الفصل التاسع

ترخيص مزاولة المهنة

كان القضاء على نظام النقابات الحرفية في القرون الوسطى خطوة أولية ضرورية في طريق النهوض بالحرية في العالم الغربي. كانت هذه الخطوة بمثابة مؤشر على انتصار الأفكار الليبرالية، وحازت على اعتراف واسع النطاق لدرجة أنه بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان باستطاعة الأفراد في بريطانيا والولايات المتحدة — وبدرجة أقل في القارة الأوربية — ممارسة أية حرفة أو مهنة يرغبون بها دون تصريح من أية هيئة حكومية أو شبه حكومية. بيد أنه في العقود الأخيرة، حدث تراجع؛ إذ ظهر اتجاه متنامي نحو حصر مهن بعينها في الأفراد الحاصلين على رخصة لممارستها تمنحها الدولة.

إن هذه القيود على حرية الأفراد في استخدام مواردهم كما يحلو لهم مهمة في حد ذاتها. علاوة على ذلك، تطرح هذه القيود نوعًا مختلفًا من المشكلات يمكن تطبيق المبادئ التي أوضحناها في الفصلين الأول والثاني عليه.

سأتناول في البداية المشكلة العامة ثم سأنتقل إلى مثال بعينه وهو القيود المفروضة على ممارسة مهنة الطب. يكمن سبب اختياري لمهنة الطب في أنه يبدو من الأفضل مناقشة الحجة الأقوى لفرض هذه القيود، فلن نتعلم الكثير إذا ناقشنا الحجج الواهية التي يمكن دحضها في سهولة. أظن أن معظم الناس — بل ومعظم الليبراليين أيضًا — يعتقدون أنه من الأفضل حصر ممارسة الطب في الأفراد الذين لديهم ترخيص من الدولة، وأتفق معهم في أن حجة ترخيص ممارسة المهن تكون في أقوى صورها مع مهنة الطب عن باقي المهن، غير أن النتائج التي سأصل إليها تفيد بأن المبادئ الليبرالية لا تبرر وجود ترخيص لممارسة المهن حتى في مجال الطب وأن نتائج منح الدولة لتراخيص ممارسة مهنة الطب غير مرغوبة من الناحية العملية.

(١) القيود الحكومية حاضرة في جميع الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها الأفراد

إن ترخيص مزاولة المهنة حالة خاصة في ظاهرة أعم وأوسع انتشارًا للغاية، ألا وهي المراسيم التي تقضي بعدم ممارسة الأفراد لأية أنشطة اقتصادية إلا بموجب شروط تضعها هيئة تشريعية بالدولة. وتقدم النقابات الحرفية بالقرون الوسطى مثالًا دقيقًا على النظام الصريح لتحديد الأفراد الذين ينبغي السماح لهم بممارسة مهن معينة، كذلك، فإن نظام الطوائف الاجتماعية الهندي مثال آخر، إلا أن القيود فُرِضَتْ بقوة الأعراف الاجتماعية العامة لا بقوة الحكومة الصريحة بدرجة كبيرة في نظام الطوائف الاجتماعية وبدرجة أقل في نظام النقابات الحرفية.

ومن الأفكار واسعة الانتشار عن نظام الطوائف الاجتماعية أن مهنة كل فرد تُحَدَّدُ كليةً بناءً على الطائفة التي ولد في كنفها. من الجلي لعالم اقتصاد أن هذا النظام ضرب من المستحيل، نظرًا لأنه يقضي بأن يتحدد التوزيع الصارم للأشخاص بين المهن كاملًا وفقًا لمعدلات المواليد وليس بظروف الطلب. ليست هذه الطريقة التي سار بها النظام بالطبع، فما حدث — وما زال يحدث إلى حد ما — أن عددًا محدودًا من الوظائف كان محفوظًا لأعضاء طائفة اجتماعية معينة، لكن لم يتبع كل فرد في تلك الطوائف تلك المهن؛ حيث كان هناك بضع مهن عامة — كالأعمال الزراعية العامة — التي يمكن لأفراد الطوائف الأخرى ممارستها، وأتاح ذلك التوفيق بين عدد الأفراد في المهن المختلفة وبين الطلب على خدماتهم.

وفي وقتنا الحاضر، فإن التعريفة الجمركية وقوانين التجارة العادلة وحصص الاستيراد وقيود النقابات التجارية على التوظيف وما إلى ذلك مثال على ظواهر مشابهة. وفي هذه الحالات كافة، تحدد السلطة الحكومية الشروط التي بموجبها يمكن لأفراد بعينهم ممارسة أنشطة خاصة، أي الشروط التي يسمح على أساسها لبعض الأفراد عقد اتفاقات مع أفراد آخرين. إن السمة المشتركة بين هذه الأمثلة، وكذلك ترخيص مزاولة المهنة، هي أن التشريع سُنَّ بالنيابة عن مجموعة منتجين. فبالنسبة لترخيص مزاولة المهنة، مجموعة المنتجين هم عامةً أهل المهنة الواحدة. وبالنسبة لباقي الأمثلة، من الممكن أن تنتج مجموعة سلعة بعينها وترغب في وجود تعريفة جمركية أو ترغب مجموعة من باعة التجزئة في الاحتماء من المنافسة مع المتاجر متعددة الفروع «المحتالة» أو مجموعة من منتجي النفط أو المزارعين أو العاملين في مجال الصلب.

إن ترخيص مزاولة المهنة شديد الانتشار الآن، وفقًا لوالتر جيلهورن، الذي خط بيده أفضل ما أعرف من الدراسات الاستقصائية المختصرة، حيث قال: «بحلول عام ١٩٥٢، صدرت تراخيص بموجب قوانين الولايات لأكثر من ٨٠ مهنة منفصلة قاصرة على «ملاك المشروعات»، كالمطاعم وشركات سيارات الأجرة. وإلى جانب قوانين الولايات هناك الكثير من القوانين المحلية، ناهيك عن القوانين التشريعية الفيدرالية التي تقضي بوجود ترخيص لممارسة مهن متنوعة مثل عمال الراديو وسماسرة المواشي. وفيما مضى في عام ١٩٣٨ وسعت ولاية نورث كارولاينا وحدها نطاق قانونها ليشمل ٦٠ مهنة. وربما لا يندهش المرء عندما يعرف أن قانون الولايات شمل الصيادلة والمحاسبين وأطباء الأسنان مثلما شمل إخْصَائيي الصحة وعلماء النفس وإخْصَائيي فحص المعادن والمهندسين المعماريين والأطباء البيطريين وأمناء المكتبات. لكن ما مقدار دهشة الفرد عندما يعرف بأنه صدرت تراخيص لممارسة مهن كعمال ماكينات درْس الحنطة وتجار نفايات التبغ؟ وماذا عن عمال فرز البيض ومدربي كلاب الإرشاد وعمال مكافحة الحشرات وبائعي اليخوت وإخصْائيي معالجة الأشجار وتهذيبها وحفاري الآبار وعمال تغطية الأسطح بالقرميد وزارعي البطاطس؟ وماذا عن أطباء علاج الشعر الزائد الذين يحصلون على ترخيص في ولاية كونيكتيكت؛ حيث يزيلون الشعر الزائد وقبيح المنظر بوقار يتلائم مع لقبهم الرنان؟»1 دائمًا ما يكون المبرر وراء الحجج — التي تسعى لإقناع الهيئات التشريعية بفرض أحكام الحصول على ترخيص لمزاولة المهنة تلك — هو ضرورة حماية الصالح العام. مع ذلك، نادرًا ما يأتي الضغط على الهيئة التشريعية لإصدار ترخيص لممارسة من أفراد المجتمع الذين تعرضوا للخداع أو الظلم على يد أفراد مهنة ما، بل على العكس، يأتي الضغط دائمًا من أفراد المهنة نفسها. ولا شك أن هم يدركون أكثر من الآخرين مدى استغلالهم للعملاء. وبذلك، ربما يكون بإمكانهم الإدعاء بأنهم أهل الخبرة.

وبالمثل، تتضمن الترتيبات الخاصة بالترخيص على نحو شبه دائم سيطرةَ من أفراد المهنة التي تصدر الترخيص لممارستها على مسألة إصدار التراخيص، وهذا أمر طبيعي تمامًا. فإذا كانت مهنة السباكة مقتصرة على أولئك الذين يملكون القدرة والمهارة الضرورية لتقديم خدمة جيدة لعملائهم، فمن الواضح أن السباكين فحسب هم القادرون على البت في من ينبغي إعطاؤه الترخيص. بالتالي، يتألف المجلس أو أية هيئة أخرى في الأغلب من السباكين أو الصيادلة أو الأطباء أو أيًّا كانت المهنة المراد استصدار ترخيص بممارستها.

