الوجود

تمهيد

الوجود مادَّة متحركة في حيِّز «مكان».

المكان عرض أوَّلي عيَّنته المادة.

والزمان عرض ثانوي، هو مقايسة المكان بالحركة.١

فكأن الوجود مبني من ثلاثة عناصر: المادة، والحركة، «الزمان»، والمكان. هذه العناصر مُختلفة الطبع كل الاختلاف، واختلافها يهيئ تنظيم البناء وتنويعه.

انحلال كتل الكون إلى ذرات أولية مُتماثلة — فوتونات؛ أي: ضويئات — يدل على أن أصل المادة «الهيولي» شكل واحد متعدد الذرات أو الذريرات؛ ذرة واحدة لا تبني كونًا غير نفسها.

ذرات عديدة متماثلة تبني كونًا واحدًا بسيطًا لا تمايز بين أجزائه، ولكن حدوث حركة الذرَّات في المكان يؤدي إلى تنويع الأبنية الكونية؛ فالكون على صوره العديدة المختلفة الأشكال مُكون من هذا الثالوث: المادة والحركة والحيِّز.

هل يكفي لبناء الكون مجرد وجود هذا الثالوث؟ نرى تشابهًا في صور الكون وأشكاله، ثم نرى ارتباطًا بين أجزائه وجماعاته؛ فتُقيم هذه الرؤية في ذهننا وجودًا آخر معنويًّا لهذا الارتباط وذاك التشابه، وهو وجود نظام تُصاغ بمقتضاه صور الكون وأشكاله — هو هندسة الكون.

هذا النظام هو تكافل عناصر الثالوث المذكور ببناء الكون على أساليب تضمن ارتباط أجزائه والتدرُّج في تطوراته درجات متصل بعضها ببعض.

وهنا تلوح في بالنا الأمور التالية:
  • (١)

    هندسة النظام تستلزم عملية تنظيم.

  • (٢)

    التنظيم يستلزم وجود أعضاء نزوعة للنظام، تنتظم في جسم.

  • (٣)

    وجود الأعضاء يستلزم أن تكون ذات شخصيات — ذاتيات.

  • (٤)

    النظام يستلزم وجود منظِّم.

فهندسة الكون — أي: نظامه — تقتضي وجود أعضاء نظامية وتنظيم ومنظِّم، فأين نجد هذه الثلاثة؟

•••

الأعضاء النظامية هي عناصر الثالوث المذكورة آنفًا التي لا يُمكن وجود واحد منها مستقلًّا عن الآخرين: المادة وُجدت متحركة في حيِّز؛ فالعناصر المذكورة متوقفة بعضها على بعض، وفناء أي واحد منها فناءٌ لجميعها.

والتنظيم ظاهر في أن جميع أجزاء الكون سائرة على قانون أنظمة واحد، نافٍ للفوضى نفيًا مطلقًا.

أما المنظم فهو ما يتعذَّر إدراكه، هل هو طبيعة في ذرات المادة نفسها؛ أو هو فاعل مُستقل عنها؟

المادة نفسها تثبت وجودها لعقليتنا بنفسها، وتثبت أيضًا أنها هي منشأ عقليتنا؛ لأن عقليتنا منفعلة بها. وأما الفاعل المستقل فليس ما يثبت وجوده لنا، وإنما افترضناه؛ لأنه تعذَّر علينا أن نفهم كيف يمكن أن يكون المنظِّم طبيعةً في ذرَّات المادة.

فإذا قلنا: إنَّ المنظِّم الحرَّ الإرادة هو طبيعة في ذرَّات المادة نفسها غير مستقل عنها تعددت الإرادات الحرَّة بتعدد الذرات؛ فإنْ اتفقت كلها على نظام واحد استوى كونها حرَّة وكونها غير حرَّة؛ لأن لا معنى للحرية إلا بوجودها إلى جنب قيد، وإن استقلَّ كل منظم بمقتضى حريته كان شكل الوجود فوضى ولا نظام. وإن افترضنا أن إرادات الذرَّات مُتماثلة فيما تريد، ولذلك اتفقت على نظام واحد، قام الشك في حريتها؛ لأننا لا نتيقن أنها حرَّة إلا باختلاف ما تُريده، ولذلك يتعذَّر علينا فهم أن ذرات المادة نفسها نظمت نفسها، كما أنه يتعذر علينا أن نفهم أنها أوجدت نفسها، أو خلقت نفسها.

وإذا افترضنا أن المنظم مستقل عن الثالوث المادي الذي ذكرناه، وأنه فاعل فيه بحسب مشيئته، فكأننا نقلنا مُشكلة الخلق من المادة إلى منظم المادة، وتبقى المُشكلة مشكلة.

