الخليج … صورة مقربة

على الرغم من بعض الإيجابيات في هذا المجال أو ذاك، فإن المجتمعات الخليجية بعامة هي مجتمعات ذكورية، السيادة الحقيقية للرجل، والخضوع من المرأة، بصرف النظر عما حققته من الاستقلال الاقتصادي، أو ما بلغته من مكانة اجتماعية. نحن نتعرَّف إلى قيمة المرأة — من وجهة النظر الذكورية — في تعبيراتٍ مثل «النساء سلالة الأبالسة والشياطين»، «من يملك قلب امرأة يملك أغلالها»، «النساء كالفاكهة».١ وفي المقابل، فإن الجد، الرجل، الذكر، في قصة النشيد لسلمى مطر سيف ينظر إلى المرأة باعتبارها مثل دابة الزريبة، حتى لو كانت حفيدته، فهو يذبحها إن لم تنفِّذ أوامره. الوسيلة الوحيدة التي يتعامل بها مع الحفيدة هي أن يتناول شعرها بين يديه، ويُعمق الألم في جلدة رأسها.٢ وقد بلغ الأمر حدَّ نسبة السذاجة، ليس إلى النساء الخليجيات بعامة، وإنما إلى الكاتبات الخليجيات على وجه التحديد. وكما يقول جوزيف زيدان فإن «أية عمليات جنسية، خاصة خارج إطار الزواج، كانت — ولا تزال — موضوعات محظورة بشكلٍ صارمٍ، لا يُسمَح بالاقتراب منها، وبخاصة الكاتبات اللائي لا يُفترَض أن يكون لديهن المعرفة الضرورية بهذا النوع من الكتابة.»

وسنعرض لهذه النقطة تفصيلًا:

البحر هو مصدر الحياة في رحلة ما قبل النفط لمعظم الخليجيين، وكلمة «معظم» تعني الرجال والنساء. تعاونوا — بلا تفرقة حقيقية — على الإفادة من البحر، مصدر الرزق الوحيد. الرجال يخرجون إلى الصيد، والغوص على اللؤلؤ، والنساء يتولَّين تنشئة الأبناء، ورعايتهم بصورة كاملة، فترات ركوب الرجل للبحر. لقد كان للمرأة الخليجية «دور كبير في احتواء الأسرة، وتدبير شئونها.»٣ ولعل الحنين إلى الماضي يبين في قول بطل قصة ليلى صالح جراح في العيون: «ليت الماضي يضغط على الحاضر لتعود أصالته.»

المجتمع الخليجي الحديث يدين للمرأة بدور يصعب إغفاله في مرحلة ما قبل النفط؛ لم يكن هناك السائق الهندي، ولا الخادمة الفلبينية، ولا أبسط مقومات الحياة اليومية، فضلًا عن وسائل الراحة والترف. وكما تقول فاطمة يوسف العلي، فإن الإبداعات القليلة التي صورت عصر ما قبل النفط لم تهتم بعالم المرأة، فلم يكن للمرأة وجود اجتماعي مؤثِّر قبل النفط. لقد عمل الرجل الخليجي والمرأة الخليجية جنبًا إلى جنب — قبل ظهور البترول — في عمليات الغوص والصيد وركوب البحر بعامة. لم تركب المرأة البحر، لكنها قامت بدور الأب والأم بالنسبة للأبناء، وكانت هي التي تتولَّى كل شيء في حياة الأسرة حتى يئوب الزوج من رحلته الطويلة.

كانت المرأة — بالفعل — هي الأسرة.

وإذا كانت الثورة الصناعية قد صنعت عصر الاستنارة في الغرب الأوروبي، ومن ملامحه المهمة — بالطبع — تحرير المرأة، فإن النقيض ما حدث بعد ظهور النفط في المجتمعات الخليجية؛ لم تتحقق الاستنارة بالمعدل نفسه الذي تحقق به الاقتصاد. بدت صورة الحياة في مجتمعات الخليج بعامة، مجرد وفرة نقدية. حدث تطور — بالضرورة — أفادت المرأة من بعض نتائجه، لكن النتائج لم تكن على مستوى النتائج التي تحققت للمرأة في الغرب. ولا يخلو من دلالة لجوء الملك فيصل إلى استدعاء قوات الشرطة، لتأمين افتتاح مدرسة للبنات في «بريدة» عام ١٩٦٠م.٤

الفرق بين عصر الاستنارة الأوروبي، وما حدث — ويحدث — في منطقة الخليج، يبين في عناية أوروبا بتصنيع الطاقة، واستخدامها، بينما اكتفت دول الخليج بمجرد تصدير الطاقة ليصنعها الآخرون. النفط — كما نعلم — ثروة ناضبة، حدَّد جان جاك بيربي — في الخمسينيات — موعدًا لنفادها أوائل الستينيات. وإذا كانت الثروة النفطية قد خيَّبت توقعات جاك بيربي، فإن أقطار الخليج ظلَّت على تعاملها مع هذه الثروة كطاقة تصديرية؛ بحيث توسم المجتمعات الخليجية بالسِّمات المدنية، دون أن تمتلك المقومات المدنية الحقيقية التي تتيح لها البقاء والتقدم، أو تصطدم بالنظرة المتشائمة، أو التنبؤ الخائف لكاتب خليجي، بأن يشتري الخليج أول ناقة بآخر برميل نفط، وتغيب الواجهة المدنية — لا أقول الحضارية — لتعود الصحراء إلى بداوتها. الوفرة النقدية في ذاتها، لن تنقل الخليج إلى المدنية الحقيقية، بكل ما تنطوي عليه من تقدم علمي وصناعي وتكنولوجي واقتصادي، والحرص على الإنتاج مقابلًا لتراجع الاستهلاك.

كان تحرير المرأة أحد المنجزات المهمة لمرحلة الثورة الصناعية في الغرب الأوروبي. ثمة الاستنارة، والعقلانية، والعلمانية، والديمقراطية، وإحلال المدينة محل القرية، بمعنى سيادة قيم المدينة وعاداتها وتقاليدها على ما للقرية في المجال نفسه. كان دخول النساء نظام التعليم، ومن خلاله سوق العمل، جزءًا من عملية تحديث هيكل الدولة،٥ وكان تحرر المرأة معلم أهم في تلك المنجزات.