يوضح جيلهورن أن «خمسة وسبعين في المائة من هيئات إصدار تراخيص مزاولة المهنة العاملة في هذا البلد اليوم تتألف من أشخاص حاصلين على ترخيص بممارسة مهنتهم. من الممكن أن يكون لدى هؤلاء الرجال والنساء — ومعظمهم موظفون يعملون بنظام الدوام الجزئي — مصلحة اقتصادية مباشرة في العديد من القرارات التي يتخدونها فيما يتعلق بشروط القبول وتحديد المعايير الواجب توافرها في من يستحقون الحصول على الرخصة. الأهم من ذلك أن هؤلاء الموظفين دائمًا ما يكونون ممثلين لجماعات منظمة في نطاق المهنة التي يعملون بها وعادة ما تعينهم تلك الجماعات كخطوة نحو وصولها لمنصب رئيس أو أي منصب آخر لا يتجاوز كونه منصبًا شكليًا فحسب. وغالبًا ما يتم الاستغناء عن الشكليات كلية، وتتولى الجمعية المهنية التعيين مباشرة؛ كما حدث على سبيل المثال مع عمال التحنيط في ولاية نورث كارولينا وأطباء الأسنان في ألاباما وعلماء النفس في فيرجينيا والأطباء في ميريلاند والمحامين في واشنطن.»2
بناءً على ذلك، كثيرًا ما يحدد إصدار تراخيص مزاولة المهنة في المقام الأول نوع التشريعات الخاصة بنظام النقابات الحرفية في العصور الوسطى التي توكل فيها الدولةُ السلطةَ إلى أفراد المهنة. من الناحية العملية ووفقا لحدود إدراك الفرد العادي، غالبًا ما تنطوي الاعتبارات — التي تؤخذ في الحسبان عند تحديد الافراد الذين يحصلون على الرخصة — على مشاكل غير مرتبطة مطلقًا بالكفاءة المهنية. وهذا الأمر لا يدعو إلى الدهشة؛ فإذا كان بضعة أفراد سيقررون ما إذا كان على أفراد آخرين ممارسة مهنة ما أم لا، فمن المحتمل أن تدخل كل أنواع الاعتبارات غير ذات صلة بالموضوع. وهذه الاعتبارات غير ذات الصلة ستحدد وفق السمات الشخصية لأفراد هيئة إصدار الترخيص والمناخ العام السائد في ذلك الوقت. ويشير جيلهورن إلى مدى الانتشار الذي كان عليه فرض قسم الولاء بالمهن المختلفة عندما كان الخوف من الدمار الشيوعي يجتاح البلاد؛ فكتب يقول: «يتطلب قانون تشريعي بولاية تكساس عام ١٩٥٢ من كل متقدم للحصول على رخصة ممارسة الصيدلة بأن يقسم بأنه «ليس عضوًا بالحزب الشيوعي أو منتسبًا إلى ذلك الحزب، وبأنه لا يؤمن ولا يؤيد أية جماعة أو منظمة أو تعلم أو تؤمن بالإطاحة بحكومة الولايات المتحدة بالقوة أو بأي وسائل غير شريعة أو غير دستورية، وبأنه ليس عضوًا بتلك الجماعات.» إن العلاقة بين هذا القسم من ناحية وبين الصحة العامة — التي وهي الشيء التي يحميها ظاهريًا استصدار التراخيص لممارسة مهنة الطب من ناحية أخرى — مبهمة بعض الشيء. وكذلك ليس من الواضح أساس المبرر الذي يتطلب من الملاكمين والمصارعين المحترفين بولاية إنديانا أن يقسموا على أنهم ليسوا مخربين … واجه معلم موسيقى بمدرسة إعدادية — أُجْبِرَ على أن يستقيل بعد أن اعْتُبِرَ شيوعيًا — صعوبة في أن يصبح عازف بيانو بمقاطعة كولومبيا لأنه كان في الواقع «ملتزمًا بالفكر الشيوعي» وكذلك لا يمكن للأطباء البيطريين في ولاية واشنطن إسعاف بقرة أو قطة مريضة ما لم يوقعوا أولًا على قسم عدم الانضمام إلى حزب شيوعي.»3
بقطع النظر عن موقف الفرد تجاه الشيوعية، إن العلاقة بين الشروط المفروضة والصفات التي يهدف الترخيص إلى ضمانها غير واقعية؛ فالمستوى الذي تصل إليه هذه الشروط أحيانا يكاد يصبح مثيرًا للسخرية، وقد يضفي المزيد من الاقتباسات مما كتب جيلهورن لمحةً من الترويح الفكاهي.4
من بين التشريعات المضحكة تلك التي صِيغِتْ للحلاقين، وهي مهنة لا بد من الحصول على ترخيص لممارستها في العديد من المناطق. إليك مثال من قانون أقرت محاكم ميريلاند بعدم صلاحيته، بالرغم من وجود نغمة مماثلة لنغمته في العديد من التشريعات التي أقرت ولايات أخرى صلاحيتها، «لقد شعرت المحكمة بالحزن وليس بالرضا بصدد القرار التشريعي الذي يقضي بضرورة تلقي الحلاقين المبتدئين دروسًا رسمية في «الأسس العلمية لفن الحلاقة والصحة العامة وعلم البكتريا والبنية النسيجية للشعر والبشرة والأظافر والعضلات والأعصاب وبنية الشعر والوجه والرقبة، وفي الكيمياء الأساسية فيما يتعلق بالتعقيم والتطهير، والأمراض الجلدية وأمراض والشعر والغدد والأظافر، إلى جانب قص الشعر وحلاقة الذقن وتصفيف الشعر والزينة وصبغ الشعر وتبييضه وتلوين خصلات الشعر.»5 هناك استشهاد آخر بمهنة الحلاقة: «من بين ثمانية عشر ولاية نموذجية شملتها دراسة عن التشريعات الخاصة بالحلاقة عام ١٩٢٩، لم تطالب أية ولاية منها ممن يتطلع للالتحاق بالمهنة بأن يكون متخرجًا من «كلية الحلاقة» مع أن التدريب كان ضروريًا فيها جميعًا. أما اليوم، تصر الولايات عامةً على أن يكون طالب الترخيص متخرجًا من جامعة الحلاقة التي تقدم ما لا يقل (وغالبًا أكثر) من ألف ساعة من التدريس في «المواد النظرية» كتعقيم الأدوات ولا بد من أن يتبع ذلك فترة تدريب على المهنة.»6 إنني متيقن من أن هذه الاقتباسات توضح أن مشكلة إصدار ترخيص لممارسة المهن شيء يتجاوز كونه مجرد مثال تافه على مشكلة تدخل الولاية، والتي هي فعلًا انتهاك خطير في هذه البلاد لحرية الأفراد في ممارسة نشاط من اختيارهم، وتهدد هذه المشكلة بأن تصبح أكثر خطورة مع الضغط المستمر على الهيئات التشريعية لتوسيع نطاقها.
قبل مناقشة مزايا وعيوب إصدار ترخيص لمزاولة المهنة، من الجدير بالملاحظة سبب اشتراط مثل هذا الترخيص والمشكلة السياسية العامة التي يكشف عنها الميل لسن مثل ذلك التشريع الخاص. إن إقرار مختلف الهيئات التشريعية بالولايات بأنه لا بد من أن توافق لجنة من الحلاقين على ممارسة حلاقين آخرين للمهنة ليس في الواقع بدليل مقنع على وجود مصلحة عامة في تطبيق ذلك التشريع. إن التفسير مختلف بالطبع؛ فهو يفيد بأن مجموعة المنتجين تميل إلى أن تكون على درجة أعلى من التركيز السياسي من مجموعة المستهلكين. هذه نقطة واضحة غالبًا ما يشار إليها مع أنه لا يمكن المبالغة في التأكيد على أهميتها.7 إن كل فرد منا منتج ومستهلك في الوقت نفسه، ومع ذلك، نحن أكثر تخصصًا ونكرس جزءًا كبيرًا من اهتمامنا لنشاطنا كمنتجين أكثر من مستهلكين؛ إذ نستهلك آلاف — إن لم يكن ملايين — الأشياء فعليًّا، والنتيجة هي أن أرباب المهنة الواحدة — كالحلاقين أو الأطباء — لديهم جميعًا اهتمام شديد بالمشكلات الخاصة بهذه المهنة ولديهم استعداد لتكريس طاقة كبيرة لفعل شيء حيالها. على الجانب الآخر، إن أولئك الذين لا يذهبون منا للحلاقين مطلقًا نادرًا ما يحلقون رؤوسهم وينفقون قدرًا ضئيلًا من دخولهم في محلات الحلاقة. فاهتمامنا عرضي وليس مستمرًا، فمن الصعب أن يكون لدى أحد منا رغبة في تكريس وقته للذهاب إلى هيئة تشريعية كي يشهد بظلم تقييد ممارسة مهنة الحلاقة. تنطبق النقطة نفسها على التعريفة الجمركية، فالمجموعات التي تظن أن لديها منفعة خاصة في تعريفة بعينها هي مجموعات مركزة يمثل لها ذلك الأمر فارقًا كبيرًا. إن المنفعة العامة متناثرة على نحو واسع النطاق، وبالتالي، في غياب أية نظم عامة من شأنها موازنة الضغط الناجم عن بالمصالح الخاصة، سيكون لدى مجموعة المنتجين — وعلى نحو دائم — تأثير أقوى كثيرًا على الإجراءات التشريعية وسيكون لديها السلطات التي تؤثر سلبًا على مصلحة المستهلك لا العكس. من منطلق وجهة النظر هذه، إن السؤال المحير بلا شك ليس سبب وجود العديد من هذه القوانين السخيفة الخاصة بإصدار ترخيص لمزاولة المهنة، بل هي لماذا لا نملك الكثير منها. إن السؤال المحير هو كيف سننجح في الحصول على الحرية النسبية من الرقابة الحكومية على الأنشطة الإنتاجية للأفراد التي كانت لدينا ولا زالت لدينا في هذه البلاد، والتي كانت موجودة في البلدان الأخرى أيضًا.

