محطات

في ١٦ مارس ١٩٢٣م تشكَّلت جمعية الاتحاد النسائي المصري برئاسة هدى شعراوي، بعد أن تركت لجنة الوفد المركزية للسيدات تحت رئاسة وكيلتها السابقة شريفة رياض١ وأصبحت الجمعية — عقب تكوينها — فرعًا من الاتحاد النسائي الدولي. وفي ١٩٢٤م أصدرت جمعية الاتحاد النسائي، واللجنة التنفيذية للسيدات الوفديات بيانًا مشتركًا، يتضمن بعض المطالب النسائية، ومن بينها تحقيق المساواة بين الجنسين في فرص التعليم، وتعديل القانون لتحصل المرأة على حق الانتخاب، وإصلاح قوانين الزواج لمنع تعدد الزوجات، وعدم التطليق إلا أمام القاضي الشرعي، ومنع زواج الفتاة قبل سن السادسة عشرة، والولد قبل الثامنة عشرة.٢ وقد صدر مرسوم ملكي في ١٩٢٣م برفع سن الزوجة ست عشرة سنة، وسن الزواج إلى ثماني عشرة سنة وقت العقد. وعلى الرغم من الأغنية التي عارضت القانون: أبوها راضي وأنا راضي … ما لك أنت بقى وما لنا يا قاضي، فقد اعتبر القانون مكسبًا للمرأة المصرية.

•••

لعل أهم ما يطالعنا في طلب المرأة «حقوقها»، منذ غادرت أمينة جدران بيت بين القصرين، لتزور — في غيبة الزوج — ضريح الإمام الحسين، حتى أسلمت فاطمة (واحترقت القاهرة) نفسها لمن تحب، فلما عرض عليها الزواج رفضت، احترامًا لإرادتها، ثم أنهت حياتها شهيدة في حرب فلسطين … لعل أهم ما يطالعنا في تلك «الحقوق» أنها تكاد تتحدد — منذ صار للمرأة أنصار يدافعون عن قضيتها — حتى شاركت المرأة بالرأي الهامس، ثم بالمطالب المعلَنة، والواضحة، والمحددة، في هذه النقاط: تحريم تعدد الزوجات، تقييد حق الرجل المطلق في الزواج، والمساواة بين الزوجين في حق الطلاق، على ألَّا يستخدم هذا الحق إلا على يد القاضي. تحريم الزنا تحريمًا تامًّا على الزوجين، تحريم ضرب الزوجة، إلغاء بيت الطاعة، نشر التعليم بين النساء، ضمان حق المرأة في العمل، بصرف النظر عن حالتها الاجتماعية. إنشاء دور حضانة لأطفال العاملات، المساواة بين الجنسين في الوظائف والعمل والأجور، تقرير حق المشتغلات الحوامل في إجازة وضعٍ مدفوعة الأجر، الاعتراف للمرأة بحقوقها السياسية كاملة.٣

وقد حصلت المرأة — بالفعل — على حق التعليم إلى نهايات المراحل التعليمية.

وحصلت على حق العمل.

وحصلت على حقِّها في التحرر من السيطرة المطلقة للرجل.

وسُمِّي تحقيق هذه النقاط الثلاث بالانقلاب النسوي، باعتبارها إضافة مهمة إلى سعي المرأة نحو مساواتها بالرجل.

•••

يقول كليلاند: «علِّم أنت الفتاة المصرية — العربية — وسيرعى معدل المواليد نفسه بنفسه.»٤
والحق أن تعليم البنات كان هو الإرهاصة، البداية، لتغيُّر وضع المرأة. كان معظم الأسر يكتفي بتعليم البنات الكتابة والقراءة والحساب والفرنسية وفنون التطريز والطهي في البيت.٥ أما الذكور، فإنهم كانوا يواصلون التعلُّم في المدارس، وربما الجامعات فيما بعد، سواء الأزهر أو الجامعات المدنية. وكانت مدرسة السيوفية (١٨٧٣م) أول مدرسة ابتدائية حكومية للبنات، ثم أنشئت في ١٨٨٩م مدرسة السنية، تبركًا باسم إحدى أميرات الأسرة المالكة. وفي ١٩٢٥م أنشئت أول مدرسة ثانوية للبنات.٦ ثم ارتفع — فيما بعد، ونتيجة مباشرة لتعليم الإناث — شأن المرأة؛ لم تعد — في نظر نفسها، وفي نظر الرجل أيضًا — مجرد وسيلة للإنجاب، وجاوزت وظيفتها رعاية الأبناء والزوج. وثمة — في المقابل — من أعلن معارضته لتعليم المرأة؛ فالمرأة المتعلمة ليست أحسن حالًا في البيت من المرأة غير المتعلمة «وأخجل أن أصرح بأن الأمر قد جاء بالعكس، فإن الثانية قد تكون أدرى بشئون منزلها، وإطاعة لرب بيتها، وأكثر هدوءًا وسكونًا في حياتها من الأولى.»٧ ثم أصبح حصول الفتاة (حلم الصبا) على الشهادة العليا يساوي بيت الزوجية.٨ وكان أهم ما يشغل أزهار — منذ صباها — أن تتم تعليمها، وتصبح طبيبة، بل من أولى فتيات مصر اشتغالًا بالطب.٩