لم يعُد دور المرأة يقتصر على إدارة شئون البيت في غيبة الرجل؛ خرجت إلى التعليم، والعمل، والإسهام في بناء المجتمع بما يصعب إغفاله. اتسعت مساحة التعليم في حياة المرأة الخليجية. تخرج الآلاف من المدارس والمعاهد والكليات، حتى كاد عدد الفتيات يساوي عدد الرجال، وحصلت الكثيرات على درجات الماجستير والدكتوراه، وهو ما انعكس في تحقيق المزيد من الحراك الاجتماعي للمرأة، أداته التعليم.

•••

زمن النفط لا بد أن يذهب — ليس تمنِّيًا، لكنه توقعٌ موضوعي — سواء بنضوبه، أو بظهور طاقة بديلة، وصورة المستقبل تفرض توقعات مهمة، في مقدمتها قيام المرأة بدورٍ فاعلٍ إلى جانب الرجل.

ومن تجربتي، فإني أرفض قول جان جاك روسو إن النساء بعامة لا يحببن أيَّ فن، ولا يعرفن شيئًا من أي فن، ولا يملكن أية عبقرية، وإنهن يفتقدن شعلة العبقرية المقدسة.٦ ثمة الخنساء، ولَّادة، الأخوات برونتي، سهير القلماوي، فرانسواز ساجان، جورج صاند، شارلوت، مدام دي ستايل، مدام دي سيفينيه، كوليت خوري، سحر خليفة، صوفي عبد الله، ليلى بعلبكي، جاذبية صدقي، حنان الشيخ، غادة السمان، ديزي الأمير، أمينة السعيد، وعشرات غيرهن. وثمة — في الخليج — أسماء — والترتيب غير مقصود — فاطمة يوسف العلي، ليلى محمد الصالح، أمينة بو شهاب، كلثم جبر، عالية شعيب، مريم جمعة فرج، شيخة الناخي، هدى العطاس، هداية سلطان السالم، فوزية رشيد، إقبال الغربللي، نجيبة الرفاعي، سارة الجروان، سلمى مطر سيف، سعاد الولايتي، سارة النواف، سعاد العريمي، صالحة غابش، طيبة الإبراهيم، ظبية خميس، ليلى أحمد، باسمة يونس، فاطمة محمد، فاطمة المزروعي، عائشة عبد الله، فاطمة محمد الكعبي، منى سالم السويدي، والقائمة طويلة …
لا أدري مدى موضوعية صالح الشايجي — زوج فاطمة يوسف العلي — أو تعبيره عن واقع الحال، في جوابه ردًّا عن السؤال: هل تحب أن تسير وزوجتك تسير خلفك؟ قال: أحب أن نسير معًا خطوة خطوة.٧ أما فاطمة يوسف العلي فهي ترفض الرأي القائل بأن المؤسسة الزوجية مؤسسة فاشلة، إنها مؤسسة قائمة منذ آلاف السنين، والفشل يأتي من داخل المؤسسة، لا المؤسسة نفسها. مؤسسة الأسرة والزواج مؤسسة بديعة، لأنها تؤمِّن لك ظروفًا نفسية كثيرة من الاستقرار والهدوء والسكينة والطمأنينة والإنتاج والعمل والفضفضة، وحين يصبح أحد الزوجين رفيقًا للآخر؛ فلن يحتاج كلاهما إلى الفضفضة خارج البيت.٨

أتأمل ما قاله كاتب خليجي: «إن معاملة بعض الرجال لنسائهم، تبدو وكأنهم يعاقبونها تكفيرًا عن ذنوب جدَّتها التي كانت السبب في خطيئة الرجل الأول.»