من وجهة نظري، يتمثل السبيل الوحيد لموازنة مجموعات المنتجين الخاصة في وضع قرينة عامة ضد الولاية التي تباشر أنواع بعينها من الممارسات. إذا كان هناك إقرار عام بوجوب تقييد الممارسات الحكومية في فئة من القضايا، فإن عبء تقديم البينة سيقع بقوة على أولئك الذين يستندون إلى تلك القرينة العامة لإشاعة أمل بإمكانية تقييد انتشار الإجراءات الخاصة التي تهدف إلى خدمة مصالح معينة. لقد أشرنا إلى النقطة مرة بعد أخرى؛ فهي جزء من حجة إعلان الحقوق وللسيطرة على السياسة النقدية والسياسة المالية.

(٢) المشكلات السياسية التي يثيرها ترخيص ممارسة المهن

من الأهمية بمكان التمييز بين ثلاثة مستويات من الرقابة: المستوى الأول التسجيل، والثاني منح الشهادات، والثالث الترخيص.

أقصد بالتسجيل ذلك النظام الذي يصبح الأفراد بموجبه ملزمين بإدراج اسمائهم في سجل رسمي ما إذا مارسوا أنواعًا بعينها من الأنشطة، ولا يوجد ثمة شرط ينكر حق ممارسة النشاط لأي فرد يرغب في تسجيل اسمه. قد يُطلب منه رسوم، إما في صورة رسوم تسجيل أو كحيلة ضريبية.

أما المستوى الثاني فهو منح الشهادات؛ فقد تشهد الهيئة الحكومية بأن فردًا ما لديه مهارات خاصة لكن لا يمكنها بأية طريقة منع أشخاص لا يحملون تلك الشهادات من ممارسة أية مهنة باستخدام تلك المهارات. ومن الأمثلة على ذلك المحاسبة، ففي أغلب الولايات يمكن لأي فرد أن يكون محاسبًا، سواء كان محاسبًا قانونيًا معتمدًا أم لا، لكن لا يتسنى سوى لأولئك الأفراد الذين يجتازون اختبارًا معينًا وضع لقب محاسب قانوني معتمد بعد أسمائهم أو وضع لافتة في مكاتبهم تفيد بأنهم محاسبون قانونيون معتمدون، وكثيرًا ما تكون الشهادات مرحلة وسطية. وفي العديد من الولايات، كان هناك اتجاه لحصر النطاق المتزايد من الأنشطة في فئة المحاسبين القانونيين المعتمدين فقط. وفيما يتعلق بتلك الأنشطة كان يوجد شرط الترخيص فقط دون شرط الشهادات. وفي بعض الولايات، لا يمكن لأي فرد استخدام لقب «مهندس معماري» سوى أولئك الذين اجتازوا امتحانًا محددًا؛ وهذا المقصود بالشهادة، فهي لا تمنع أي فرد آخر من الدخول في نشاط إسداء النصح للناس حول كيفية بناء منازلهم مقابل رسوم.

والمرحلة الثالثة هي الترخيص، والمقصود منه ذلك النظام الذي بموجبه يتحتم على الفرد الحصول على رخصة من سلطة مُعْتَرَفٌ بها كي يمارس المهنة. إن الرخصة أكثر من مجرد إجراء شكلي، فهي تقتضي بعضًا من إظهار الكفاءة أو خوض بعض الاختبارات تهدف على نحو جلي إلى ضمان توافر الكفاءة في الشخص، وأي فرد لا يملك رخصة لا يُسْمَحُ له بمزاولة المهنة ويتعرض لدفع غرامة أو قضاء حكم بالسجن إذا مارس المهنة.

إن السؤال الذي أرغب في النظر فيه هو: في أي من الحالات، إذا كانت هناك حالات فعلًا، يمكن لنا تبرير واحدة أو أخرى من هذه الخطوات؟ هناك ثلاثة أسباب مختلفة يبدو لي على أساسها أن التسجيل يمكن تبريره على نحو يتفق مع المبادئ الليبرالية.

السبب الأول أنه من الممكن أن يساعد التسجيل في تحقيق أهداف أخرى، ولنأخذ مثالًا توضيحيًا. كثيرًا ما تهتم الشرطة بأعمال العنف بعد وقوع الحادث، ولكن من الأفضل للشرطة البحث عمن لديهم إمكانية للوصول إلى الأسلحة وقبل وقوع الحادث، ومن الأفضل منع الأسلحة النارية من أن تقع في أيدي الأشخاص الذين من المرجح أن يستخدموها في أغراض إجرامية. ومن الممكن أن يساعد تسجيل المتاجر التي تبيع الأسلحة النارية في تحقيق ذلك الهدف، ومن الممكن بالتأكيد العودة إلى نقطة أشرت إليها مرات عدة في الفصول السابقة، وهي أنه ليس كافيًا أبدًا قول إنه قد يكون هناك مبرر في ذلك الإطار كي أتوصل إلى نتيجة تفيد بوجود مبرر فعلًا. من الضروري وضع بيان من شقين لموازنة المزايا والعيوب في ضوء المبادئ الليبرالية، إن ما أريد قوله الآن هو أن هذا الاعتبار قد يبرر في بعض الحالات التغاضي عن القرينة العامة ضد طلب التسجيل من الناس.

السبب الثاني، أحيانًا ما يكون التسجيل وسيلة لتسهيل فرض الضرائب ليس إلا؛ من ثم تصبح الأسئلة المطروحة ما إذا كانت الضرائب الخاصة هي وسيلة ملائمة لجمع الأرباح لتمويل الخدمات الحكومية التي تعتبر ضرورية، وما إذا كان التسجيل يُسهل من تحصيل الضرائب. من الممكن للتسجيل أن يُحَقِّقَ ذلك، سواء بأن تفرض الضرائب على الشخص القائم على التسجيل، أو لأن الفرد القائم على التسجيل يُستخدم كمحصل ضرائب. على سبيل المثال، عند تحصيل ضريبة المبيعات المفروضة على الأغراض المختلفة بالمحلات التي تبيع السلع الخاضعة للضرائب.

ثالثًا، وهذا مبرر محتمل للتسجيل يقترب من محور اهتمامنا الأساسي، من الممكن أن يكون التسجيل وسيلة لحماية المستهلكين من الاحتيال. عامةً، تمنح المبادئُ لليبرالية للحكومةَ سلطة تطبيق العقود، وينطوي الاحتيال على انتهاك للعقود. من المريب بالطبع أن ينبغي على الفرد أن يفعل الكثير لحماية نفسه مقدمًا من الاحتيال بسبب التدخل في العقود الطوعية الذي يتضمنه توكيل الحكومة سلطة تطبيق العقود. لكنني لا أعتقد أنه يمكن للفرد استبعاد — من حيث المبدأ — احتمال أنه قد تكون هناك أنشطة بعينها من المحتمل كثيرًا أن تتسبب في وقوع الاحتيال بما يجعل من الأفضل وجود قائمة بالأفراد الذين يمارسون ذلك النشاط سلفًا. ربما هناك مثال واحد في ذلك السياق هو تسجيل سائقي سيارات الأجرة. إن سائق سيارة الأجرة عندما يحمل راكبًا في الليل، فمن الممكن أن تكون الفرصة سانحة لسرقة الراكب. وللحيلولة دون وقوع هذه الحوادث، قد يكون من الأفضل وجود قائمة بأسماء الأشخاص الذين يمارسون مهنة قيادة سيارات الأجرة، وإعطاء رقم لكل فرد وإلزامه بوضع ذلك الرقم داخل السيارة بحيث لا يحتاج الفرد الذي يتعرض للاعتداء سوى لتذكر رقم سيارة الأجرة. هذا ينطوي ببساطة على استخدام سلطة الشرطة في حماية الأفراد من العنف من جانب أفراد آخرين ومن الممكن أن تكون أفضل وسيلة مناسبة لفعل ذلك.