•••

أما حق العمل، فالبديهي — وهو ما يحدث بالفعل، وبالذات بين الأسر المحدودة الدخل — أنه حين تخرج المرأة إلى العمل، فإن الزوج يساعدها — على نحوٍ وآخر — في الأعمال المنزلية ورعاية الأبناء. هي مشاركة تفرضها الظروف التي تهمل، بالضرورة، نظرة الرجل إلى مكانته، ونظرته إلى مكانة المرأة، بل ونظرة المرأة المتدنية — أحيانًا — إلى نفسها. إنهما شريكان في إدارة البيت بالضرورة. وصار المثل الأعلى للزواج — في الأربعينيات — أن تتمسك المرأة بمن تحب، وتكافح معه لبناء البيت.١٠ لم يعُد الخروج إلى العمل عيبًا، حتى زوجة عبد المعبود (الشوارع الخلفية) غير المتعلمة، تقول لشكري عبد العال حين ينصحها بالقعود في البيت: ستنا خديجة مرات النبي كانت بتَّاجر، الشغل للستات مش عيب ما دام الوحدة مفتحة لنفسها!١١
وأما حق المرأة في التحرر من سيطرة الرجل، فلعلَّنا نذكر ملاحظة محمود أمين العالم بأن نجيب محفوظ فاته أن يقدِّم نموذجًا مثل فهمي بين النساء في بين القصرين، ليعطي للمرأة في الرواية معنًى جديدًا، ويتيح لونًا خصبًا للصراع الاجتماعي، فلا تقتصر الرواية على تقديم مفهومٍ محدد للمرأة، وللعلاقات بين الرجل والمرأة، وبين المرأة والحياة.١٢ إذا كان الفنان قد فاته ذلك الأمر في بين القصرين، فلعلَّه نجح في تقديم المقابل لشخصية فهمي — وربما أشد إيمانًا بالثورة والتطور — في شخصية سوسن حماد، في السكرية. الفارق بين أمينة بين القصرين وسوسن السكرية هو الفارق بين التبعية والمشاركة، بين العبودية والاستقلال، بين التأمين على الرأي الواحد وتعدد الآراء أيًّا يكن اختلافها. لم ينطق الحب بين سوسن حماد وأحمد شوكت، لكن حبهما كان مؤكَّدًا وواضحًا. إذا نوَّه بجمالها، حملقت في وجهه محتجَّة، وزجرته مقطبة، كأن الحب شيء لا يليق بهما، فيبتسم ويعود إلى ما كانا فيه من عملٍ.١٣ ولم يكن في وجه سوسن زواق، لكنها كانت تعنى بمظهرها وأناقتها بما لا يقل عما يفعله سواها من بنات جنسها،١٤ وقد اعترف أحمد شوكت أن العالم الذي زامل فيه سوسن قد غيَّره كثيرًا، وطهَّره، لدرجة محمودة، من أدران البورجوازية المستوطنة في أعماقه.١٥ ويمثِّل قول أحمد شوكت لزميلته في كلية الآداب: هل تسمحين لي بالتقدم لخطبتك؟١٦ يمثِّل هذا القول تقدمًا في طبيعة العلاقات بين الرجل والمرأة؛ لم يعُد الشاب يجد حرجًا في مخاطبة الفتاة مباشرة للاقتران بها، ولم تعُد الفتاة تجد حرجًا بالتالي في تلك المخاطبة. وتقول سناء (الباب المفتوح): العقلية قطعًا اتغيَّرت. بالنسبة لأمهاتنا الجواز كان مكتوب على الجبين، لا الواحد يقدر يغيَّره، ولا يهرب منُّه، ضروري يتقبَّله زي ما هو. وبالنسبة لنا الوضع اتغيَّر لأن عقلية الحريم اتغيرت. «البنت النهاردة ما تقبلش الوضع اللي كانت أمها بتقبله.»١٧ وقد تعمَّدت نعمات رفض من تقدَّموا لها، كي لا يقيد الزواج حريتها.١٨ وإذا كانت أمينة (بين القصرين) قد تركت بيتها — مرغمة — إلى بيت أمها، عقابًا لها على ترك البيت بدون إذن في غيبة زوجها، فإن أحلام (المستنقع) كانت على يقين أن «البيت بيت المرأة، وليس بيت الرجل» «فإذا وقع بين الزوجين جفوة، وكان لا بد أن يغادر أحدهما البيت حتى تهدأ العاصفة، فعلى الرجل أن يتركه لا المرأة.»

