الباب السابع

جين شين (من أعماق القلب)

الجزء الأول

وجملته ستة وأربعون فصلًا

(١٣–١) قال منشيوس: «يستطيع الإنسان أن يعمل كل ما في وسعه [حرفيًّا: يبذل أعماق قلبه؛ لاستظهار بواطن الخير في أعماقه]؛ كي يستطيع أن يفهم طبيعته كإنسان، فإذا امتلك ناصية الفهم للطبع الإنساني، تبصَّر بأقدار السماء.

إنَّ المرء إذا قدر أن يحفظ بين جنبيه قلبًا نقيًّا طيبًا، وتعهد طبائعه «الخيِّرة» بالموالاة والتهذيب، استطاع أن يستقبل أمر السماء (أقدار السماء)، وللناس في ذلك موقف واحد، سواء طالت أعمارهم أو قصرت … فمَن تعهد قلبه بالخير وظاهرَه (جسدَه) بالرعاية، صمد لأقدار السماء، ووجد — من ثم — لقلبه ملاذًا ولحياته مقرًّا.»

(١٣–٢) قال منشيوس: «الشقاء والهناء «كلاهما» والسعود والنحوس «كلها» أقدار، ولا مفرَّ من الصمود للقدر؛ «لذلك» فمَن استبصر بقضاء الأقدار لن يمكث تحت حائط مائل يوشك أن ينهدم، ولا يرضى بأحكام الأقدار إلَّا من قضى نحبه سائرًا على منهاج الفضيلة الكبرى، وليس مَن مات تنفيذًا لحكم إعدام قضائي كمَن وافاه — وهو طوع المبدأ الأخلاقي الأسمى — حتم القدر.»

(١٣–٣) قال منشيوس: «لا إدراك إلَّا مع السعي، ولا خسارة إلَّا مع الإهمال، فالسعي (على هذا النحو الذي تدرك به الأغراض) يساعد المرء على الاكتساب؛ حيث إنَّ هذا السعي جزء من إرادة المرء الداخلية «الباطنية».

أما الاستقصاء الذي يتبع نهجًا محددًا، «وكذلك» الفوز والخسران اللذان يأتي بهما القدر، فلا يُكسبان المرء شيئًا؛ لأن إرادة السعي والاستقصاء «ليست جزءًا من إرادة الإنسان نفسه»؛ بل تتحدد وفق «إرادة أخرى» خارجية.»

(١٣–٤) قال منشيوس: «قد عرَفَت كل نفس ما لها وما عليها، وليس أسعد من امرئ حاسب نفسه فاستبصر في باطنه الصدق والإخلاص، وليس أقرب من «الطريق القويم» إلَّا امرؤ اجتهد في طلب التخلق بالمبادئ الإنسانية متوسلًا في ذلك بمبدأ «معاملة الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به»، مخلصًا لمعنى التسامح بكل ما يقدر عليه من جهدٍ.»

(١٣–٥) قال منشيوس: «قد يعمل الإنسان ويتحرك هنا وهناك دون فهمٍ حقيقيٍّ «لجوهر الأشياء»، وقد يتصرف بحكم العادة ويترسخ لديه الاعتياد دون أن يسأل ويتساءل عن العِلل والأسباب، وقد يقضي عمره كله ماشيًا على طريق دون أن يعرف ما هو الطريق، لكن «مثل هذا الإنسان» هو العامي الساذج البسيط.»

(١٣–٦) قال منشيوس: «ما من إنسانٍ إلَّا في حياته شيء ما، يُسبب له الشعور بالعار أو الخزي؛ وعندما يخالج الإنسان شعور بالخزي لعدم وجود ما يخجل منه أو يندم بسببه، يكون — وقتئذٍ فقط — قد برئت ساحته تمامًا من أدنى إحساس بالعار.»

(١٣–٧) قال منشيوس: «إنَّ الإحساس بالخزي والعار ذو أهمية قصوى للإنسان؛ «ذلك أن» مَن يتقنون أساليب الغش والاحتيال، وفنون الخديعة والمكر، لا يجدون حاجة للشعور بالخزي، و«هكذا نخلص إلى نتيجة مفادها أنَّهم» ما داموا لا يخجلون من كونهم ليسوا مثل الآخرين في الإحساس ببشاعة العار والفضيحة، فما الذي يدعوهم إلى الحفاظ على روابط مشتركة مع كل البشر … في الإنسانية؟»

(١٣–٨) قال منشيوس: «كان الحكماء القديسون، من الحكام والملوك في العصر القديم، يزهدون (يتجاهلون) ما بأيديهم من سلطة، عملًا بمبادئ الخُلق والاستقامة، «فإذا كان ذلك هو حال الملوك والأمراء»، فلماذا يسلك الحكماء والشيوخ أنفسهم هذا النهج نفسه؟ لقد فرح هؤلاء بمبادئهم القويمة ومسلكهم الأخلاقي، وتناسوا ما للآخرين من سطوة ومهابة، حتى ركبهم التِّيه والفخر بأنفسهم، فكانوا إذا تأخر عليهم الملك أو الأمير في إرسال الهدايا، أو فاته أن يقيم طقوس الاحترام اللائق «بجنابهم الأفخم» امتنعوا عن المثول بين يديه «تكبرًا»، إلا في النزر القليل. ولئن كانوا قد استكبروا أن يُكثروا إليه الزيارة ويطيلوا عنده اللقاء، فكيف كان له أن يتخذ منهم الوزراء والتابعين؟»

(١٣–٩) تحدَّث منشيوس إلى «سونكوجيان»، فقال له: «أتُحب أن تسافر في البلاد داعيًا إلى ذلك المذهب الأخلاقي القويم؟ فاسمع عني كلمات أقولها لك في هذا الشأن. «اعلم» أنَّك مُطالب بالثبات والثقة سواء اقتنع بكلامك الناس (الأمراء) أو لم يقتنعوا.»

فسأله سونغ: «وكيف لي بالوصول إلى تلك المرتبة؟»

فأجابه الشيخ: ««بأن تعرف أنَّك» ما دمت تتحدث عن المبادئ الأخلاقية، وتسلك بالاستقامة، فستصير أحوالك إلى الثبات والثقة؛ لذلك «فقد قيل» إنَّه ليس لذي العلم أن يميل عن الاستقامة ولو تعسَّرت به الأحوال واشتد به الفقر، ليس له أن يتنكب عن الطريق (الأخلاق) وإن تزكَّت نفسه زهوًا وخيلاءَ.

فإن حَرَص الطالب على الاستقامة مع ضيق ذات اليد، أخذ من القناعة مأخذًا متينًا، وإذا التزم جادة الطريق مع ما اكتسب من الفخر بنفسه، توجَّهت إليه آمال الناس واستقوى به رجاؤهم، ولقد كان الحكيم من القدماء إذا طاب له حظ نفسه، قام إلى الناس ففرق بينهم العطايا والهبات الكريمة، وإذا عسرت حاله، التفت إلى نفسه فأخذها بالتقويم والتهذيب حتى يحذو الناس حذوه، فإذا ما ضرب لديه الفقر بأطنابه، أقام معتكِفًا يعالج نفسه بالخلق الأقوم، وإذا أصاب من المجد رفعة، نثر فوق الدنيا كلها زهر آدابه وثمار محاسنه.»

(١٣–١٠) قال منشيوس: «إنَّ أولئك الذين يقبعون ساكنين لا تنتعش سجاياهم إلَّا عندما ينادي فيهم منادي الملك «أون» «بجميل الوصايا، داعيًا إلى حُسن الخُلق»، ليسوا إلا جمهرة العامة الساذجة، أمَّا الذين انعقد لهم لواء الفضل، وفائق الرفعة «فليسوا ككل الناس»؛ فإنَّهم أنهض إلى مطلب الخُلق القويم، وإن لم تقم للملك أون، نفسه، قائمة.»

(١٣–١١) قال منشيوس: أعطِ رجلًا رصيد الثروة التي اشتهر بها وزراء دولتَي «وي» و«هان»، فإن لم يخالجه أدنى إحساس بالزهو والخيلاء، فهو أكثر الناس نزاهةً والأعلى مكانةً والأسمى شرفًا.»

(١٣–١٢) قال منشيوس: «حتى لو سُقت الناس إلى العمل بالسُّخرة، من أجل ما يعود عليهم بالسعادة، فلن ينطق لهم لسان بالشكوى، وإن تحطمت أبدانهم كدًّا ومشقة؛ «وكذلك» لو روعتَهم بالموت وأنت تدفعهم بأمل الحياة، وتعدهم ببشرى البقاء، فلن يلقوا إلى الموت بالًا، وإن وضعت في رقابهم السيف، «فسوف يلقون حتفهم هانئين مستبشرين».»

(١٣–١٣) قال منشيوس: «إنَّ رعايا ملك الملوك (ذي القوة والسطوة فوق الممالك) لا يجربون من الحياة الجانب المشرق المليء بالحيوية، أمَّا رعايا الملك الرحيم فهم المخلصون الصادقون، الذين لا يعرفون مع العسر بأسًا، ولا مع اليسر طمعًا في المزيد، وفي كل يوم ترتقي أحوالهم مراتب الكمال، من خير إلى خير، تصعد بهم فلا تنكص ولا تحيد، يتنقَّلون في سُلَّم الخير الأسنى «وهم يتساءلون عمَّن كان له الفضل فيما غمرهم من الخير والنعمة».

ما من أرض يطؤها الحكيم القديس، إلَّا نال أهلُها على يديه آثارًا من التبدل والتغيير، وما من بقعة يحل بها، إلا شملتها معانٍ رائعةٌ تجل عن الوصف، ودارت في أجوائها أفلاك «من الخير» كدورة السماء في عليائها والأرض في أقطارها، فكيف يُقال، إذن، بأنَّ أحدًا لا يجني من إصلاحاته (الملك الرحيم) إلا النزر اليسير!»

(١٣–١٤) قال منشيوس: «الكلمات الرحيمة ليست كالسُّمعة الرحيمة، فليس أدعى للقبول ولا أشرح للصدور من السمعة الرحيمة. والسياسةُ الرشيدة ليست كالمواعظ (التعاليم) الطيبة؛ فالناس يخشون «ما يمكن أن تجلبه عليهم» السياسات الرشيدة، لكنهم يهفون بقلوبهم إلى المواعظ الطيبة، وإذا كان الحكم الرشيد يأخذ من الناس أموالهم، فإنَّ المواعظ الطيبة لا تجني من الناس إلَّا المودة والقبول.»