أزمة المجتمعات الخليجية — في بُعد مهم — هي أزمة المرأة، دور المرأة في الأسرة والمجتمع. الخليج — بصرف النظر عن درجات الألوان في وضع المرأة — هو مجتمع الرجل، له السيادة والسيطرة والكلمة الحاسمة. والرجل، الذكر، هنا، واحد من ثلاثة: الأب، الأخ، الزوج. وقد يأتي الابن — حين يكبر — في مرحلة تالية. وقد أتى على الخليج حين من الدهر كان الحديث عن المرأة يشكِّل الكثير من المهانة أو العار الاجتماعي، فهي — في أحاديث الرجال — «البيت» أو «بنت فلان». وفي بعض مناطق اليمن تُسمَّى المرأة «مذلول»، وعار، ومكلف. كما تحرم في مناطق أخرى من أن يكون لها جواز سفر إلَّا باسم زوجها، أو أحد أقاربها. وقد حاولت ثريا البقصمي أن تستعيد في العرق الأسود — مجموعتها القصصية الأولى — أحداث الماضي بكل معتقداته وتقاليده وعاداته، واتصال ذلك بمتغيرات العصر في مجموعتها القصصية الثانية «السدرة».
إن السيد أحمد عبد الجواد الذي كان يأبى الأكل مع زوجته أو بناته، موجود حتى الآن في بعض أسر الخليج؛ فالكثير من الرجال لا يأكلون مع زوجاتهم ترفعًا، ولا قيمة للمرأة ولا رأيها، فهي ناقصة عقل ودين، بل إنها — في رأي الكثيرين — متاع وحرث وخادم، ودورها الاجتماعي يتحدد في إمتاع الرجل وخدمته، وإنجاب ورعاية الأبناء (تصف أمينة بو شهاب الزوجة الخليجية أنها آلة لإنجاب الأطفال! — قصة هياج — كلنا … كلنا نحب البحر — اتحاد كتاب وأدباء الإمارات). المرأة «أرض وُجِدت لتُحرَث»، و«الرجل ربان والمرأة سفينة»، وللمرأة غواية الحسن، وللرجل غواية الفحولة والمال. لذلك فإن رأي الكثير من الأسر الخليجية أن «حجز البنت ضرورة، لا بد أن تبقى في داخل جحرها حتى تتزوج.»٩ وتقول الأم لابنتها: «كل البنات في مثل سنِّك يفكرن بالزواج، لا في العمل فقط، الزواج ستر، وهو نصف الدين، شرعه الله سبحانه وتعالى كي تستمر الحياة، ويتواصل بقاء البشر.»١٠ وكانت النظرة الحسية أشد ما يثير آمنة في قصة «هياج». إن ثروتها الوحيدة — كما يرى الرجل — هي القامة الريانة، والعينان الواسعتان، والشفتان المكتنزتان، ولا شيء بعد.١١ بل إن الفتاة لا تنتقل من واقعٍ اجتماعي إلى واقع اجتماعي أرقى، إلا إذا كانت تتمتع بجمالٍ يلفت نظر الرجل واهتمامه، فضلًا عن استثارة رغباته.١٢ لا قيمة — في نظر الرجل — للثقافة، ولا للوعي، والمشاعر الإنسانية. صنع لها الرجل إطارًا محددًا، لا يأذن لها أن تغادره. ومع أن زهرة (قصة الطيران بجناح واحد) كانت موظفة في أحد البنوك — فالمفروض أنها علمية التفكير — فإن مرور الأعوام دون أن يتقدم لخطبتها أحد، دفعها إلى التردد على قارئات الفنجان، ووسائل العرافة والخرافة.١٣ وفي قصة لأنها لليمنية هدى العطاس، يتوضح التحذير للفتاة أن تقتصر أحلامها على لحظة لقائها بالرجل، خارج إطار العرف الاجتماعي، وعلى حد تعبير الفنانة، فإن مصير الفتاة عندئذٍ لن يختلف عن مصير الدجاج الذي ترعاه بطلة القصة.١٤ وتقول عالية شعيب على لسان الراوية: «في غرفتي شتمت نفسي لأني امرأة، ولأنها امرأة، وغرزت الأسئلة بحقدٍ في السماء الهادئة في الأعلى، ونمت وأنا مؤمنة بأنه خلقها فقط لتلمِّع حذاء رجل بلسانها وجبهتها وصدرها، وحين يموت يرسم لها قبرها على الفراش ويذهب.»١٥ وفي قصة أحزان امرأة عربية لكلثم جبر، تبدو المرأة — أية امرأة — أسيرة الغربة بسبب التمييز الواقع عليها، وتذهب الفنانة إلى أن مأساة المرأة العربية هي عدم امتلاكها جسدها.١٦ وتقول الراوية في قصة امرأة حاقدة للفنانة نفسها: «إنني أكرهه منذ اليوم الأول لزواجي منه، لم أستطع أن أمنحه قطرة من الحنان أو الحب. لقد امتلكني يومها كما يملك السيد عبده.»
وحتى أواسط الستينيات تقريبًا، لم تكن معظم الأسر الخليجية تأذن للفتاة باستكمال تعليمها الجامعي، يقول الرجل لزوجته: البنت كبرت يا امرأة، ويجب أن تتزوج. تقول الزوجة في صوتها الذي لا يحسن الارتفاع: والدراسة؟ يقول: حين تكبر الفتاة يلزمها الستر، وسترها هو زوجها.١٧ وقد تعمَّد أهل الفتاة (قصة أنين لليمنية هدى العطاس) أن يتركوها بلا تعليم، لأن الفتاة — على حد تعبير الأم — يجب ألَّا تتعلم كثيرًا، والعكس ما حدث، فقد مثَّل جهل الفتاة دافعًا للاستجابة إلى الجديد الطارئ على حياتها، ودفعت الحياة حياتها ثمنًا للجهل الذي حرص أهلها على أن تحيا في إساره.١٨
العلم قنطرة قصيرة — في الأغلب — بين الفتاة وبيت الزوجية. عبد العزيز الثنيان — عضو مجلس الشورى السعودي — يعلق على قرارٍ لمجلس الوزراء بفتح آفاق جديدة أمام المرأة لمزاولة أنشطة اقتصادية واسعة، وفقًا للأنظمة والضوابط الشرعية. يدعو إلى فتح آفاق جديدة للمرأة «فهناك نساء ليس لهن عائل، الأمر الذي يحوجهن إلى البحث عن مصادر للكسب المشروع، فنسبة التعليم بين النساء السعوديات باتت عالية، ولم تعُد المجالات المتاحة لهن من قبل كافية لاستيعاب كل أعداد خريجات الجامعة والمعاهد الأهلية والفنية.»١٩ وفي المقابل، ثمة مَن يرى عدم تعليم الفتاة تعليمًا عصريًّا، «لأن الذي زجَّ بالبنت إلى الاختلاط هو التعليم العصري من أجل تغريبها، ومن الضروري أن يختلف تعليم المرأة — مضمونًا وأسلوبًا — عن تعليم الرجل، لاختلاف طبيعة وتكوين كلٍّ منهما.»٢٠ وأضاف علماء العربية السعودية في بيان لهم، محرمات يجب على المرأة أن تتجنَّبها، ومنها: ركوب السيارة، وارتياد محال التخسيس حتى لا يتعرضن للتصوير، وربما إلى كشف العورة، «ومسِّها عند التدليك، خاصة من عاملات مدربات على قلة الحياء في تلك المجالات.»٢١

كان التعلم أول خطوة حقيقية تخطوها المرأة الخليجية للحصول على ما ترى أنه حق لها، كانت الخطوة واسعة ومؤثرة من حيث تفوق المرأة على الرجل في التحصيل العلمي.

ومع أن المرأة وصلت في معظم بلاد الخليج إلى أعلى المناصب الحكومية، فهي وزيرة وعضو مجلس تشريعي ومحامية وأستاذ جامعي وعميد وطبيب ومسئولة في معامل التحليل ومراكز الأبحاث، فضلًا عن اشتغالها بالتجارة والاقتصاد، إلى حد رئاسة بعض الشركات، فإنها — المرأة — تواجه العديد من المشكلات، بالإضافة إلى المشكلات التي يواجهها المجتمع ككل.

