سقط سهوًا

ينظر الكثيرون إلى عمل المرأة — في تقدير جيفكوت Jephcott على أنه تحدٍّ للمجتمع، فهو يخرج على النماذج الأصلية الراسخة للحياة الأسرية، على القيم والمعتقدات التي تساندها.١ وثمة قول لعالِم فيزيائي أمريكي: «لو أنني تزوجت بيير كوري، لكنت قد أصبحت ماري كوري!» دلالة القول — كما ترى — تعكس النظرة إلى المرأة بأنها أضعف وأدنى، وأن ما يمكن عمله لها هو أن تظل في وضعها.٢ واتساقًا مع هذا الرأي، فإن العقاد يفسِّر ظاهرة ماري كوري بأنها «الاستثناء الذي يحمل في أطوائه دلائل القاعدة التي يخالفها.» بالإضافة إلى أن العالمة الأشهر كانت تابعة لزوجها في أبحاثه. ربما لهذا السبب، فإن المرأة حين تلتقي بالرجل الذي تقتنع به، تتنازل لا عن عملها فحسب، وإنما عن الأفكار التي ربما تكون قد آمنت بها، مثل التحرر، والاستقلال الاقتصادي، والعمل إلى جانب الرجل. ذلك — على سبيل — ما فعلته سميحة في أنا حرة لإحسان عبد القدوس؛ لقد تخلَّت عن كل ما كانت تدعو إليه، ورضيت بالحياة في ظل الرجل القوي، وإن ظلَّت تجيب عن السؤال: لماذا فعلتِ ما فعلتِ؟ أنا حرة! ودرية (الوشاح الأبيض) تنازلت عن شهرتها كمطربة أولى، ورضيت بالبقاء في بيت الزوجية، تنظف وتغسل الثياب والأواني. ومع أن السيدة (شمس الخريف لمحمد عبد الحليم عبد الله) قد تخلَّت عن العمل بعد زواجها الأول، ثم عادت إليه، فإنها تخلَّت كذلك — في زواجها الثاني — عن العمل، ورضيت بالحياة، زوجة تنتظر عودة زوجها من العمل.
اللافت أن المرأة التي حصلت على حريتها بالاستقلال الاقتصادي، لم تجد — أحيانًا — في هذه الحرية صورة العلاقة بينها وبين الرجل. إن بقايا عهود العبودية، عهود مملكة الرجل، لم تقتصر على وجود المرأة فيها على الحريم … تلك البقايا نجدها في ختان البنات، وفي حياة المَثَل — بمعنى عدم موته — «ضل راجل ولا ضل حيط»، وقبول الزوجة — لاعتباراتٍ غير مفهومة غالبًا — وضع الزوجة الثانية، والخضوع لظل الرجل إلى حد التنازل عن مواردها المادية إن كانت ذات إيرادٍ موروث، أو نتيجة عملها، والتلهف على دور السلعة المغرية، بداية من صور الإعلانات، إلى الاكتفاء بدور «الليدي» التي يقتصر دورها في حياة الرجل على أنها التحفة الجميلة التي أحسن اقتناءها. ومع أن أميرة (بعد الغروب لعبد الحليم عبد الله) استطاعت — ببراعة — أن تدير مزرعة أبيها، فإنها وافقت — ببساطة — على قرار الأب بتزويجها لمن لا تحب، لم ترفض، ولا أبدت رأيًا!

والحق أن ظاهرة رفض الرجل تفوق المرأة عليه في مجال العمل، لا يقتصر على المجتمعات العربية وحدها، لا تفرضها قوانين القبيلة ولا الأبوة الصارمة. فقد عانى زوج ملكة هولندا من اكتئاب — لظروف معلَنة — حتى لحقه الموت، وأعلن زوج أول وزيرة لخارجية النمسا أن مكان المرأة الحقيقي هو المطبخ، وأكد لورانس سامرز وزير الخزانة في عهد الرئيس الأمريكي كلينتون، أن طبيعة النساء تجعلهن أقل قدرة على استيعاب العلوم والرياضيات.