(١٣–١٥) قال منشيوس: «أن يقدر المرء على صُنع شيء دون سابق علم أو معرفة؛ فذلك ما يقال له «القدرة البديهية»، وأن يستبصر المرء أو يدرك شيئًا بغير سالف تدبر أو تأمل فهذا مما يعد «علمًا حدسيًّا».

كل مولود (حتى وهو في قماطة الميلاد) متعلق بوالديه، فإذا بلغ تمام النضج أبدى الاحترام لمَن هم أسن منه «من إخوته الأكبر سنًّا».

«وقد كان» حب الآباء من الرحمة «ومكارم الأخلاق»، واحترام المتقدمين في السن من الاستقامة، «وهو الخلق الأتم الذي لا مزيد عليه، ولا يراد له إلَّا أن …» ينتشر في ربوع الممالك.»

(١٣–١٦) قال منشيوس: «عندما كان القديس الحكيم «شون» (قبل أن يصبح ملكًا على البلاد) يقيم في بطون الأودية والوِهاد، يتخذ من الحجارة وأشجار الغاب جيرانًا وأقارب، ومن الأيائل والدواب أصحابًا أوفياء، لم يكن يختلف كثيرًا عن أهل الغابات في بساطتهم وهيئتهم (المشعثة المغبرة).

فلما تناهت إلى سمعه كلمات طيبة، تمثلت أمام عينيه جلائل الأعمال (استمد منها جميعًا أعظم الطاقة والإلهام) وصار مثل بحر انشق شاطئه ففاض، أو سيل انصب مدده فوق الوِهاد، فلا كابح لتياره ولا معقل لفورانه وعنفوانه.»

(١٣–١٧) قال منشيوس: «فليرد المرء نفسه عن أن يأتي ما لا وجوب لإتيانه، وليصد النفس عن أن ترغب ما لا يستقيم «مع الخُلق الأقوم» التطلُّع إليه، فذلك منتهى الأمر وكفايته.»

(١٣–١٨) قال «منشيوس»: «لا يقبل الناس التحلي بالخلق الكريم والحكمة، والتزود بالقدرات والاستعدادات والعلم والمعرفة، إلَّا لأنَّهم مشغولون طوال الوقت بالتفكير في «مواجهة» المخاطر والأزمات، ليس سوى أبناء المحظيات والوزراء المعزولين «الذين لا يربطهم كثير مودة مع الناس عمومًا» هم وحدهم الذين تؤرقهم المخاطر الجسيمة والهموم والكوارث؛ لذلك تجدهم على درجة فائقة من الفهم والذكاء والعبقرية.»

(١٣–١٩) قال منشيوس: «هناك «نفر من الناس» يقومون على خدمة جلالة الملك ولا يقصدون من وراء ذلك إلَّا تملقه وإيجاد الحظوة لديه، هناك «فريق من» المسئولين يعملون على استقرار الأمور في البلاد، ويجدون في ذلك كل السعادة والرضا، وهناك «جماعة» من الناس هم جنود السماء [حرفيًّا: أبناء السماء] يأملون في الوصول إلى المواقع الوظيفية التي تمكنهم من تطبيق المبادئ «الأخلاقية»، ثم هناك طائفة من أفضل الجميع مكانةً وخلقًا وأرفع قدرًا، وهم الذين يأخذون أنفسهم بالجِد، فيُصلحون أنفسهم قبل أن يعملوا على إصلاح شأن الآخرين.»

(١٣–٢٠) قال منشيوس: «ثلاثة أمور يفرح بها العاقل الحكيم من كل قلبه، وليس من بينها أن يقوم فوق عرش الحكم ملكًا، ينادي بالإصلاح وسياسة شئون البلاد؛ فأول ما يتمناه ويسعد به هو أن يتمتع أبواه بتمام الصحة والعافية وهم على قيد الحياة، وأن يتمتع إخوته بحياة مستقرة آمنة، وثاني تلك الأمور «التي تجلب إليه السعادة» ألَّا يقترف ما يستحيي منه أمام السماء، أو يثقل ضميره أمام أهل الأرض «الناس جميعًا»؛ أما ثالث ما يرجوه؛ لتكتمل له سعادة قلبه، فهو أن يجتمع لديه كل الأكفاء والنجباء من كل حدب وصوب، فيقوم على تعليمهم ورعايتهم.

تلك هي الأمور التي يسعد لها قلب العاقل، وليس من بينها اعتلاء كرسي الحكم لسياسة شئون الممالك.»

(١٣–٢١) قال منشيوس: «… أرض مترامية الأطراف، وشعوب وقبائل وأعراق شتى … ذلك هو ما يطمح إليه كل حاكم، ولو أنَّ حدود سعادته الغامرة لا تقتصر على ذلك فقط؛ بل تمتد إلى أطراف ما يُمكن أن يخضع تحت سلطانه من أقصى الأرض إلى أقصاها؛ بحيث تصبح له الولاية فوق عرش الممالك، غير أنَّ ذلك كله ليس جوهر طبيعته ولا طبع أمانيه الراسخ في أعماقه؛ ذلك أنَّ حدود طبائع القديس الحكيم لن تزيد جمالًا وبهاءً كلما اتسعت آفاق مجده، ولن تُذوي وتضمحل إذا اشتد عسره وضاقت به الأحوال، «… فذلك أمرٌ قد انقضى به قضاء الأيام، وطُويت به الصحف».

قد انطبع الحكيم بطابع الرحمة، والاستقامة، والأدب والحكمة، «تلك خصال استقرت في أعماقه» فتبدت في سيماء وجهه وارتسمت في ملامحه، ومدَّت في أطرافه، وتخلَّلت مسام جسمه وملأت كيانه، «يجدها الناس ظاهرةً فيما بدر عنه» دون أن ينطق بكلمة.»

(١٣–٢٢) قال منشيوس: «أراد بويي أن يُخالف «سيرة الملك الطاغية» تشو، فاختار مقر إقامته على شاطئ بحر «بيهاي» (بحر الشمال)، ولمَّا سمع بتولي الملك أون الحكم، قال: «ما الذي يمنعني الآن من الذهاب إليه والانتماء إلى صفه؟ وقد بلغني أنَّ «شيبو» يبذل كل جهده لرعاية كبار السن.»

وكذلك أراد «تايكون» أن يسلك على غير ما سلك به «الملك الطاغية» تشو، فجعل مقر إقامته شاطئ نهر دونهاوي (النهر الشرقي)، ولما بلغه أنَّ الملك أون قد نهض حاكمًا على عرش الممالك، قال: «سأذهب إلى جلالته وأنضم إلى أتباعه الأقربين، وقد بلغني أنَّه رحيم بكبار السن والعجائز.»

«وهكذا نرى أنَّ» مَن يرأف بكبار السن ويرحم العجائز، يرى فيه الحكماء خير السند والرجاء «وهو الحكيم الذي ينشر فوق الدنيا الخير العميم، فتجد …» المنازل الفيحاء فوق أراضٍ امتدت عبر خمسة «مو» وأشجار التوت الباسقة وراء الجدران، ونساء يجلسن وينسجن الحرير، فيجد العجائز رياشًا حريرية يلبسونها، وساحات يقأقئ فيها الداجن، وحظائر للخنازير يُلقى إليها الطعام في مواعيد محددة، فيجد كبار السن طعامًا شهيًّا [حرفيًّا: لحمًا شهيًّا].

«وهناك أيضًا» أراض مساحتها مائة «مو» يقوم على زراعتها رجالٌ أشداءُ، فيتوافر الطعام لكل آكلٍ ويشبع كل جائعٍ [حرفيًّا: تجد الأُسر المكوَّنة من ثمانية أفراد ما يكفيها من الطعام!].

أمَّا مَن يُدعى «شيبو»، ذلك الرحيم بالعجائز، فقد نال لقبه بسبب ما قام به من …» تحديدٍ لنظام الأراضي الزراعية، ودعوة الناس لزراعة الأرض والرعي، وتعليم النساء كيفية القيام بالرعاية الصحية لكبار السن «ذلك أنَّ» مَن بلغ الخمسين من عمره دون أن يحوز ثيابًا حريريةً فلن يجد الدفء، ومَن شارف السبعين دون أن يجد ما يكفي من اللحم في طعامه، فلن يهنأ بطعامه أو يسد جوعه. والحال التي لا يُشبع الطعام فيها الجوع، ولا تجلب الثياب لصاحبها الدفء هي ما يطلق عليها: معاناة الجوع ومقاساة البرد.»

ولم يكن في رعايا الملك أون، أحد عانى الجوع أو قاسى البرد من كبار السن، فتأمَّل ذلك المعنى!»

(١٣–٢٣) قال منشيوس: «فلتكن هناك أراضٍ تُزرع بأجود المحاصيل، ولا بُد من تقليل الضرائب حتى يعمَّ الخير على الناس، ويجدوا حظهم من الثراء، وليكن توزيع الطعام حسب إقامة الطقوس؛ فتتراكم الثروة وتفيض عن الحاجة.

«واعلم أنَّه» يتعذَّر على الناس أن يعيشوا حياةً طيبةً بغير الماء والنار؛ «فلا بد أن يتوافر منهما القدر الكافي، حتى» إذا طرق باب الناس طارقٌ في عتمة الغروب أو ظلمة المساء الحالك، وجد الناس ما يكفي حاجتهم ويزيد عليها، «… حتى إذا سألهم إياها، أعطوه بكرمٍ شديدٍ».

على الحكيم القديس، الذي قام على سياسة شئون الممالك، أن يجعل الطعام وفيرًا (كالماء والنار)، ألا ترى لمَن توفَّر لديهم الطعام كوفرة الماء والنار، أينبذون من سلوكهم الرحمة والمودة والإنسانية؟»

(١٣–٢٤) قال منشيوس: «لمَّا صعد كونفوشيوس على جبل «دونشان»، بدت له دويلة «لو» ضئيلة المساحة، فلمَّا طلع جبل «تسايشان»، رأى الممالك كلها صغيرة، متناهية الضآلة؛ «لذلك نفهم ما يُقال من أنَّ:» مَن امتلأت أعينهم بمشاهد البحر الكبير، لا يجدون ما يبعث على الإعجاب من التطلع إلى منظر النهر الجاري.

«وكذلك» مَن تلقَّوا العلم عند أعتاب القديس الحكيم، لن تثير لديهم شتى المعارف الأخرى أي شغف.

ومن المقرر في أصول التأمل الجمالي لمشاهد البحار والأنهار، أن يتطلع المرء مليًّا إلى حركة الموج المتدفق وتيارات الماء الهادرة المتقلبة، للشمس والقمر ضوءٌ باهرٌ يتجلى ساطعًا — حتى — عبر الشقوق والثقوب الصغيرة «لشدة إبهاره ونافذ شعاعه».