تعد فاطمة العلي مشكلة العنوسة — على سبيل المثال — من مشكلات المجتمع الحديث، وهي — في بعض أسبابها — نتيجة للحراك الاجتماعي، وأحيانًا نتيجة الجمود، والتحرك الاجتماعي، وسيادة الشعور بالقبيلة، وارتفاع المهور. وبالطبع، فإن الرجل هو صاحب القرار في ذلك كله، بينما تظل المرأة هي الضحية.٢٢ لقد وصلت العنوسة في مرحلة التحول الاقتصادي الاجتماعي — في المجتمع الكويتي — إلى مستوى المشكلة التي تفرد لها الصحف المقالات والتحقيقات، وهي مشكلة — والكلام للعلي — لها أكثر من سببٍ، أحدها القطيعة المفروضة بين الأصيل و«البيسري»، والتي من شأنها أن تقلل فرص الزواج أمام الفتاة الأصيلة، فضلًا عن أن أبناء الكويت لا يرحبون بزواج بناتهم من غير أبناء الكويت والخليج والجزيرة، مما يؤدي إلى ضيق دائرة الاختيار، في مقابل اتساع الدائرة أمام الشاب الكويتي؛ فهو يتزوج الأوروبية والأمريكية والآسيوية والعربية.٢٣ وتشير فاطمة العلي إلى أن الفتاة الكويتية — الخليجية بالتالي — تعمل في بنك، وتستخدم أجهزة متقدمة، وتتكلم بلغة الأرقام، لكنها — في أمور الغيب واحتمالات المستقبل — تلجأ إلى الخرافة. قد تستنكرها، لكنها — حين تجد فيها ما يرضي رغباتها — تبذل جهدًا في تحويلها إلى واقعٍ.٢٤ وثمة قيود التقاليد، وحق التعليم والاختلاط والسفور والعمل واختيار الزوج. الذكورة هي التي ما تزال تتحكم في المجتمعات الخليجية، تقطع المرأة خطوات نحو الوصول على ما تجد أنه حق لها، ويقطع الرجل خطوات متماهية، أو متوازية، أو متقاطعة، لإعادة الخطوات إلى نقطة البداية، أو إلى المربع الأول، أو إلى الإرجاء والتعويق؛ بحيث يبدو مستقبل المرأة في القضاء على وصاية الرجل، وتسلُّطه. بل إن قصة ثريا البقصمي العرق الأسود تطالعنا برأي أن «العمل للرجل شرف، وللمرأة عار، من تعمل خارج بيتها ممكن أن تبيع شرفها في نفس الوقت الذي تبيع بضاعتها.»٢٥ رأي يطفح بالقسوة غير المبررة، والإدانة المسبَقة، ويفرض ما يصعب تصوره. ساوى الرأي بين بيع السلع العادية وبيع الشرف، من تبيع السلعة العادية، يسهل أن تبيع شرفها! ويختلف الأمر — بالطبع — بالنسبة للرجل!
وقد استندت نورية الرومي على إجماع النصوص الشرعية لتقرر أنه ليس للمرأة في منطقة الخليج والجزيرة العربية حق اختيار زوجها.٢٦ وعائلات الخليج تفضِّل زواج البنات من أقربائهن، لعدة أسباب، في مقدمتها الحفاظ على «العزوة»، والحرص على ثروات العائلة إن كانت ميسورة ماديًّا، وزيادة صلة الرحم، وترابط العائلة وتماسكها؛ واقع مشابه لما يحياه مجتمعنا المصري في الريف، والصعيد بخاصة. وقد أفرز ذلك التقليد نتائجه الإيجابية، ونتائجه السلبية أيضًا … فابن العم يُفرض على ابنة عمه، بحيث لا يحق لها أن تتزوج غيره. وكان بعض الشبان يرى أنه «يملك بنت عمِّه، مثلما يملك الريال في جيبه»، بمعنى أنه أحق إنسان بها، ومن ثَم فهو يملك أن «يحيِّرها» أي يمنعها من الزواج من غيره، ويتركها دون زواج إذا شاء.٢٧ أما إذا لم يتوافر وجود ابن العم أو القريب، فإن الفتاة ينبغي أن تتزوج شخصًا ينتمي إلى أسرة أصيلة النسب والحسب. وعمومًا، فقد كان الزواج يتم دون مشورة الفتاة، ورغم إرادتها، وتفاجأ به في أغلب الأحيان، كذلك تُفاجأ بشخصية «العريس»، ولا تعرفه، لأن هذا كان يُعد عيبًا.٢٨ ومع أن القانون الكويتي يقرُّ حقَّ المرأة في الزواج ممن تختار، فإن قانون الأحوال الشخصية ينص على أنه لا ينعقد نكاح البكر والثيب الصغيرة ومن في حكمها إلَّا بإذن أبيها أو جدَّها.٢٩ وبعض الآباء يعتبِر مغالاته في تقدير مهر ابنته تقييمًا وتقديرًا للفتاة، ولأسرتها (تقول الفتاة لأمها: «آه لو تعلمين يا أمي أن الزواج عند البعض واجهة اجتماعية فقط» ليلى محمد الصالح، الزواج ولكن، عطر الليل الباقي). وقد أدى ارتفاع المهور إلى العديد من المشكلات، في مقدمتها: إحجام الشباب عن الزواج، أو تعرضه لاضطراباتٍ مالية يعاني تأثيراتها إلى ما بعد الزواج، أو لجوئه إلى الزواج من غير الوطنيات كوسيلة للهروب من ارتفاع مهر الفتاة الخليجية!
وكان التوجُّه القبلي التقليدي في مجتمع البحرين، سُنَّة وشيعة، مسئولًا عن الأوضاع المتخلفة التي واجهتها النساء في المناطق الريفية.٣٠
إن الأب هو المسئول — بصورة كاملة — عن إناث الأسرة، بصرف النظر عن عامل السن. الأنثى — في التركيب العائلي الخليجي — كائن غير قادر على الاستقلالية، بحكم مواصفاته الذاتية، فلا يحق للأنثى اتخاذ أي قرار خاص بها، بصرف النظر عن جسامته أو تفاهته؛ من حق الأب أن يتخذ أيَّ قرار بالنيابة عن الأنثى، ودون الرجوع إليها.٣١ هو الذي يرعى، ويوجِّه، ويأمر، ويمنح، ويمنع، ويوافق، مسئوليته كاملة بصرف النظر عن أي شيء؛ فالأنثى — في التركيب العائلي، كما تقول نورة الفلاح — كائن غير قادر على الاستقلال بحكم مواصفاته الذاتية؛ بحيث لا يحق للأنثى أن تتخذ قرارًا يخصُّها، وللأب الحق في أن يتخذ قرارًا بشأنها نيابة عنها، ودون استشارتها.٣٢ الأب — كما أشرنا — هو الذي يختار لابنته زوجها، وهو الذي يرى إن كانت الزيجة طيبة، فيسكت عن المقابل الذي تراه الابنة، أو يجد في الزيجة ما يدعوه إلى إنهائها، حتى لو كان للابنة رأيها المغاير. إنه هو الذي يعرف، ومعرفته هي التي تملي القرار، وعلى الجميع أن يخضعوا لهذا القرار خضوعًا أعمى، كما وصف نجيب محفوظ شخصيته الشهيرة أحمد عبد الجواد.
وتبين قصة فاطمة محمد الكعبي مجرد تساؤل عن مأساة تزويج الفتاة تقليديًّا، أي أن أهلها يزوِّجونها بمن لم تكن بينه وبينها صلة من قبل. الفتاة، العروس، تنظر إلى ما حولها، تتأمل، وتقارن، وتسترجع ما كان، وما تحياه في ليلة عرسها: «وينام بجانبي، قريبًا جدًّا مني، رجلٌ قد انحسر اللحاف عن صدره، استطعت في بقايا الضوء الواهن أن أتبيَّن ملامحه، وجهه، نثار العشب الأسود على صدره. رجل بهذه الملامح، لا أذكر أن له صورة في ذاكرتي خلال طفولتي أو صباي، لم أره من قبل، لا أعرفه؛ إذ لا يتعدَّى عمر وجوده في حياتي الساعات القليلة، ينام بهدوء دون حراك. أنفاسه فقط هي القريبة من رقبتي، تتماس مع حيرتي برفقٍ، وثمة سعادة تشع من تقاسيمه، وتشجعني على أن أمد يدي المرتعشة لتلمس وجهه وتعرف تفاصيله، لكنني ذعرت فجأة، وقد تصلَّبت يدي قريبًا من كتفه حينما فتح عينيه. كانت الابتسامة إياها لا تزال تطل من وجهه، ويده تقترب مني ببطء، وقبل أن يلمسني جذبت اللحاف إليَّ بهلعٍ، ودسست فيه وجهي المضطرب، وما إن غمرتني الظلمة التي أسدلها اللحاف عليَّ حتى تساءلت، ودقات قلبي تطرق سمعي بعنفٍ: من هذا الرجل؟!»٣٣ الرجل، الزوج — هنا — هو التعبير عن المجتمع التقليدي الذي يفرض على الفتاة زواجًا تقليديًّا، وما عليها إلا الرضوخ لإرادة الأسرة، العائلة، المجتمع!
العادة — أو هذا ما تفرضه الطبيعة الإنسانية — أن تبكي المرأة زوجها الراحل، لكن الزوجة في قصة عائشة الزعابي ذات ليلة تشعر — بموت زوجها — أن حياة السجن قد انتهت، وأن عليها تعويض القسوة والظلم، والانطلاق إلى دنيا جديدة أكثر حرية وطمأنينة وأمنًا.٣٤ المرأة تنعى الرجل بعد وفاته، بنعي أحلامها المجهَضة؛ الأحلام التي وأدها بتقدُّم عمره، وبإرادته وظلمه وتعسفه: «ها هي أنفاسك — بعد سنوات من وفاتك — لا تزال تخنق المكان. أأنت اخترت لها أن تبقى لتبالغ في حرث حلمي كلما غفا؟ وهل ستدرك، وأنت في قبرك، أية امرأة هشَّة كغيمة قُتلَت في سجنٍ باتساع بشاعتك، لا صوت فيه سوى هسهسة العناكب.»٣٥