أما منح الشهادات فهو جانب أصعب كثيرًا لتبريره، يرجع السبب في ذلك إلى أن ذلك الأمر يمكن أن تقوم به السوق الخاصة لنفسها. تنطبق هذه المشكلة على المنتجات مثلما تنطبق على خدمات الأشخاص. هناك هيئات لمنح شهادات خاصة في العديد من المجالات تصدق على كفاءة شخص ما أو جودة منتج ما، وختم جود هاوسكيبنج من بين نظم الشهادات الخاصة، وفي المنتجات الصناعية هناك معامل اختبار خاصة تشهد بجودة منتج بعينه، أما المنتجات الاستهلاكية، فإن اتحاد المستهلكين ومركز أبحاث المستهلك من أفضل الهيئات الشهيرة في الولايات المتحدة، كذلك تعد مكاتب أفضل الأعمال التجارية من المنظمات التطوعية التي تشهد بجودة تجار بعينهم، أما المدارس والكليات والجامعات الفنية فتشهد بالمستوى الرفيع لخريجيها. من بين مهام باعة التجزئة والمتاجر متعددة الأقسام هي الشهادة بجودة العديد من الأغراض التي يبيعونها، حيث تزداد ثقة المستهلك في المتجر، ويتوفر لدى المتجر بدوره حافزًا لكسب المزيد من الثقة عن طريق فحص جودة الأغراض التي يبيعها.

مع ذلك، يمكن أن يزعم المرء أنه في بعض الحالات، أو ربما في العديد من الحالات، لا يمكن أن ينجح منح الشهادات الطوعي بالقدر الذي يجعل الفرد يرغب في تقديم ثمن لنجاحه نظرًا لصعوبة الاحتفاظ بسرية منح الشهادات. إن القضية التي تكمن في جوهر براءات الاختراع وحقوق النشر هي ما إذا كان الأفراد في موقف يتيح لهم التعبير عن قيمة الخدمات التي يقدمونها للآخرين أم لا. إذا حصلتُ على شهادة لمزاولة المهنة، قد لا يكون ثمة سبيل فعال يمكنني من خلاله أن أطلب منك مقابلًا نظير منحك شهادتي. إذا بعت معلومات الشهادة الخاصة بي لشخص ما، كيف يمكنني منعه من نشر معلوماتي للآخرين؟ بالتالي، قد يكون من المستحيل إجراء تبادل طوعي فعال فيما يتعلق بالشهادات، مع أنها من الخدمات التي يرغب الناس في دفع مقابل لها إذا اضطروا لذلك. ومن بين سبل التغلب على هذه المشكلة — كما نتغلب على الأنواع الأخرى من تأثيرات الجوار — هو وجود شهادات حكومية.

هناك تبرير محتمل للشهادات يقوم على الاحتكار؛ هناك بعض أوجه الاحتكار التقني بالنسبة للشهادات، نظرًا لأن تكلفة الحصول على شهادة مستقل بدرجة كبيرة عن عدد الأشخاص الذين تنقل إليهم المعلومات.، وبالرغم من ذلك ليس من الواضح على الإطلاق أن الاحتكار أمر حتمي.

مع ذلك، يبدو الترخيص لمزاولة المهنة لي صعب التبرير؛ حيث لا يزال يضيق أكثر فأكثر على حقوق الأفراد في إبرام عقود طوعية. بالرغم من ذلك، هناك بعض التبريرات المفترضة للترخيص والتي سيضطر الليبراليون للاعتراف بها داخل نطاق تصورهم للتدخل الحكومي الملائم، غير أنه لا بد من الموازنة بين المزايا والعيوب كما هي الحال دائمًا. إن الحجة الأساسية المتوافقة مع فكر الليبرالي هي وجود تأثيرات جوار، ومن أبسط الأمثلة وأوضحها طبيب «غير كفؤ» يتسبب في حدوث وباء. عندما يتعلق الأمر بإضراره بالمرضى فحسب، فهذه ببساطة قضية عقد وتبادل طوعي بين المريض وطبيبه، في ذلك الإطار، ليس هناك أي سبب للتدخل الحكومي. إلا أنه يمكن زعم أن إذا عالج الطبيب مريضه بشكل سيء، قد يتسبب في اندلاع موجة من الوباء ستضر بأطراف غير متصلة بالتبادل المباشر. في تلك الحالة، من الممكن أن يكون لدى الجميع — بما في ذلك المريض المحتمل والطبيب — استعداد للإذعان لقصر ممارسة مهنة الطب على الأشخاص «الأكفاء» في سبيل الحيلولة دون حدوث أمراض وبائية.

في واقع الأمر، إن الحجة الرئيسية التي يقدمها المؤيدون للترخيص ليست الحجة السابقة — والتي تنال بعض من رضا الليبراليين — بل هي حجة تستند إلى الوصاية الأبوية للحكومة بشكل مطلق وبالكاد تنال رضا الليبراليين. يُزْعَمُ أن الأفراد غير قادرين على اختيار مقدمي الخدمات على نحو ملائم، سواء كان طبيبهم الخاص أو السباك أو الحلاق. وكي يستطيع الفرد اختيار الطبيب بذكاء، عليه أن يكون طبيبًا بنفسه. ويزعم أيضًا أن معظمنا غير كفء، وبناءً على ذلك لا بد من أن تتوفر لنا الحماية من جهلنا. هذا لا يختلف عن قول إن قدرتنا على التصويت لا بد أن تحمي صفتنا كمستهلكين من جهلنا، وذلك عن طريق التأكد من الأفراد لا يتلقون خدماتهم من أطباء أو سباكين أو حلاقين غير أكفاء.

كنت أدرج حتى الآن الحجج المتعلقة بالتسجيل والشهادات والترخيص. وفي الحالات الثلاثة جميعًا، يتضح أن هناك تكلفة اجتماعية قوية أيضًا تساوي أيًا من مزاياها، وقد أشرت فعلًا إلى بعض من هذه التكاليف الاجتماعية وسأوضحها بشكل تفصيلي أكثر بالنسبة لممارسة الطب، لكن يجدر الإشارة إليها هنا عامة.

من أكثر التكاليف الاجتماعية وضوحًا هي أن أيًا من هذه الإجراءات — سواءً كانت التسجيل أو الشهادات أو الترخيص — ستصبح حتمًا أداة في أياد مجموعة إنتاج خاصة كي تحصل على موقع احتكاري على حساب باقي أفراد الشعب. ليس هناك سبيل لتجنب هذه النتيجة، وعلى الرغم من أنه يمكن للمرء وضع مجموعة أو أخرى من الضوابط الإجرائية تهدف إلى تفادي هذه النتيجة، إلا أن الأرجح أن أيًا من تلك الضوابط لن تتغلب على هذه المشكلة التي تنشأ من التركيز الكبير على مصلحة المنتج لا مصلحة المستهلك. إن الذين سيولون الاهتمام الأكبر لأي من هذه النظم وسيضغطون لتطبيقها وسيكونون أكثر المهتمين بإدارتها هم أفراد المهنة أو التجارة أو الحرفة المعنية؛ فسيلحون حتمًا لتجاوز التسجيل إلى الشهادات ومن الشهادات إلى الترخيص. وما إن يحصلون على الترخيص، سيُمنع الأشخاص الذين من الممكن أن يكون لديهم رغبة في تقويض القواعد من ممارسة ضغطهم، ولن يحصلوا على ترخيص، من ثم ينبغي لهم العمل في مهن أخرى، وسيفقدون الرغبة في المهنة. والنتيجة دائمًا هي تحكم أفراد المهنة نفسها في دخول أفراد آخرين ومن ثم بناء موقف احتكاري.