•••

لأسبابٍ عدة، في مقدمتها انخفاض المستوى الاقتصادي، وذوبان سلطة العائلة، ووجود الأسرة المستقلة، تحمَّلت المرأة مسئوليات أكثر في العمل الزراعي، فهي ما تكاد تفرغ من الولادة حتى تنهض في اليوم التالي، وربما في اليوم نفسه، إلى شئون بيتها وأرضها. وقد أسفر ذلك التصرف — بالطبع — تأثيراته السلبية المتمثِّلة في ارتفاع نسبة الوفيات بين الأطفال إلى ١٥٢ في الألف، وهي نسبة فادحة بالقياس إلى وفيات الأطفال في الدول الأخرى.١٩ وفي المقابل، فقد تحققت للمرأة في القرية انتصارات في القيمة الاجتماعية. ومع أن الرجل لا يزال سيد بيته، فإنه لا يبتُّ — غالبًا — في أمرٍ يتصل بشئون حياته اليومية، مثل بيع المحصول، أو بيع الأرض وشرائها، أو زواج الأبناء، قبل أن يرجع إلى الجماعة، أي الزوجة.٢٠

•••

أذكر قول نجيب محفوظ لي: في بدايات القرن، كانت المرأة بصفة عامة قعيدة البيت، وتخضع خضوعًا أعمى لسيطرة الرجل، مهما تكن شخصيتها، وبصرف النظر عن بعض الاستثناءات في بعض العائلات التي أخذت موقف الريادة في النهضة النسائية. ثم جاء الجيل الثاني — جيل خديجة وعائشة — الذي بلغ النضج عام ١٩٣٠م، وفي هذا الجيل أصبح للمرأة شخصيتها وحقوقها، كما أن سيطرة الرجل تقلَّصت، ولكن لم يبلغ الأمر بعد درجة المشاركة، وظل للرجل امتيازه. ومن ناحية أخرى، فإن المتعلمات والسيدات اللائي شاركن في الحياة العملية في الجيل السابق تزايدن بدرجة محسوسة، خاصة في المدن. أما الجيل الثالث، فهو جيل المشاركة الفعلية، إنه هو جيل الشباب الناضج الآن. وربما كانت شخصية المرأة في هذا الجيل دافعًا لأن تنتزع من الحقوق — في تقدير البعض — ما قد لا يسمح به الدين والشرائع. يصف صلاح قدير الفتاة الجزائرية «فاضلة» بقوله: «أحمر على الأظافر، ولفافة جولواز في فم هذه الجزائرية الصغيرة الجميلة، ولهجة كأنها آتية من سماء اللوار، وكلمات فرنسية تتحدث بها عن العالم العربي، وعينان سوداوان فيهما ألق كل آفاق وطننا، ورداء كالذي تلبسه أية طالبة تتناول القهوة مع القشرة في شارع «سوفلو»، وقلب صغير، ودماغ صغير، يعرف مارتان دي جار أفضل مما يعرف محمد ديب، وذاكرة تحفظ أبياتًا خير من أبيات كاتب ياسين، وعقل يدرس بيوجون أكثر من الشيخ بن باديس، ومعجونة أسنان بدلًا من السواك، فكيف، كيف نعرف أنفسنا في كل هذا؟»٢١ وحين عادت كوثر طالبة الليسيه (في قافلة الزمان) من السينما — بمفردها — ليلًا، قال لها مصطفى: كنت أفكر في مجيئك إلى هنا، وعودتك في الليل وحدك. تقول كوثر في دهشة: وماذا في ذلك ما دمت واثقة من نفسي؟!

– قد يضايقك بعض الشبان في أثناء عودتك.

– لا يجرؤ أحد على الاقتراب مني.

– يا لله، ولماذا؟

– كيف يجرؤ ما دمت أنا لا أريده؟!٢٢

وتقضي كوثر النهار كله مع صديقها في القناطر الخيرية، دون أن يشغلها سؤال الأسرة ولا قلقها، وتنزل إلى البحر بالمايوه!

