، ولا تنطفئ مثل عين انطوى باطنها على الدهاء والمكر والخبث، انظر مليًّا إلى عين المتحدث؛ فلن يخفى عليك ما استتر بين جوانحه من خير أو شر.»

(٧–١٦) قال منشيوس: «إنَّ المهذبين لا يسبون أحدًا، والمقتصدين في معيشتهم لا يسلبون أحدًا ماله؛ إنَّ الأمير الذي يسب شعبه وينهب أمواله، «لا يفعل ذلك إلَّا لأنَّه …» يخشى، من أعماقه، ألَّا ينصاع له الناس بالطاعة والخضوع. «فالسؤال هو …» كيف يُمكن «للأمير» أن يتحلَّى بالأدب والنزاهة معًا؟ فذلك أمر لا يُمكن تحقيقه بالكلام وحده وبتكلف تعبيرات الوجه واصطناع المظهر المناسب!»

(٧–١٧) ذهب «تشون يوكون» (أحد رجال المناظرات السياسية في دولة تشي) إلى منشيوس، وسأله قائلًا: «أمن قواعد السلوك المهذب ألَّا تتلامس أيدي النساء والرجال عند تبادل الأشياء بينهما، سواء عند استلامها أو تقديمها؟» فأجابه: «نعم، ذلك ما تنص عليه قواعد الأدب»، فعاد الرجل يسأله ثانيةً: «أيُمكن للرجل أن يمد يده لينقذ زوجة أخيه التي انزلقت في النهر؟»

فأجابه: «إذا سقطت زوجة الأخ في النهر فامتنع الرجل من أن يمد يده إليها فهو ذئب جهول «ضال غشوم»؛ فلئن كان من الأدب ألَّا تتلامس أيدي الرجال والنساء حفاظًا على قواعد الأدب والأخلاق، فإنَّ مد يد العون لزوجة الأخ الغارقة أمر استثنائي «له ما يُبرره» من دواعٍ عاجلة ومؤقتة.»

فسأله السائل: «فها هي ذي الممالك كلها تسقط في الماء «غارقة في وحل الأحداث»، دون أن تتفضَّل «سيادتكم» فتمد لها يد العون، فما السبب في ذلك؟» فأجابه: «إنَّ سقوط الدول والممالك والإمارات في النهر يتطلَّب «مبادئ كبرى» تُعين على الإنقاذ، أمَّا سقوط امرأة بالقرب من الشاطئ فلا يتطلَّب سوى أن أمد لها كف يدي؛ فها هي ذي يدي إن كنت تظن أنَّها تكفي «بكل بساطة» لإنقاذ أهل الممالك جميعًا؟»

(٧–١٨) ذهب كونسونيان إلى الشيخ الحكيم منشيوس، وسأله: «لماذا يمتنع المُربي الفاضل عن تعليم أولاده بنفسه؟» فأجابه: «لأنَّ مثل هذا الموقف «الذي يتخذه المُعلم العاقل بشأن تدريس العلوم لأولاده» غير ذي نفع لكلا الطرفين؛ فلا بد للمعلم أن يُمارس قدرًا من التقويم والجدية «مع طلابه» فإذا لم يأتِ ذلك بنتيجة، استولى عليه الغضب، وحينئذٍ، فربما تصرَّف على نحو يؤذي مشاعر تلاميذه، وهنالك يتناجون قائلين: «ها أنت تنهرنا وكأنَّك أنت نفسك لا تُخطئ أبدًا»، فيقع بين الأب وأولاده من الأسى ما لا مفرَّ منه، وهو أسوأ ما يُمكن أن يقع بين والد وولده.

كان المعلمون في قديم الزمان يتبادلون الأبناء في فصول الدراسة، فلا يقوم أحد منهم بالتدريس لأولاده؛ تجنبًا لما يُمكن أن يقع من جفاء بسبب الحرص على النصح والتوجيه «من جانب المُعلم»، مما قد يصل إلى جرأة الأبناء على مقارعة حجج آبائهم، فيحدث الشقاق بين الطرفين، الذي تنجم عنه أفدح النتائج.»

(٧–١٩) قال منشيوس: «ما أفضل وجه للقيام بحق إعالة الآخرين وخدمة الناس؟ ليس أفضل من أن يعول المرء والديه؛ وما عماد الأخلاق؟ تهذيب النفس هو ذاك. ولقد سمعت بمَن أخذ نفسه بالحزم، وتفانى في خدمة أبويه، لكني لم أسمع أبدًا أنَّ سفيهًا لا خَلاق له استطاع أن يرعى والديه حق الرعاية.

الكل يعرف واجب الرعاية، لكن رعاية الأبوين هي الأساس الأول. الجميع يعرفون السلوك الأخلاقي، لكن صون النفس بمبادئ الاستقامة هو القاعدة الأصلية.

لمَّا كان «سنغ زي» (أحد تلاميذ كونفوشيوس) يقوم بإعالة والده «سنغ شي» (هو أيضًا أحد تلاميذ الشيخ الأكبر)، فقد كان يُقدم له — أزكى الطعام — [حرفيًّا: يُقدم له آنيةً مليئة بالطعام، وكئوسًا مترعةً بالخمر]، فإذا حان وقت رفع الأطباق عن المائدة، سأل أبوه عمَّن يستحق أن ينال ما بقي من الطعام. وعندما كان أبوه هو الذي يبتدره مستفسرًا منه عمَّا إذا كان قد بقي من الطعام شيء، فقد كان يرد عليه بالإيجاب. فلمَّا مات الوالد سنغ شي، راح سنغ يوان «يُواصل ما تواضعت عليه التقاليد من أن يقوم الولد» برعاية أبيه «سنغ زي»، فكان يمد أمامه أسمطة بأطباق الطعام وكئوس الشراب، لكنَّه لم يكن يسأله عند فراغه من الأكل عمَّن يستحق الحصول على ما تبقى في الأطباق، وكان إذا سأله أبوه عمَّا إذا كان قد بقي شيء على المائدة فكان يرد بالنفي؛ لأنَّه ينوي — في نفسه — أن يُقدِّمه إليه مرةً أخرى، فهذا «اللون من الرعاية» يُطلق عليه «إطعام الفم ورعاية الجسم»، أمَّا ما فعله سنغ زي «مع أبيه»، فهو ما يُقال له «إشباع الروح وتلبية حاجات النفس»؛ فهذه الطريقة التي تصرَّف بها سنغ زي نحو والديه هي الطريقة المثلى.»