إنَّ الماء الجاري فوق الأرض لا يسيل في مجراه إلَّا إذا عمَّ الوِهاد وغطَّى حواف المنخفضات والأغوار الواطئة، «وكذلك» العاقل الحكيم المثابر على السلوك بين الناس حسب قواعد الخلقُ الكريم، لن يرتقى الساحة العالية، ولن يتقدم في طريقه، إلَّا إذا أتم بلوغ الدرجات الأساسية.»

(١٣–٢٥) قال منشيوس: «مَن قام في البكور، فقصد إلى طريق الخير بجِدٍّ ومثابرة، فهو صاحب «على شاكلة» الحكيم القديس «شون»، أمَّا مَن بادر في صبيحة يومه، عازمًا على استغلال كل فرصة سانحة فيما يعود عليه بالنفع، فهو أخو «اللص» «جي» أحد أتباع الوالي «ليوشياهوي»، وتُعزى إليه ممارسات همجية؛ من نصب واحتيال وسرقات واستغلال للنفوذ، ويُقال بأنَّها كلها افتراءات، بما في ذلك اللقب المشهور به، «اللص «جي»، كان قد تزعم ثورة لتحرير العبيد في زمن الربيع والخريف».»

(١٣–٢٦) قال منشيوس: «كان مذهب الفيلسوف — الأول للطاوية — «يانغ شو» يقول بألَّا يكترث المرء لغير ما يخصه وحده، «وليس له أن يكترث لأحد من الناس»، حتى لو كان في نتف ريشة طائر، أي لون من ألوان النفع للناس؛ فلا ينبغي للإنسان أن يكلِّف نفسه عناء أن يمد يده إليها؛ «أما فيلسوف المذهب «الموهي» المفكر المشهور»: «مودي»، فكان ينادي بالمحبة بين الناس، «وكان يقول:» لو قُدِّر للإنسان أن يبذل كل ما في وسعه «من قمة رأسه إلى أخمص قدميه» لما فيه خير الناس ومحبتهم فليفعل ذلك دون تردد.

وكانت تسيمو (عاش زمن الدول المتحاربة في دولة «لو») يقول باتخاذ موقف أوسط «بين هذين المذهبين»، وهو الأمر الذي كان ينطوي على نتائج طيبة «إلَّا أنَّ» ذلك الموقف الأوسط لم يفلح في أن يوازن بين كفتي المقولتين ويراجع خصائصهما، ومن ثم، فلم يكتسب المرونة المطلوبة، فانصبَّ جهده في قوالب جامدة، وإذا كان المرء يبغض ما صار إليه ذلك الجهد من جمود وتصلب، فلأنَّه يحمل في طياته إساءةً بالغةً «لمبادئ: الحق، والإنسانية والاستقامة»؛ إذ يمسك بالأمور من أحد طرفيها، «موليًا إيَّاه عظيم الاهتمام»، متجاهلًا الطرف الآخر منه؛ بل باقي الأطراف جميعًا.»

(١٣–٢٧) قال منشيوس: «حتى أردأ الطعام، سيراه الجائع شهيًّا لذيذًا وسينهل الظامئ من أشد الماء كدرًا حتى يرتوي؛ فهنالك «يرتوي الظامئ ويشبع الجائع» بغير مذاق حقيقي لطعام أو شراب؛ لشدة الجوع والعطش، «واعلم» أن آفة ما يعترض جوف المرء من جفاف وتشقق لاشتداد الجوع والعطش، قد تمتد إلى روحه وقلبه (عقله ونفسه)، فإذا استطاع الإنسان أن يحمى نفسه من غلبة آفات السغب ومضار الظمأ، فلن يحزن إذا ما اتسعت الهوة، وزاد الفارق بينه وبين الناس «فإذا هم في أرفع الدرجات، وأسمى المراتب».»

(١٣–٢٨) قال منشيوس: «ما كان «المدعو» «ليوشياهوي» ليبدِّل إيمانه ومبادئه الشريفة النزيهة، لمجرد أنَّه تولَّى منصبًا رفيع المستوى.»

(١٣–٢٩) قال منشيوس: «مَن أقْدَمَ على عملٍ «يريد به الخير والبر والإحسان» فمثله كمثل مَن راح يحفر بئرًا، فإذا ما نزل قاعًا سحيق العمق (حرفيًّا: يبلغ عمقها تسعة «رن»، نحو أربعة وعشرين مترًا) دون أن يجد ماء، فقد أخطأ الموقع الصحيح، واجتهد فيما لا طائل تحته.»

(١٣–٣٠) قال منشيوس: «قد انتهج ياو، وشون طريق الخير والاستقامة، بما استقر عليه الطبع الكامن في أعماقهما، أمَّا الملك طانغ (أسرة شانغ)، والملك أُو (أسرة جو) فقد اجتهد كلاهما في تطبيق المبادئ الأخلاقية؛ في حين لم يزد ما فعلته الإمبراطوريات العظمى الخمس عن مجرد استعارة مبادئ الخير والاستقامة «لتحقيق مآربهم الخاصة»، ثم إنَّهم بعد أن طال عليهم الأمد في استعارة تلك المبادئ «واستقرارها لديهم» فقد جاء وقتٌ ترسَّخت فيه الأصول، وصار من المستحيل القطع بأنَّها مستعارة أو وافدة.»

(١٣–٣١) قال «كونسون شو»: «قد بلغني عن «آيين» قوله: «ما كنت أرضى لنفسي أن أصادق الناكصين عن المبادئ الأخلاقية (الاستقامة)، وهو الأمر الذي دفعني إلى نفي «تايجيا» إلى بلدة «أوتونغ» مما أدخل السرور على قلوب الناس، فلما حسُنت أخلاق تايجيا، وتهذَّبت خصاله، عاد إلى العرش الملكي (كسابق عهده) فعمَّت الفرحة أرجاء البلاد.»

فهل إذا بدا للحكماء المعَيَّنين في المناصب الوزارية فساد الملك أن يقرروا إبعاده عن البلاد؟» وأجابه منشيوس، قائلًا: «إذا كان لديهم مثل ما لدى آيين من الشعور بالمسئولية فلهم ذلك، وإلا عُدَّ ذلك التصرف، من جانبهم، اغتصابًا للحكم.»

(١٣–٣٢) قال «كونسون شو»: «جاء في كتاب الشِّعر القديم هذا البيت «من إحدى القصائد»:

«ليس للمرء أن يأكل،
دون أن يعمل.»

فما لي أرى الحكماء يملئون بطونهم دون أن يزرعوا أرضًا أو يفلحوا حقلًا؟» فأجابه منشيوس: «يظل الحكماء قابعين في هذا البلد حتى يوليهم الملك المناصب ويغدق عليهم بالرتب العالية الشريفة، فيتأثل المال في أيديهم ويجربون من النعيم ما لا يزيد عليه، فيصيبون حظًّا من المجد والشرف، فينظر إليهم إخوانهم وتلاميذهم بالتعظيم والإكبار اللائق، ويفقهون أصول الطاعة، والبر وتبجيل الكبار والإخلاص وحفظ العهود، فهل هناك مثالٌ أوفى من ذلك على صدق ما جاء في كتاب الشِّعر، «من أنَّه»:

«ليس للإنسان أن ينال طعامًا،
بغير جدارة من شريف العمل!».»

(١٣–٣٣) ذهب «وان تسيديان» (أمير دولة تشي) إلى منشيوس وسأله: «ما الذي يعمله المتعلم؟ (ما الذي يتوجب عليه أن يفعله، بالضبط؟) فأجابه منشيوس: «أن يسمو بأخلاقه وخصاله إلى أعلى مراتب الشرف»، فسأله السائل: «وكيف له بذلك؟» فأجابه: «أن يلتزم نهج الإنسانية والاستقامة «لا شيء أكثر من ذلك ولا أقل» فليس من الإنسانية أن يقضي بالإعدام على الأبرياء، وليس من الاستقامة أن يطمع فيما ليس له. «ولئن سألتني عما ينبغي أن يلتزم به من قاعدة أساسية» فسأقول لك بأنَّ أهم الأمور مطلقًا هي «الإنسانية»، «وإذا استفسرت عمَّا ينبغي أن يسلك من طريق» فسأرد عليك بأنَّه طريق الاستقامة؛ فذلك هو السبيل الذي تكتمل به مراتب الشرف، لكل ذي خلق كريم وأهداف عظيمة.»

(١٣–٣٤) قال منشيوس: «مما لا شك فيه أنَّ الناس سيمنحون ثقتهم للسيد «تشن جونزي» إذا «ما افترضنا جدلًا» أنَّه يُمكن أن يرفض عرش دولة تشي عندما يُعْرض عليه تولي الحكم دون حق شرعي، وعلى نحو مخالف لأبسط قواعد الاستقامة والنزاهة، لكن مثل هذا التصرف لا يعدو أن يكون جانبًا ضئيلًا من أصول الأدب والأخلاقيات «يكاد لا يزيد على» مجرد الاعتذار عن تناول طبق من الأرز أو الحساء.

ليس «هناك كارثة» أبشع من وقوع الجفاء بين الوالد والابن، أو بين الملك ووزرائه، وليس «هناك» أمر يتجاوز حدود العقول، أكثر من الظن بأنَّ امرأً ما قد امتلك ناصية الاستقامة الكبرى لمجرد أنَّه يحوز القليل من الفضائل.»

(١٣–٣٥) ذهب «طاوينغ» (تلميذ منشيوس) إلى الأستاذ، وسأله: «ماذا لو أنَّ «كوصاو» (والد الملك الحكيم شون) قد ارتكب جريمة قتل أثناء تولي ولده عرش الإمبراطورية، خصوصًا عندما كان «كاوياو» يتولى منصب وزير العدل؟» فأجابه منشيوس: ««كل ما كان سيحدث أنَّه:» كان سيتم القبض عليه»، فسأله طاوينغ: «أما كان يحاول شون تعطيل صدور الحكم بالقبض على «أبيه»؟» فأجابه: «بأي حق يحاول شون أن يعطل صدور مثل هذا الحكم ما دام قائمًا على أساس قانوني؟» فسأله السائل: «فما الذي يجب على شون عمله في مثل هذا الموقف، إذن؟» فأجابه منشيوس: «لا شيء، سوى أن يخلع عن نفسه سلطة الحكم مثلما يخلع من قدميه حذاء قديمًا باليًا، «بغير اكتراث» ثم يحمل أباه على ظهره ويخرج هاربًا من البلاد، في طي الخفاء، دون أن يدري به أحد، ويقصد إلى شاطئ البحر فيقيم له مسكنًا هناك، يقضي فيه بقية عمره هانئًا رائق البال، ناسيًا أو متناسيًا الأيام الخوالي التي كان فيها إمبراطور الزمان، وابن عرش السماء.»