عمومًا، فقد أصبحت الصفة الغالبة على الفتاة العربية الآن أنها متعلمة وعاملة، مثل الشاب تمامًا. وهذا الاستقلال الاقتصادي دعَّم مركزها الاجتماعي والنسائي. وقد ألقت فايزة (الطريق المسدود) بكل الأسئلة التي كانت تشغلها، وتنغص حياتها: لماذا ينتابها الخجل دومًا، بينما الطلبة تطل من عيونهم جسارة واقتحام؟ لماذا الرجل إله، تقضي المرأة عمرها في إعداد طعامه، وترتيب بيته؟ لماذا الرجولة — في نظر المجتمع — شرف وامتياز؟ والأنوثة مهانة وضعف؟ لماذا ظل الرجل وليس عمل المرأة، وأمومتها، واستقلالها الاقتصادي؟ ألقت خلفها بكل تلك الأسئلة، وقررت أن تمضي في حياتها كبشرٍ سوي، لا كرجلٍ ولا كامرأة، بشر مكتمل له ذكاؤه، وخبراته، وطموحه، وإرادته في تحقيق ذاته. وتقول الراوية في مريم الحكايا: «كان الثمن الذي يدفعه كل جيل من أخواتي البنات يمهد لبعض التحرر للجيل التالي.»٢٣

•••

ثمة رأي — ولعلها آراء — أن خروج المرأة إلى العمل، أدَّى إلى منافستها للرجل، وازدياد الأيدي العاملة، وانتشار البطالة بالتالي، بحيث يجب أن تعود المرأة إلى البيت، سبيلًا مهمًّا لإصلاح المجتمع.

هل أخطئ التعبير لو قلت إن المرأة المصرية «في الشارع»، منذ فجر التاريخ؟ لكن ذلك ما تؤكده النقوش الفرعونية. فالنساء في الشوارع يسعين إلى ما يحتجن إليه، يبِعن ويشترين ويساومن ويعقدن الصفقات ويشتغلن بأعمال الزراعة والصناعة والتجارة. لا سلاح في أيديهن، ولا يخشين نظرات فضولية أو مقتحمة — كم يعاني منها نساء زماننا الحالي! — وبلغ من دهشة الرحالة اليونان لمدى الحرية التي كانت المرأة المصرية تحظى بها — في فترات قدومهم إلى مصر — أنهم وجَّهوا إلى «الرجل» المصري إدانة قاسية، وسخرية. وقد بلغ من تحرر المرأة حينذاك، أنها كانت — في بعض الأحيان — هي التي تبدأ علاقة الحب، وهي التي تطلب مواعيد اللقاء، وهي التي تطلب الخطبة، وتعرض الزواج: «أي صديقي الجميل، إني أرغب في أن أكون بوصفي زوجتك صاحبة كل أملاكك.» وزعم ديودور الصقلي — زعم يخلو من الشواهد! — أن طاعة الزوج لزوجته في وادي النيل كانت من الشروط التي تنص عليها عقود الزواج. وتمر مئات الأعوام، قبل أن تطالعنا إحدى الذروات في العلاقة بين الرجل والمرأة، كان لقاء الفتاة والشاب في الأوتوبيس المزدحم (قصة محطة ليوسف إدريس). دفعهما الزحام إلى التلاصق، وإلى الكلام، وإلى أن يعرف كلٌّ منهما أشياء عن الآخر، وقبل أن تهبط الفتاة في المحطة التي تقصدها، كانت قد تواعدت مع الشاب على لقاء. ويتكرر الموقف في قصة عبد العال الحمامصي الفتى الذي جاء متأخرًا، وإن كانت فتاة الحمامصي لم تزد عن كونها «مومسًا» شجعته على محادثها، ثم حددت له ثمن اللقاء في بيت أبلتها الخياطة.٢٤

•••

يذهب مارك توين في كتابه «يوميات آدم وحواء» إلى أن المرأة هي الكائن الأكثر عملية، والأبرع في حل المشكلات، والأقرب إلى واقع الناس واحتياجاتهم الاجتماعية والبيولوجية والنفسية.