(٧–٢٠) قال منشيوس: «لا يصح أن يكون القائمون على إدارة الشئون الحكومية العليا موضع انتقاد ممن هم أدنى منزلةً، ولا أن تكون سياستهم «التي يحكمون بها» محل مراجعة ونقد من أولئك «المسئولين الأدنى مرتبةً»، ليس سوى «ذوي الشأن» فقط هم الذين يحق لهم تقويم ما يقع فيه «صاحب السيادة» من أخطاء.

أما إنَّ الحاكم الملتزم بالإنسانية سيقود كل الناس تجاه التخلق بخلق إنساني رحيم. والعدل إذا تحقَّق على يد الأماجد كان خليقًا بأن يدفع الناس كلها إلى التماس العدل في سلوكهم، ثم إنَّ الاستقامة عند أرفع الناس قدرًا تشيع جوًّا من الخصال القويمة عند كل الناس، ولا يحل الأمن والاستقرار إلَّا ببلد استقام أمر قادته. [حرفيًّا: جرى تقويم أخطائهم].»

(٧–٢١) قال منشيوس: «قد يفوز بالثناء مَن لم يسعَ إليه، وقد يجني الحسرة «والذم» مَن تجاوز كل الحدود المعقولة للحصول على أوسمة المديح والثناء.»

(٧–٢٢) قال منشيوس: «ليس للمرء أن يعتب على مَن يفرطون في كلامهم.»

(٧–٢٣) قال منشيوس: «آفة الناس جميعًا في كل زمان ومكان، أنَّهم يريدون القيام بدور المعلم الواعظ والناصح الأمين.»

(٧–٢٤) ذهب «يوجين» بصحبة «وان زياو» إلى دولة تشي، ثم إنَّه التقى هناك بالشيخ الحكيم منشيوس، الذي ابتدره بسؤاله: «أفأنت أيضًا قد جئت لتراني؟» فأجابه «يوجين»: «لا أدري ما الذي يدعوك يا سيدي إلى أن توجِّه لي مثل هذا القول!» فسأله منشيوس: «كم مضى عليك من الوقت منذ أن وصلتَ «إلى هذه البلاد»؟» قال: «قد وصلتُ منذ أمس الأول»، فقال منشيوس: «إذا كنت قد حضرتَ منذ أمس الأول، أفلا يبدو قولي لك «الذي تستغربه مني» مناسبًا وصحيحًا تمامًا؟»

وعندئذٍ قال له يوجين: «لم أكن منذ وصولي قد استأجرت المسكن الذي أقيم به»، فقال له الشيخ: «شيء لم نسمع به من قبل في عمرنا كله؛ فمَن ذا الذي أخبرك بأنَّه ينبغي «للطالب المخلص» أن يجد المسكن المناسب، أولًا، قبل أن يلتقي بالشيخ «المُعلم» الأكبر سنًّا؟» فلم يملك يوجين إلا أن قال: «أعترف بأنِّي مخطئ يا سيدي.»

(٧–٢٥) تحدَّث منشيوس مع يوجين فقال له في معرض كلامه معه:

«ما أرك جئت مع «وان زياو» إلَّا لتملأ فمَك بالطعام وبطنك بالشراب، وما كنتُ أظنك، وأنت «المثقف» الدارس المطَّلع على كتب «وأفكار الأقدمين أن تقودك» نهمة المأكل والمشرب.»

(٧–٢٦) قال منشيوس: «عقوق الأبناء لآبائهم ثلاثة، [لم يذكرها المتن تفصيلًا]، أسوأها جميعًا عدم إنجاب ذرية «تحمل لقب العائلة، وبالتالي؛ تحفظ بقاءها، حتى لقد قيل:» إنَّ الإمبراطور الحكيم شون تزوَّج بغير علم أهله، خشية ألَّا يُرزق بأنجال وأحفاد «فيكون قد أساء إلى أجداده، مرتكبًا أعظم الآثام». ويرى العقلاء الأماجد «أنَّه لم يرتكب خطأ بعدم إبلاغ أبويه وإحاطتهم علمَّا بظروف زواجه، أي …» إنَّه، في هذه الحالة بالذات، كأن قد أبلغهما، ولا يؤاخذ بشيء!»

(٧–٢٧) قال منشيوس: «إنَّ الجوهر الحقيقي للإحسان هو طاعة الوالدين؛ والمحتوى الفعلي للعدل هو طاعة الأخ الأكبر؛ والمعنى الجوهري للحكمة هو الوعي بهاتين المسألتين والسير على هديهما بغير ميل؛ والمغزى الأصلي لآداب المعاملات هو الحرص والدأب على العمل بهما، والمفهوم الجذري للموسيقى (قانون الجمال … والأخلاق أيضًا!) يقوم على استلهام هاتين النقطتين بمنتهى الحب؛ مما يعمل على تحفيز الطاقة الإبداعية فتؤتي ثمارها، فإذا آتى الإبداع ثماره صار من المستحيل الوقوف في وجه تياره المتدفق، وإذا استحال صد تيار الإبداع، دقَّت الأقدام طربًا ومالت الأيدي «بغير إرادة واعية» واهتزَّ الجسم إيقاعًا ورقصًا.»

(٧–٢٨) قال منشيوس: «أن ينصاع الناس جميعًا (أهل الممالك) خضوعًا لسلطان رجل حكيم، ثم لا يُساوي مثل هذا الخضوع مجرد حشيشة ذابلة فوق الأرض، فهذا ما لا يتكرَّر كثيرًا على مر التاريخ؛ إذ كان ذلك هو الحال ما بين أهل الممالك والإمبراطور الحكيم «شون».

إنَّ مَن لم يفز برضا الأبوين، فقد خسر إنسانيته، ومَن عصاهما فقد تناءت عنه صفة البر.

لقد ظلَّ القديس الحكيم شون يرعى والديه في تفانٍ حتى نال رضا أبيه «كاوصو»، وكان لهذا الرضا الأبوي صدى في كل الممالك؛ حيث جعلته التقاليد والأعراف الاجتماعية مضربَ الأمثال؛ فذلك هو ما يُطلق عليه «كاشياو» [أي: البر العظيم بالوالدين].»

الجزء الثاني

وجملته ثلاثة وثلاثون فصلًا

(٨–١) قال منشيوس: «وُلِد القديس الحكيم شون في بلدة «جوفنغ»، ثم انتقل إلى «فوشيا»، وكان موته بأرض «مين تياو»؛ فهو — بحسب موقع الميلاد والممات — ينتسب إلى المناطق الشرقية «المتاخمة للقبائل الهمجية».

