مقدمة

بعد أن حصلتُ على الثمرة الأولى من كتابي مصر في قصص كُتَّابها المعاصرين توقعت ثمارًا أخرى تالية! لملمت أوراقي، وأعددت نفسي لرحلة عملٍ قصيرة إلى منطقة الخليج، وبلغت ثقتي من قصر المدة أني تحدثت إلى أساتذتي: يحيى حقي وسهير القلماوي ونجيب محفوظ، عن مشروعاتٍ تتصل بالجزأين التاليين، فتكتمل الثمار التي منَّيت بها نفسي. لكن رحلة الأشهر الستة — هذه هي المساحة الزمنية التي تهيَّأت لها — امتدت إلى ما يزيد عن الثماني سنوات، تعرَّفت خلالها إلى عالمٍ مغاير تمامًا لما ألفته. أذكر دهشتي وأنا أصحو على الشيخ سليمان الطائي وقد استبدل بالبذلة التي رأيته فيها في القاهرة، دشداشة بيضاء تتدلَّى منها ذؤابة فيها رائحة عطر، وتحيط برأسه عمامة بيضاء، أو مسرَّة كما يسميها العمانيون. بدا كل شيء — في دنياي الجديدة — مغايرًا، ويحتاج إلى التأمُّل، والمعايشة، واكتساب الخبرات، وهو ما عبَّرتُ عنه — فيما بعد في روايتَي الخليج وزوينة، والعديد من الأعمال القصصية.
استغرقتني الأشهر الأولى في جريدة، يتولَّى محرِّرها الوحيد كلَّ المهام؛ فأنا رئيس التحرير، والمحررون، والسائق، والساعي، وكل ما يصلح أن يطلق عليه «أسرة التحرير». ثم بدأت — بعد أن أفلحت في اجتذاب بعض الموظفين الوافدين لمعاونتي في عملي الصحفي — في الالتفات إلى ما كنتُ قدمت به إلى مسقط من كتبٍ وأوراقٍ، تتصل بمشروعي المؤجَّل مصر في قصص كُتَّابها المعاصرين، واقترن ذلك بتعرُّفي المباشر إلى طبيعة الحياة العمانية، والخليجية بعامة. وكانت المرأة هي البُعد الأهم في هذا الواقع؛ قضاياها، ومشكلاتها، وتطلُّعها لمجاوزة ما كان إلى آفاقٍ أشد رحابة.

أذكر أني التقيتُ بخليجياتٍ ينتمين إلى بيئات اجتماعية مختلفة، وثقافات متباينة؛ فاطمة يوسف العلي وليلى محمد الصالح وطيبة الإبراهيم وسعيدة الفارسي. شدتني ثقافة الوزيرة العمانية راجحة عبد الأمير، أتيح لي التعرُّف إليها في أثناء إشرافي على الأعداد الأولى من مجلة «العمانية». لم تناقش اختياري اسم المجلة، ولا نوعية موادها، وإن وضعت ما اعتبرته إطارًا ينبغي التحرك من خلاله، وهو التعبير عن واقع المرأة الخليجية، واستشرافات المستقبل. واجهت حملة قاسية لأني تبنَّيتُ آراء رابحة محمود في موقف الإسلام الإيجابي من الفن؛ أفسحتُ لها صفحات جريدة «الوطن»، وكانت آراء رابحة تستند إلى وعي معرفي وفهمٍ. أفدت — بلا حدٍّ — من أحاديث أم علي زوجة الشيخ سليمان الطائي وحكاياتها — والشيخ الطائي يشاركني الإنصات والمتابعة — تشمل المعتقدات والعادات والتقاليد. وثمة أديبات خليجيات، مثل — والترتيب غير مقصود — جنة القريني، نجمة إدريس، ثريا البقصمي، ظبية خميس، فوزية رشيد، خزنة بورسلي، فاطمة يوسف العلي، ليلى محمد الصالح، أمينة بو شهاب، كلثم جبر، عالية شعيب، مريم جمعة فرج، شيخة الناخي، هدى العطاس، هداية سلطان السالم، إقبال الغربللي، نجيبة الرفاعي، سارة الجروان، سلمى مطر سيف، سعاد الولايتي، سارة النواف، سعاد العريمي، صالحة غابش، طيبة الإبراهيم، ليلى أحمد، باسمة يونس، فاطمة محمد، فاطمة المزروعي، عائشة عبد الله، فاطمة محمد الكعبي، منى سالم السويدي …

والقائمة طويلة.

سجلت ملاحظات كثيرة على إبداعات المرأة الخليجية، والدراسات التي تناقش تلك الإبداعات، وتكوَّن من ذلك بطاقات كثيرة، أضفتها إلى مشروعي في علم الاجتماع الأدبي الذي كان كتابي «مصر …» إنجازه التطبيقي الأول في المكتبة العربية.

والحق أني حاولت أن تقتصر القضايا التي تناولتها في هذا الكتاب على ما يشبه الرصد، وضع المرأة في المجتمعات العربية من خلال علم الاجتماع الأدبي. عرضت لوجهات النظر المختلفة، وللتاريخ من مصادره المتعددة، بما يتماثل — على نحوٍ أو آخر — مع المغايرة التي تبِين في الأعمال الروائية والقصصية. لم أتخذ موقف المناصر ولا الداعية، وإن كنت قد أوردت رأيي في ثنايا الكتاب بما لا يخفى.

يبقى أن أشير إلى ما أوردته في مقدمة الطبعة الثانية من كتابي «مصر في قصص كُتَّابها المعاصرين»: لقد كانت أيامي — لما يقرب من الأعوام التسعة — موزَّعة بين القاهرة ومسقط، أقضي في القاهرة عشرين يومًا، أو أكثر، وفي مسقط أربعين يومًا، أو أقل، لا أغادر — أو أكاد — مبنى جريدة «الوطن» في مسقط، أعمل وأعمل حتى أنهي العدد التالي، وأعدادًا أخرى تالية، يتيح لي إنهاؤها فرصة العودة إلى القاهرة، ولا أغادر — أو أكاد — بيتي في مصر الجديدة، أقرأ وأقرأ، وأضع العلامات بقلم الرصاص على الفقرات التي تعينني على ملء البطاقات، وأترك ما قرأتُ وديعة في يد فتاة جامعية خصَّصت لها راتبًا شهريًّا لتنهض بمهمة ملء البطاقات. ولأن فتاتنا الرقيقة لم تكن على دراية كافية بأسلوب ملء البطاقات فقد نسيتْ — أحيانًا — ذكر المراجع، أو تاريخ صدورها … وهو ما أعتذر عنه!

كنت أمام أحد خيارين: إما أن أستعين بتلك الفقرات، مع إهمال بعض ضرورات ذكر المراجع، أو أهمل تلك الفقرات تمامًا، ولأن هذا الكتاب أقرب إلى القراءة الإيجابية منه إلى الرسالة العلمية، فقد اخترتُ الحل الأول … ثم أكرر اعتذاري!

محمد جبريل، مصر الجديدة، أكتوبر٢٠٠٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