على الجانب الآخر، إن منح الشهادات أقل ضررًا كثيرًا في هذا الصدد، إذا «أساء» أصحاب الشهادات استخدام شهاداتهم الخاصة؛ وإذا فرض أرباب المهنة — عند منح شهادات للوافدين الجدد — شروطًا متشددة غير ضرورية وقلصوا عدد الممارسين كثيرًا، سيكون اختلاف السعر بين الأفراد المعتمدين وأولئك غير المعتمدين كبيرًا للغاية بدرجة ستحرض الناس على استقدام الممارسين الذين لا يمتلكون شهادات. من الناحية العملية، إن مرونة طلب الخدمات من الممارسين المعتمدين سيكون كبيرًا جدًا، وستكون الحدود التي يمكنهم في نطاقها استغلال باقي الناس عن طريق استغلال مكانتهم المتميزة ضيقًا نوعًا ما.

بالتالي، يأتي منح الشهادات دون الترخيص كحل وسط يوفر قدر كبير من الحماية من الاحتكار. ولهذا الأمر عيوبه أيضًا، غير أنه جدير بالملاحظة أن الحجج المعتادة للترخيص — لا سيما حجج الوصاية الأبوية — يفي بها منح الشهادات وحده تمامًا إلى حد بعيد. إذا كانت الحجة أننا جهولين للغاية لدرجة يتعذر معها أن نحكم على الممارسين الصالحين. إن كل ما هو مطلوب هو إتاحة المعلومات ذات الصلة. فإذا أردنا مع ذلك — وبإدراك تام منا — الذهاب إلى شخص غير معتمد، فهذا شأننا، ولا يمكننا الشكوى من أنه لم تتوفر لدينا المعلومات. ونظرًا لأن حجج الترخيص التي يطرحها غير المنتمين إلى المهنة يمكن دحضها كلية بمنح الشهادات، أرى أنه من الصعب تبين أية حالة يمكن تبرير الترخيص بموجبها وليس الشهادات.

وحتى التسجيل له تكاليف اجتماعية كبيرة، فهو خطوة أولية مهمة في طريق تأسيس نظام يكون فيه كل فرد مضطرًا إلى حمل بطاقة هوية، وعلى كل فرد إطلاع السلطات ما ينوي فعله قبل أن يفعله. علاوة على ذلك، وكما أشرنا سابقًا، يتجه التسجيل إلى أن يكون الخطوة الأولى نحو الشهادات والترخيص.

(٣) ترخيص ممارسة مهنة الطب

تعد مهنة الطب واحدة من المهن التي اقتصرت ممارستها على حاملي الترخيص منذ زمن بعيد. وارتجالًا، يبدو لي أن سؤال «هل يجب علينا السماح لغير الأكفاء من الأطباء بمزاولة المهنة؟» لا يتيح سوى إجابة بالنفي. لكنني أريد التنويه إلى أن الجواب الآخر سيجعلنا نفكر ونثير الشكوك حول الأمر.

في المقام الأول، إن الترخيص طريق للسيطرة التي يمكن أن تمارسها مهنة الطب على الأطباء. يتطلب فهم سبب ذلك الأمر بعض النقاش لهيكل مهنة الطب. لعل الجمعية الأمريكية للطب من أقوى النقابات العمالية في الولايات المتحدة، ويكمن أساس قوة النقابات العمالية في سلطتها التي تتيح لها تقييد عدد الأفراد الممكن دخولهم مهنة بعينها. ويمكن أن يُمَارَس هذا التقييد ممارسة غير مباشرة من خلال القدرة على فرض معدل أجور أعلى مما كان من الممكن فرضه على نحو آخر. فإذا أمكن فرض معدل الأجور ذلك، فسينخفض عدد الأشخاص الذين يمكنهم الحصول على الوظائف وهو ما سيؤدي على نحو غير مباشر إلى خفض عدد الأشخاص الذين يمارسون المهنة. إن أسلوب حصر عدد العاملين بالمجال له عيوبه، فهناك دائمًا مجموعة مهمشة ساخطة تحاول الدخول في المهنة، وسوف تتحسن أوضاع النقابة التجارية كثيرًا إذا أمكنها حصر عدد الأشخاص الذين يدخلون المهنة مباشرة أيًا كان الشخص الذي يسعى للدخول في المهنة؛ أما الممتعضون والمستاءون فسوف يُقْصَوْنَ من البداية، ولا داعي لأن تشعر النقابة بالقلق حيالهم.

إن الجمعية الأمريكية للطب في هذا الموقف تقريبًا. فهي نقابة عمالية باستطاعتها تقييد عدد الأشخاص الذين يعملون بالمهنة. كيف يمكنها فعل ذلك؟ تتجلى أقوى صور السيطرة في مرحلة القبول بكلية الطب؛ حيث يوافق مجلس الإشراف على التعليم الطبي التابع للجمعية الأمريكية للطب على الطلاب. ومن أجل أن تنضم كلية طلب إلى قائمة المجلس للكليات المعتمدة وتستمر فيها عليها أن تطبق معايير المجلس. ظهرت سلطة المجلس في مراحل مختلفة عندما كان هناك ضغطًا لخفض عدد الطلاب. فعلى سبيل المثال، في الأربعينيات أثناء أزمة الكساد، أرسل مجلس الإشراف على التعليم الطبي والمستشفيات خطاب للعديد من كليات الطب يقول فيها أن كليات الطب تقبل عددًا من الطلاب يفوق العدد الذي يمكن منحه التدريب المناسب. في العامين أو الثلاثة التالية، فخفضت كل كلية العدد الذي كانت تقبله، وقدمت دليلًا مفترضًا قويًا للغاية على أن التوصية كان لها تأثيرها.

ما سبب الأهمية البالغة لموافقة المجلس؟ إذا كان المجلس يسيء استخدام سلطته، لماذا لا تنشأ كليات غير معتمدة؟ الإجابة هي أنه في جميع الولايات بالولايات المتحدة تقريبًا، يجب أن يحصل الفرد على رخصة لممارسة مهنة الطب، وللحصول على الرخصة، لا بد من أن يتخرج من كلية طب معتمدة. وفي جميع الولايات تقريبًا، تتطابق قائمة الكليات المعتمدة مع قائمة الكليات المعتمدة من مجلس الإشراف على التعليم الطبي والمستشفيات التابع للجمعية الأمريكية للطب. ولهذا السبب فإن شرط الترخيص هو السبيل إلى السيطرة الفعالة على القبول بالكليات. ولذلك الشرط تأثير مزدوج؛ فمن ناحية دائمًا ما يكون أعضاء لجنة الترخيص أطباء ومن ثم لديهم بعض السيطرة على إجراء تقدم الفرد للحصول على الرخصة؛ وهذه السيطرة أقل تأثيرًا عن السيطرة في مستوى كليات الطب. وفي كافة المهن التي تتطلب الترخيص تقريبًا، من الممكن أن يتقدم الأفراد للقبول بها أكثر من مرة؛ وإذا حاول الفرد لفترة كافية وفي نطاق اختصاصات كافية فسينجح على الأرجح عاجلًا أم آجلًا. وما دام أنه قد كرس فعلًا المال والوقت للحصول على تدريبه، فلديه حافز قوي للمثابرة في المحاولة. إن شروط الترخيص التي تظهر بعد أن يحصل المرء على التدريب تؤثر بالتالي على القبول عن طريق رفع التكاليف الخاصة بالدخول في المهنة لمستويات بعيدة، ما دام القبول قد يستغرق وقتًا أطول وما دامت هناك دائمًا بعض الشكوك حول ما إذا كان سينجح المرء أم لا. لكن هذا الارتفاع في التكلفة لا يؤثر في تقييد القبول كما في منع الفرد من مباشرة عمله. فإذا تم إقصاؤه في مرحلة القبول بكلية الطب، لن يخوض الاختبارات قط، ومن ثم لن يمثل مصدرًا للإزعاج في تلك المرحلة. إذن، السبيل الفعال للسيطرة على عدد الأفراد في المهنة هو السيطرة على القبول في الكليات المتخصصة.

يُمَكِّنُ كلٌ من السيطرة على القبول في كلية الطب والترخيص بعد ذلك أهلَ المهنة من التحكم في الدخول في المهنة بطريقتين، الطريقة الواضحة هي رفض طلبات العديد من المتقدمين ببساطة. والطريقة الأقل وضوحًا — ولعلها الأهم كثيرًا — هي وضع معايير للقبول والترخيص تجعل الدخول صعبًا للغاية بدرجة تثني الشباب عن المحاولة للتقدم للقبول من الأصل. وبالرغم من أن معظم قوانين الولايات تقتضي من الأفراد قضاء عامين في الكلية فقط قبل الالتحاق بكلية الطب، فإن ما يقرب من مائة في المائة من المتقدمين قضوا أربعة أعوام في الكلية. على نحو مماثل، مُدَّت فترة التدريب الطبي الأهم، بخاصة من خلال فرض مجموعة من القواعد الصارمة على فترة التخصص.