ووُلِد الملك «أون» في بلدة شيجو، ومات في مدينة «بينغ»، فهو ابن المناطق الغربية «القريبة من القبائل البربرية»، وبرغم ما بين مواطن كليهما من طول المسافة، وما بين زمن ميلادهما من فارق السنين والأيام (إذ الفرق يبلغ ألف سنة كاملة) إلا أنَّ ما حققاه في الممالك من إنجاز باهر بعزم أصيل يُقرِّب بينهما بالدرجة التي تنمحي بها فروق الزمان والمكان؛ بل ويتطابقان كوجهي خاتم واحد، فالسابق منهما واللاحق، قد سار على نفس الطريق.»

(٨–٢) لما كان شانزي «أحد كبار رجال دولة جنغ» يتولى منصبًا حكوميًّا رفيعًا في بلاده، فقد كان يُعير الناس — تطوعًا — عربتَه الخاصة لتساعدهم في عبور نهرَي «تشن»، و«وي» «فلما بلغ ذلك الحادث منشيوس، علَّق قائلًا»: «هو كرم بالغ ومبادرة شخصية نبيلة لمسئول حكومي بارز، إلا أنَّ مثل هذا التصرف، إن كان يدل على شيء، فهو يدل على عدم تمرُّس وقلة مهارة في الشئون السياسية، ذلك أنَّ مسئولًا حكوميًّا كبيرًا مثله، لو استطاع أن ينشئ جسرًا على النهر للمشاة في شهر نوفمبر «مثلًا»، ثم قام في الشهر التالي بإقامة جسر آخر لمرور العربات، لأعفي الناس من مشقة عبور النهر على نحو جذري.

إنَّ العاقل هو الذي يملك ناصية الإدارة السياسية الفعالة؛ «فيُعرف بذلك وسط الناس»، حتى إذا خرج بموكبه سائرًا في الطرقات قُرِعت لأجله الأجراس، وأُفسحت لعربته الدروب، «فالطبيعي، هو أن تسير بين الناس عربته الفخمة، اللائقة بمسئول محنك …»، وليس طبيعيًّا أبدًا أن يتولى بنفسه عملية عبور الناس إلى الشاطئ الآخر؛ لأنَّ المسئول الحكومي الكبير الذي يقدم علي مثل ذلك التصرف «تقربًا وخدمة للناس» لن يجد أبدًا الوقت الكافي للعمل طوال مدة منصبه.»

(٨–٣) قال منشيوس للملك شيوان، وهو ينصح له: «إذا صار ما بين الملك وبين وزرائه مثلما بين الإخوة والأشقاء، لأصبحوا طوع يديه ولانطبعت المودة والإخلاص له في أعماق قلوبهم، أمَّا إذا عدَّهم زمرةً من الأغبياء الجهلة [حرفيًّا: كالحمير والكلاب!] فسوف تسقط مكانته في نظرهم، ويعدونه كواحد من العامة (الدهماء)، وإذا نظر الملك إلى وزرائه بوصفهم حشائش ذابلة على قارعة الطريق (مجرد نباتات أرضية بغير قيمة)، أضمروا له العداوة والكراهية.»

وقال له الملك: «يقضي نظام الآداب و«الطقوس الرسمية» في حال وفاة أحد الأمراء، بأن يلتزم، حتى الوزراء السابقون، بارتداء ملابس الحداد، فما هي الوسيلة لإقناع الوزراء بالتصرف على هذا النحو؟»

فأجابه منشيوس: «إذا ما لاقت نصائح الأمير قبولًا لدى وزرائه، وقوبلت اقتراحاته بآذان مصغيةٍ، بحيث أفضت الأمور — في نهايتها — إلى ما يعود بالخير والنفع على أفراد الوطن كله، كان الأمير ملزمًا، حينئذٍ، بأن «يتصرف بقدر كبير من المسئولية مع الوزراء، فمثلًا …» يُرسل مبعوثًا خاصًّا من طرفه لمرافقة الوزير الراغب في مغادرة البلاد لأمر ما (أيًّا كان هذا الأمر)، فيُرتب له الخروج من البلاد دون أيَّة تعقيدات، ويبادر أيضًا إلي إرسال مبعوث إلى الجهة التي يقصد الوزير الذهاب إليها لعمل الترتيبات اللازمة، ولا يتم البدء في إجراءات من شأنها انتزاع حق الوزير الغائب عن البلاد في الملكية العقارية، إلا بعد مرور ثلاث سنوات كاملة منذ تغيُّبه خارج الوطن.

وهو النظام المسمى ﺑ «الطقوس الأخلاقية الثلاثة»، وبتلك الطريقة سيلتزم الوزير بالتصرف «حيال الأمير المتوفَّى» طبقًا لنظام ارتداء شارة الحداد. لكن النصائح لا تجد مصغيًا، وليس للاقتراحات أدنى اعتبار، ولا يصل الإحسان إلى مستحقيه من الناس، وإذا اضطر الوزراء إلى مغادرة البلاد لأمر ما، جرى القبض عليهم وعوقبوا وأهدرت كرامتهم، أو «إذا نجحوا في الإفلات من تلك القبضة بالسفر خارج الوطن» جرى تعقُّبهم والنيل منهم وخلق العقبات لهم في كل المكان؛ بل تم حصار ومصادرة ممتلكاتهم، قبل أن ينقضي اليوم الذي غادروا فيه البلاد، فهذا كله مما يقال له «الإفراط في العداوة والكراهية»، أي إنَّ المرء يُعامَل وكأنَّه عدو غادر ولص أثيم، فما الذي يدعو أيًّا من الوزراء إلى ارتداء شارة حداد إذن؟»

(٨–٤) قال منشيوس: «إذا وقع السيف على رقاب المفكرين «الدارسين المتنوِّرين» بغير ذنب، هرب رجال الحكم الكبار خارج حدود الممالك، وإذا ذُبحت رقاب الأبرياء من الناس، تفرَّق المتعلمون المستنيرون في البلاد بددًا، وارتحلوا إلى أوطان بعيدة.»

(٨–٥) قال منشيوس: «ما دام الأمير رحيمًا، فلن يسلك الناس بغير الرحمة، فإذا كان عادلًا، فأينما سار الناس فثم طريق العدل.»

(٨–٦) قال منشيوس: «إنَّ صاحب الخلق الكريم، لن يرضى لنفسه أن يأتي أمرًا ظاهره استقامة وعدل، وباطنه خواء وزيف.»