ولا شك أن دور الأمومة الذي كانت له السيادة — بالنسبة للمرأة — حتى أواسط القرن العشرين، قد تقلَّص بصورة واضحة، ثم لامس التغيُّر شخصية الزوجة، بصورته التقليدية. حلَّ — بدلًا منه — دور الأنثى المتعلمة، العاملة، ثم فرض وجوب استعادة التوازن بين الأنوثة والعمل نفسه. تقول إنجي أفلاطون: «هذا هو الذي نعنيه حين نقول إن العمل يعني للمرأة تحررها من ربقة الرجل — أبًا أو أخًا أو زوجًا — فإن كسب الرزق بعرق الجبين، هو ركن الاستقلال الاقتصادي الذي ننشده للمرأة في المجتمع المصري، وإن الاستقلال الاقتصادي هو الضمان الذي يحمي المرأة من التعرض لصنوف المذلة والهوان التي تلقاها على يد الرجل.»٢٥ وتقول السيدة سوزان (سكون العاصفة) «المسألة اليوم حرية وعمل معًا، لكن الرجل لا يريد أن ينسى ماضي الجنسين، والمرأة تمسك بيدها باب الحريم المفتوح حتى لا يقفل مرة أخرى.»٢٦ وقد تبينت رفيف في رواية سحر خليفة عباد الشمس أنها تخاف الوحدة أكثر مما تعشق الحرية، وأنها إذا خُيِّرت بين الحرية والرجل، فإن الرجل سيكون اختيارها.٢٧
ومع أن المرأة حصلت على حريتها بالاستقلال الاقتصادي، فإنها لم تجد — أحيانًا — في هذه الحرية صورة العلاقة بينها وبين الرجل. مَثَلنا أمينة في أنا حرة، وفاطمة في المستحيل. ولعل قول أمينة (أنا حرة) يتماهى مع قول ريم في رواية ليلى بعلبكي أنا أحيا: «إن حريتي لا تفيدني، وأنا أفتِّتها إربًا إربًا، وأنثرها ريشًا تحت أقدام رجل أحبه، ويعطف عليَّ.»٢٨ التعبير نفسه — تقريبًا — تعلنه ريم (أيام معه) ببساطة: «إن حريتي لا تفيدني، وأنا أفتِّتها.»٢٩ تنازلت الفتاة عن الحرية التي انتزعتها لقاء حب الرجل، وحياتها في ظله، وتحت قدميه. والحياة تحت قدمَي الرجل ليست من عندياتي، لكنه التعبير الذي اختارته الفنانة في الروايتَين. وتقول سناء (الباب المفتوح) «والله احنا مصيبتنا سودة، على الأقل أمهاتنا كانوا فاهمين وضعهم، أما احنا ضايعين، لا احنا فاهمين إذا كنا حريم ولا مش حريم، إن كان الحب حرام والا حلال. أهلنا بيقولوا حرام، وراديو الحكومة طول النهار بيغني للحب، والكتب بتقول للبنت: روحي أنت حرة، وإن صدقت البنت تبقى مصيبة، تبقى سمعتها زفت وهباب، بالذمة دا وضع؟ بالذمة إحنا مش غلابة؟!»٣٠

•••

كان نزول أمينة من وراء المشربية إلى الطريق، تزور حبيبها الحسين وابنتيها والقرافة، وتشتري احتياجات البيت، في حين جلس أحمد عبد الجواد — ذلك المستبد القديم — في الموضع نفسه وراء المشربية، يكتفي بمتابعة حركة الطريق، وينتظر أوبة زوجته. ذاق عبد الجواد ما كانت تذوقه أمينة: العزلة والوحدة والسأم والملل. ذلك التصرف العكسي يمكن أن نعتبره دلالة مبكرة على سقوط دولة الرجل. وهو سقوط لم يتخذ في تلك الآونة — أواخر الثلاثينيات — بُعدًا واحدًا، وإنما شمل أبعادًا مهمة أخرى. ولعلِّي أضيف أن سلبية أمينة في بين القصرين٣١ هي — في الحقيقة — قمة الإيجابية. فلولا هذه الاستكانة الظاهرة والمسالمة في شخصية أمينة، لما نجت الأسرة من ردود أفعالٍ غير متوقعة، وعنيفة، من أفراد الأسرة، مقابلًا للإرادة الأبوية القاهرة، المسيطرة.

عودة أمينة من جامع الحسين، وترقُّب أحمد عبد الجواد لها من وراء المشربية … ذلك الموقف الذي يحمل معنًى مناقضًا لما كان عليه الحال في بداية الثلاثية. أحمد عبد الجواد يذهب ويأتي، وأمينة — وراء المشربية — تنتظر تلك العودة، تذكِّرني بقول أحمد بهاء الدين: «أنا لا أفهم المساواة على أن كلًّا من الرجل والمرأة يخرج على هواه، وكيفما شاء، لكنني أفهمها على أن كلًّا منهما مقيدٌ في دخوله وخروجه وتفاصيل حياته برأي الآخر ومشورته واقتناعه.»