إنها ظاهرة تتجاوز الزمان والمكان.

•••

لعلِّي أجد في قصة سقط سهوًا معلمًا واضحًا على وضع المرأة الخليجية في مرحلة النفط؛ جاوزت دورها في الحفاظ على تماسك الأسرة، وسلامتها الاجتماعية والنفسية، إلى المشاركة في الحياة العامة بأكثر من وسيلة، فهي تعمل في الوظائف العامة، وفي التجارة، وفي المهن الحرة، وفي الإعلام، وفي التدريس بالجامعة … إلخ. إنها تمارس مهمة «المواطن» بصورة كاملة، لكن هذه المواطنة تعاني — أحيانًا — تسلُّط المنطق الذكوري، الوصاية الذكورية، فتقبل بالتنازل عما هو حق لها كمواطنة، وكإنسانة بعامة. إنها تعيدنا — للأسف، ورغم الفوارق — إلى ظاهرة «الأنثى المستسلمة التي لا تملك حولًا ولا طولًا إلا سفح الدموع.»٣
سقط سهوًا عن طبيبَين شابَّين، التقيا في مرحلة التقدم إلى الدبلوم من معهد طب الأطفال باسكتلندا، وتزوَّجا بعد قصة حبٍّ تغلَّبت على الرفض العشائري، وهو ما يذكِّرنا بالفتاة ريم (أنا أحيا) التي أحبَّت ابن عمِّها ألفريد العائد من الغرب. بدت «مذهولة أمام جمال إطلالته وشبابه المتدفق.»٤ وقبلت عرضه بالزواج، فهي ترى أن «زواجها به هو الوسيلة الوحيدة التي تجعلها تحقق آمالها، فتكمل دراستها، وتغذي ميولها الفنية، وتكوِّن شخصيتها بحرية.»٥

نحن نلحظ أن استعداد الزوجة — في قصة فاطمة يوسف العلي — عما هو حق لها في العمل والحرية الشخصية والطموح وتحقيق الذات، كان واضحًا منذ تعارفا، وبعد أن تمَّت الخطبة، فالزفاف، فالحياة الزوجية. فطنت — ربما قبل الخطبة — إلى أن الرجل الشرقي يسكن داخله. قررت ألا تسبقه في درجات النجاح، في امتحان الدبلوم الذي تقدَّم كلٌّ منهما إليه، حتى لا تضايقه، بل إنها حمدت الله لأنه تفوق عليها.

عمل الزوج — بعد التخرج — في مستشفى حكومي، بينما افتتحت الزوجة عيادة خاصة، استطاعت من خلال العمل فيها أن تحقق مكانة متفوقة بين أطباء بلدها. وتسلَّلت الغيرة إلى نفس الزوج، فطالب زوجه أن تضع اسمه إلى جوار اسمها في لافتة العيادة؛ النجاح الذي حققته في عملها، أربكه، ولعلَّه أخافه. شعر أن السيطرة التي يملكها قد تفلت منه، وأن الأدنى قد يصبح مساويًا، أو أعلى، تناسى حرصه في أن يقفز على كرسي المدير في عمله الحكومي. ووافقت الزوجة — حبًّا أو رضوخًا للواقع؟! — أن يشاركها الزوج ممارسة العلاج في عيادتها، لكن الزوج الذي كانت الوظيفة قد كبَّلت انطلاقات ذهنه، لم يبلغ النجاح الذي حققته الزوجة. بدا الفشل في أفق حياته، بقلة الزبائن إلى حد الندرة، وقضائه الوقت داخل حجرة الكشف وحيدًا، يدخن، أو يقلب صفحات الكتب الطبية. حاولت الزوجة — من ناحيتها — أن تهبه العديدَ من الفرص، إلى حد التنازل عما هو في قبضة اليد. وافقت على أن يتقاسما التردد على العيادة، يوم لها، ويوم له، لكن آباء الأطفال المرضى ظلُّوا على إصرارهم في أن تتولى الطبيبة/الزوجة وحدها علاج أطفالهم. وبدلًا من أن يفتش الزوج عن العيب في داخله، فإنه أسقط فشله على الزوجة والحياة الأسرية؛ يطلب منها أن تعود إلى البيت «مثل كل السيدات!» وتترك العيادة لمن يصبر على متاعبها، كأنها هي التي أخفقت! واضطرت الطبيبة الناجحة للتنازل عن عيادتها لطبيبٍ فاشلٍ — هو زوجها — يعمل فيها بمفرده!

