الفصل الحادي عشر

قرب الوقت الذي تنبَّأ عنه نابوليون، وأوشكت الخصومة المتستِّرة أن تستحيل إلى حرب علنية، فترك الإمبراطور عاصمته في أوائل شهر آب ليتَّجه إلى معسكر بولونيا ويُشْرِف على الجيش المستحكم على الشواطئ.

لم يطل هذا السفر أكثر من شهر، في هذه المدة أصدر الإمبراطور أمرًا بجمع ثمانين ألف رجل على حدود النمسا. ولدى عودته إلى باريس فكَّر في وسط مشاغله الحربية، بإعادة تنظيم الرزنامة الغريغورية؛ إذ إن «الطقس» الجمهوري إنما كان منافيًا لمجموع التنظيمات الدولية التي كان يُحاط بها في كلِّ مكان وَلَجَت إليه سلطته. على أن تقسيم السنة التي اعتمدت عليه الاتفاقية إنما كان مؤسسًا على حساب علمي، ولكن العلم أيضًا سيظهر ضرورة العودة إلى الرزنامة القديمة ويعهد إلى لابلاس بتجديد عمل روما.

بعد مرور عشرة أيام من صدور المرسوم القاضي باستبدال الرزنامة القديمة بالرزنامة الجمهورية رأى نابوليون نفسه مضطرًّا أن يبيِّن، لمجلس الشيوخ، سلوك النمسا وروسيا العدائي ويعلن سفره القريب إلى الجيش، قال: «حضرات الشيوخ، إن ظروف أوروبا الحالية أحوجتني إلى أن أكون بينكم لأُطْلِعَكم على ميولي.

سأترك عاصمتي لأضع نفسي على رأس الجيش، وأحمل إلى حلفائي نجدة سريعة، وأدافع عن أعز مصالح شعوبي.

إن أماني الأعداء البريِّين قد تمَّت؛ إذ قد بدأت الحرب في قلب ألمانيا، إن النمسا وروسيا قد اتَّحدتا مع إنكلترا، واندفع جيلنا من جديد في جميع كوارث الحرب. كنت منذ أيام لم أزل أعلِّل النفس بالسلام، ولكن الجيش النمسوي عبر الأين، وهوجمت مونيخ، وطرد منتخب بافيير من عاصمته. إذن فجميع آمالي قد تلاشت.

لقد انكشفت اليوم رداءة الأعداء البريين. إنهم خافوا أن تعود النمسا إلى ميولٍ عادلة معتدلة فجرُّوها إلى الحرب. أما إنني لآسف على الدم الذي سيُهرَق في أوروبا، ولكن الاسم الفرنسي سيلمع لمعانًا جديدًا.

أيها الشيوخ، عندما وضعت على رأسي التاج الإمبراطوري تقبَّلت منكم ومن المواطنين جميعهم عهدًا بتأييده سالمًا لا لُطْخَة عليه. لقد أعطاني شعبي في جميع المواقف براهين عن ثقته وحبِّه، وسيطير تحت أعلام إمبراطوره وجيشه التي لا يمر وقت قصير حتى تجتاز الحدود.

إن الحكام والجنود المواطنين جميعهم يرغبون في توطيد الوطن بعيدًا عن نفوذ إنكلترا التي، إذا انتصرت، لا تمنحنا إلَّا صلحًا محاطًا بالذل والعار، وتكون شروطها الأولى إحراق بواخرنا، وإتلاف مرافئنا، وملاشاة صناعتنا.

لقد حقَّقت جميع الوعود التي أعطيتُها للشعب الفرنسي، وسيظل الشعب الفرنسي، في هذه الظروف الحرجة، عاملًا على استحقاق لقب الشعب الكبير الذي حيَّيته به في وسط ساحات القتال.

أيها الفرنسيون، سيقوم إمبراطوركم بواجبه، ويقوم جنودي بواجبهم، وأنتم تقومون به أيضًا.»