(١٣–٣٦) كان منشيوس في طريقه مسافرًا من بلدة «فان» إلى عاصمة دولة تشي، إذ لمح — على مسافة بعيدة — ابن حاكم تشي، فتحدث بلهجة مِلؤها الدهش والاستغراب، قائلًا: «ما أشد تأثير المكانة التي يشغلها المرء على خصاله وطبائعه، وكم تتأثر بنيته الجسدية بما يطعم ويقتات، يا له من تأثير هائل ذلك الذي تعمله الظروف المحيطة بالإنسان! أليس هو الآخر (يقصد ابن الملك) كأبناء الناس؟»

ثم أضاف قائلًا: «لا فرق بين ما يرتديه الملك من ملابس وما يركبه من عربات وجياد، أو يقيم به من قصور ومساكن، عمَّا يرتديه الناس أو يركبونه أو يقيمون به «حسب تأثير بيئاتهم المحيطة بهم»، ولا يختلف سمو الأمير عن الباقين في شيء من تأثير الأجواء المحيطة به؛ بحيث «يتصرف على هذا النحو، فما بالنا بمَن «كانت البيئة المحيطة بهم» تقيم لهم من الإنسانية مقر إقامة بطول الدنيا وعرضها؟

«حدث ذات مرة أن» سافر «الأمير» حاكم لُو إلى دولة سونغ، فلمَّا بلغ بوابة «ديتسي» الكبيرة وقف قبالتها مناديًا بأعلى صوته «على الحُراس كي يفتحوا له»، فتهامس الحراس فيما بينهم قائلين: «ليس صوت أميرنا الحاكم، لكنه، مع ذلك، يشبه لهجته إلى حدٍّ كبير»، فلم يكن ذلك إلا بسبب تأثير الأجواء والظروف المماثلة «لما نهل منه أمير البلاد».»

(١٣–٣٧) قال منشيوس: «ليس هناك فرق كبير بين مَن يعول إنسانًا بغير حب، وبين مَن يربي قطيعًا من الخنازير، والحب من غير احترام مثل تربية الكلاب والجياد سواءً بسواء.

ولا تُهدِ هديةً إلَّا بوازع من مشاعر التبجيل والتقدير، فلا ينبغي للكريم العاقل أن يقع في غواية الهدايا بغير تقديرٍ حقيقيٍّ واحترامٍ أصيلٍ.»

(١٣–٣٨) قال منشيوس: «ملامح الجسد وسيماء الوجه من عطاء الطبيعة [حرفيًّا: «خلق السماء»، ذلك هو التعبير اللفظي لكلمة، بوصفها لفظتين متجاورتين، لكن التأويل المعجمي لها، كوحدة تامة، يقرأها بمعنى «طبيعي أو غريزي»؛ فالترجمة هنا صحيحة بمقدار ما هي معجمية أصيلة، وقاموسية تامة] ليس سوى العاقل وحده هو الذي يعرف كيف يجعل من ملامحه وسيماه تعبيرًا أصيلًا عن كريم عنصره الدفين.»

(١٣–٣٩) أراد الملك شيوان — حاكم تشي — أن يُقلل مدة الحداد على الأبوين «أو أحدهما إذا تُوفي»، فذهب «كونسون شو» إلى منشيوس، متوجهًا إليه بالسؤال على النحو التالي: «أليس من الأفضل أن يبقى طقس الحداد قائمًا، ولو لمدة عام واحد، بدلًا من إلغائه تمامًا؟» فأجابه: ««أنت بسؤالك هذا» كأنِّي بك تُشاهد أخوين يتعاركان، يلوي أحدهما ذراع الآخر، يكاد يكسره، فتتقدم نحوهما، راجيًا من الغالب أن يترفق قليلًا بأخيه المغلوب «على أن يكتفي بثني ذراعه مرةً واحدةً، بدلًا من مرتين!» في حين أنَّه يكفي تمامًا أن تُذكِّر «الجميع» بضرورة البر بالآباء والاحترام بين الأخوة «لا أكثر ولا أقل».»

وحدث أن ماتت والدة الأمير، وأراد أستاذه أن ينوب عنه في القيام بطقوس الحداد لفترة محددة [إذ كان الأمير في ظروف لا تسمح له بذلك]، وذهب كونسون شو، ليسأل الشيخ الحكيم قائلًا: «ما الذي يجب عمله في مثل هذا الظرف؟» فأجابه: «أرى من الواجب — في هذه الحال — أن يُقام الطقس ولو لمدة يوم واحد، بدلًا من إلغائه كليًّا، ما دام الأمير غير قادر على الوفاء بطقس الحداد بتمامه، أمَّا ما ذكرتُه لك آنفًا فقد قصدتُ به «تذكير» أولئك الذين يبطلون الحداد دون أن تكون هناك ظروف قوية تحول بينهم وبين تلك الطقوس، «عملًا بالمبادئ الأخلاقية وحرصًا على بقائها».»

(١٣–٤٠) قال منشيوس: «يستخدم المهذب العاقل خمس وسائل للتعليم والتربية، هي: إلقاء العلم على المتلقي الموهوب [حرفيًّا: التعليم مثل الري وقت المطر الموسمي] دعم ذوي الاستعداد العقلي والخلقي؛ تربية وتثقيف ذوي القدرة المؤهلين «للتعليم»؛ تفسير وشرح الأسئلة والنقاط «الإشكالية»؛ وأخيرًا … التحصيل الذاتي والدراسة الشخصية «أن يُعلِّم المرء نفسه بنفسه».»

(١٣–٤١) قال كونسون شو: «إنَّ الطريق (طريق العلم والتربية) جليل ومهيب، لكنه «صعب المرتقى» مثل طريق صاعد في القمة، يُرهق أقدام الطالعين، فلماذا لا نجعل منه طريق الأمل المرهون بالثقة في النجاح، فتصير الخُطى الجادة المثابرة مؤملة بإدراك الغاية؟»

فأجاب «منشيوس»: «لن يتخلى النجار الحاذق عن استعمال «المسطرة والزاوية» تيسيرًا على طالب ثقيل الفهم، «وكذلك» فلن يرضى «الرامي المشهور» «آيي» تبديل وضع الاستعداد بجذب الوتر تخفيفًا «لأعباء الدرس» على رامٍ جهول، والعاقل هو مَن رفع القوس وجذب الأوتار واتخذ وضع الرمي ثابتًا دون أن يطلق السهم، انتظارًا للحظة الحاسمة، وإرشادًا لطالب العلم (الرماية) وتوضيحًا للدارس «باتخاذ نموذجٍ جاهزٍ» فيتبع أثره التابعون.»

(١٣–٤٢) قال منشيوس: «عندما يحين أوان إقامة المبادئ في ربوع الأرض (الممالك التي تحت السماء) يمكن للإنسان أن يبذل كل جهد لأجل المبادئ، أمَّا إذا أزف وقت زوال المبادئ، فليس للإنسان الفاضل إلا أن يزول معها ويسقط بسقوطها، ومن الممكن أن يُضحي المرء بحياته من أجل المبادئ، لكني لم أسمع أبدًا بمَن يضحي بمبادئه، من أجل الناس «ترك الطريق الصحيح اتباعًا لهوى العامة والبسطاء».»

(١٣–٤٣) قال «كونتوس»: «عندما كان «تنغ كان» يأتي إليك طالبًا العلم على يديك، فلم تعره اهتمامًا ولم تبدِ له ما كان يتوقع من كرمك في الاحتفاء به والتشجيع له، فما السبب فيما لاقاه عندك «من الجفاء»؟»

فأجابه: «إنَّ خمسةً من الناس لن ألتفت إليهم أو أعير أيًّا منهم انتباهي: المتباهي بجاهه وسطوته، والمُرائي بكرم أخلاقه، والمترفِّع لكِبر سنِّه، والمتكبر عليَّ لسابق فضلٍ منه؛ كل أولئك لن «أتخذهم طلابًا أو …» أجيب مسألتهم. وقد كان يعيب «تنغ كان» إصراره على خصلتين مما ذكرت لك.»

(١٣–٤٤) قال منشيوس: «مَن أهمل عملًا — ما كان له أن يدعه دون أن يتمه — صار الإهمال عادةً ملازمةً له، ومَن استصغر شأنًا — كان واجبًا عليه أن يوفيه قدره من الاهتمام — أصبح استصغار كل شأن في استهانة واحتقار هو دأبه، ومَن يتقدَّم باندفاع طائش، ينكص متراجعًا بسرعة مذهلة.»

(١٣–٤٥) قال «منشيوس»: «الإنسان الفاضل يتعامل مع الموجودات (الجماد) في الدنيا بحرص واهتمام، لكن دون عطفٍ أو ودٍّ أو مشاعرَ إنسانيةٍ، ويتواصل مع الناس كلهم وفق مبادئ إنسانية كريمة لكن بغير حب (الحب الذي يستشعره نحو عائلته؛ ذلك أنَّ المرء …) لا يشعر بالحب «العطف على» الناس إلَّا إذا أحب أهله وأقاربه، ولا يضع الدنيا في موضعها الجدير بالاهتمام إلَّا إذا أغدق مشاعر العطف والإنسانية على الناس جميعًا.»

(١٣–٤٦) قال منشيوس: «العلم مسعى الحكيم، لكن الحكماء «غالبًا ما» يطلبون العلم والمعرفة حول عظائم الأمور. وقلب الحليم يتسع محبةً لكل الناس، إلَّا أنَّه يميل أكثر إلى الحكماء الفضلاء.

ولقد بلغ «ياو» و«شون» من الحكمة مبلغًا عظيمًا، لكنهما لم يحيطا بكل شيء علمًا؛ لأنَّهما بذلا الاهتمام كله لمعرفة دقائق الأحوال — في زمانهما — «وكذلك» لم يكن حلمهما (إنسانيتهما) تتسع لكل الناس؛ لأنَّهما صرفا كل الانتباه للتواصل مع ذوي الحكمة والفضل في محيط ما بلغ إليه إدراكهما.

«لذلك فقد وجب الانتباه إلى أكثر الأمور أهمية؛ ﻓ» إنَّ مَن يتغافل عن طقوس الحِداد مدة ثلاث سنوات، بينما يهتم بتفاصيل طقوس الحِداد «للفترات القصيرة … حيث يقوم الحِداد على الإخوة والأقارب …» لمدة ثلاثة أشهر، وخمسة أشهر، «وكذلك» الإقبال على تناول المشروبات «بأنواعها» دون وازع من حياء أو أدب، أثناء فترة الحِداد، مع التدقيق والتمحيص التفصيلي فيما ينبغي ولا ينبغي أن يتم مضغه أو ابتلاعه من اللحوم، خلال تلك الفترة، كل ذلك يعد من سوء التقدير البالغ وعدم الإدراك الصحيح للأمور.»