واجهت الزوجة العاملة مأزق الاختيار بين الحصول على ثمار نجاحها في عملها كطبيبة، وبين استمرارية الحياة الأسرية الخالية من المنغصات، فاختارت أن تترك العيادة لزوجها، يضع عليها اسمه وحده!

ثمة رأي يجد في سقط سهوًا تناولًا لحياة زوجين أفسدت الغيرة المهنية حياتهما، لعجز الرجل في أن يستوعب تفوق المرأة/الزوجة عليه.٦ لكن إحدى الأمهات أضافت إلى الأزمة بعدًا آخر، عندما أشارت إلى أن زميل الطبيبة في العيادة — زوجها — لم يهتم بمرض طفلها، بقدر ما عنى بتسريحة شعرها، ولون عينيها. «لم تكن تلك المرأة المجهولة التي اتصلت بالتليفون — ذات ليلة — مدَّعية، أو صانعة فتنة، إن زوجي بدأ يحوِّل عجزه في العمل إلى ثورة منزلية. بلغ التحدي مداه بأن يتحدث من تليفون العيادة مع أصدقاء وصديقات لم تعرفهم. يطول الحديث همسًا، وينقطع حين تظهر. اعتقدت أن هذه موجة لا بد أن تتراجع، وبالفعل تراجعت لتخلفها موجة أشد قسوة.»٧ كان يكفي الزوجة الطبيبة أن تشير إلى الفشل الذي تحمَّلته في أن تنجب منه طفلًا، كان العيب فيه، وقد جاوز العقبات في طريق الزواج منها، ما عدا العيب الأهم وهو أنه لا يصلح للإنجاب!
كانت نظرة الزوج الطبيب الكويتي للمرأة، هي النظرة نفسها للعالِم الفيزيائي الأمريكي، وقد اتسقت محاولاته لتحقيق الذات على حساب ذات المرأة مع تلك النظرة. لم يلجأ الزوج الطبيب إلى المنافسة المهنية، ولا حاول التعبير عن الغيرة بمعناها الصحي، لكنه لجأ إلى محاولة تحطيم الزوجة الطبيبة التي تفوقت في مجال عملها، بينما لم يحقق هو التفوق في المجال نفسه. جعل تحطيمها هدفًا، سواء على المستوى المهني، أو المستوى الإنساني. ولم تنعكس تصرفات الزوج الفاشل عليه وحده، وإنما انعكست على الزوجة الناجحة أيضًا؛ قَل عدد المترددين على حجرتها في العيادة، مثلما غابوا عن حجرته. وتستعيد ذاكرتنا ما نشرته «النيوزويك» على لسان طالب لبناني يدرس إدارة الأعمال: «تحاول الحصول على وظيفة، تجد أن منافسك امرأة أكثر منك ذكاء، وأفضل تعليمًا، وأنها بذلت مجهودًا أكبر منك؛ إن الأمر مخيف!»٨ وفي «قصة حب حفظت في الأرشيف» لزينب صادق، يقول الراجل لصديقته القديمة: «هل تدرين؟ كانت تعجبني آراؤك وشخصيتك، لكن كنت أخاف منك، شعرت أنه ستسبقينني في الحياة، قلت لتسبقيني وأنا بعيد عنك أفضل من أن تسبقيني وأنا بجانبك.»