وحتى الآن، فإن النظرة إلى إمكانية قيادة المرأة للعمل يحوطها الشك والتوجس، وربما فقدان الثقة. بل إن الكثير من الرجال يجدون غضاضة في التعامل تحت رئاسة امرأة، بصرف النظر عن مكانتها العلمية والإدارية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المرأة تتنازل الآن عن كل ما ناضلت لتحقيقه. غالبية النساء عدن إلى ارتداء الحجاب، وأعداد كبيرة من العاملات يفكرن في — أو قررن — العودة إلى البيت، والكثير من النساء لا يعنيهن العمل العام (هذه النقطة نناقشها في فصل قادم).

مروة جبر كاتبة فلسطينية، وموظفة كبيرة في هيئة الأمم المتحدة بنيويورك، وتقيم بعيدًا عن زوجها الشاعر هارون هاشم رشيد، لكنها تتحدث عما يستقر في أعماق الرجل الشرقي من رواسب، توارثها عن جده، وهي أن المرأة خُلقَت للبيت فقط، وله وحده، تلبي طلباته، وتسهر على راحته.٣٢ (من هنا يأتي قول سلامة في البيت الصامت: ما أعظم أن يكون المرء رجلًا!، ١٢٧). كلمة «امرأة» معناها عورة وفتنة؛ لذلك فإن عليها أن تختفي عن الأنظار الغريبة، تترك الطريق والجامعة والعمل والنادي، وتستقر في بيتها! وفي رواية غادة أم القرى لأحمد رضا حوحو يطول انتظار الفتاة للشاب الذي تحبه، لكنها — حين يطرق الباب — تضطر إلى التصفيق بيديها بمعنى: من الطارق؟ ثم تصفق ثانية بمعنى أنه لا أحد يمكنه استقباله، فصوت المرأة عورة يجب ألا يسمعه أحد. وكما يقول صالح مفقودة فإن عادة التصفيق ليست مقصورة على المجتمع السعودي الذي تدور فيه أحداث الرواية، لكنها موجودة في بعض أقاليم الجزائر.٣٣ وربما امتدت «العورة» فشملت أقاليم عربية أخرى. تقول الأم في رواية توفيق الحكيم حمار الحكيم: «إن المرأة لا تستطيع أن تعيش، ولا أن تأمن، ولا أن تستقيم أمورها، إذا لم يحمِها أب ولا أخ ولا زوج.» وفي دعاء الكروان: «المرأة عورة يجب أن تُستَر، وحرمة يجب أن تُرعى، وعرض يجب أن يصان.»٣٤ الأم في رواية الطاهر وطار الموت والعشق في الزمن الحراشي تثق أن زواج البنت هو المصير الذي يجب أن تنتظره، وهو الهدف الذي يجب أن يسعى إليه الأبوان كذلك. وتقول المرأة في رواية محمد ديب صيف أفريقي: «إن الزواج بالنسبة للمرأة هو وظيفتها وعملها ومهنتها ومصيرها، ماذا تستطيع أن تفعل غير هذا؟ وما المرأة غير المتزوجة؟ إيه … إنه أقل من لا شيء!» ونحن نجد في فريد أفندي (بداية ونهاية) مثلًا للأب المصري الذي يحرص على تزويج بناته، حتى لو اضطر لأن يتكفل هو بنفقات الزواج، باعتبار أن زواج البنات «سترة». ومن هذه الزاوية، يجدر بنا تأمُّل مناقشة قول زكريا إبراهيم «الزواج يقضي على شخصية المرأة، لكي يحيلها إلى مجرد كائن منزلي تافه، عديم القيمة.»٣٥ قد تكون الزوجة منفردة ببيتها وزوجها، أثيرة عنده في أحيان قليلة، لكنها — في الأغلب — زوجة بين زوجات ضرائر، يكدن لها وتكيد لهن، وهي في جميع الأحوال — منفردة، أو غير منفردة — شيء ضعيف، مستكين، لا حول لها ولا طول، للرجل كل الحقوق، وليس لها من حق. له كل المكانة، وليس لها من المكانة إلا أيسر اليسر، فلا سبيل لها في مواجهة هذه الشدائد إلا أن تستسلم مغلوبة على أمرها.٣٦ جعل الرجل من الزواج — على حد تعبير سيمون دي بوفوار — التبرير الاجتماعي الوحيد لكل حياة المرأة. بل إن دور «ست البيت» الذي تأهلت له المرأة المصرية، ظل إطارًا لنشاط المرأة خارج الأسرة، حتى بعد أن أتيح لها مجاوزة هذا الدور، بالتعلُّم، والخروج إلى العمل!٣٧ ومع كل الخطوات التي قطعتها المرأة في طريق تأكيد ذاتها واستقلاليتها، فقد ظل الرأي بأن «البنت غير الولد، تصل إلى ذروة سعادتها بأن تكون زوجة ناجحة، لا بأن تكون مهندسة، وطبيبة، ومحامية.»٣٨ وفي ١٩٨٤م أُدخلَت بعض التعديلات على قانون الأسرة الجزائري، ومنها اشتراط وقوع الطلاق في المحكمة، والسماح للأرملة بتولي كفالة أطفالها، لكن القانون الجزائري لم يعترض على حق الرجل في التطليق، أو في التزوج بأكثر من واحدة.٣٩