كملاحظة هامشية، لم يكن المحامون على نفس مستوى نجاح الأطباء في السيطرة على مرحلة القبول في الكليات المتخصصة، غير أنهم يسيرون على ذلك الدرب. والسبب في ذلك مثير للسخرية وهو أن كافة الكليات تقريبًا المدرجة في قائمة الجمعية الأمريكية للمحاماة للكليات المعتمدة هي كليات صباحية بدوام كلي، وليس ثمة كليات مسائية معتمدة. ومن ناحية الأخرى، إن أغلبية أعضاء الهيئة التشريعية بالولايات خريجو كليات حقوق مسائية، فإذا صوتوا لقصر القبول بالمهنة على خريجي المدارس المعتمدة، فهم في الواقع يصوتون بأنهم غير مؤهلين. إن معارضتهم لإدانة كفائتهم الشخصية كانت عاملًا أساسيًا جنح إلى تقييد المدى الذي نجح فيه القانون في محاكاة مهنة الطب. لم أجر بنفسي أية دراسات شاملة حول شروط القبول بكليات الحقوق منذ سنوات عديدة، لكنني أدرك أن هذا القيد ينهار الآن. إن وجود أعداد غفيرة من الطلاب تعني أن جزءًا أكبر كثيرًا سيذهب إلى كليات الحقوق بدوام كامل وهذا بدوره سيغير من بنية الهيئات التشريعية.

لنعد مجددًا إلى مهنة الطب. إن شرط التخرج من كليات طب معتمدة المصدر الأهم للتحكم في الالتحاق. لقد استخدم أهل المهنة هذه السيطرة للحد من أعداد الملتحقين بها. ولتجنب حدوث لبس، أود التشديد على أنني لا أقول أن أفراد مهنة الطب أو أساتذة مهنة الطب أو الأشخاص المسئولين عن مجلس الإشراف على التعليم الطبي والمستشفيات يتحملون مشقة تقييد الالتحاق في سبيل زيادة دخلهم عمدًا، الأمور لا تسير على ذلك النحو. وحتى إن أبدى هؤلاء الأشخاص رغبتهم في تقييد عدد الملتحقين بالمهنة لزيادة الدخل، سيبررون دائمًا هذه السياسة على أساس أنه إذا سُمِحَ بالتحاق عدد «أكبر مما ينبغي» بالمهنة، سيخفض هذا من دخلهم وسينساقون إلى اللجوء إلى الممارسات غير الأخلاقية كي يكسبون دخلًا «مناسبًا»، وكذلك يزعمون أن السبيل الوحيد للحفاظ على الممارسات الأخلاقية هو الحفاظ على مستوى دخل معياري للأطباء يتوافق مع مزايا واحتياجات مهنة الطب. لا بد من أن أقر أنه طالما بدا لي ذلك الأمر غير مقبول على أساس الأسباب الأخلاقية والواقعية. إنه لمن الاستثنائي أن يصرح زعماء مهنة الطب على العلن بأنه لا بد من أن يحصلوا على مقابل مادي كي يلتزموا بأخلاقيات المهنة. وإذا كان الأمر كذلك، أشك في أن المقابل سيكون له حد معين. يبدو أن هناك علاقة متبادلة إلى حد ما بين الفقر والنزاهة، المفترض أن يتوقع الفرد العكس؛ من الممكن ألا يعود التضليل على الفرد بنفع دائمًا لكن من المؤكد أنه يحقق ذلك أحيانًا.

تبرر السيطرة على الالتحاق بالمهنة على نحو بين في ذلك الإطار فقط في أوقات كأزمة الكساد الكبير عندما كان هناك بطالة كبيرة ودخل منخفض نسبيًا؛ أما في الأوقات العادية يكون المبرر مختلفًا، حيث يتمثل في أن أفراد مهنة الطب يرغبون في رفع معايير «الجودة» للمهنة. إن وجه الخلل في ذلك المبرر شائع، ويهدم الفهم المناسب لآلية عمل النظام الاقتصادي، ألا وهو الإخفاق في التمييز بين الكفاءة الفنية والكفاءة الاقتصادية.

لعل ذكر قصة عن المحامين ستوضح هذه النقطة. في أحد اجتماعات المحامين التي نوقشت فيها مشكلات القبول، استخدم زميل لي — في جداله المعارض للمعايير المقيدة للقبول — قياسًا من مجال السيارات وتساءل ما إذا كان سَيُعْتَبَرُ من العبث أن تزعم صناعة السيارات أنه لا ينبغي لأي فرد قيادة سيارة منخفضة الجودة ومن ثم لا ينبغي السماح لأي جهة مصنعة للسيارات إنتاج سيارة لا ترقى إلى مستوى السيارات من طراز الكاديلاك. نهض عضو من المستمعين ووافق على القياس التمثيلي قائلًا إنه لا يمكن للدولة فعلًا تحمل أي شيء سوى المحامين من الطراز الأول مثل السيارة الكاديلاك! يبدو هذا المثال معبرا عن الموقف المهني؛ إذ ينظر الأعضاء كلٌ على حدة إلى المعايير الفنية للأداء، ويزعمون أنه لا بد من وجود أطباء من الطراز الأول في الواقع حتى إن كان ذلك يعني عدم حصول بعض الناس على أية خدمات طبية بالرغم من أنهم بالطبع لا يقصدون مطلقا أن يحدث ذلك نتيجة موقفهم. مع ذلك، إن وجهة النظر التي تفيد بأنه ينبغي ألا يحصل الأفراد سوى على خدمة طبية «مثالية» دائمًا ما تؤدي إلى وجود سياسة تقييدية، وهي سياسة من شأنها خفض عدد الأطباء. لن أزعم بالطبع أن هذه هي القوة الوحيدة الموجودة عمليًا، لكنني أزعم أن ذلك النوع من الاعتبارات هو الذي يقود العديد من الأطباء من ذوي النوايا الحسنة إلى الموافقة على السياسات التي كانوا سيرفضونها على الفور ما لم يتوفر لديهم ذلك التبرير المريح.

من اليسير توضيح أن الجودة ليست سوى المبرر فحسب ولكنها ليست السبب الأساسي للقيود. لقد اسُتغلت سلطة مجلس الإشراف على التعليم الطبي والمستشفيات في تقييد عدد الطلاب بأساليب لا يمكن بأية حال أن تكون متصلة بالجودة البتة. والمثال الأبسط على ذلك هو توصية المجلس في ولايات عديدة بأن تكون المواطنة شرطًا لممارسة الطب. لا أستطيع تصور أن هناك صلة وثيقة بين هذه التوصية وبين ممارسة مهنة الطب. هناك شرط مماثل حاول المجلس فرضه أحيانًا وهو ضرورة أن يكون اختبار الرخصة باللغة الإنجليزية. من بين الأدلة المثيرة على سلطة الجمعية وقوتها وكذلك على انعدام الصلة بالجودة دليل تمثل في تاريخ واحد لطالما وجدته لافتًا للنظر. فبعد عام ١٩٣٣، عندما وصل هتلر إلى حكم ألمانيا، كان هناك تدفقًا هائلًا للأشخاص المتخصصين من ألمانيا والنمسا وهلم جرا، بما في ذلك بالطبع أطباء أرادوا مزاولة المهنة في الولايات المتحدة. كان عدد الأفراد الذين تلقوا تدريبهم في الخارج وتم الموافقة على ممارستهم للمهنة في الولايات المتحدة خلال الخمس سنوات التي تلت عام ١٩٣٣ هو نفسه عدد الأشخاص خلال الخمس سنوات التي سبقت عام ١٩٣٣. لم يكن ذلك بالتأكيد نتيجة المسار الطبيعي للأحداث، لقد أدى وجود ذلك العدد الإضافي من الأطباء إلى تضييق صارم للشروط الخاصة بالأطباء الأجانب وهي الشروط التي فرضت عليهم خسائر بالغة للغاية.

يتضح أن الترخيص هو السبيل إلى أن يتمكن أهل مهنة الطب من تقييد عدد الأطباء الممارسين للمهنة، وكذلك هو أيضًا السبيل إلى أن يتمكنوا من تقييد التغيرات التكنولوجية والتنظيمية الخاصة بالطريقة التي تُدار بها مهنة الطب. لقد كانت الجمعية الأمريكية للطب دومًا ضد الخدمات الطبية الجماعية للطب والبرامج الطبية المدفوعة مقدمًا. قد تتضمن أساليب الممارسة الطبية هذه سمات طيبة وأخرى سيئة، لكنها ابتكارات تكنولوجية يجب أن يكون الناس أحرارًا في تجربتها إذا أرادوا. ليس هناك أساس للجزم قطعيًا أن المنهج التقني المثالي لتنظيم ممارسة الطب هي الممارسة التي يقوم بها طبيب واحد. لعل الخدمات الطبية الجماعية هي الأمثل ولعلها الجمعيات، فالمرء ينبغي أن يكون لدى المرء نظام يستطيع بموجبه تجربة كافة الأنواع.