(٨–٧) قال منشيوس: «على كل ذي خلق كريم أن يكون نموذجًا يقتدي به الأدنى خلقًا، وليُسارع كل ذي اقتدار أو موهبة من علم أو حرفة إلى تعليم الآخرين شيئًا مما أجاده وأتقنه؛ فالناس لا يسعدون بشيء قدر سعادتهم بأن يجدوا بين رجالهم النخبة ذات العلم والجدارة؛ أما إذا استنكر ذوو الخلق القويم أن يأخذوا بيد إخوانهم الأدنى حظًّا صوب الرشاد، ونأى أصحاب المهارات والمواهب بأنفسهم عن تلقين الناس أسرار العمل والإجادة، صارت المسافة بين الحكماء والسفهاء ضيقةً جدًّا، تكاد تقل عن مقدار البوصة الواحدة.»

(٨–٨) قال منشيوس: «لا يتصور المرء ما يتوجَّب عليه أن يعمله، إلا إذا أدرك، أولًا، ما لا ينبغي عمله.»

(٨–٩) قال منشيوس: «يا له من مستقبل مليء بالمتاعب ينتظر أولئك المولعين بفضح أخطاء الناس دون حياء.»

(٨–١٠) قال منشيوس: «لم يكن جوني [أحد ألقاب كونفوشيوس] يتجاوز الحد الأوسط من كل أفعاله.»

(٨–١١) قال منشيوس: «قد لا يكون الرجل المهذَّب أخا ثقةٍ في كلمه، وربما لا يكون أيضًا أخا عزمٍ في أفعاله؛ لكنه في كل الأحوال ينطلق في كل ما يعمله من قاعدة تقوم على الحق والعدل.»

(٨–١٢) قال منشيوس: «إنَّ الرجل العظيم هو ذلك الذي لم يفقد، بعدُ، نقاء الطفولة وبراءة القلب الوليد.»

(٨–١٣) قال منشيوس: «إنَّ القيام على خدمة الوالدين في حياتهما، ليس بالشيء الكثير؛ ذلك أنَّ أهم وأعظم خدمة «يقوم بها الابن البار» هو إقامة طقوس الدفن والوداع الأخير لهما.»

(٨–١٤) قال منشيوس: «إنَّ العاقل مَن يسلك طريقًا «في كل ما يعمل» يبتغي به التعمُّق والإجادة وصولًا إلى الدرجة التامة من التحصيل «التي يصبح فيها الموضوع المستهدف، أو مادة العمل …» تحت سيطرته بإرادة كاملة، ثم إنَّ تحصيل الأشياء بإرادة تامة يعني القبض على زمام مادتها بيدٍ صلبة، ولا شك أنَّ التحكُّم الراسخ في مادتها يؤدي إلى التراكم الوئيد الذي يستقطر عنصر الإجادة، فإذا ما أمكن لمثل ذلك التراكم أن يستصفي معدن الإجادة، بلغ المرء درجة الإتقان ورسوخ القدم، وسلاسة الاستخدام، ودام له النجاح والتوفيق؛ لذلك ينبغي للعاقل أن يطلب طريقًا للعلم والتحصيل.»

(٨–١٥) قال منشيوس: «إنَّ التوسع في التحصيل العلمي بالإضافة إلى القدرة على الملاحظة التفصيلية يمكِّن «المرء» من الوصول إلى مرحلة استخلاص المبادئ الأساسية (الخلاصة) في المعرفة.»

(٨–١٦) قال منشيوس: «لا المهارة ولا التفوق وحدهما استطاعا أن يُقنعا الناس بأي شيء؛ بل التمكن من استخدام وسائل الإرشاد والتوجيه، كان هو الذي أخضع الممالك بقوة الإقناع، ثم إنَّه لم يحدث أبدًا في تاريخ الإنسانية أن تحققت وحدة الممالك تحت راية واحدة بغير الاقتناع التام «… من جانب أهل الممالك أنفسهم».»

(٨–١٧) قال منشيوس: «من سوء الحظ (سوء الطالع) أن يقول المرء كلامًا بغير معنًى حقيقي، وقد كان الكثير من الكلمات الغامضة هي التي حجبت عددًا هائلًا من الحكماء الطيبين عن الظهور.»

(٨–١٨) جاء شيوزي إلى منشيوس وسأله: «كان كونفوشيوس يمتدح الماء كثيرًا، حتى إنَّه كان يتغنَّى به من حين إلى آخر، ترى ما الذي رآه جديرًا بالاهتمام في تلك المسألة «المائية»؟» فأجابه: «لطالما انبجست المياه من عيون الآبار، ولم تتوقف عن الجريان ليل نهار، تتدفق من بين الشقوق المنخفضة فتملأ القيعان، وتطفو فتسيل فتجري في الجداول صوب الأنهار، لطالما كان ذلك حالها على مرِّ الزمان «قانونها الأبدي الذي لم تغيِّره واتجاهها المعهود من قديم!» فذلك هو ما لفت انتباه كونفوشيوس من سماتها فقال ما قال، صحيح أنَّه بغير آبار، كانت مياه الأمطار تسقط في الشهر السابع والثامن بغير انقطاع فتمتلئ منها المصارف والوديان، إلَّا أنَّها سرعان ما تجف وتغيض «وتصبح أشبه شيء بالشهرة التي تنزل على المرء سريعًا وتزول بنفس السرعة»، فالشهرة الطيبة إذا ما تجاوزت إمكانات الواقع تعود وبالًا على صاحبها مهما ذاع صيته «فذلك ما دعا كونفوشيوس إلى التغنِّي بمياه الآبار!».»

(٨–١٩) قال منشيوس: «برغم أنَّ الفرق بين الإنسي والوحشي «من الطيور والنباتات» ضئيل جدًّا، فإنَّ الأشخاص العاديين يخصمون هذا الفرق الضئيل «فتبدو تصرفاتهم وسلوك الوحشي سواء بسواء»، إلا السادة الأماجد، فهم وحدهم الذين يحافظون على بقاء تلك المسافة لتحفظ عليهم إنسانيتهم، وقد أدرك الحكيم القديس شون طبائع الأشياء كلها، ولاحظ نمط سيرورتها وتفحَّص أحوال البشر، فاختار لنفسه طريقًا «في الحياة» يقوم على مبادئ الاستقامة والإنسانية، لكنه أبدًا لم يكن يسعى لتطبيق الإنسانية والاستقامة؛ «سعيًا وراء الشهرة الكاذبة؛ «إذ إنَّ استلهام المبادئ يختلف عن الادعاء السطحي بامتلاك مادةٍ حقائقها كاملةً».»