الجزء الثاني

وجملته ثمانية وثلاثون فصلًا

(١٤–١) قال منشيوس: «ما أغلظ قلب الملك «ليانغ هوي»! إنَّ رحيم القلب، تمتد حدود رحمته لتشمل مَن يحبهم ومَن كان يبغضهم أيضًا، أمَّا قساة القلوب فيسلطون أوارَ سخطهم فوق مَن يكرهون ومَن كانوا يحبون.»

وهنالك سأله كونسون شو: «فماذا تعني بذلك يا سيدي؟» فأجاب: ««أقول» لمَّا كان الملك — ليانغ هوي — طامعًا في ضم مزيد من الأراضي «إلى حدود بلاده»، فلم يكن يعبأ لمَن يرسلهم إلى جبهات القتال؛ فيلقون حتفهم صرعى المعارك، ولم تردُّه الهزيمة أن يعاود الكرَّة. وإذ وقع في قلبه الخوف مَن أن يلقى هزيمةً نكراء «تفتُّ في عضده، فلم يكتفِ بإرسال المقاتلين المجندين إلى الجبهات؛ بل» راح يحث إخوته وأعز أبنائه إليه على خوض غمار الحرب — برغم ما كان يعلمه من موتهم المحقق، حال ذهابهم — فذلك هو ما أعنيه بقولي إنَّ جائحة القسوة لا تكتفي بإبادة الكتلة الهائلة من الناس ممن لا تربطه بهم علائق المودة؛ بل تنذر بويلاتها أقرب الناس وأعز الأبناء.»

(١٤–٢) قال منشيوس: «لم تكن الحروب التي وقعت في زمن «الربيع والخريف» (٧٧٠–٤٧٦ق.م.) حروبًا عادلةً، لكن كان هناك ملوك عادلون، و«الحرب التأديبية»، تعني قيام دولة كبرى باقتحام دولة صغرى، «وهو لون من الحروب» لا يقع بين دول في مستوى واحد «ودرجة متكافئة من القوة».»

(١٤–٣) قال منشيوس: «لطالما كنت أقول: «إنَّه من الأفضل …» ألَّا نصدق كل ما جاء في كتاب «شوجين» [كتاب التاريخ]، «بل الأفضل مطلقًا أن …» لو لم يكن هناك مثل هذا الكتاب أصلًا، و«عندما أطالع ذلك الكتاب، فلا أكاد أستسيغ إلَّا قراءة …» الباب الذي عنوانه «الحرب الناجحة» وأقتطف منه عبارتين أو ثلاث «فحواهما:» ليس «للمقاتل» ذي المبادئ الإنسانية أي أعداء في طول الممالك وعرضها، فإذا «تصورنا، مثلًا … أن» قامت قوات أكثر المقاتلين إيمانًا بالمبدأ الإنساني بالهجوم على جيش أشد المنكرين لذلك المبدأ نفسه، فكيف يمكن لبحار الدماء أن تسيل بينهما فتُغرق الجميع في لُجَّتها، ولا يطفو فوق سطحها إلَّا بقايا أخشاب متهالكة «بالطبع، لن تقوم حرب ذات مشاهد من تلك الويلات؛ إذ إنَّ الشعب المسلَّح بالمبادئ الإنسانية له الغلبة دون إراقة دماء».»

(١٤–٤) قال منشيوس: «كثيرًا ما يتبادر إلى سمعي قول القائل: «أنا أقدر الناس على قيادة التشكيلات القتالية، أنا أدري مَن يتصدَّى للمعارك وأفقه الجميع بالحروب وإدارتها» … «ومثل هذا القول يُعدُّ …» جريمةً كبرى؛ إذ «لا يحتاج الأمر سوى أن» يُناصر الملك المبادئ الإنسانية، حتى تستتب له الأمور — بغير حرب — وسط الممالك. «وفي قديم الزمان» قام الملك طانغ بمهاجمة الأقاليم الجنوبية، فإذا برابرة الشمال قد ضجوا وآذنوا للقتال، فلمَّا شنَّ هجماته في الجبهة الشرقية، أثار فزع وغضب القبائل «الرعوية الهمجية» على الحدود الغربية، التي توجست شرًّا، قائلةً: «ما الذي جعله يتأخر عن البدء بمهاجمتنا؟»

وعندما قام الملك «أُو» بمهاجمة آل شانغ، وزحف عليهم بجيش قوامه ثلاثمائة عربة حربية وثلاثة آلاف مقاتل، كان يردد كثيرًا «في كل مكان يحل به»: «لا عليكم، لا يهولنكم شيء وليطمئن الجميع، وقد جئت بينكم؛ كي تهدأ نفوسكم وتقرَّ أعينكم، «لست أريد قتالكم» فلا تجابهوني بالعداوة، فأنا آخر مَن يواجه الناس بالبغض أو الكراهية»، فخفَّض الناس جباههم وسجدوا تحيةً وإكرامًا له، وهتفوا باسمه عاليًا «حتى كادت الجبال تتقلقل في مواضعها».

ليس هناك كبير فرق بين الاستقواء «بالحرب» والاستقامة «بالخُلق»، فليصلح كلٌّ من شأنه، وليستقم كلٌّ بالمنهاج القويم، فتسقط أسباب الحرب ودواعيها.»

(١٤–٥) قال منشيوس: «يستطيع النجار أو صانع العربات أن يدرب الناس ويعلمهم كيفية استخدام المسطرة والزاوية، وأدوات القياس الأساسية، لكنَّه لا يستطيع أن يخلق في أدمغتهم وأيديهم مستويات متقدمة من الكفاءة الفنية.»

(١٤–٦) قال منشيوس: «عندما كان شون، القديس الحكيم، «في أول حياته» يقتات أعواد النبات الجافة ويتغذى بالأعشاب الذابلة، فقد بدا — وقتئذٍ — أنَّ حياته كلها ستمضي على ذلك المنوال، فلما صار ملكًا عظيمًا (إمبراطور الزمان، وابن السماء)، وارتدى الملابس الملكية بشاراتها الملونة، وعزف على القيثارة، تحيط به ابنتا الملك ياو، تقومان على خدمته في تبجيل وإكبار (بعد أن تزوجهما) فقد اتخذ سمت الملوك، حتى ظنَّ الناس أنه سليل الملوك منذ نعومة أظفاره.»

(١٤–٧) قال منشيوس: «قد وعيت الآن مغزى وأهمية ما يقوم به الناس من الانتقام، ثأرًا لمقتل أحد أفراد أسرتهم أو أقاربهم؛ فمَن قتل أبا أحدٍ من الناس، فأبوه مقتولٌ انتقامًا، ومَن قتل أخا أحدٍ من البشر، فأخوه هالكٌ لا محالة، «وهكذا» فإنَّ قاتل آباء الناس وذويهم، هو أيضًا قاتلُ أبيه وأهله، لكن بوسائل أخرى، والفارق — هنالك — ليس كبيرًا.»

(١٤–٨) قال منشيوس: «كانت نقاط تحصيل المكوس — في قديم الزمان — عبارة عن بوابات وحواجز تُقام بهدف صد الطغاة والغزاة والمعتدين، أمَّا الآن فتُستخدم بوصفها أداة لتحصيل الضرائب الفادحة على نحوٍ أشد طغيانًا من الطغاة أنفسهم.»

(١٤–٩) قال منشيوس: «مَن لا يُلزم نفسه بالمبادئ الأخلاقية، فلن يستطيع أن يُلزم بها زوجته وأولاده، ومَن يسلك في علاقاته مع الآخرين بغير الخُلق والاستقامة، فسيتعذر على أهله (زوجته وأولاده) أن يتعاملوا، هم أيضًا، مع الناس بمعايير أخلاقية قويمة.»

(١٤–١٠) قال منشيوس: «لا خوف على مَن امتلأت خزائنه بوافر المال والغلال من نوائب الزمان وسنوات القحط والنكبات، وطُوبى لمَن فاضت ودائع الخير والخُلق الكريم لديه؛ فلا خوف عليه في زمان الضلال وأيام الفوضى والانحلال!»

(١٤–١١) قال منشيوس: «إذا كان المرء محبًّا للشهرة فقد يتنازل، في سبيل ذلك، عن المُلك والدولة والسلطان [حرفيًّا: عرش الحكم وقيادة ألف مركبة عسكرية]، أمَّا إن لم يكن مفتونًا بالصيت الذائع، فلن يتنازل عن طبق من الأرز ولو بشق الأنفس.»

(١٤–١٢) قال منشيوس: «إذا كذَّب الناس الحكماء وذوي مكارم الأخلاق، اضطربت الأحوال وفرغت البلاد «من الحكمة»؛ فإذا تهدمت قواعد الأخلاق وأُسس المعاملات، واختلطت على الناس أمورهم؛ وإذا لم تقم للحكم الرشيد قائمة، زالت الثروة ونقصت الأموال، وضرب الفقر بأطنابه في كل مكان.»

(١٤–١٣) قال منشيوس: «الشعب هو العنصر الأهم «في حساب المواطَنة»، ويأتي في الدرجة التالية من الأهمية آلهة الزرع والأرض والنبات، ثم يتلو هؤلاء جميعًا «في مقدار الاهتمام» جلالة الملك.

ومن ثم كان الحصول على رضا الناس هو الشرط الأساسي لبلوغ عتبات القصر الملكي وارتقاء العرش، وكان رضا الحاكم هو الخطوة الأولى في طريق الوصول إلى مرتبة الولاية فوق الأقاليم، ثم كان استرضاء الوالي هو المقدمة الأولى لتولي المناصب العليا. وكان الوالي إذا ما ألحق الضرر بمعابد آلهة الزرع والنبات أُقيل من منصبه فورًا.»

(١٤–١٤) أمَّا إذا كانت طقوس الأضحية تامةً والقرابين حاضرةً في تمام النقاء والطهارة الواجبة، ومواقيت الطقوس في أوانها، دون أن تنهزم الفيضانات، وتنحسر النكبات ويرتفع عن الأرض شر القحط والبلاء، فقد لزم استبدال الآلهة وانتقال مواقع القداسة إلى بقاعٍ جديدةٍ.»