لقد قاومت الجمعية الأمريكية للطب تلك المحاولات وتمكنت بفاعلية من كبتها، وقد حققت ذلك لأن الترخيص منحها منحًا غير مباشر السيطرةَ على القبول بمزاولة المهنة في المستشفيات. ويقدم مجلس الإشراف على التعليم الطبي والمستشفيات الاعتماد للمستشفيات وكذلك كليات الطب، وكي يحصل الطبيب على تصريح بمارسة المهنة في مستشفى «معتمد»، لا بد من أن توافق عليه في العموم الجمعية الطبية بالمقاطعة أو مجلس إدارة المستشفى. لماذا لا يمكن تأسيس مستشفيات غير معتمدة؟ لأنه في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، لا بد من أن تحصل المستشفى على مجموعة من الأطباء المتمرنين كي تبدأ عملها، وبموجب معظم قوانين الترخيص بالولايات، لا بد أن يحصل الشخص المرشح لنيل الرخصة على خبرة تدريبية كي يتم قبوله، ولا بد أن تكون الخبرة التدريبية في مستشفى «معتمد». وعامةً، تتطابق قائمة المستشفيات المعتمدة مع قائمة مجلس الإشراف على التعليم الطبي والمستشفيات. بالتالي، تَمْنَحُ قوانينُ الترخيص أهلَ المهنة السيطرةَ على المستشفيات إلى جانب الكليات، وهذا إلى حد كبير هو سبب نجاح معارضة الجمعية الأمريكية للطب لأنواع مختلفة من الخدمات الطبية الجماعية. لكن في بضع حالات تمكنت الخدمات الطبية الجماعية من الاستمرار. ففي مقاطعة كولومبيا، نجحت الخدمات الطبية الجماعية لأنها تمكنت من مقاضاة الجمعية الامريكية للطب بموجب قوانين شيرمان الفيدرالية لمكافحة الاحتكار وربحت القضية. وفي بضع حالات أخرى، نجحت الخدمات الطبية الجماعية لأسباب خاصة. مع ذلك، ليس هناك أدنى شك في أن معارضة الجمعية الأمريكية للطب أعاقت جدًا الاتجاه نحو الخدمات الطبية الجماعية.

هناك ملاحظة جانبية وهو أنه من المثير للاهتمام أن الجمعية الأمريكية للطب تعارض نوعًا واحدًا فحسب من الخدمات الطبية الجماعية، ألا وهي الخدمات الطبية الجماعية التي ترتكز على نظام الدفع مسبقًا، ويبدو أن السبب الاقتصادي هو أن ذلك يقضي على احتمالية تحديد أسعار تمييزية.8

من الواضح أن الترخيص كان في لب تقييد الالتحاق بالمهنة وأن ذلك انطوى على تكلفة اجتماعية باهظة، سواءً للأفراد الذين أرادوا مزاولة المهنة لكن مُنِعُوا من ذلك أو لعامة الناس الذين حُرِمُوا من الرعاية الطبية التي أرادوا الحصول عليها ومُنِعُوا من الحصول عليها. سأطرح الآن سؤالًا: «هل لذلك الترخيص نتائج طيبة كما يزعم؟»

في المقام الأول، هل يرفع الترخيص فعلًا من معايير الكفاءة؟ ليس من الواضح على الإطلاق أنه يرتقي بمعايير الكفاءة في الممارسة العملية للمهنة لأسباب عدة. ابتداءً، عندما تضع عائقًا أمام الدخول إلى أي مجال، فأنت بذلك تضع حافزًا للبحث عن سبل للالتفاف حوله، وبالطبع مجال الطب ليس باستثناء. إن ظهور مهن كالمعالجة بتقويم العظام (الاستيوباثي) والمعالجة اليدوية يرتبط بالقيود المفروضة على الالتحاق بمهنة الطب. على العكس، مثلت كل من هذه المهن إلى حد ما محاولة للبحث عن سبيل لتجنب قيود الالتحاق، وتبدأ بدورها في عملية الحصول على ترخيص ثم فرض القيود. وكانت النتيجةُ التي ترتبت على ذلك خلقَ مستويات وأنواع مختلفة للممارسة، والتمييز بين ما يُسَمَّى بممارسة الطب وبين الطب البديل كالمعالجة بتقويم العظام والمعالجة اليدوية والعلاج بالإيمان وما إلى ذلك. من الممكن أن تكون هذه البدائل ذات جودة أقل من ممارسة الطب في حال غياب القيود المفروضة على الالتحاق بالمهنة.

عامةً، إذا كان عدد الأطباء أقل من المتوقع، وإذا كان جميع الأطباء منشغلين تمامًا — كما هم عادةً — فهذا يعني أن قدرًا إجماليًا أقل من الممارسة الطبية سيتاح للأطباء المدربين — أي عدد أقل من ساعات الممارسة الطبية، إن جاز التعبير. سيكون البديل هو الممارسة غير المدربة لشخص ما، قد تكون — ولا بد أنها ستتم جزئيًا — على يد أشخاص ليس لديهم أية مؤهلات متخصصة على الإطلاق. وعلاوة على ذلك، سيكون الموقف أخطر كثيرًا، إذا تم حصر «الممارسة الطبية» في الممارسين المرخصين، فمن الضروري تعريف الممارسة الطبية، وليست البطالة المقنعة بشيء يقتصر على السكك الحديدية فحسب، ولكن يمكن حدوثه في المجال الطبي أيضًا. وفي إطار تأويل القوانين التشريعية التي تحظر الممارسة غير المعتمدة للطب، تقتصر العديد من الأشياء على الأطباء المرخصين والتي يمكن أن ينجزها بأسلوب رائع الفنيون وغيرهم من الأشخاص الماهرين الذين لم يحصلوا على تدريب طبي من الطراز الأول؛ أي طراز السيارة الكاديلاك. لست متخصصًا بما يكفي كي أدرج أمثلة كاملة تمامًا، ولا أدري سوى أن هؤلاء الذين أنعموا النظر في السؤال يقولون إن الميل يكمن في اشتمال «الممارسة الطبية» على نطاق أوسع كثيرًا من الأنشطة التي يمكن أن يؤديها الفنيون على أكمل وجه. إن الأطباء المدربون يكرسون جزءًا كبيرًا من وقتهم لأشياء يمكن أن يقوم به أشخاص آخرون، والنتيجة هي انخفاض جودة الرعاية الطبية؛ حيث إن المتوسط النسبي للرعاية الطبية — إذا أمكن للفرد استيعاب المفهوم من الأساس — لا يمكن الحصول عليها عن طريق تحديد متوسط لجودة الرعاية المقدمة، والتي قد تشبه الحكم على فاعلية علاج طبي بالتفكير في الناجين فقط من المرض الذي يعالجه فيجب على المرء أيضًا الأخذ بعين الاعتبار حقيقةَ أن القيود تقلل من مقدار الرعاية وقد تكون النتيجةُ انخفاضًا ملموسًا للمستوى المتوسط للكفاءة نتيجة للقيود.

حتى هذه الملاحظات غير كافية، وذلك لأنها تنظر إلى الموقف في مرحلة زمنية بعينها ولا تأخذ بعين الاعتبار التغيرات مع مرور الوقت، فغالبًا ما تأتي التطورات في أي علم أو مجال من عمل لفرد يقف بين عدد هائل من غريبي الأطوار والدجالين والأشخاص الذين ليست لهم مكانة في المهنة. وفي ظل الظروف الراهنة بمهنة الطب، من الصعب للغاية عليك إجراء أبحاث أو تجارب ما لم تكن من أبناء المهنة. وإذا كنت فردًا من أفراد المهنة وأردت أن ترتقي إلى مكانة مرموقة، فلن تتمكن من ذلك لأنك مقيد تمامًا بنوع التجارب التي يمكنك إجراءها. من الممكن أن يكون الشخص الذي يعالج بالإيمان ليس سوى شخص غريب الأطوار يفرض نفسه على مرضى ساذجين، لكن من الممكن أن يتمكن فرد من بين ألف أو آلاف الأفراد من إنجاز تطوير مهم في الطب. أن هناك سبلًا عديدةً ومختلفةً للمعرفة والتعلم ومن المؤكد أن نتيجة حصر ممارسة ما يسمى بالطب في مجموعة بعينها وتحديده في إطاره كما نتجه هي انخفاض مقدار التجارب المستمرة ومن ثم انخفاض معدل نمو المعرفة في ذلك المجال. إن ما ينطبق على محتوى الطب ينطبق بالمثل على منظومته كما أشرنا فعلًا، وسأسهب في هذه النقطة أدناه.