(٨–٢٠) قال منشيوس: «كان الملك «يو» يكره الخمر ويحب الكلام ذا المعاني الجميلة؛ أمَّا الملك «طانغ» فقد كان يلزم نفسه باتباع مذهب الوسطية، ويختار للمناصب العليا أكفأ الناس وأنسبهم دون ميلٍ أو محاباةٍ، وراح الملك أون يُعامل مواطني بلده «بكل عطف وتفانٍ»، كأنَّهم خرجوا توًّا من كارثة، «هذا من ناحيةٍ ومن ناحيةٍ أخري، فقد …» كان يبحث عن الطريق الصحيح كأنَّه يبحث عن كنز دفين «أرهق نفسه بالبحث عن الصواب ولم يعثر عليه!»

ومن جهة الملك «أو»، فلم يحدث أبدًا أن استهان بمكانة وزرائه القريبين، ولا أهمل وزراءه البعيدين.

وفيما يتعلق بأمر عظيمِ أسرة جو (الملك جوكون) فقد أراد أن يجمع في شخصه مزايا الملوك القديسين المؤسسين للأسر الملكية الثلاث القديمة: «شيا، شانغ، جو»، بالإضافة إلى إنجازات الملوك الأربعة: «يو، طانغ، أو، أون»، فكان إذا التبست عليه مسألة تعجزه عن اقتفاء آثارهم، راح يتأمَّل دقائقها بعمق، يواصل الليل بالنهار، بحثًا وتفكيرًا، حتى إذا اهتدى إلى ضالته فيها نهض صباح يومه عازمًا على الشروع في اتخاذ الوسائل التنفيذية.»

(٨–٢١) قال منشيوس: «قد اندثرت التقاليد الملكية القديمة التي كانت تحرص على اقتفاء الآثار الشِّعرية وتدوينها، ومن ثم فلم يعد هناك «تدوين مقدَّس، مثل …» كتاب الشِّعر القديم، «وبانتهاء ذلك اللون من المدونات التراثية» ظهر كتاب «تشو نشيو» (حوليات الربيع والخريف) وكتاب «شانغ» (العربة الحربية) وهو سجل تاريخي لدولة تشو، وكتاب «تشو نشيو» «أيضًا، بعنوان «حوليات الربيع والخريف»، لكنه يحوي، هذه المرة، السجلات التاريخية الخاصة ﺑ …» دولة لو؛ وهي كلها كُتبٌ ذات طبيعة «تاريخية» واحدة، ولا يخرج محتواها عن أن يكون تدوينًا (تراجم شخصية) للملوك: هوانكون (ملك تشي)، أون (حاكم جين)، وأسلوب السرد فيها يتسم بطابع التدوين التاريخي.

وقد قال كونفوشيوس، «بخصوص تلك المدونات الكبرى»: «كنتُ أنا — كونفوشيوس — الذي قمتُ، بقلمي هذا، بصياغة المبادئ (الخطوط) الكبرى لمحتويات تلك المدونات كلها.»

(٨–٢٢) قال منشيوس: «لم تكد التقاليد العظيمة التي ميَّزت سيرة شخصيات تاريخية مجيدة تستمر خمسة أجيال، حتى تلاشت تمامًا؛ بل إنَّ آثار التقاليد التي وضعها السفهاء من الرجال انقضت، هي أيضًا، بعد خمسة أجيال، ورغم أنِّي لم أدرس على يد كونفوشيوس نفسه «ولا التقيتُ به وجهًا لوجه» إلَّا أنِّي تلقيت عنه العلم عبر اطلاعي الفردي على ما سجَّله الآخرون.»

(٨–٢٣) قال منشيوس: «إذا تساوت الكفة بين الحصول على الشيء وتركه، كان الحصول عليه ماسًّا بمعنى النزاهة والشرف، وإذا تساوت الكفة بين المنح والمنع، كان المنح انتقاصًا لفضيلة الإحسان، وإذا تعادلت كفتا الموت والحياة صار الموت إهدارًا للشجاعة.»

(٨–٢٤) «قيل قديمًا» إنَّ «بنغ مان» كان قد تعلم الرماية على يد «إي»، فلمَّا مهر فيها للغاية وأتقن كل فنونها راح يجوب البلاد والممالك «ليُنازل مَن هو أشد منه درايةً»، فلم يجد سوى أستاذه الذي علَّمه إياها، فقتله، فقال منشيوس في ذلك: «إنَّ هذه لجريمةٌ كبرى، لكن «إي» له نصيب أيضًا فيما حاق به، «… فهو المخطئ الأول»، وتكلم كُون مينغي «مجادلًا»، قال: «لا يبدو من الوقائع أنَّه مخطئ في شيء أبدًا»، فردَّ منشيوس، قائلًا: «هو مخطئ ولو بالقدر اليسير، لكنا لا نعفيه، برغم ذلك، من المساهمة بذلك القدر الزهيد فيما حاق به، وقد حدث أن قامت دولة «جنغ» بتكليف رجل اسمه «زيجورو» بمهمة مهاجمة دولة «وي»، ثم ما لبثت، هذه الأخيرة «بعدما علمت بالأمر» أن أرسلت في أثره «إيكون» ليتعقبه ويقتله، وكان أن قال زيجورو لنفسه: «إنَّ المرض قد اشتدَّ بي وما عدت أستطيع رفع القوس في وجه خصمي، فأنا هالك لا محالة!»، ثم سأل قائد مركبته عمن يجري وراءه على الطريق، فأجابه بأنَّه المدعو «إيكونغ تشيس»، وهنالك تهلل زيجورو فرحًا وهو يقول: «إذن، فقد بقي لي في العمر بقية!»، فقال له الحوذي: «أما علمت أنَّ إيكونغ تشيس، هذا، أمهر رامٍ بقوس وسهم في طول دولة وي وعرضها؟ «فكيف تري لنفسك النجاة برغم ذلك!» فلا أدري لمَ تهللت هكذا؟!»، فأجابه زيجورو: «لأنِّي علمت أنَّ إيكونغ تشيس قد تعلم الرماية على يد «إيكون تشيطا»، الذي كان أحد تلاميذي، وهو أكثر الرجال نزاهةً واستقامةً، ولا بد أن أصحابه على شاكلته»، وفي هذه الأثناء كان إيكونغ تشيس قد وقف قبالة المركبة ونادي عليه وابتدره بسؤاله: «لماذا لا ترفع قوسك عليَّ؟» فأجابه: «قد اشتد بي المرض طوال يومي هذا؛ فلا أستطيع التحكم في القوس»، فقال له إيكونغ تشيس: «كنت قد تعلمت فن الرماية على يد تشيطا، وهو تلميذك الذي عرف أسرار القوس والسهم على طريقتك، ولا أدري كيف يطاوعني قلبي على أن أؤذيك بما تعلمته في مدرستك؛ غير أنِّي موكل بمهمة رسمية من قبل جلالة الملك، وأنت تعرف أنَّ الأوامر الملكية ملزمة، ولا يمكن الامتناع عن تنفيذها بأي حال»، ثم إنَّه أخرج السهام من جعبته وهوى بها على عجلة المركبة «الحديدية»، فكسر رءوسها وأخذ أربعة منها فأطلقها في الهواء، عشوائيًّا، واستدار وعاد أدراجه.»