وعلى الرغم من الرأي الذي وجد في تحديث البحرين السريع — وهذا مجرد مثل — باعثًا على تآكل ملامح المجتمع المطبوعة بسِمة حكم الأب، فإن بعض الأقلام تصِف المدن الخليجية — حتى الآن — بأنها مدن للرجال؛ المرأة لا تظهر، وإذا ظهرت، فمن وراء نقاب، خيمة متحركة لا تبين عن ملامحها لأحدٍ.

ومع أن وضع المرأة في البحرين يتميز بما لا يُقاس بأوضاع المرأة في أقطار الخليج الأخرى (في أواسط الخمسينيات، أحرق بعض فتيات البحرين عباءاتهن احتجاجًا على الحجاب!) فإن إحدى الدراسات تؤكد أن المرأة البحرينية لم تحصل — بعدُ — على الاستقلال الكامل «فهي ما زالت تعاني التبعية، وما زالت هناك ميادين يسودها الفصل بين الرجال والنساء، وما زالت فئات من المجتمع تنظر إلى الاختلاط في العمل على أنه شيء يجب محاربته.»٣٦

المرأة في الخليج تُوصَف بأنها «مخلوق ضعيف يحتاج دومًا إلى الوصاية وإشراف الآخرين.»

لكن؛ ألا ينسحب ذلك الوصف على المرأة العربية عمومًا؟

وعلى الرغم من ذلك الرأي الذي يتسم بتعميمٍ خاطئ، فإن المرأة الخليجية تمارس مسئوليات متعددة على مستوى الحياة الأسرية، والحياة العامة. ثمة الفتاة التي يموت أبوها، فيلقي على كاهلها عبئًا ثقيلًا لا سبيل إلى الفكاك منه «أمي وإخوتي سرقوا مني وقتي، فوجدت نفسي وسط معمعة الحياة، غضة، هشة العود، نقية الفؤاد، أتحمَّل مسئولية كبيرة.»٣٧ واتساقًا مع هذا المعنى، تقول المرأة: «للمرأة اليوم مكانة وكفاءة وقدرة، كفى حلمًا بالماضي، ذل، وانتهاك لشخصيتها المسيرة والمجردة، هي لم تكن تملك شيئًا، حتى حريتها لا تملكها، كل شيء بيد الرجال. القانون معكم، والناس تقف إلى صفكم، وأنتم — بسيوفكم — تسلطون عليها الظلم والقهر. تغيَّر الأمر؛ اليوم المرأة لها دور اجتماعي، تتحمَّل المسئوليات بجدارتها، تعتمد على ذاتها، تحترم وجودها، وتفرض احترامها على الجميع.»٣٨
وفي قصة الشك يتخلَّى الشاب عن كل خططه للإيقاع بالفتاة، بعد أن تبيَّن أنها تختلف عن الصورة التي رسمها لها — ولكل النساء — في ذهنه «أعلم أنكِ امرأة مستقلة، تكافح من أجل استقلالها المادي وحرية أفكارها، ولربما جئتك بمخططٍ دنيء، لكنك الآن كل شيء في قلبي، الأقرب إلى روحي.»٣٩ أكدت الفتاة حريتها، استقلالها، لم تعد تلك السمكة التي يجيد الصياد التقاطها بالطعم. وكان على الشاب — في المقابل — أن يحترم إرادتها التي لم يكن يقدِّرها. ولعل تلك الاستقلالية تتجه إلى أفقٍ غير مألوفٍ، في محاولة الراوية في قصة أنا وهو وهو أن تبدأ بالاقتراب، لتبديل العادة الأزلية بأن يكون هو المبادِر دومًا «أنا بالتحديد أخرج عن المألوف والدارج من الأعراف، وهو بامتناعه — أحيانًا — يفتح شهيتي إلى الفعل.»٤٠