يحدد عبد المنعم الصاوي دور — أو صورة — المرأة في أدبه، بأنها ليست وصية على الحياة، وأنها أيضًا ليست وصية على الرجل، وليست تابعة للرجل: «والمرأة عندي ليست مبتذلة، فهي كيان بشري مستقل له إرادته، وقادر على التصرف، وعلى التفكير. ولو جردنا المرأة من هذا الاستقلال، وتلك القدرة، نكون متجنيين عليها، وظالمين لدورها في الواقع. فالمرأة — في ظل أي وضع اجتماعي — لها كيانها الخاص، حتى في ظل المجتمع المتخلف.»٤٠ وإلى الأربعينيات من القرن العشرين، كانت المرأة تحاول مجاوزة أسوار الحريم، بتبادل الزيارات بديلًا لجلسات الرجال في المقاهي، وهو ما كان يُسمَّى «زيارة».٤١ كان نظام الزيارة — أو المقابلة — يتمثَّل في اجتماع مجموعة الصديقات، لكل واحدة يوم من أيام الأسبوع، يتزيَّن ويرتدين أحدث الموديلات. وتحرص المضيفة على أن تقدم ألوانًا مختلفة من الحلوى والأطعمة، ويقضين الوقت في الدردشة، وربما تعزف إحداهن على البيانو، أو على العود، والباقيات يشاركن بالغناء أو بالتصفيق. وقد ظل نظام المقابلة قائمًا في الكثير من البيوت المصرية إلى أعوام الحرب العالمية الثانية. وكانت أم سعد (الشوارع الخلفية) حريصة على يوم المقابلة كتقليدٍ يجب احترامه،٤٢ حتى بعد أن أتيح للمرأة أن تغادر بيتها وتشارك الرجل حياته، وتتردد على الأماكن العامة. مع ذلك، فقد طالما ضاقت أمينة (أنا حرة) بتلك الجلسة؛ وجدت فيها قيدًا على حريتها! ولم يكن يوم المقابلة مقصورًا على الحياة المصرية. ثمة يوم الاستقبال، أو الاستقبالات، الذي تتحدث عنه الفلسطينية منى ظاهر في حكايات جدتي موفادت، تجتمع الصديقات أو الجارات أو القريبات أو كلهن معًا، باتفاقٍ مسبقٍ، كل أسبوع أو أكثر، في بيت واحدة من السيدات اللائي وُجِّهت إليهن الدعوة. ويكون الاستقبال الفلسطيني — غالبًا — في ساعات الصباح، ففي ذلك الوقت يكون الرجال في أعمالهم خارج البيوت، يحتسي النسوة الشاي أو القهوة، ويتبادلن أطراف الحديث في موضوعاتٍ عامة وخاصة.٤٣
ثم تعددت — فيما بعد — الآراء والتصرفات والقوانين التي تؤكد خروج المرأة من الحريم، أو من ربقة السيطرة الذكورية. في ١٩٥٦م أدخلت تونس تغييرات على قانونها للأحوال الشخصية؛ بحيث أصبح من المطلوب أن تصدر عن الزوجة موافقة لفظية على الزواج في أثناء مراسم الزفاف حتى يكون العقد ساريًا (يذكِّرنا بطقوس الزفاف الكنسية!) ومنح الرجل والمرأة حقًّا متساويًا في المطالبة بالطلاق أمام المحكمة. كما جرَّم القانون تعدد الزوجات، بينما توقف في جنوب اليمن (١٩٧٤م) على إذن المحكمة، لا تقضي به إلا لظروف معينة، مثل العقم والمرض العضال. كما جعل جنوب اليمن الطلاق وفق قوانين ترتب له من خلال المحاكم، مع تساوي المبررات — تقريبًا — للرجل والمرأة. وقد أدَّت التعديلات التي أجريت على قوانين الأحوال الشخصية في القرن العشرين إلى ذُويِّ صورة الأب الذي يسيطر، ويحكم، أو — على حد تعبير ج. ن. د. أندرسن — أفول الأسرة التي يحكمها الأب، «وهي الأسرة التي أدخلت على القوانين المتصلة بها عبر القرن العشرين.»٤٤ حدَّت تلك التعديلات — بدرجة أو أخرى — من تعدد الزوجات، وحق الرجل في التطليق، وحصلت المرأة على حق طلب الطلاق من المحكمة، ولم تعد الزوجة تعود إلى بيت الطاعة بالقوة.٤٥
ونحن نلحظ أنه لم يعُد مما يثير رأي نوال السعداوي بأن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في حجرتين منفصلتين لتظل بينهما مسافة. وتغلبها الحماسة فترى أن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في شقتين منفصلتين، ثم تغلبها الحماسة ثانية، فترى أن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في بلدين منفصلين. البعد — في تقدير نوال السعداوي — يضعف العلاقات الزوجية الهشَّة، لكنه يقوِّي العلاقات المتينة، القائمة على أساس من الحب الحقيقي والتفهم والتقدير.٤٦ لم تعد «صورة المرأة الشرقية المنقبة المقهورة»٤٧ هي الصورة الواحدة، الثابتة، في أذهان الأجانب، وهي الصورة التي تثير افتتانهم بالتالي.