(٨–٢٥) قال منشيوس: «كانت السيدة الجميلة «شيس» (امرأة فاتنة، عاشت إبان عهد الربيع والخريف، يُضرب بها المَثل في الملاحة والجمال) قد خرجت تمشي بين الناس، ذات يوم، وقد علقت بقميصها بعض القاذورات النتنة، فلمَّا فاحت الرائحة الكريهة صار الناس يمسكون أنوفهم ويتحاشونها ويجرون مبتعدين عنها. «والعبرة البادية في هذا تتمثل في …» أنَّ أي إنسان حتى لو كان دميم الوجه — يستطيع إذا ما طهَّر جسده وثيابه — أن يقف بين يدي «أباطرة» السماء «ويقدم قربانه».»

(٨–٢٦) قال منشيوس: «الناس في كل مكان تحت السماء مشغولون جميعًا بالبحث والجدل حول طبيعة الإنسان، ولو كانوا قد أنفقوا جهدهم في تقصي أحواله (ظواهر أحواله) لكان ذلك أفضل كثيرًا، وتلك الأحوال (الظواهر) الإنسانية هي المبدأ الأصلي الذي يقوم على استقصاء «حالته الطبيعية».

ولئن كان الناس يمقتون التحايل «والتقعر الفلسفي …» فلأنَّه، دائمًا أبدًا، أسلوب التحذلق وتكلُّف الحجج والتخريجات الواهية، ولو كان أولئك الأذكياء «المتحذلقون» قد حذَوا مثال الملك يو [إبان أسرة «شيا» الملكية] في بطولته الأسطورية وهو يصد الفيضانات ويروض الأنهار، لما كانت العبقرية والذكاء محل كراهية واستهزاء «كما هو حاصل الآن!»

ماذا لو جرى استقصاء الأحوال الطبيعية للسماء، تلك العالية المترامية في الأجواء، أو النجوم السابحة في الفضاء البعيد؛ «ذلك أنَّه لو جرى شيء من ذلك»، لتمكَّن الإنسان من حساب الفصول والظواهر المناخية «المحتملة» لمدة ألف عام، وهو جالس، لا يغادر مكانه قيد أنمله.»

(٨–٢٧) لما تُوفِّيَ ولد الوزير الأعظم كوهان (بدولة تشي) فقد ذهب «يوشي» ليقدم واجب العزاء لأهله، وما كاد يدلف من باب الدخول، حتى اقترب منه أحد الأشخاص وراح يتكلم معه، وبعد هنيهة اقترب من مجلسه شخص آخر، وراح يُحادثه، ثم راح يتكلم في الحاضرين، قائلًا: «إن كنت أعجب لشيء، فهو أنَّ كثيرًا من رجال الحكم الكبار قد اقتربوا مني الليلة، وتحدثوا معي في أمور شتى، إلا منشيوس، فهو الوحيد الذي لم يُعِرني أدنى اهتمام، وهو ما أراه تقصيرًا شديدًا في حقي، واستهانة بشخصي»، وهنالك أجابه منشيوس، بقوله: «طبقًا لما تقضي به أصول المعاملات وطقوس المجاملات، فلا يصح، في مثل هذا المجلس، أن يتجاوز أحدٌ مكانه المخصص له، ولا أن يتجاذب أطراف الحديث الجانبي مع الجالسين؛ بل ليس من المسموح، حتى، أن يقوم الشخص من مكانه لتقديم التحية لأي فرد أيًّا كان، وكنت — طوال الوقت — حريصًا على الالتزام بتلك الأصول والمبادئ، ومع ذلك فها هو السيد المهذب «تسياو» يُقرر بأنِّي تصرفت على نحو مهين وغريب!»

(٨–٢٨) قال منشيوس: «الفرق بين «الرجل» الماجد الجليل، وبين الوضيع الحقير، يتضح فيما استقرَّ عليه باطن كل منهما؛ ذلك أنَّ الماجد يطوي سريرته على الإنسانية والاستقامة «الأخلاقية»؛ فالإنسان «في أعماقه» يحب الناس ويتودد إليهم، والمهذب المستقيم «داخله» يحترم دائمًا الآخرين. ومَن يحب الناس، فالناس بالطبع يحبونه، ومَن يُبجِّلهم فإنَّهم يعاملونه بالمِثل.»

وإذا افترضنا، مثلًا، أنَّ بينَنا الآن رجلًا عاملني بغلظة، وجفاء «وكان عليَّ أن أتصرف، في هذا الموقف، كما ينبغي أن يتصرف الرجل المهذب …» فسوف أراجع نفسي وأحاسب ضميري متسائلًا في أعماقي: أكنت غليظًا معه أنا الآخر؟ … أأكون قد خرجت عن حدود الأدب واللياقة؟! لا بد أنِّي كنت كذلك بالفعل، وإلَّا فكيف حدث ما حدث؟ وهكذا، فالسيد المهذب يظل يراجع نفسه وسلوكه حتى يستعيد، في ضميره، مبادئ الإنسانية، ويستحضر في وجدانه أصول المعاملات الأخلاقية، وبرغم كل هذا يظل الرجل الآخر على حاله الأول؛ غليظًا لا يريم، ثم يعود المهذب الفاضل يستقصي كوامن نفسه متسائلًا حائرًا:» لا بد أنِّي لم أكن مُخلصًا صادقًا مع نفسي ومع الآخرين، على حد سواء» … ثم إنَّه يُجاهد كي يتحقق سلوكه بالإخلاص، فإذا الرجل الآخر باقٍ على جفائه وغبرة سحنته، فلا يجد المهذب سوى أن يقرر بجلاء: «إنَّ هذا الرجل معتوه، لا فرق بينه وبين الوحوش والبهائم، فمتى كان للإنسان أن يضع الأمور في نصابها مع الوحش والدواب غير العاقلة؟ … ومن ثم، يسيطر القلق طويلًا على وجدان الرجل الفاضل، ولا يقتصر على لحظات قصيرة محددة، ومثلًا، فمن أمثلة الأمور التي يفكر فيها الإنسان وتثير القلق الدائم، أن يقول المرء لنفسه:» قد كان الملك الحكيم شون إنسانًا مثلي، لا فرق بيني وبينه في هذه الناحية، إلَّا أنَّه استطاع أن يصير نموذجًا ملهمًا للبشرية، وأسطورة تتناقلها الأجيال؛ بينما لا أزيد أنا عن كوني رجلًا بسيطًا.» … ومثل هذه الفكرة تحرك كوامن القلق بالتأكيد.