لم يقتصر فشل الزوج — في قصة فاطمة العلي — على إمكانية الإنجاب، فيهبها الطفل الذي ترجوه. كانت طبيبة أطفال، تمرضهم، وتعالجهم، وتعنى بهم، فهي دومًا في حالة اقتراب متبادل معهم. تشعر بأوجاعهم وآلامهم وتعنى بعلاجهم. وكان الزوج — لعيب فيه — عاجزًا عن الإنجاب، مع ذلك، فإنها أهملت مشاعرها، أو كتمتها، وتنازلت عن حقها في الأمومة سعيًا لاستمرار حياتها الزوجية.

كذلك فإن إخفاق الزوج في عمله بالعيادة لم يتصل بكفاءته كطبيبٍ، وإنما لأنه — كما همس الصوت النسائي للزوجة في مكالمة تليفونية: «إن رفيقك في العيادة يعتني بتسريحة شعر الأم ولون عينيها أكثر مما يجتهد في تشخيص حالة الطفل المريض.» ومع أن تلك التصرفات كانت تكفي — في ذاتها — لتدافع الزوجة عن كرامتها، فإنها حاولت أن تعالج الأمر بحكمة الأنثى المثقفة — والتعبير لصديقي عبد الكريم المقداد — وسافرت لقضاء إجازة صيف مع والديها، فتهبه وقتًا للمراجعة واستعادة النفس، لكنه فاجأها — حين عودتها — بوضع اسمه وحده على لافتة العيادة. ولأن إطالة التفكير، والتردد في اتخاذ المواقف، قد يؤدي — أحيانًا — إلى برودة النتائج، أو إلى عدم اتخاذ قرار حقيقي، فإن الزوجة أهملت كلَّ شيء في النهاية، خوفًا على حياتها الزوجية، واستأثر الزوج بالعيادة، ودفعت الزوجة ثمنًا باهظًا لكي يتحقق لها الاستقرار الزوجي الذي تنشده، ربما حتى لا تواجه مصيرًا مماثلًا للزوجة في قصة الجفاف، عندما شعر الزوج أنها تسد الطريق أمام رغباته وشهواته، «فتخلص منها كما يتخلص الصاروخ من جثة المحرك القديم الذي انتهى دوره.»٩

هل دفعت الزوجة الطبيبة كرامتها مقابلًا للاشيء؟

الأمريكية دوروثي كارنيجي ترى «أن مساعدة رجل على بلوغ النجاح هو — في حد ذاته — عمل يمكن أن تختاره الزوجة لنفسها، تكتفي به، وترضى عنه، وتسعد بكل ما تحققه من إنجازات في سبيله.»

فما صورة المستقبل لو أن الزوجة «الناجحة» اكتفت بمساعدة الزوج «الفاشل» المعقد نفسيًّا؟!

إن المرأة تطلب المساواة، تسعى إلى تحقيق مطلبها بالتعلُّم، واكتساب المكانة الأدبية والاجتماعية، لكنها تضطر للتنازل عن الكثير من بعض حقوقها الأساسية. بل إن محاولة تأكيد الذات كانت هي الباعث للرحلة من بداياتها. وقد تنازلت الطبيبة/الزوجة في سقط سهوًا عن حقٍّ أساسي لها، هو أن تكون طبيبة لها عيادتها المستقلة، وسمعتها العلمية الطيبة، ومرضاها الذين يحرصون عليها؛ تنازلت عن ذلك كله للزوج، ليس تعبيرًا عن تكامل النظرة، أو التكافل، أو المودة المتبادَلة، وإنما لتحقيق الحد الأدنى من إمكانية الحياة الزوجية الهانئة! ثمة نساء متعلمات كثيرات، آثرن عدم العمل. كما اختارت نساء من الطبقة العاملة، كن يعُلن أنفسهن من قبل، أن يعولهن رجالهن الذين كانت إيراداتهم قد تزايدت، وأصبحت الأرامل والمطلقات تحت وصاية الدولة.١٠