فإذن، مسألة السببية Causation تقف هنا حيث لا نستطيع أن نستكشف مسبِّبًا للوجود المادي ولا لنظامه، هنا يقف العقل عاجزًا؛ لأنه يستحيل عليه أن يفهم أكثر مما ينفعل به، وهو لا ينفعل بأكثر من فعل المادة نفسها فيه، لا يستطيع أن يتخطى إلى الفاعل البدائي — أي: الصلة الأولى — الذي يفعل فيها ويصوغها في نظامها.

العقل نتيجة تفاعلات مادية، كأنه ظاهرة من ظاهراتها، أو نوع حركة من حركاتها، فإذا توقفت أو تعطلت هذه الحركة انتفى العقل بتاتًا؛ فهو كالنور الصادر من الشمس، فإذا سكنت كل حركة في الشمس انقطع انبعاث النور؛ لذلك لا يستطيع العقل أن يستقل عن المادة وينفصل عنها، ويُقيم بذاته في مقام يستطيع منه أن يشرف على المادة ويتبين أصلها وفصلها.

إذن فمقدرة العقل في الإدراك محدودة ضمن دائرة ظاهرات المادة التي هو واحد منها؛ فيستحيل عليه أن يخرج من دائرة الظاهرات ويتغلغل في أعماق كنه الجوهر. هذا المستحيل هو أعظم المستحيلات على العقل البشري من ناحيته، وأبسط أسرار المادَّة المُحْجَبة من ناحيتها.

فمن ذلك نرى أنَّ العقل على عِظمه بين ظاهرات المادة، وعلى تعاليه فوقها للإشراف عليها — على الظاهرات؛ هو ضعيف جدًّا، وحقير وعاجز عن استكناه جوهر المادة، لا يستطيع في هذا الاستكناه إلا التكهُّن اعتمادًا على قوَّة الاستدلال والاستنتاج القابلة الخطأ.

•••

إذن فلكي نستطيع أن نجعل بدءًا للبحث — أي: أن نُعين النقطة لأول خطوة فيه — يجب أن نفترض فرضًا يتوسط بين الغرضين السابقين، وهو أنَّ النظام نفسُه عنصر من عناصر الوجود غير مستقل عنه، هو رابع العناصر الثلاثة التي رأيناها مواد البناء الأولية؛ أي: إن الوجود مبني من أربعة أشياء: المادة، الحركة، المكان، النظام. أعني أن سبب وجود النظام هو نفسه سبب وجود ذلك الثالوث سواءٌ أكان ذاتيًّا أم من فعل فاعل مستقل. إن الذي خلق الثلاثة خلق الرابع أيضًا، خلق أربعة لا ثلاثة فقط؛ فالوجود رابوع لا ثالوث.

•••

هنا يتجلى لنا سؤال ذو شأن عظيم: هل كان ممكنًا أن يتنظم الكون نظامًا آخر غير نظامه الحالي الذي نعرفه؟ أم إنه يستحيل أن يكون له نظام آخر غير هذا؟

إن كان الأمر الأول ممكنًا كان المنظم حرًّا — سواءٌ كان ذاتًا من خواص المادة أو مستقلًّا عنها — وقد اختار هذا الشكل من الأنظمة دون أشكال أخرى، ويحتمل أنه متى انتهى عمر هذا النظام يعود فينظم نظامًا آخر.

ولكن الظاهر لنا من سلسلة السببية؛ أي: سلسلة النظام التي كل حلقة منها سببٌ لحلقة أخرى بعدها؛ الظاهر لنا من هذه السلسلة أنه لا يحتمل أن يكون للكون إلا نظام واحد، وهو النظام الذي نعرفه له الآن، اللهمَّ إلَّا إذا كان ثمَّت منظم مستقل حر الإرادة في وسعه أن يجعل له نظامًا آخر لو شاء، وهو ما لا مبرر لافتراضه أكثر من المبرر لافتراض أن هذا الرابوع المادي موجود كما هو بنفسه.

وإذا كان ذاك الغرض لا يمتاز على هذا بشيء سوى أنه يزيد حلقةً في سلسلة السببية بلا داع، فالأفضل أن نبتدئ من فرض أن الوجود وُجِدَ مُهيَّئًا لهذا النظام. وبعبارة أخرى أقرب منالًا: إن المادة وُجِدَت متحركة، في حين أنها نزوعة إلى هذا النظام. النظام رابطة الثلاثة.

ولأننا لا نستطيع أن نتصوَّر نظامًا غير هذا، فهو إذن طبيعة في المادَّة نفسها أو سجية فيها.

١  في فصل «الزمكان» في كتابنا «هندسة الكون حسب ناموس النسبية» شرحٌ واف لنظريتي المكان والزمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