(١٤–١٥) قال منشيوس: «القديسون قدوة الأجيال على مر الأحقاب والسنين، وقد كان «بويي» و«ليوشياهوي» من القديسين الحكماء. «وقد بلغ من تأثيرهما على الأجيال اللاحقة أنَّه» كلما طاف بالذكرى طيف من سيرة أخلاق بويي، تطهَّرت كل نفس من أوضارها، وزكا كل قلب هيَّاب بقبس من مضاء الإرادة والإقدام. وإذا ذكرت للناس فضائل «ليوشياهوي» صار البخيل كريمًا، والفظُّ حليمًا سمح الأخلاق واسع الصدر.

إنَّ الذين سبقوا، منذ قرون خلت، إلى الفضل والجِد والخُلق الكريم، تجدَّدت بطيب التذكار آثارهم بعد أحقاب طويلة فأثارت في النفوس العزم وشحذت الهمم.

أكان ممكنًا أن يكون لهؤلاء ذلك التأثير «لو لم يكونوا قديسين حقًّا؟!» ثم إنَّ ما حازوه من طاقة على الإلهام والتأثير، لم يقتصر على الأجيال اللاحقة فقط؛ بل كان يشمل أيضًا معاصريهم من الحكماء والمؤدبين.»

(١٤–١٦) قال منشيوس: «الإنسانية من الإنسان، والإنسانية هي الإنسان؛ وعندما نتحدث عنها مقترنةً «بمعناها الكبير في» الإنسان، فذلك هو جوهر المبدأ وذلك هو الطريق.»

(١٤–١٧) قال منشيوس: «عندما كان كونفوشيوس مسافرًا في طريق خروجه من دولة «لُو»، مسقط رأسه، فقد تكلَّم قائلًا: «فلنتمهل الخطو، ولنمشِ ببطء؛ إذ نغادر الأوطان.» فلمَّا كان متأهبًا للرحيل عن دولة تشي، فقد حمل في كف يده كمية قليلة من الأرز — لم تبلغ تمام النضج على النار— وانطلق مسرعًا في طريق السفر والترحال. ذلك هو ما بدا من شأنه عند الرحيل عن بلد غريب، «وشتَّان بين راحل عن الوطن، ومسافر، بين الغرباء، بعيدًا عن الأوطان».»

(١٤–١٨) قال منشيوس: «كم لقي الرجل الحكيم (يقصد كونفوشيوس) من مشقَّة عند الترحال عبر الحدود بين دولتَي «تشن» و«تساي»، لِما كان بينه وبين حاكمَيهما من جفاء وتباعد.»

(١٤–١٩) تحدث «موجي» إلى منشيوس، فقال له: «كثيرًا ما يسخر القوم مني وتتناولني أفواههم لومًا وتقريعًا»، فقال له منشيوس: «لا عليك، إنَّ السيد المهذب يبغض أن تصبح شئونه حديث القيل والقال، وقد جاء في بعض أبيات كتاب الشِّعر القديم «ما نصه»:

«تتألم نفسي ضيقًا،
وتغلي أعماقي،
كما يغلي مِرْجلٌ امتلأ حتى حافته،
وقد سلط الأرذال عليَّ
أفواه الكراهية.»

«وهي أبيات تنطق ﺑ» لسان حال كونفوشيوس نفسه.

«فلم أنزع من قلوبهم
كظيم الغيظ،
ولم أدع شيئًا
يودي بسمعتي وكرامتي في داهية.»

«وهو المعنى الذي يُعبِّر عن» حال الملك أُون عظيم آل جو.»

(١٤–٢٠) قال منشيوس: «كان الحكماء «فيما مضى» يُعمِلون عقولهم ويفتحون بصائرهم قبل أن يبادروا إلى تنوير الناس وهداية قرائحهم، أمَّا الآن، فهم يحاولون جلاء الأبصار «بغير جدوى»؛ إذ يتغافلون عن جهلهم وفوضى الهذيان المرتبك في أعماق قلوبهم.»

(١٤–٢١) تكلم منشيوس مع كاوتسي، فقال له: «كانت الدروب الجبلية، في البدء مجرد ممرات ضيقة تتخلل التلال، فلما طال العهد بأقدام العابرين، صارت الممرات طرقًا واضحةً، حتى إذا هجرها السائرون حينًا من الدهر، تكاثفت الأعشاب البرية وسدَّت كل طريق، وإنِّي أرى الآن أنَّ أعشابًا بريةً كثيرةً قد نبتت في طريقك، وسدَّت دروب الفهم في قلبك.»

(١٤–٢٢) قال كاوتسي: «إنَّ الموسيقى «التي تصدح في» قصر الملك «يو» أجمل كثيرًا من الموسيقى التي تتردد في رَدهات قصر الملك أون»، فسأله منشيوس: «ما حجتك في هذا التقدير؟» فأجابه: «لأنِّي قد رأيت المشابك الحديدية الدوارة التي تتدلى منها الآلات النحاسية — عند الملك يو — تهرَّأت لكثرة استعمالها «في العزف المتواصل مما يدل على جودة الموسيقى».» فقال له منشيوس: «كيف يمكن لتلك الحجة أن تكون دامغةً؟! أما نظرت إلى آثار العجلات المحفورة على الطريق عند بوابات المدينة، أتكون آثار العجلات بما تركت من أخاديدَ عميقةٍ على صفحة الطرقات بفعل بضع عربات تجرها الجياد؟»

(١٤–٢٣) تأزمت الأحوال في دولة تشي، بعد أن عمَّ القحط والفقر في أنحاء البلاد، فذهب تشين جين إلى منشيوس، وقال له: «قد أجمَعَ الناسُ رأيهم على أن تُبادر إلى مقابلة جلالة الملك وتستحثه «باسم الجميع» أن يفتح صوامع الغلال للناس، رحمةً بالمنكوبين «الذين أهلكهم الجوع والفقر»، ولا ندري إن كنت ستلبِّي رجاء الناس هذه المرة «كما فعلت في السابق» أم لا؟» فأجابه منشيوس: «فلئن فعلت كما تطلبون مني، فلن أزيد عمَّا قام به «فنغ فو»، وهو رجل كريم، كان مقيمًا بدولة جين، واشتهر بمهارته في مصارعة النمور (فترة من حياته)، إلا أنَّه تحوَّل عن ذلك وصار، بعد ذلك، دمِث الأخلاق، طيبًا ورعًا، وقد أقلع عن غلظته ووحشيته في منازلة السباع، فلمَّا كان مارًّا في طريقه، ذات يوم، بإحدى المناطق الجبلية، رأى الناس يطاردون نمرًا في أحد الأحراش، وقد ذهب السبع إلى ركن قصيٍّ، في أحد الأغوار، يتعذر على الناس الوصول إليه إلَّا بمجازفة، وما إن شاهد الناس «فنغ فو» قائمًا بينهم، حتى فزعوا إليه يرجونه المساعدة في منازلة الوحش بمكمنه، فما كان من صاحبنا إلَّا أن شمَّر عن ساعديه ورفع ذراعيه ونزل من عربته وأقبل نحوهم متهللًا «دون أن ينازل النمر أو يناوشه في أقل القليل!» فلاقاه الناس بكل الحب والمودة، إلَّا أنَّ طلاب العلم، من الدارسين استهجنوا سلوكه، وسخروا منه هازئين.»

(١٤–٢٤) قال منشيوس: «لذة الفم في المذاق، ومتعة العين في جمال الألوان، والأذن في النغم، والأنف في أريج العطور، والأطراف في الدعة والاسترخاء، فذلك طبع الأمور وعطاء الطبيعة، لكنَّه عطاء محكوم بقضاء الأقدار «إن شاءت بالمنح أو المنع»؛ لذلك لا يعدها العاقل أمورًا طبيعيةً «بالضرورة».

«فأمَّا» البرُّ بين الآباء وأبنائهم، والاستقامة بين الأمراء والوزراء، والكرم بين الضيف ومضيفه، «وما بين» الحكمة والحكيم؛ ومبادئ السماء والقديس؛ فلا قضاءَ غالبَ فيها جميعًا إلَّا بأحكام القدر، وإن كان لمجرى الطبع فيها حكم أصيل؛ لهذا، لا يعتد الحكيم، فيها بما قدَّرته الأقدار.»

(١٤–٢٥) ذهب «رجل من دولة تشي يُدعى» «هاو شن بوهاي» إلى منشيوس وسأله: «ما قولك في السيد يوجين؟» فأجابه: «رجل حسن الخُلق مشهود له بالصدق»، فسأله: «فما حسن الأخلاق، وما الصدق؟» فأجابه منشيوس: «مَن كان جديرًا بالإعجاب، فذلك هو مَن ندعوه بأنَّه «حسن الأخلاق»؛ وأمَّا مَن تجلَّت خصاله الطيبة واضحة في سيماه ومظهره، فذلك مَن نقول عنه بأنَّه «الصادق»؛ فإذا ما غمرت سجاياه باطنه وظاهره، فهذا من يقال بأنَّه جميل الخلق، فإذا فاقت أخلاقه حدود الوصف، وصار له البهاء الأكمل، والحُسن الأتم، قيل إنَّه «عظيم الأخلاق»؛ فإذا قامت أخلاقه الكريمة مقام الروح الكامن في أعماقه، كان هو «القديس»؛ فإن كانت روح القداسة فيه عميقة الغور لا يسبر قرارها، قيل إنَّه ذو الروح الأقدس؛ فالرجل الذي سألتني عن خصاله (يوجين) ذو منزلة بين اثنين: الصدق، وحسن الأخلاق، لكنَّه أدنى كثيرًا من الصفات الأربع الأخيرة: «جمال الخلق – كرم الأخلاق – القداسة – الروح الطاهر».»

(١٤–٢٦) قال منشيوس: «ما زال الخارجون عن مذهب «الفيلسوف» موتسي، يهرولون تجاه الشيخ يانغشو (مؤسس الطاوية الأول، قبل «لاوتسي» بزمان …) وما برح «كذلك» الرافضون لمدرسة يانغشو، يتوجهون إلى «مذهب شيوخنا» «روجيا» (الكونفوشية الأرثوذكسية الصحيحة)، وإنَّا لنلقاهم ونقبلهم ما داموا يتوجهون إلينا.

إنَّ مَن يتجادلون، اليوم مع أصحاب مذهب موتسي وأنصار طريقة يانغشو، يتصرفون وكأنَّهم يلهثون وراء خنزير أفلت من أيديهم، حتى إذا دخل الحظيرة، ظلوا يلاحقونه، وهو محبوس، يريدون أن يقيدوا أطرافه بحبل متين.»