الرجل هنا يرفض التخلي عن المنطق الذكوري؛ يرفض أن تساويه المرأة — وبالذات في مجال العمل الواحد — فضلًا عن أن تسبقه. وقد أتاحت له الزوجة أكثر من فرصة ليثبت جدارته بتحقيق المكانة التي توازي مكانتها، والنجاح الذي يقترب من نجاحها، لكنه واجه الإخفاق في كل مرة، ولولا وجود الزوجة التي تهب الفرصة تِلوَ الأخرى، لواجه ذلك الإخفاق بمفرده. ولأن المرأة تحيا أسيرة موروث من المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد، وهو موروث ينتصر للذكورة، لسيطرة الرجل، مقابلًا لخضوع المرأة، فإنها تقبل الخضوع، بالتنازل عبر العديد من المواقف والمراحل، حتى تعود إلى نقطة البداية، إلى نقطة الصفر، كأنها لم تغادر البيت، ولم تتعلم، وتحصل على الشهادة الجامعية، وتحقق نجاحًا مؤكدًا في حياتها العملية. وعلى الرغم من تعدد تنازلات الزوجة، فإنها لم تحقق لها التوازن العاطفي والنفسي الذي يُعَد حقًّا للإنسان، بصرف النظر عن انتمائه البيولوجي، لقد قبلت — في البداية — أن يشاركها زوجها نجاحها بمشاركتها في العيادة، ثم تنازلت له — في النهاية — عن العيادة يديرها لحسابه!

ناقضت الزوجة في موقفها مواقف مغايرة لشخصيات نسائية في قصص فاطمة العلي، بل إنها ناقضت رحلة الزوجة الشخصية، منذ تلقَّت العلم مع الزوج في مدرسة واحدة، ثم استطاعت أن تؤدي لعبة التفوق حتى صار لها عيادتها الخاصة، التي استبدل الزوج بفشله في أن يكون له مثلها، أو أن يحقق نجاحًا في مجاله المهني بعامة، محاولات غير مسئولة لدفع الزوجة إلى سلسلة من التنازلات، آخرها التنازل عن الإنجاز الأهم في حياتها العملية، وهو العيادة الخاصة التي حققت — من خلالها — نجاحًا مؤكدًا. تقبَّلت الزوجة تصرفات الزوج من البداية، لم تحاول الاعتراض أو الرفض، اكتفت بالقبول السلبي لكل ما أراده الزوج، رغم أنه كان يستهدف تقويض كل ما استطاعت تحقيقه.

حصلت المرأة على ما ناضلت من أجله: الاستقلال الاقتصادي، المكانة العلمية والعملية، بالإضافة إلى التفوق على الرجل — وهو ليس أي رجل! — في مجال عملهما المشترك، لكن البحث عن ظل الرجل، أو الخوف من غياب ظل الرجل، يدفعها إلى التنازل عن مكتسبات نضالها، فهي تترك العيادة لزوجها، يديرها باسمه، رغم كل العوامل الإيجابية لصالح أن تدير هي العيادة، والعوامل السلبية — المقابِلة — التي تجعل من ظل الرجل بديلًا لوجوده الحقيقي!