ولا شك أن توالي الأعوام حرَّك ما ران من استاتيكية، حدث التلاقي بين المسارات الرجالية والنسوية، وظل صوت المرأة على ارتفاعه، وتكثَّف وجود المرأة في حركة المجتمع، من خلال المشاركة في العمل العام سواء الوظيفة أو الأنشطة الاجتماعية. وفي ١٩٧١م، انطلقت في المجلس النيابي الثالث أول دعوة لإعطاء المرأة حقوقها السياسية التي وهبها لها الدستور، وإن أرجأت الظروف المجتمعية القائمة حينذاك إعطاءها تلك الحقوق.

•••

اللافت أن الهم السياسي، وليس الهم الاجتماعي وحده، يسيطر على الكثير من الإبداعات الخليجية.

تبيَّن تأثيرات العمالة الوافدة على المجتمع الخليجي في العديد من الإبداعات، كأن ينشئ الزوج علاقة مع الخادمة،٤١ أو يمارس الشذوذ مع البواب الشاب، الأجنبي.٤٢ مع ذلك، فإنه من السهل توجيه الاتهام إلى المرأة بالخيانة. الزوج يعود إلى البيت، فلا يجد زوجته، ويطول انتظاره، ويزيد شكُّه، ثم يفاجأ — بعد أن يمضي في تصورات الشك إلى مداها — أنها تنتظره في بيت عائلتها، وكانا قد اتفقا على أن تسبقه إلى هناك، ثم نسي الزوج الأمر، وتحركت الشكوك في داخله بتأثير علاقتهما في فترة ما قبل الزواج!٤٣
في قصص عالية شعيب، نتعرَّف على الأنثى المتمردة على الأوضاع الاجتماعية، وعلى الإطار الذي يصرُّ المجتمع على أن يضعها فيه. في قصة بلا وجه «في غرفتي، شتمت نفسي لأني امرأة، وأمي لأنها امرأة، وكرهتها هي لأنها امرأة، وغرزت الأسئلة بحقدٍ في السماء الهادئة في الأعلى، ونمتُ وأنا مؤمنة بأنه خلقها فقط لتلمِّع حذاء رجل بلسانها وجبهتها وصدرها، وحين يموت يرسم لها قبرها على الفراش ويذهب.»٤٤ وفي قصة امرأة تتكوَّن تنمو مشاعر الطفلة/الأنثى، مقابلًا للمعاملة المتميزة التي يحصل عليها شقيقها الطفل/الذكر، وتسأل أمها، ذات يوم: كيف أكون أنا بنتًا وعبد الله ولدًا؟! وتنهرها الأم، فتسأل: لماذا لا تحبينني مثل عبد الله؟! ويكبر الشقيقان، وتظل المسافة في تباعد، حرية الذكر مقابلًا لعبودية الأنثى، سواء في المراهقة، أو بعد الزواج، أو عند ممارسة الأمومة أو الأبوة.٤٥ وفي قصة ليلة الاقتراع لليلى محمد صالح، تبين المرأة عن متابعة ملحَّة لنتائج انتخابات مجلس الأمة الكويتي، وفي يوميات مدينة جريحة تعاني المرأة حزنًا، مقابلًا لما تعانيه بيروت في أحداث الحرب الأهلية.

وإذا كان الشرع قد أباح تعدُّد الزوجات بضرورة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً، فإن إحدى مشكلات المجتمعات العربية هي تعدُّد الزوجات، الرخصة التي يسيء الرجل استخدامها، فيخترع المبررات التي أقدم — من خلالها — على تعدد زيجاته.