(١٤–٢٧) قال منشيوس: «تُفرض الضرائب على القماش والحرير، وتُفرض أيضًا على الحبوب وهناك «ثالثًا» ضرائب القوة العاملة؛ فالعاقل مَن اكتفى بفرض ضريبة واحدة «من بين هذه الثلاثة، في الوقت الواحد» مرجئًا تحصيل الاثنتين الأُخرَيَين. أمَّا إذا جرى تحصيل ضريبتين منها في آنٍ واحدٍ، وقع الناس صرعى الجوع والموت، فإن اتفق تحصيل ثلاثتها في وقتٍ واحدٍ «كانت تلك الطامة الكبرى التي لن تبقي ولن تذر؛ حتى إنَّه …» لن يرعى ولدٌ حرمة أبيه، ولا والد حق ولده.»

(١٤–٢٨) قال منشيوس: «أعظم ما يقتنيه الأمير من جواهر ثمينة هي: الأرض، والشعب، والإرادة السياسية، فإذا «صرف الأمير نظره عن ذلك كله …» ورأى في اللآلئ والأحجار الكريمة أعظم ما يقتنيه من جواهر، كان ذلك إيذانًا بوقوع النكبة والخراب العاجل.»

(١٤–٢٩) بعد أن تم تعيين «بن تشينكو» (رجل اشتهر بالطيش، رغم مهارته) في وظيفةٍ ببلاط دولة تشي، علَّق منشيوس «على ذلك» بقوله: «يبدو لي أنَّ صاحبنا (يقصد بن تشنكو) مقتول لا محالة.» فما هو إلَّا أن تمَّ إعدام الرجل بالفعل.

فجاء أحد تلاميذ الشيخ الحكيم وسأله: «كيف عرفتَ يا سيدي أنَّ الرجل ستنتهي حياته بهذا الشكل؟» فأجابه: «لقلة حكمته وتبصُّره؛ إذ لم يفهم حقيقة المبادئ الكبرى التي يبذل الأمير كل جهده للسير على نهجها، فكان هو الذي جلب موته بيديه.»

(١٤–٣٠) لمَّا وصل منشيوس إلى دولة «تنغ»، نزل «ضيفًا» في القصر الأعلى، «وحدث أثناء إقامته، أن …» ضاع حذاء مصنوع من القماش كان موضوعًا بالقرب من إحدى النوافذ، فذهب إلى منشيوس مَن قال له: «ألا يمكن أن يكون أحد تلاميذك قد أخذ الحذاء، وخبَّأه وسط أشيائه؟» فقال له الشيخ: «أتظن أنَّهم جاءوا معي ليسرقوا الأحذية الكتانية؟» فأجابه: «لا أقصد ذلك، «لكني» أراك تقرر عليهم موضوعات وحلقات الدرس والعلم، ثم لا تسأل عمن قام وذهب إلى شئونه، ولا ترفض مَن أتوا إليك «من أيَّة جهة» ما داموا قد رغبوا في العلم وتَلقِّي المعرفة على يديك، وسواء أكان فيهم الخبيث أم الطيب، فإنَّك تبسط لهم رداءك وتقبلهم بساحتك.»

(١٤–٣١) قال منشيوس: «ما من أحد إلَّا يجد في نفسه ما لا طاقة له على عمله «من أمور شتَّى»، فإذا ما استعان على قضائها بما يستطيعه من الصبر، كان ذلك قبسًا من الإنسانية؛ ثم إنَّه ما من أحد من الناس إلَّا يستشعر في نفسه نفورًا من القيام بأداء عمل ما، فإذا استلهم من روح المثابرة والدأب ما يتقوَّى به على الكد فيما كان يتكاسل عن أدائه، كانت تلك هي روح الاستقامة.

مَن استطاع أن يوسِّع رحابة صدره وترَفُّعه عن الإساءة، كان له من الإنسانية مَعينُ ذخيرة لا ينضب، ومَن واتته المقدرة أن يعفَّ نفسه عن التلصُّص «على مثالب الناس» من وراء جدار، أو التسلل «لاستلاب مغانم الناس» فوق الأسوار، صار له من الاستقامة ما لا تفنى معه الخزائن. إذا أبدى المرء من التصرفات والكلمات ما تتمجد به كرامة الإنسان فوق رخيص القول وسفيه الخطاب والعبارة، عُرف له قدره من الاستقامة والخُلق أينما نزل في حِل وترحال.

إذا ما جادل رجل العلم (الدارس، المثقف) مَن لم يكن يحق له أن يتناظر وإياه، كان ذلك مسعًى رخيصًا لتحقيق مأرب شخصي، فإذا اعتصم بالصمت وقتما كان الكلام مطلوبًا والخطاب ضروريًّا، كان السكوت، حينئذٍ، حيلةً لاجتلاب نفع أناني؛ فهذا كله بعضٌ من معنى التلصص من وراء الجدران أو القفز فوق الحيطان «لاستلاب الناس أشياءهم أو أسرارهم».»

(١٤–٣٢) قال منشيوس: «إنَّ ما سهلت عبارته وفاضت به المعاني، لعمق مغزاه من الكلام، لهو خير الكلام وأحسنه؛ وما اتضحت به الدروب وسهل به المنال من المبادئ، هو أحسن المبادئ.

إذا ما تحدث الحكيم، انقادت له أسلس العبارات واندرجت في مقاصده أعظم المبادئ وأطيب المعاني، «وكذلك» إذا تبدَّت للناس سيرة أفعاله وظاهر سلوكه، بدا آخذًا بزمام نفسه، وقد أقام نموذجًا تهتدي به الدنيا إلى مستقر أحوالها.

إن آفة الناس جميعًا أنهم يدَعون الغَثَّ مطروحًا بحقولهم، وينشطون في حقول الناس إصلاحًا وتهذيبًا؛ يحثون الناس على الجِد، والمسئولية والواجب، ويُلقون عن كاهلهم أثقال الجِد من أمرهم.»

(١٤–٣٣) قال منشيوس: «كانت خصال القديسَين ياو وشون «بصفاتها الإنسانية الطيبة» تصدر عن نزعة طبيعية؛ أما الملِكان الحكيمان «طانغ» و«أُو» فقد اجتهدا في إيقاظ «طبائع الخير في نفوسهما» عبر التهذيب «والاجتهاد الذاتي».

إذا اتفق ظاهر المرء (من سلوك)، وباطنه (من التزام قويم) مع قواعد الأخلاق وأصول الآداب، كانت تلك هي المرتبة الشريفة في مقام الخلق الأسمى.

إنَّ الأسى لفقيد، يعزُّ على الحي فراقه، حزن مقيم بقلب الشجي، ولا يمكن أن يكون رياء الناظرين. إنَّ السير على هدى الأخلاق بغير عوج «ابتغاء إيقاظ دفائن الخير»، لا لمغنمٍ ذي نفع ذاتي «سعيًا لوظيفة مرموقة ومكافآت سخية».

ولا بد أن تصدر الكلمات عن فيض صدق وإخلاص، لا ادعاءً زائفًا بحسن السيرة وشريف السلوك، وليلتزم العاقل الحكيم بما تفرضه الشرائع، وليعمل حسب ما تقضي به «نظم القوانين»، وليدَع «ما بيدِ القدر» للأقدار تقضي بما مضى به حكم السماء.»

(١٤–٣٤) قال منشيوس: «على أولئك الذين يقصدون إلى قصور الأمراء لشرح المذهب والأفكار «الفلسفية» ألَّا يستصغروا من شأن أنفسهم أمام العروش الحاكمة؛ بل عليهم أن يظهروا بمظهر المستخف بأُبَّهة الحكام وفخفخة القصور «فلا تأخذكم تلك المظاهر بما بدا من روعتها»؛ إنَّ القاعات ذات العُمُد، والأسقف الذاهبة في الارتفاع، والجدران المزينة بالأفاريز البديعة «مهما كان من فخامتها»، ليست بالشيء الذي يُغري نظر المرء إذا ما واتته المقدرة على امتلاك مثيلاتها، «وقد يكون» للموائد العامرة بأشهى المأكولات، بما يقوم على خدمتها من المحظيات الحسان، رونق ومتعة وسحر خلاب، «إلَّا أنِّي» ما كنت أسمح لنفسي بالوقوع في غوايتها إذا ما قُدِّر أن أرتاد ساحتها. ولا بد أنَّ ليالي اللهو والشراب، ورحلات الصيد البري ذات العربات المتراصة في إثر عربات ذاهبة إلى أحراش ساهرة بلذة الترف والنعيم، لا بد أنَّ لها تأثيرها الطاغي على النفوس، «ومع ذلك» فما كانت لتبهرني في شيء لو كانت في يدي مفاتيح الولوج إليها. وما كنت لأقرب شيئًا مما يقترفه «أولئك الذين يطمحون إلى ذلك الترف»؛ ذلك أنَّ ما أُلزم نفسي باتباعه هو ميراث الأقدمين، فلا وقعت الرهبة في نفسي مما يحوز هؤلاء من مظاهر الرفعة، ولا كان لي أن أستشعر نأمة خوف أو يداخلني الروع مما يبدو لي من أحوالهم.»

(١٤–٣٥) قال منشيوس: «إنَّ أفضل طريقة يبني بها المرء شخصية ناجحة ويهذب بها سلوكه، هي أن يحدد نطاق رغباته في أضيق حدود ممكنة، وقد يُقال بأنَّه مهما تنازل المرء عن كثير مما يشتهيه، فسيظل بناء شخصيته غير مكتمل الأركان بما يشتمل عليه من خصال رديئة. وهذا صحيح تمامًا، لكن الجيد في شخصه سيفوق الرديء؛ وربما يُقال، كذلك، إنَّ امرأً غارقًا في الملذات والشهوات يمكنه أن يحتفظ بجوانب طيبةٍ ورائعةٍ في كيانه الأخلاقي، وهذا أيضًا ممكن ووارد، لكن الرديء فيه يغلب الطيب أضعافًا مضاعفةً.»

(١٤–٣٦) كان «تسنغ شي» يشتهي التمر، بينما كان ولده «تسنغ زي» [تلميذ كونفوشيوس] لا يبغض شيئًا في حياته مثل التمر، «وكان كونسون شو أثناء حديثه مع منشيوس، قد تعرض لهذه المسألة، قائلًا:» «أي الطعام أشهى، التمر أم اللحم المشوي؟» فأجابه: «اللحم المشوي، بالتأكيد»، فعاد كونسون شو يسأل: «فهذا تسنغ زي يطعم الشواء ولا يحب التمر، ولا أدري ما السبب في أنَّه يحب ذاك ويبغض هذا»، فأجابه: «الشواء طعام يحبه الناس جميعًا، أمَّا التمر فلا يفضله إلا البعض من دون الناس، فذلك شبيه بما يتشاءم به الناس من ذكر أسماء آبائهم (عادة صينية قديمة؛ حيث يتشاءم الأبناء من ذكر أسماء آبائهم شفاهةً، وإن لم يتحرجوا من كتابتها!) دون أن يستشعروا أدنى حرج من التلفظ بألقاب عائلاتهم؛ وذلك لأنَّ اللقب يتسم بصفة العموم والذيوع؛ أمَّا الاسم فمخصوص بحامله، متعلق بشخصه «والكونفوشي الجاد، ابن الجماعة، مخلصٌ للتقاليد، يحترم ما أجمع عليه الناس وسارت به الحشود من نُظمٍ وأعرافٍ راسخة، وينبذ كل ما هو ذاتي أو فردي أو مخصوص بفئة قليلة».»