فأجاب مجلس الشعب على نداء الإمبراطور بأن ارتأى جمع ثمانين ألف رجل وإعادة تنظيم الحرس الوطني. وأراد التريبونه كذلك أن يبرهن عن غيرته وإخلاصه فخفَّ حاملًا، إلى أقدام العرش، عباراتِ السخط الشديد على سلوك روسيا والنمسا العدائي، ثم إن سلطات العاصمة لم تجد لائقًا بها أن تبقى صامتة في مثل تلك الأحوال الحرجة، فجاء حاكمُ السين، فروشو، على رأس المجلس البلدي ليسلِّم إلى الإمبراطور مفاتيح باريس رمزًا لخضوع المدينة وإخلاصها. قال: «إن كانوا حقًّا يريدون النيل منك ومن استقلال الأمة وحريتنا وتنظيماتنا فمُر بأن نشترك جميعًا في الدفاع، وتأكَّد أنه إذا كان موجب للزحف فإننا مستعدُّون إلى اللحاق بك، إلى خدمتك والثأر لك.»

ترك نابوليون باريس في الرابع والعشرين من شهر أيلول، بعد أن وثق من اتحاد فرنسا على محبته والإخلاص له، ووطَّد معسكره في ستراسبورج حيث نشر في التاسع والعشرين النداء التالي الموجَّه إلى الجيش:

أيها الجنود

لقد بدأت حرب العصبة الثالثة، وعبر الجيش النمسوي الأين، وخرق المعاهدات، وهاجم حليفنا وطرده من عاصمته … ألا إنكم قد عبرتم الرين ولن نقف ما لم يحقق استقلال الفرقة الجرمانية، ما لم ننقذ حلفاءنا، ونخزِ كبرياء المعتدين البغاة، ولن نعقد صلحًا بعدُ من غير ضمان، ولن يخدع كرمُنا سياستَنا مرة أخرى.

أيها الجنود، إن إمبراطوركم بينكم ولستم إلَّا الصف الأول في الشعب الكبير، وإذا كان هناك داعٍ؛ فإن هذا الشعب لينهض كله، لدى نداء مني، فيخزي ويُشتِّت تلك العصبة الجديدة التي نسجتها أحقاد إنكلترا وذَهَبُها.

ولكن، أيها الجنود، أمامنا زحف شاق وأتعاب، ومقاساة حرمان مختلف الوجوه، إلَّا أننا سنقهر جميع تلك الحوائل، ولا نأخذ راحةً لنا ما لم نغرس نسورنا في أراضي الأعداء.

نابوليون

بعد أن عبر الإمبراطور الرين إلى كهل بات في أتلنجن في الواحد من تشرين الأول حيث استقبل منتخب باد وأمراءها، واتَّجه إلى لويسبورج حيث سكن في قصر منتخب ورتنبرج.

في السادس منه دخل الجيش الفرنسي إلى بافيير بعد أن تجنَّب الجبال السوداء وخطَّ الأنهر المتوازية التي تنصب في وادي الدانوب. في ذلك الحين وجد النمسويون نفوسهم مُهدَّدين من الوراء بعد أن حاولوا الزحف حتى منافذ الغاب الأسود ليَحُولوا دون مرور الجيش الفرنسي.

وفي اليوم نفسه وجَّه الإمبراطور نداءً إلى الجنود البافاريِّين، قال: «لقد وضعت نفسي على رأس جيشي لأنقذ وطنكم من الظالمين المغتصبين … إنني أعرف بسالتكم، وأراني فخورًا بأن سيتاح لي، بعد المعركة الأولى، أن أقول لأميركم ولشعبي إنكم أهلٌ لأن تقاتلوا في صفوف الجيش الكبير.»

وفي اليوم التالي استولى مائتا جنديٍّ من فرقة مورات على جسر ليك الذي دافع عنه الأعداء من غير جدوى. ولقد هاجم الكولونيل واتيير على رأس هؤلاء البواسل.