فماذا نصنع مع هذا القلق إذن؟ فقد نحاول أن نتعلم درس وتجربة الحكيم المقدس شون، وهنالك، يتبدَّد قلق السادة المهذبين، فلا يقدمنَّ المرء على عمل مخالف للإنسانية، ولا يقربن سلوكًا مغايرًا لقواعد المعاملات، وبعد ذلك فمهما تراكمت المصائب فوق الرءوس، فلن يتولد أي إحساس بالقلق.»

(٨–٢٩) عاش «الحكيمان القديسان» «يوي» و«جي» في زمن استقرارٍ سياسيٍّ، وقد بلغا من الجدية في محاولة بسط رايات الاستقرار فوق الممالك؛ أنَّهما لم يُعَرِّجا على منزلَيهما ثلاث مرات متوالية (حينما كانا مشغولَين بمصالح الناس) فامتدحهما كونفوشيوس، وأثنى على فضائلهما الجمَّة.

وعاش «قديسٌ حكيمٌ آخرُ، يُدعى:» «يانزي» في زمان متقلِّب وأحوال مضطربة، وكان يُقيم في زقاق ضيق، وليس في بيته سوى كوب من الأرز ومغرفة خشبية، وقد لهجت الألسنة بالشكوى، وضجَّ الناس من قسوة الظروف وشدة الأحوال، وبقي وحده، مستبشرًا عاقد الأمل، وكم أثنى عليه المعلم الكبير «كونفوشيوس»، فلمَّا تكلم منشيوس «عن أولئك القديسين المذكورين، قال»: «كان ثلاثتهم (يوي – جي – يانزي) على خصلة وفضيلة واحدة؛ إذ كان يوي في مواسم الفيضانات الطائشة يحزن للمنكوبين ويبتئس لأجلهم، حتى بدا كأنَّه أوقع بهم في الكارثة بيديه، فراح يعذِّب نفسه، بضمير مثقل؛ وكان «القديس» جي يرى ويعيش بؤس المجاعة الضاربة في الأنحاء بأطنابها، «ويستميت في البحث عن خلاص» كأنَّه ألقم مرَّ الجوع في الأفواه، وكأن المأساة التي امتدت إلى كل بيت مأساتُه.

لو افترضنا أنَّ ثلاثتهم تبادلوا المواقع، فما كان ذلك ليُغير من موقفهم وسلوكهم شيئًا، ثم إذا افترضنا أن شجارًا نشب بين جيران يقطنون منزلًا واحدًا، وتطلب الأمر سرعة التدخل لفض النزاع، فما كان لهؤلاء الرجال (مشيرًا إلى يوي وجي، تحديدًا) أن يتأخروا عن ذلك الواجب، حتى لو خرجوا من بيوتهم بشعور مشعثة، وقبعات متهدِّلة.

أمَّا إذا كان الشجار مع جيران في نفس الحي، وخرج المهذب الفاضل (يقصد يانزي) ليفضَّ المشاجرة بشعر أشعث وهيئة مضطربة، فهو الأمر الذي ما كان ليرضاه لنفسه أبدًا العاقل المهذب، رغم أنَّه لو أغلق بابه وبقي مكانه لما عاب عليه الناس فعله.»

(٨–٣٠) قال كوندوتسي «لمنشيوس، وهو يحادثه»: «يقول الناس في كل أنحاء البلاد، بطولها وعرضها، إنَّ «كوان تشان» رجل عاقٌّ لوالديه، ومع ذلك، فلم ينقطع ما بينك وبينه من ودٍّ، بل ظللت تُجِلُّه وتحترمه كثيرًا! فما السبب في ذلك الأمر المثير للدهشة والاستغراب؟» فأجابه منشيوس قائلًا: «هناك خمسة مظاهر مختلفة للعقوق؛ أولها: التقاعس عن رعاية الوالدين خمودًا وتكاسلا، وثانيها: التغاضي عن رعاية الوالدين بسبب معاقرة الخمر والانغماس في اللهو البغيض [اللعب بالنرد والشطرنج، حرفيًّا]. ثالثها: التغافل عن خدمة الأبوين بسبب الميل والانجذاب نحو الزوجة والأبناء. ورابعها: جلب المهانة والتجريح للوالدين بسبب ضلالات الوشاية والنميمة. وخامسها: التنغيص على الأهل وتكدير صفو حياتهم بكثرة المشاحنات واستعراض الشجاعة في المشاجرات. «والسؤال الذي يبرز الآن هو:» أي لون من العقوق ذلك الذي يصم تصرفات «كوان تشان»؟ إنَّ أسوأ ما وقعتُ فيه العلاقة بين كوان تشان وأبيه هو الجفاء المتبادل بينهما؛ إذ كان كل منهما يشجب تصرفات الآخر؛ لحمله على الالتزام بالفضائل. إن الحضَّ على الفضائل واستنكار الرذائل أمر معهود بين الإخوة والأصدقاء، وليس بين الولد وأبيه؛ إذ من شأن ذلك أن تتوغر الصدور وتقع الحسرة في القلوب. ألم يكن كوان تشان يرغب في أن يجد الهناءة في بيته، بين امرأته وأولاده «مثل كل الناس؟ … بلى قد كان …» إلَّا أنَّ إحساسه بأنَّه أخطأ في حق أبيه دفعه إلى الابتعاد عن زوجته ومجافاة أطفاله، وظل حتى آخر يوم في حياته يأبى أن يرعاه أو يتكفَّل به أحد من أولاده؛ فقد حسب أنَّه لو لم يتصرف على هذا النحو لبدت خطيئته في حق والديه أكبر من أن تُغتفر. ذلك هو الوجه الحقيقي «لحكاية» كوان تشان بغير زيادة أو نقصان.»