(١٤–٣٧) ذهب وانجان إلى منشيوس، وقال له: «أما كان كونفوشيوس، وهو مقيم بدولة تشن، يردد قوله: «يجب أن أعود إلى بلادي، إلى تلاميذي الذين استطاعوا — برغم جموحهم وتمردهم — أن يحققوا قدرًا من النجاح والتقدم، ولم ينسوا ما سبق لي من فضلٍ عليهم.» … كان الشيخ الأكبر يردِّد هذه الكلمات وهو، بعدُ، في دولة تشن، فما الذي دعاه إلى تذكُّر تلاميذه المتمردين، في دولة لُو (مسقط رأسه)؟» فأجابه منشيوس: «جاء على كونفوشيوس زمان كان يبحث فيه باهتمام عن «رجال يؤمنون بالطريق الأوسط» (مذهب الوسطية، والاعتدال)، وكان يود — إذا وجدهم — أن يتخذهم إخوانًا يقضي حياته بينهم، فلمَّا لم يجد أحدًا يؤمن بالاعتدال، فقد اضطر إلى عقد الصلة مع أولئك المتمردين وغيرهم من الانعزاليين الحريصين على نقاء نفوسهم، دون الانغماس في شئون الدنيا من حولهم، وكان الفصيل الأول (أي المتمردون) يحققون تقدمًا ملحوظًا؛ أما الآخرون (الانعزاليون) فلم يكن يشغلهم شيء سوى عزلتهم ونقاء نفوسهم، ولم يشغلهم أمرٌ من أمور الدنيا، «وهكذا فلمَّا كان الفرق بينهما حادًّا» فلم يعثر كونفوشيوس على «مَن كان يبحث عنهم من …» رجال الحد الأوسط، فاضطر إلى التنازل درجةً واحدةً عمَّا ينشده، «فوقع اختياره على أولئك».»

وراح وانجان يسأل منشيوس: «لكنِّي لا أفهم، بدقة، المقصود ﺑ «المتمردين الطامحين» فمَن هم؟ وما صفتهم؟» فأجابه: «هم أولئك «المشار إليهم»؛ أمثال «تشين جان»، «سنغ شي»، «موبي»، فهم الذين كان يقصدهم كونفوشيوس بقوله «المتمردون … الطائشون».»، فسأل السائل: «فلماذا جرى القول بأنَّهم متمردون وطائشون؟» فأجابه: «لأنَّ تطلعاتهم الكبرى واندفاعات طموحهم كانت تبرز فيما يتشدقون به من أحاديث رنانة راحوا يرددون خلالها أقوالًا «كانت تبدو» خطابية، احتفالية؛ من مثل:» «قال القدماء كذا وكذا … فعل الحكماء كيت وكيت» … فإذا ما قارنت أقوالهم بأفعالهم، وجدت البَون شاسعًا. ثم إذا تنحَّيت عن أولئك المتمردين، أو كانوا هم الذين تفرقوا عنك، لم يعد أمامك إلَّا أن تتواصل مع المعتكفين عن العالم، الذين كفُّوا أيديهم عن فعل الشر أو الانغماس في شئون الدنيا، وبرغم ذلك، فقد اضطر كونفوشيوس إلى التنازل عن مطلبه درجةً أخرى وراح يقول: «لم يكن يخالجني أقل شعور بالأسف، وأنا أرى الكثير منهم يعبُرون أمام بيتي ولا يدخلون، لم يكن أولئك إلَّا بعضًا من الأفَّاقين والمنافقين المخادعين لأنفسهم وللعالم كله، لم يكونوا سوى متملقين، مخربين للذمم والأخلاق».»

وواصل وانجان أسئلته لمنشيوس قائلًا: «فلماذا قيل إنَّهم متملقون ومنافقون ومخربون للأخلاق؟» فأجابه: ««كان أولئك المنافقون ينتقدون موقف المتمردين، قائلين:» «فيمَ كل هذا الطموح والاندفاع، فيمَ هذه اللهجة الصارخة الزاعقة؟ إنَّ كلماتهم لا تتفق مع أفعالهم ومع ذلك، فلا يفتئون يرددون عن القدماء قولهم كذا وكذا.» «ومن الناحية الأخرى، كان المتمردون يسخرون من الانعزاليين، الراجين النقاء الباطني، قائلين إنَّهم …» «يعالجون الأمور من وجهات نظر ذاتية، وبكثير من اللامبالاة. قد وُلِدنا في هذه الدنيا، ولأجلها نعمل ونعيش، وعلينا أن نتعايش معًا في سلام، تلك هي خلاصة الأمر كله، وذلك هو تمام الحال.» «إنَّ مثل هؤلاء» السفلة المتملقين الذين تدنَّت بهم دناءتهم إلى أحقر دركات الوضاعة هم الأفَّاقون المنافقون، الكذَّابون على أنفسهم وعلى الدنيا كلها.»

وهنالك قال وانجان: «لكن الناس لم يكونوا يذكرونهم إلا بكل خير، وكانوا يستقبلونهم أينما حلُّوا بكل ترحابٍ، فكيف زعم كونفوشيوس بأنَّهم مخربون ومضيعون للأخلاق؟» فأجابه: ««الغريب من أمر ذلك النفر من الناس، أنَّك …» إذا هممت بمؤاخذتهم ظهروا لك وكأنَّهم بغير عيوب، وإذا أردت معاتبتهم، أشهدوك على أن ساحتهم بيضاء ناصعة وهم — في معظم أحوالهم — على استعداد لمسايرة كل العادات المبتذلة وتملق عالم مليء بالفساد، «وهم أناس» سيماهم تنضح «بظواهر» الإخلاص والصدق وأفعالهم لا تشوبها شائبة؛ مما يجمِّل صورتهم في أعين الناس فيتيهون بأنفسهم عُجبًا، ويختالون زهوًا، «ومع هذا» فليس طريقهم هو الطريق «الذي انتهجه ياو، وشون، القديسان الحكيمان» فمن ثم، قيل إنَّهم مضيعو الأخلاق. وقد قال كونفوشيوس إنَّه يبغض أولئك الذين يوحي ظاهرهم (بالإخلاص) بما ليس في قلوبهم، الذين تبدو ملامحهم ثمرات ناضجة، بينما قلوبهم قشور ذابلة [حرفيًّا: تختلط عليك ملامحهم، فتراهم قمحًا وهم زؤان!] حتى تخشى أن تفسد منهم شتلات النبات وهي بعد في غرسها الواعد. «كان كونفوشيوس يبغض» المجادلين (المتحذلقين) الحائدين عن الصواب، ويخشى أن تلتبس أفعالهم أمام الناس بالاستقامة. كان يمقت المتبجحين بالقول، ويفرَق من أن يخلط الناس صدقهم بكذبهم. «كان الشيخ الأكبر» ينفر من الموسيقى «السوقية المبتذلة التي ذاعت» في دولة «تنغ»، ويخشى أن تلوث، بصداها التافه، روعةَ وجمال قواعد الذوق الموسيقي الأصيل، كان يشمئز من اللون الأرجواني، خشية أن يختلط بالأحمر القاني «فيفسد مزاجه الفريد»، كان يتأذَّى من المتملقين مخادعي الزمان والدنيا بأسرها، خوفًا من أن يفسدوا المبادئ الأخلاقية ويجنحوا بأعِنَّة الطريق.

فإذا استطاع العاقل الحكيم أن يفعل كل ما في وسعه لاستعادة الزمام؛ انتهاجًا للمحجة القويمة والمسلك الأبدي الأصوب، فنعمت وبها.

إذا ما عاد للطريق اتجاهه الصحيح انتعشت النفوس واستفاق أهل الدنيا أزكى إفاقة، وإذا ما نهض الناس، فما بقي للشر بقاءٌ أبدًا أبدًا.»

(١٤–٣٨) قال منشيوس: «قد انقضى من الزمان خمسمائة عامٍ منذ عهد القديسَيْن الحكيمَيْن ياو، وشون إلى عهد الملك طانغ (آل شانغ)، «لكن» كان هناك الكثيرون مثل الملك «يو» و«كاوياو» ممن رأوا بعيونهم الملكَين الحكيمين، وتلقوا عنهما العلم شفاهةً، وكان هناك أيضًا الكثيرون مثل الملك طانغ ممن تلقوا العلم سماعًا «بالنقل والحديث المتواتر عن» الحكماء القديسين؛ ثم انقضى من الزمان خمسمائة عامٍ أخرى، منذ نهاية عهد الملك طانغ حتى عصر الملك أون (آل جو)، وكان الحكماء المشهورون أمثال: آيين، ولاي شو، هم الذين عاينوا ذلك الزمان، فأخذوا العلم معاينةً ومشافهةً؛ أمَّا الملك أون نفسه فقد تلقَّى الحكمة سماعًا. ثم مضت، بعد ذلك، خمسمائة عامٍ منذ نهاية عهد الملك أون حتى زمن كونفوشيوس، وكان بين يديه الذين تلقوا الحكمة «عن الملك أون» مشافهةً، حكماء أفاضل من مثل: «تايكون لو»، و«سان إيشنغ»، أمَّا كونفوشيوس نفسه فقد تلقَّى الحكمة عنهم سماعًا مما نُقل إليه من أحاديثهم، وقد انقضى، منذ زمن كونفوشيوس، حتى وقتنا هذا أكثر من مائة عامٍ، فليس ما بيننا وبينهم من الزمان وقتٌ بعيدٌ، ولا يفصلنا عن المواطن التي شهدت بقاءهم كثير الانتقال أو بعيد الترحال، ومع ذلك، فلسنا نجد مَن رآهم رأي العين، ولا مَن أخذ عنهم القول شفاهةً، وأحسب أنَّا لن نرى بيننا بعد اليوم، أحدًا قد تعلَّم الحكمة بالسماع، كما كنا نعهد ذلك فيما سلف من التابعين.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