وفي اليوم الثامن، هجم المرشال سول على أوجسبورج. في أثناء ذلك كان مورات يحاول أن يقطع طريق أولم على أوجسبورج وهو على رأس ثلاث فرق من الخيَّالة. وعندما التقى بالعدوِّ في ورتنجن قاتله بشدة وقُدِّر له، بمعاضدة المرشال لان الذي أقبل مع فرقة أودينو، أن يُجْبِر الفرقة النمسوية المؤلفة من اثني عشر فيلقًا من الرمَّاحة على إنزال السلاح. أراد الإمبراطور أن يُطْلِع حاكم مدينة باريس وشيوخ الصلح فيها على تلك الواقعة اللامعة فأرسل إليهم الأعلام والمِدْفعَيْن التي أُخِذت من العدو لتوضع في أُوتيل ده فيل. وكان المرشال سول قد دخل في الليلة الماضية إلى مدينة أوجسبورج مع فرق فاندام وسنت هيلير ولوكران.

بينما كان الإمبراطور يستعرض الرمَّاحة في قرية زومر هوسن أمر بأن يمثُل لديه المدعوُّ مارنت الذي أنقذ قائده في ممرِّ ليك، بالرغم من أن هذا كان قبل أيامٍ نزع عنه رتبة ملازم ثانٍ، وأعطاه نسر جوقة الشرق جزاء بسالته، فقال هذا: «إنني لم أعمل إلَّا واجبي. كان قائدي قد نزع عني رتبتي لبعض ذنوب اقْتَرفتُها إلَّا أنه يعلم جيدًا أنني كنت دائمًا جنديًّا مخلصًا.»

لم يكن سلوك الرمَّاحة في موقعة جسر ليك أقلَّ منه بسالة في ورتنجن؛ فوزَّع عليهم الإمبراطور نسر جوقة الشرف كما عمل مع مارنت. وعندما جاء أكسلمان، قائد الخيالة ومعاون مورات، الذي قُتِل جوادان تحته في تلك المعركة، حاملًا إلى المعسكر الأعلام التي أُخِذَت من النمسويين، قال له نابوليون: «إنني أعلم أنه لا يمكن أحدًا أن يكون أكثر بسالة منك، فأنا أجعلك ضابطًا في جوقة الشرف.»

بعد مرور أربع وعشرين ساعة على موقعة ورتنجن، أُتِيح للكتيبة التاسعة والخمسين من فرقة المرشال ناي أن تأخذ بالسلاح الأبيض جسر غنزبورج الذي دافع عنه الأرشيدوق فردينند بنفسه. أما الكولونيل لاكوي الذي قاتل ببسالة فقد بقي في ساحة القتال.

تشتَّت النمسويون في جميع الجهات، وأتيح للجيش الفرنسي، وهو يطاردهم، أن يجري أعمالًا حاذقة حتى قطع عليهم جميع مواصلاتهم. جاء في المذكرة اليومية الخامسة ما يلي: «عندما عبرت فرقة جيش القائد مارمون المَضِيق كان الإمبراطور على جسر ليك، فشكَّل كل كتيبة بشكل دائرة وأطلعها على موقف العدوِّ وعلى قرب حدوث موقعة كبرى، ثم عبَّر عن ثقته الأكيدة بها، في تلك الآونة كان الثلج يهطل بغزارة، والأوحال تغمر الكتائب حتى الرُّكَب، والبرد القارس يلج منافذ الأبدان، إلا أنَّ كلمات الإمبراطور كانت شعلةً مضطرمة ينسى الجندي، لدى سماعها، أتعابه وحرمانه ويرقب ساعة القتال بفارغ صبر.»