(٨–٣١) كان «الفيلسوف» سنغ زي مقيمًا بمدينة «أوتسن» عندما راحت قوات دولة يوي تتقدم لمهاجمة تلك المدينة الصغيرة، فنادى عليه بعض الناس قائلين: «فيمَ قعودك ها هنا، اهرب بجلدك معنا من الغزاة القادمين!» فقام معهم وهو يقول لخادميه «أثناء رحيله» احرسوا مسكني أثناء غيابي فلا تدعوا أحدًا يدخله لئلا يُحطِّم الشجيرات والنباتات»، فلما انسحبت القوات المعتدية، وصار من حق المهاجرين العودة، أرسل إلى الخدم بالمنزل يقول لهم: «أنا عائد إليكم على جناح الطائر، فأصلحوا المنزل وجهزوا الإقامة» … فلما تأكد للناس أنَّ سنغ زي قد عاد بعد انسحاب القوات المعتدية، ذهب إليه أصدقاؤه قائلين له: «إنَّ الناس — كما علمتَ — يحترمونك، ويكبرونك، ويعرفون لك قدرك ومكانتك، لكنك لم تُقِم وزنًا ولم تعبأ بتلك المكانة عندما هربت فور قدوم الغزاة؛ وهو أمر يشوِّه سمعتك ويشينك، وقد كنت من قبل نموذجًا طيبًا يُحتذى به، فكيف بك الآن؛ وقد رآك الناس وأنت تعود أدراجك فور علمك بانسحاب المعتدين، وهو تصرف أحمق لا يليق بك؟!» وهنا تكلم شن يوهانغ (تلميذ سنغ زي) قائلًا: «تلك أمور دقيقة تعزُب على الفهم، ولا أراكم قادرين على استجلاء مغزاها، وقد سبق لي — شخصيًّا — أن تعرَّضت أنا وأهلي لمحنة قاصمة على يد «فوتشو» (ذلك العربيد الذي راح يطارد جامعي الحشائش البسطاء، وأعلنها عليهم حربًا! وكان مع أستاذنا أكثر من سبعين تابعًا فروا بجِلْدهم جميعًا، ولم يصمد واحد منهم).

وعندما كان زيس (حفيد كونفوشيوس) مقيمًا بدولة وي، فقد تصادف أن قامت قوات دولة تشي بِشَن الغارات والزحف عليها، وذهب إليه مَن قال له: «فيمَ جلوسك والعدو آتٍ لا محالة؟ قم وانجُ بنفسك!»

فقال له: «فمَن إذن يشد أزر جلالة الملك ويقف معه مدافعًا عن البلاد، وأنا كما عرف الناس «حفيد الشيخ الأكبر والمعلم الأول»؟»

قال منشيوس: «إنَّ كلًّا من «سنغ زي»، و«زيس» يمشيان على نهج واحد؛ لكن سنغ زي هو الشيخ المعلم؛ وزيس، هو التابع المريد، وإذا «تخيلنا أنَّهما» تبادلا المواقع، فستبقى كلمات كل منهما وأفعاله دون تبديل.»

(٨–٣٢) قال «تشوتسي» (موظف رسمي لدى سلطات) دولة تشي «مخاطبًا منشيوس»: «قد أرسل جلالة الملك عيونًا تتجسس عليك يا سيدي؛ لترى ما إذا كنت مثل باقي الناس العاديين … أأنت حقًّا لا تختلف عن بقية الناس، أيها الشيخ الحكيم؟»، فأجابه منشيوس: «وما الذي يجعلني مختلفًا عنهم؟ لقد كان «الأباطرة العظماء» «ياو» و«شون» أيضًا مثل باقي الناس سواءً بسواء.»

(٨–٣٣) كان في دولة تشي رجل يُقيم في بيت واحد مع زوجته ومَحظِيَّته، ولطالما خرج بالنهار وعاد بالليل وقد أكل وشرب مريئًا، يتغنى ويرقص منتشيًا بالسعادة، تسأله الزوجة عمَّن كان يقضي ليلته معهم، وبصحبه مَن طاب له الطعام؟ فيجيب أنَّهم أصحابه من الوجهاء الأماجد، ذوي الجاه والشرف من عِلية القوم. فما كان من الزوجة إلَّا أن مالت على أذن صاحبتها (محظية الرجل) فقالت لها: «هو ذا الرجل، زوجنا، يخرج ويرجع متخمًا بالأكل والشرب، مفعمًا قلبه بالسعادة، فكلمَّا سألته عمن كان بصحبته، أجاب بأنَّهم رفاقه من الوجهاء، سادة البيوت العامرة، مع أنِّي لم أرَ واحدًا منهم جاء لزيارته، ولو مرة واحدة، وقد بدا لي أن أخرج وراءه، وأراقبه خفيةً، علِّي أطَّلع بعينَي رأسي على خبيئة أمره.»

فما إن أشرق نهار اليوم التالي حتى قامت من مرقدها ومشت في أثر زوجها تلاحقه أينما ذهب، فلم تشهد أحدًا من وجهاء المدينة تجاذب مع زوجها أطراف الحديث ولا أرخى وإياه حبال الكلام، ثم إذا به يعرِّج على مدافن الضاحية الشرقية من المدينة، ويندس وسط الزائرين المقيمين لطقوس الدفن وعمَّال المقابر، فيستجدي منهم فتات الموائد وثفالة أقداح الشراب، وإذا لم يستوفِ مقدار ما يشبع نهمه يمَّم شطر حشد آخر، واتخذ هيئة الراكع المستعطف لعله يظفر بمبتغاه.

ذلك إذن هو سر الرجل الشبعان الريَّان العائد آخر اليوم يتراقص طربًا!

عادت الزوجة أدراجها، وقصَّت على المرأة الأخرى ما عاينته بنفسها، قالت:

«إنَّ زوجنا، مَعقِد أملنا ورجائنا حتى آخر العمر … اتضح اليوم من أمره كيت وكيت …» وصارت الزوجة والمحظية تقلدان حركاته وأقواله، سخريةً واستهزاءً، ثم جلستا في الفناء متقابلتين، وراحتا تبكيان وتندبان حظهما العاثر.

وإذ لم يدرِ الزوج أن دفائن سره أصبحت ظاهرة للعيان، فقد دلف كعادته، داخلًا إلى البيت هانئًا مغتبطًا، يهز رأسه خيلاء ويرقص متعاجبًا فخورًا.

وهناك من العقلاء (السادة المهذبين) مَن يرى أنَّ البعض ممن يتحايلون، بوسائل شتى، سعيًا وراء الجاه العريض والثروة الطائلة، لن يصل بهم الأمر إلى «ما لمسناه في القصة المذكورة من …» تعريض الزوجات والمحظيات للانكسار وخيبة الأمل، ثم دموع الحسرة في آخر المطاف، وربما كان ذلك صحيحًا عند عدد قليل جدًّا من الناس!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