وقد عانت الزوجة (قصة للجريدة للكويتية ليلى محمد الصالح) شكًّا في زوجها، وأنه يخونها مع قريبته خولة. وتعود الزوجة — ذات يوم — إلى البيت، وتخبرها الخادمة أن الزوج في حجرة مكتبه. تتجه إلى حجرة المكتب، فتجد الباب مغلقًا، والنور — في الداخل — مطفأ. تهم الزوجة لطيفة بفتح الباب، لكنها تتراجع حين تسمع حوارًا بين زوجها وقريبته. وكان الحوار — من جانب الزوج — في الحب والسعادة والأمل. ويصعب على الزوجة أن تمسك أعصابها؛ تدفع الباب بقوة، وتضيء النور، لتفاجأ بزوجها واقفًا وحده، وابتسامة تعلو شفتيه. يسألها: متى عدت إلى البيت؟ تهمل السؤال، وتتهمه بالخيانة، وتمسح بعينها المكان، فلا تجد خولة، ولا أي أحد، سوى الزوج الواقف مبتسمًا أمامها، ويخبرها الزوج — في نبرة هادئة لا تخلو من لوم — أنه وجد نفسه وحيدًا في البيت، فتشاغل بترديد حوار قصته الجديدة — الزوج أديب — قبل أن يبعث به إلى الجريدة، وتشعر لطيفة بالارتباك والأسف، وتحاول الاعتذار، لكن سبقها دموعها وحضن الزوج!
الأسرة الكويتية — في تقدير عبد اللطيف الأرناءوط — هي حجر الزاوية في البنية القصصية عند ليلى الصالح «الزواج مؤسسة مقدسة، ورباط أساسه الحب، حب يبدأ عذبًا وجارفًا في بواكير هذا الرباط الزوجي، ثم يتعرض للمنغصات التي تهدده، وتأتي بسبب ظروف اجتماعية قاهرة فُرضَت على الزوجين.»٤٦ قصص ليلى الصالح «شهادات حية عبر تاريخ العلاقة بين المرأة والرجل في المجتمع الشرقي، فقد بدا أنه مارس سلطته عليها، واستعبدها، وحجَّمها، وضيَّق عليها، وحدَّ من أثرها الفاعل في الحياة، ونظره إليها على أنها سلعة، ووسيلة لذة له، ولم يرحم إنسانيتها.»٤٧ وفي المقابل، فإن المرأة تريد «علاقة مبنية على التفاهم والمودة الصالحة.»٤٨
استمرارًا للنظرة القديمة، والآنية، يحرص الزوج (قصة الجفاف لفاطمة العلي) على أن تكون زوجه خارج إطار الحياة الاجتماعية، لا ترافقه إلى أي مكان، ولا تتصل حتى بالأقربين منها، حتى استحالت شيئًا مما يملكه الزوج في بيته، لا صداقات، ولا رأي يناقش أو يعارض، وبدا الرجل هو الزوج والأسرة معًا، لا أحد يراها معه، ومن كانوا يعرفونه، نسَوا تمامًا أنهم كانوا يعرفونها وتعرفهم، وعلى حد تعبير الفنانة، فقد سقطت من ذاكرة الحياة العامة، لأنه «أراد أن يكون الصورة الوحيدة البراقة في الإطار العائلي.»٤٩ ولعلَّنا نذكر الأستاذ بهيج في قصة يوسف إدريس الستارة، كان مثلًا للزوج المثقف الذي قرأ، وسافر، وآمن بالمساواة، وديمقراطية الأجناس والأنواع، واستقلال المرأة، وحقِّها في العمل، واختيار المهنة، والزواج … لكنه — مثل غيره من الأزواج — يحرص على أن يبعد زوجته عما يدفعها إلى الزلل، فإذا أراد دخول السينما اختار مقعدين يجاور أحدهما الممر لتجلس فيه، وإذا سافر القطار حرص على أن يكون الديوان خاليًا، أو — في الأقل — ركابه من العجائز أو النساء، وإذا انتقل إلى مسكن جديد عنى — أولًا — بألَّا تكون نوافذه «مجروحة»، بمعنى ألا تقتحمها نظرات الجيران!٥٠
ورغم النجاحات التي بلغتها المرأة العربية والخليجية بعامة، فإن المرأة الخليجية (تاء مربوطة) تفاجأ بأن المقعد الذي حجزته لنفسها في رحلة عودتها بالطائرة إلى وطنها، قد خصَّص للرجال، وأن الاختلاط ممنوع، وتدفع المرأة الكثيرَ من مشاعرها الإنسانية وهي تترك المقعد، امتثالًا للأوامر الذكورية المتسلطة!
أما قصة الثالثة آه لفاطمة العلي فهي إدانة فنية لظاهرة تعدد الزوجات. الرجل يجد في الزواج من أخرى، وربما من ثالثة ورابعة، حقًّا كفله الشرع، بينما تجد المرأة أن اقتران زوجها بثانية إهانة لها على نحوٍ ما.
وقد غادرت الفتاة بلدها، وهي تعاني الكبت، وتسلُّط الأقربين والمجتمع، والعقد النفسية، ومشاعر السلب، وحاولت — في البلد الذي سافرت إليه — أن تحصل على أكبر قدرٍ من متع الحياة، قبل أن تعود إلى بلدها.٥١
وتبلغ المأساة إحدى ذراها — فالذروات عديدة! — حين يصرُّ الزوج على نظرة الاحتقار الأحادية في تعامله مع زوجته «الحمد لله عرفت مقامك، خادمة تؤدي مهمة زوجك، وما لك عند غير.» وتضيق الزوجة بسطوة زوجها، فتفكر في قتله!٥٢ في رواية نوم الخلاص لأندريه شديد (١٩٤٨م) تفرض العائلة على سامية زوجًا قاسيًا، تحيا معه دوامة من المشكلات المتوالية، تنتهي بقتل الزوجة لزوجها. أحداث رواية أندريه شديد في ١٩٤٨م — أي قبل أحداث قصة فاطمة العلي — زمنيًّا — بحوالي نصف قرن. حدثت تطورات في وضع المرأة على مستوى الوطن العربي، والعالم، لكن التأثيرات السلبية ظلت مثل الضبابية التي تغلِّف الكائنات فيما قبل الفجر!
ولعلِّي أعتبر قصة فاطمة العلي عروس لم تظهر بعد تعبيرًا عن إحدى الذروات في العلاقة بين الرجل والمرأة. لاحظت الزوجة أنها لم تعُد في حياة زوجها إلا دمية، أو محظية. إرادته هي إرادتها، أو أن إرادته أخضعت إرادتها تمامًا. إنه يحتاج إلى المرأة التي تشرِّفه في المجتمع، وإن كان دورها الأساس داخل البيت.٥٣ تنازلت الزوجة عن حق الأنثى بعد أسبوعٍ واحدٍ من الزواج، لم يعُد الزوج يهتم بها، هي مجرد محظية يأخذها إلى أي مكان، ثم تصارح الزوجة زوجها: إذا كنت زوجتك، من حقي أن أستريح عند أهلي، وإذا كنت خادمة من حقي أن أترك الشغل. ثم لم يعُد أمام الزوجة — للتخلص من سطوة زوجها، من سلطته القاهرة — إلَّا أن تستسلم لمناوشات إحساسها بالظلم، فتفكر في قتله! جاوزت الزوجة حدَّ التمرد على الزوج بخيانته، إلى محاولة التفكير في قتله، التحرر — بالقتل — من العبودية وخيانة الزوج!
الأمر نفسه — تقريبًا، وإن اختلف الفعل — في قصة يا نوم: يتحدث الزوج عن الحياة المترفة التي وفَّرها لزوجته: فيلا الأحلام التي تقطنها، وسيارة آخر موديل، ورحلات باريس، والخزانة التي تشتري برج الكويت.