زهرة الجلاصي تذهب إلى أن الوظائف التي تنجزها الشخصيات الرجالية في قصص فاطمة العلي، تتجه — في الأغلب — نحو استدعاء وظائف مضادة، تتكفل بها الشخصيات النسائية، في نطاق ثنائية الفعل ورد الفعل، مما يخلق — والتعبير للجلاصي — مواجهات تتهيأ لها الشخصية النسائية بأسلحة وأساليب متنوعة من قبيل المناورات السجالية، وكشف أخطاء وتجاوزات الشخصية الرجالية، أو السخرية، أو المفارقات، لكن قلما تحتد المواجهة لتفضي إلى إرساء علاقات صراعٍ معلن.١١ لكن الطبيبة، الزوجة، المرأة في قصة وسقط سهوًا قبلت التنازل — في تقديرنا — عما ترى أنه حق لها، دون أن تمارس تحديًا من أي نوع. آثرت الاحتفاظ بوضعها كزوجة، ولو على حساب قيمتها كإنسانة، الزوجة تتحمَّل فيما آلت إليه الأمور نصيبًا مساويًا — إن لم يفُق — ما يتحمَّله الرجل، فقد جعلت مجرد ظل الرجل غايةً ووسيلة!
الاستقلال الاقتصادي للمرأة هو البُعد الأهم في القضية المسماة تحرير المرأة، بمعنى حصول المرأة على حقوقٍ يتكافأ به وضعها مع وضع الرجل، لكن ذلك البُعد الأهم يغيب تمامًا في علاقة الزوجين في قصة وسقط سهوًا. فالزوجان ينتميان إلى فئة ميسورة الحال، وكلاهما طبيب، ولا يوجد في أفق حياتهما مشكلة مادية من أي نوع، والتنازلات التي قدمتها الزوجة الطبيبة، المستقلة اقتصاديًّا، باعثها أبعد ما يكون عن الماديات. إنها — للأسف — تعود إلى ضعف شخصية الزوجة مقابلًا لقوة شخصية الرجل. وكما تقول سامية الساعاتي، فقد انتقلت المرأة — المثل من مصر، لكنه بالقطع ينطبق على كل أقطار الوطن العربي — من عهد التبعية الضعيفة المسحوقة المقهورة، إلى عهد التبعية المبدعة القوية!١٢
عانت المرأة العربية — ولا تزال — حيرة شديدة، واغترابًا، عندما وجدت نفسها مطالبة بأداء الشيء ونقيضه، فهي تتعلَّم، وتكسب، وتستقل. فإذا حاولت أن تمارس حقها في الاستقلال، قوبلت بالمؤاخذة التي تصل إلى حد العقاب. ولعلَّنا نتبيَّن نظرة الرجل الحقيقية للمرأة في قصة يوسف إدريس جمهورية فرحات. إنه ينادي للمرأة بنفس حقوق الرجل، لكنه — في أعماقه — لا يؤمن بذلك،١٣ ولعل النظرة إلى المرأة تبلغ إحدى ذرى قتامتها في ذلك الخاطب الذي تقدم يطلب فتاة من ذويها، وكان رأيه الذي أعلنه — في صراحة وقحة — أن النساء لم يخلقن إلا ليطبخن ويلِدن، وأن المرأة عنده لا تساوي شيئًا، وأنها آلة لإخراج أشياء حية! وطبيعي أن طلب الشاب قوبل بالرفض!١٤

•••

يقول كارن هورني Karen Horney إن فكرة اعتماد المرأة الشديد على زوجها، وإبراز ضعفها، وأن لا حول لها ولا قوة، وأنها تعيش في كنف الذكور ورعايتهم … كل ذلك أساطير من صُنع الثقافة وحدها، أي إنها مكتسبة اجتماعيًّا وليست فطرية، ولا متأصلة في طبيعة المرأة.١٥
وإذا كانت غالبية الآراء قد اتفقت على أن الاستقلال الاقتصادي هو الدعامة التي يقوم عليها الاستقلال السياسي، فإن الاستقلال الاقتصادي — عند تحققه — لم يسهم في تحقق الاستقلال السياسي، ولا أي استقلال! ظلَّت هي المرأة التي تحدد عالمها في ظل الرجل! وأشير — ثانية — إلى أمينة في رواية إحسان عبد القدوس أنا حرة. بل إن المرأة قد تبدِّل — أحيانًا — في مسار الأحداث؛ تنظم المظاهرات، وتقاطع، وتصر على زوال الصورة القاتمة، لكنها — بعد أن يتحقق ما سعت إليه — ما تلبث أن تتنازل عن سلطتها للرجل.١٦ وفي رواية تحولات الجحش الذهبي كان رأي الزوج أن ما يرضيه، أو يرضي زوجته، يرضي الآخر، لكنه وجد أن العدل ألَّا يكون للزوجة سلطة تفوق سلطة زوجها!١٧ وكانت مشكلة باباشي (رب الأشياء الصغيرة) ما حظيت به زوجه ماماشي من انتباه؛ أحس الرجل بالغيرة، وعبَّر عن غيرته بتكرار ضرب الزوجة المسكينة، لمجرد أن يشعر نفسه، ويشعرها، أنه هو الرجل، وأنها المرأة، الجنس الأدنى، رغم أنها كانت هي التي تعمل وتنجح!١٨ الطريف أن ماماشي بكت عند وفاة باباشي، لاعتيادها عليه أكثر من حبها له «إن البشر مخلوقات تحكمها العادة، ونوع الأشياء التي اعتادوها، وهي أنواع تثير الدهشة.»١٩