هوامش

(١) الحركة النسائية في مصر، ١٠٥.
(٢) نحن النساء المصريات، ١٠٨.
(٣) المرجع السابق، ٨٨.
(٤) المجلة، سبتمبر، ١٩٦٧م.
(٥) طه حسين، دعاء الكروان، الرواية، المعذبون في الأرض،٢٠-٢١.
(٦) نحن النساء المصريات، ٣١.
(٧) الأهرام، ٢٥ / ١٢ / ٢٠٠٣م.
(٨) سعاد شلش، حلم الصبا، وفرغ عطرها، هيئة الكتاب.
(٩) أزهار، ٣٤٧.
(١٠) لطيفة الزيات، صباح الخير، ١٢ / ٥ / ١٩٩٤م.
(١١) عبد الرحمن الشرقاوي، الشوارع الخلفية، ٤٨٤.
(١٢) الرسالة الجديدة، أول مارس ١٩٥٧م.
(١٣) السكرية، ٣٠٩.
(١٤) المصدر السابق، ٢٥١.
(١٥) المصدر السابق، ٣١١.
(١٦) قصر الشوق، ٢٢٠.
(١٧) لطيفة الزيات، الباب المفتوح، الأنجلو المصرية، ٧١.
(١٨) محمود طاهر لاشين، يُحكى أن، ٤.
(١٩) نحن النساء المصريات، ٢٥١، والإحصاء أُجري في أواسط الأربعينيات.
(٢٠) محمد عاطف غيث، القرية المتغيرة، دار المعارف، ١٩٢.
(٢١) ت. محسن الموسوي.
(٢٢) في قافلة الزمان، ٣١١.
(٢٣) مريم الحكايا، ٧١.
(٢٤) عبد العال الحمامصي، الفتى الذي جاء متأخرًا، للكتاكيت أجنحة.
(٢٥) نحن النساء المصريات، ٤٢.
(٢٦) محمد عبد الحليم عبد الله، سكون العاصفة، مكتبة مصر، ٢٨٥.
(٢٧) سحر خليفة، عباد الشمس، الفارابي، ١٩٨.
(٢٨) ليلى بعلبكي، أنا أحيا، ٦.
(٢٩) كوليت خوري: أيام معه.
(٣٠) الباب المفتوح، ٧١.
(٣١) الأهرام، ٢٠ / ١١ / ٢٠٠٢م.
(٣٢) مروة جبر، نداء السنونو، ١٢.
(٣٣) صالح مفقودة، المرأة في الرواية الجزائرية، ٨٥.
(٣٤) دعاء الكروان، ٣٣.
(٣٥) العربي، العدد ١٧٣.
(٣٦) صوفي عبد الله، حواء وأربعة عمالقة، هيئة الكتاب، ٥١.
(٣٧) نشأة مهنة الخدمة الاجتماعية، ٥٦.
(٣٨) إحسان عبد القدوس، رائحة الورد وأنوف لا تشم، مكتبة مصر، ١٤٠.
(٣٩) جوديث تاكر ومرجريت مريوذر، النساء والنوع في الشرق الأوسط الحديث، ت. أحمد علي بدوي، المجلس الأعلى للثقافة.
(٤٠) الهلال، يناير ١٩٧٨م.
(٤١) عودة الروح، ١ / ٧٤.
(٤٢) الشوارع الخلفية، ٩٧.
(٤٣) حكايات جدتي موفادت، ٢٠.
(٤٤) النساء والنوع في الشرق الأوسط الحديث، ١٩٣.
(٤٥) المرجع السابق، ١٩٤.
(٤٦) نوال السعداوي، رحلاتي حول العالم، ١٨٣.
(٤٧) النساء والنوع في الشرق الأوسط الحديث، ١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