تقاطعه الزوجة: هذا يكفي، فأنا أعرف ما عندي، أنا الآن أعرف أكثر ما ينقصني.

قال الزوج: ما أظن ينقصك أي شيء … لكن النساء خُلقن من ضلع أعوج!

إنها الزوجة الدمية، المحظية، الوعاء الذي يفرغ فيه الزوج شهوته، ثم ما يلبث أن يتناساه، فهي تترك نفسها بين يديه، تحدق في السقف، وتعد عشرة، عشرين، تتسلَّى باستعادة مشاهد من حياتها، تتعزَّى بها عن لحظات العبث الذكوري بجسدها، حتى تتحقق الرجفة التي يخلد بعدها الزوج إلى النوم. وفي قصة قصب السكر اختصرت البطلة قناعاتها في أن «الشرق لا يتعاطى الحياة إلا بنصفها الأسفل.»٥٤ ويجد الراوي (القتلة) في ختان الفتيات باعثًا لبحث الرجل عن علاقات خارج البيت، الماشطة تجري على موضع اللذة بالموسى، تصبح المرأة/الزوجة كومة جليد، لا تسترد أنوثتها — رغم كل المحاولات التي يبذلها الزوج — إلا في النهاية، المستحيل أن يلتقي الزوجان في ختامٍ سعيدٍ.٥٥

هوامش

(١) فوزية رشيد، القلق السري، ٢٠٠.
(٢) أمينة عبد الله، سلمة مطر سيف، مريم جمعة فرج، النشيد، قصص من الإمارات.
(٣) مجلة الكويت، العدد ٢٢٠.
(٤) النساء والنوع في الشرق الأوسط الحديث، ١٢٠.
(٥) المرجع السابق، ١٢٠.
(٦) النساء في الفكر السياسي الغربي، ١٥٢.
(٧) الهدف، ١٣ / ٧ / ٢٠٠٢م.
(٨) اليمامة السعودية، ١١ / ١ / ٢٠٠٣م.
(٩) فوزية رشيد، القلق السري.
(١٠) ليلى محمد الصالح، الزواج ولكن، عطر الليل الباقي.
(١١) أمينة بو شهاب، هياج، كلنا … كلنا نحب البحر، مجموعة مشتركة.
(١٢) أمينة بو شهاب، هياج.
(١٣) وفاء الحمدان، الطيران بجناحٍ واحدٍ، الكويت ١٩٨٩م.
(١٤) هدى العطاس، لأنها، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، ٢٠١.
(١٥) عالية شعيب، بلا وجه، ٢٩٣.
(١٦) مجلة «الموقف الأدبي»، العدد ٤٠٢.
(١٧) محمد سعود العجمي، الشرخ، شركة الربيعان للنشر والتوزيع، ٣٢.
(١٨) هدى العطاس، لأنها.
(١٩) الحياة، ١٢ / ٦ / ٢٠٠٤م.
(٢٠) من بيان إلى الأمة الإسلامية، وقَّعه ١٣٠ من علماء الدين السعوديين، القاهرة، ٢٢ / ٦ /  ٢٠٠٤م.
(٢١) جريدة «القاهرة»، ٢٢ / ٦ / ٢٠٠٤م.
(٢٢) فاطمة يوسف العلي، رسالة ماجستير غير منشورة.
(٢٣) المرجع السابق.
(٢٤) المرجع السابق.
(٢٥) ثريا البقصمي، العرق الأسود، الكويت، ١٣.
(٢٦) دراسات عربية وإسلامية، العدد ٣، ١٤٤.
(٢٧) المرجع السابق، ١٤٢.
(٢٨) فاروق محمد العادلي، الثبات والتغيُّر في عادات القطريين.
(٢٩) عثمان عبد الملك، أوضاع المرأة في الكويت والخليج العربي، ٧٨.
(٣٠) النساء والنوع في الشرق الأوسط الحديث، ١٢١.
(٣١) نورة الفلاح، التغيير الاجتماعي في الدول المنتِجة للنفط، مجتمع الكويت، حولية كلية الآداب، جامعة الكويت ١٩٨٩م، ٦٣.
(٣٢) المصدر السابق، ٦٣.
(٣٣) فاطمة محمد الكعبي، مجرد تساؤل، مواء امرأة، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.
(٣٤) عائشة الزعابي، ذات ليلة، المخاض الأخير.
(٣٥) فاطمة محمد الكعبي، مجرد تساؤل.
(٣٦) على حسن تقي، أوضاع المرأة في الكويت والخليج العربي، العربي ١٨١.
(٣٧) ليلى محمد الصالح، إيقاعات الصمت المر، لقاء في موسم الورد، دار قرطاس للنشر.
(٣٨) ليلى محمد الصالح، الزواج ولكن، عطر الليل الباقي.
(٣٩) فاطمة العلي، الشك، البيان، العددان ٣٨٤-٣٨٥.
(٤٠) فاطمة العلي، تاء مربوطة، ٤١.
(٤١) وليد الرجيب، الشمس والأسفلت، إرادة المعبود في حال أبي جاسم ذي الدخل المحدود.
(٤٢) عالية شعيب، بلا وجه.
(٤٣) محمد سعود العجمي، الشرخ.
(٤٤) عالية شعيب، بلا وجه.
(٤٥) عالية شعيب، امرأة تتكوَّن، بلا وجه.
(٤٦) البيان، العددان ٣٨٤-٣٨٥، يوليو-أغسطس، ٢٠٠٢م.
(٤٧) المرجع السابق.
(٤٨) ليلى محمد الصالح، إيقاعات الصمت المر، لقاء في موسم الورد، دار قرطاس للنشر.
(٤٩) الجفاف.
(٥٠) يوسف إدريس، الستارة، آخر الدنيا، مكتبة مصر.
(٥١) فاطمة العلي: قصة البومة، أو قصة العودة من شهر العسل.
(٥٢) فاطمة العلي، عروس لم تظهر بعد.
(٥٣) النساء والنوع في الشرق الأوسط الحديث، ١٤٦.
(٥٤) فاطمة العلي، قصب السكر، لسميرة وأخواتها.
(٥٥) إدريس علي، القتلة، واحد ضد الجميع، مركز الحضارة العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