في كل الأحوال، لا بد أن تكون للرجل!

ولعل المرأة العاملة العربية تجد بعض السلوى في سلسلة التحقيقات التي أجرتها الإنجليزية باربرا تايلور برادفورد عن النساء وسيدات الأعمال الناجحات في بريطانيا، من بلغ الدخل السنوي لكل واحدة منهن أكثر من مليون دولار في العام. أوردت باربرا في كتابها أسماء ٥٧ امرأة تجاوز دخل كل واحدة منهن المليون جنيه إسترليني، و٣٩ امرأة قاربت دخولهن رقم المليون. يتوزع هؤلاء السيدات في مجالات الأدب والرياضة والفن والإعلانات وغيرها، لكن النجاح الذي تحقق لسيدات المليون أعطى وجهه المقابل، السلبي، فقد اكتشفت باربرا أن كل واحدة من النساء الناجحات اللائي تناولتهن تحقيقاتها يعانين إما من مشكلات زوجية، أو انتهت حياتهن الزوجية القصيرة بالطلاق، أو لم يتزوجن على الإطلاق، أو لم ينجبن. بمعنى أن المرأة التي تريد النجاح في حياتها ينبغي أن تتخلى عن دورها المجتمعي والعملي في الحياة العامة. تقول باربرا تايلور: «يندر أن تجد امرأة موهوبة في أي مجال تعيش حياتها بشكلٍ طبيعي، لا أعتقد أن هذا الوضع سيتغيَّر، لأن رجال الأعمال لا يفضِّلون النساء بينهم، وإنما يفضِّلون الرجال.»

هوامش

(١) علم اجتماع المرأة، ٣٢.
(٢) ليندا جين شيفرو، أنثوية العلم، ت. يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، ٧٠.
(٣) طه حسين، دعاء الكروان، ٦٥.
(٤) ليلى بعلبكي، أنا أحيا، ١٨.
(٥) أنا أحيا، ٢٠.
(٦) البيان، العددان ٣٨٤-٣٨٥، يوليو-أغسطس، ٢٠٠٢م.
(٧) القصة.
(٨) النيوزويك العربية، ١٣ / ٦ / ٢٠٠٠م.
(٩) الجفاف.
(١٠) النساء والنوع في الشرق الأوسط الحديث، ١٢١.
(١١) من بحثٍ سابق لزهرة الجلاصي.
(١٢) علم اجتماع المرأة، ٦٨.
(١٣) جمهورية فرحات، ٥٤.
(١٤) أحمد زكي مخلوف، نفوس مضطربة، ٢٨.
(١٥) علم اجتماع المرأة، ٧٦.
(١٦) إيزابيل الليندي، بلدي المخترع،٦٠-٦١.
(١٧) تحولات الجحش الذهبي، لوكيوس أبوليوس المداوري، ت. علي فهمي خشيم، هيئة قصور الثقافة، ٢٦٤.
(١٨) أرونداتي روي، رب الأشياء الصغيرة، ت. فخري لبيب، المجلس الأعلى للثقافة، ٦٥.
(١٩) المصدر السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