لا تزال هناك طريقة أخرى يميل بها الترخيص — والاحتكار المقترن به في ممارسة الطب — إلى جعل معايير الممارسة منخفضة، وسبق وأشرت أن الترخيص يجعل الجودة المتوسطة للممارسة منخفضة عن طريق تقليص عدد الأطباء وعن طريق خفض إجمالي عدد الساعات المتوفرة لدى الأطباء المتدربين في مجملها بالنسبة للمهام الأهم لا الأقل أهمية، ومن خلال ضعف الحافز لإجراء الأبحاث والتطوير، وكذلك عن طريق جعله من الصعب للغاية على الأفراد أخذ مقابل من الأطباء عند ارتكاب الطبيب خطأ متعمدًا. من بين وسائل الحماية التي يمتلكها المواطن ضد عدم كفاءة الطبيب الحماية من الخداع والقدرة على مقاضاة الأطباء بدعوى الإهمال. وقد رُفِعَتْ فعلًا دعاوى قضائية واشتكى الأطباء كثيرًا مما يتكبدونه نتيجة للتأمين ضد الإهمال الطبي. ومع ذلك فإن الدعاوى القضائية ضد الإهمال الطبي ضئيلة وأقل نجاحًا مما كان يمكن أن تكونه، إذا لم تكن العين اليقظة للجمعيات الطبية موجودة. ليس من السهل إقناع طبيب بالشهادة ضد طبيب زميل عندما يواجه عقابًا بحرمانه من حق ممارسة الطب في مستشفى «معتمد». لا بد من أن تأتي الشهادة عمومًا من أعضاء لجنة تشكلها الجمعيات الطبية نفسها، ودائمًا ما تكون بالطبع في المصلحة المزعومة للمرضى.

عندما تؤخذ النتائج بعين الاعتبار، تتكون لدي قناعة شخصية بأن الترخيص قد قلص فعلًا الممارسة الطبية كمًا وكيفًا؛ وأنه قلص الفرص المتاحة أمام الأشخاص الذين يرغبون في أن يصيروا أطباء، وأجبرهم على ممارسة مهن أخرى لديهم رغبة أقل في ممارستها، وأرغم عامة الناس أيضًا على دفع مقابل مادي لخدمة طبية غير مقنعة بما يكفي، وأعاق أيضًا التطور التكنولوجي في الطب نفسه وفي منظومة ممارسة الطب. أستخلص من ذلك أنه ينبغي القضاء على الترخيص كشرط لممارسة الطب.

بعد هذا الشرح، أرتاب في أن الكثير من القراء — على غرار الكثير من الأشخاص الذين ناقشت معهم هذه الأمور — سيقولون «مع ذلك، كيف يمكنني الحصول على دليل يؤكد على كفاءة الطبيب بخلاف هذه الطريقة؟ وإذا سلمنا بما ذكرته عن التكاليف، أليس الترخيص الطريقة الوحيدة لطمأنة الناس قليلًا إزاء الحد الأدنى من الجودة على الأقل؟» إن الإجابة على هذا السؤال تكمن — في جزء منها — في أن الناس لا يختارون أطباءهم عن طريق انتقاء الأسماء عشوائيًا من قائمة بالأطباء المرخصين، وتكمن — في جزء آخر منها — في أن قدرة المرء على اجتياز اختبارات منذ عشرين أو ثلاثين عامًا ليس بضمان على كفاءته الآن؛ من ثم، لا يعد الترخيص الآن المصدر الأساسي أو الأهم لضمان الحد الأدنى من كفاءة الطبيب. لكن الإجابة المهمة مختلفة تمامًا؛ حيث تتمثل في أن السؤال نفسه يكشف عن استبداد الوضع الراهن وفقر خيالنا في مجالات نكون فيها من الأشخاص العاديين، وحتى في المجالات التي نمتلك بها بعض الكفاءة، مقارنة بخصوبة السوق. لنستوضح الأمر أكثر عن طريق التفكر في مدى التطور الذي كان من الممكن أن يشهده مجال الطب وفي ضمانات الجودة التي كان من الممكن أن توجد، إذا لم تظهر بالمهنة قوة الاحتكار.

لنفترض أن أي فرد كان حرًا في ممارسة مهنة الطب دون قيود باستثناء المسئولية القانونية والمالية لحدوث أي ضرر يلحق بالآخرين عن طريق الاحتيال أو الإهمال. أظن أن تطور مجال الطب برمته كان سيختلف، والسوق الحالية للرعاية الطبية — التي تعرضت للكبح — تقدم بعضًا من لمحات الاختلاف المتوقع. كان من الممكن أن تنمو الخدمات الطبية الجماعية المرتبطة بالمستشفيات نموًا هائلًا. وبدلًا من الممارسة الفردية إلى جانب المستشفيات المؤسسية الضخمة التي تديرها الحكومة أو الجمعيات الخيرية، كان من الممكن أن تتطور الشراكات أو اتحادات طبية، أو أن تتشكل فرق طبية. وكان من الممكن أن توفر مرافق تشخيصية وعلاجية، بما في ذلك مرافق المستشفيات. وعلى الأرجح كان بعضها سيصبح مدفوعًا مسبقًا، ويضم تأمين المستشفيات والتأمين الصحي والممارسة الطبية الجماعية في مجموعة واحدة، أما البعض الآخر فكان سيطلب رسومًا منفصلة للخدمات المستقلة. وبالطبع قد يستخدم أغلبها طريقتي الدفع السابقتين.

من الممكن أن تكون تلك الفرق الطبية — أو متاجر الطب متعددة الأقسام إذا أردت استخدام هذا التعبير — وسيطًا بين المرضى والأطباء. وإذا استمرت هذه الفرق طويلًا ورسخت أقدامها، ستهتم جدًا ببناء سمعة عن مصداقيتها وجودتها. وللسبب نفسه، سيتعرف المستهلكون على سمعتها، ومن المتوقع أن يكون لديهم المهارة المتخصصة للحكم على جودة الأطباء. وبالطبع، ستكون ممثل المستهلك في فعل ذلك، على غرار المتاجر متعددة الأقسام بالنسبة للعديد من المنتجات. علاوة على ذلك، يمكنها تنظيم الرعاية الطبية بكفاءة، والربط بين ممارسي الطب من مختلف درجات المهارة والتدريب، واستخدام الإخْصَائيين من أصحاب التدريب المحدود للمهام التي تناسبهم، والاحتفاظ بالمتخصصين من أصحاب المهارات والكفاءة الرفيعة للمهام التي لا يمكن لسواهم تأديتها. يمكن أن يضيف القارئ تطورات أخرى بنفسه، ويرتكز جزئيًا كما فعلت على ما يحدث الآن في العيادات الطبية الرائدة.

ليس من الممكن بالطبع أن تنجز مثل هذه الفرق الطبية جوانب الممارسة جمعيها؛ حيث يمكن استمرار الممارسة الفردية مثلما يوجد متاجر صغيرة بمجموعة عملاء محدودة إلى جانب المتاجر متعددة الأقسام. فقد يؤسس الأشخاص سمعة فردية وقد يفضل بعض المرضى الخصوصية والحميمية التي يشعرون بها عند تعاملهم مع ممارس فردي. وكذلك من الممكن أن توجد مجالات محدودة للغاية لدرجة يتعذر معها وجود فرق طبية بها، وما إلى ذلك.

أنا لا أريد حتى التأكيد على أن الفرق الطبية قد تهيمن على المجال، فهدفي هو التأكيد بالأمثلة على أن هناك العديد من البدائل للمنظومة الحالية للممارسة. إن استحالة إدراك أي فرد أو مجموعة صغيرة لكافة الاحتمالات — ناهيك عن تقييم مزاياها — بمثابة الحجة الأقوى ضد التخطيط المركزي للحكومة وضد نظم مثل الاحتكارات التي تحد من احتمالات التجريب. على الجانب الآخر، تكمن الحجة البارزة بالنسبة للسوق في أنها تسمح بالتنوع، وفي قدرتها على استغلال نطاق واسع من المعرفة والمقدرة الخاصة؛ فهي تجعل بعض المجموعات الخاصة غير قادرة على التجريب وتجعل العملاء لا المنتجين من يقرر ما أفضل ما يحقق للعملاء ما يريدون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