في الرابع عشر من شهر تشرين الأول كانت عاصمة البافيير قد سلَّمت، فدخلها المرشال برنادوت في الساعة السادسة من الصباح بعد أن طرد منها الأمير فردينند الذي ترك ثماني مائة أسير تحت تصرُّف المنتصر. وفي الوقت نفسه كانت فرقة فرنسية، تحت قيادة الجنرال ديبون، مؤلَّفة من ستة آلاف رجل لا غير، تقاوم عساكر محافظة أولم المؤلَّفة من خمسة وعشرين ألفًا مقاومةً شديدة، حتى أُتِيح لها أن تستولي على ألف وخمس مائة أسير منهم في معركة البيك.

جاء الإمبراطور بنفسه إلى الفرقة المعسكرة أمام أولم في الثالث عشر من شهر تشرين الأول، وأمر بالاستيلاء على الجسر ومكان الشنجن لتسهيل محاصرة الجيش العدوَّ. وفي الرابع عشر منه عبر المرشال ناي هذا الجسر، واستولى على مكان الشنجن بالرغم من المقاومة الشديدة. وفي اليوم التالي، ظهر الإمبراطور أمام أولم مرة ثانية، واصطفَّ مورات ولان وناي للقتال ليشرعوا بالمهاجمة، في حين كان سول مستوليًا على بيبراك، وبرنادوت ينجز هزيمة الجنرال كيينماير. أما الوحل في معسكر أولم فكان يغمر الجنود حتى رُكَبهم، وكان مضى على الإمبراطور ثمانية أيام لم يغيِّر فيها حذاءه، وفي السابع عشر منه استدرك ماك الهجوم فسلم، وبقي الجنود المحافظون أُسَراء جميعهم.

كان نابوليون يعتبر موقعة ألشنجن كألمع موقعة حربية تذكر. وفي الثامن عشر منه كتب إلى مجلس الشيوخ، من المعسكر العام المقيم بتلك الساحة الحربية المجيدة، يقول: «لقد شتَّتُّ منذ دخولي إلى الموقعة جيشًا مؤلفًا من مائة ألف جندي أَسَرْت نصفهم وقتلت وجرحت النصف الآخر … إذن فلقد تمَّمت الواجب الحربي الأول. إن منتخب بافيير قد عاد إلى عرشه، وصعقت الصاعقة المغتصبين الظالمين، وإني لآمل بعون الله أن أنتصر على أعدائي الباقين بوقت قصير.» وفي اليوم نفسه رفع كتابًا إلى أساقفة الإمبراطورية يدعوهم به إلى إقامة الذبيحة قال: «إنَّ الانتصارات العظيمة التي ربحتها جيوشنا من العصبة الظالمة، التي ألفتها أحقاد إنكلترا وذهبها، شاءت أن أرفع وشعبي الحمد إلى إله الجيوش، ونتوسَّل إليه أن يبقى معنا في كلِّ حين.»

تمَّت شروط تسليم أولم في العشرين من شهر تشرين الأول. مرَّ خمسة وعشرون ألفًا من الجنود النمسويين، وستون مدفعًا، وثمانية عشر قائدًا، أمام الإمبراطور الذي كان واقفًا على مرتفعات دير الشنجن المطلة على الدانوب. فعندما أبصر نابوليون ذلك الجيش الأسير مارًّا أمامه، قال للقوَّاد النمسويين الذين دعاهم إلى الدنوِّ منه: «أيُّها الأسياد، إن مولاكم شهر عليَّ حربًا غير عادلة، وإني لأصرح بكلِّ صدق أنني لا أعلم فيم أحارب، وماذا يريدون مني.» فأجابه ماك أن إمبراطور ألمانيا لم يرغب في الحرب لو لم تضطره روسيا. فقال نابوليون: «إذن فلستم سلطةً أنتم؟»

وفي الواحد والعشرين من شهر تشرين الأول أُذِيع نداء آخر على الجيش من المعسكر العام في ألشنجن، وهذا هو:

يا جنود الجيش الكبير

لقد أنجزنا موقعة في خمسة عشر يومًا، وتمَّ لنا كلُّ ما رغبنا فيه؛ لقد طردنا كتائب البلاط النمسوي من بافيير، وأعدنا حليفنا إلى ولاياته. وأما الجيش الذي تعدَّى على حدودنا بجسارة وتهوُّرٍ فقد تلاشى جميعه، ولكن ما هم إنكلترا ألم تبلغ أمنيتها؟

إن من المائة الألف الذي يؤلِّفون هذا الجيش، ستين ألفًا من الأسراء، سينوبون عن المطلوبين للجندية من شعبنا في إشغال المواقع. وإن مائتي مدفع، وتسعين علمًا، وجميع القوَّاد هم تحت سلطتنا، ولم يهرب من ذلك الجيش أكثر من خمسة عشر ألفًا. أيها الجنود، كنت أعلنت لكم عن موقعة كبرى، ولكن سوء نظام العدوِّ أتاح لي أن أنتصر انتصارًا باهرًا من غير مشقات عظيمة؛ ومن الغريب من تاريخ الأمم، أن نتيجة كبرى كهذه، لم تضعف قوانا بأكثر من ألف وخمس مائة رجل.

أيها الجنود، إن هذا النجاح الباهر مرجعه ثقتكم اللَّا حد لها بإمبراطوركم، وصبركم على تحمُّل الأتعاب والحرمان من كلِّ شيء، وشجاعتكم العظيمة النادرة.

ولكننا لا نقف هنا. فإني أراكم تتوقون إلى الشروع بموقعة أخرى. إذن فسينال الجيش الروسي الذي جاء به ذهب إنكلترا من أطراف الأرض ما نال الجيش النمسوي منَّا.

إن شرف العساكر المشاة مُتعلِّق بهذه الموقعة. إذن فستعالجون النصر مرةً أخرى كما عالجتموه مرَّات عديدة، وتثبتون للأمم أن العساكر المشاة الفرنسيين إنما هم الأولون في أوروبا، وسأجتهد في أن أوفِّر دمًا في اكتساب ذلك النصر؛ ألا إن جنودي إنما هم أولادي.

وترك الإمبراطور ألشنجن وأخذ طريق مونيخ التي دخلها في الرابع والعشرين من أيلول.

وفي نهاية الأمر، بعد مسيرة منتصرة، وصل الجيش الكبير أمام فيينا. وفي العاشر من شهر تشرين الثاني حمل الإمبراطور معسكره العام إلى مولك حيث سكن في دير من أجمل أديرة أوروبا، وهو فضلًا عن ذلك مركزٌ مُحصَّن يُشْرِف على الدانوب، كان الرومانيون قد اتَّخذوه مركزًا قويًّا لهم وأطلقوا عليه لقب «البيت الحديدي».

وقبل أن يدخل الجيش الفرنسي إلى عاصمة النمسا كان من حقِّه أن يضيف نصرًا جديدًا على انتصاراته اليومية. ففي الحادي عشر من تشرين الثاني التقت كتيبة فرنسية مؤلَّفة من أربعة آلاف رجل يقودهم المرشال مورتيه بالجيش الروسي في قرية دييرنستن، فجرت بينهما موقعة دامت من الساعة السادسة صباحًا إلى الرابعة بعد الظهر قُيِّض فيها للكتيبة الفرنسية الباسلة أن تشتِّت الجيش الروسي الكثير العدد وتقتل منه أربعة آلاف وتأسر ألفًا وثلاث مائة. وبعد يومين من هذه الموقعة المشهودة دخل الجيش الكبير إلى عاصمة فيينا، وعبر المرشال لان والقائد برتران في الأول الجسر الذي لم يتمكن الأعداء من إحراقه.

أما الإمبراطور فلم يشأ أن يدخل إلى النمسا؛ فوطَّن معسكره العام في قصر شنبرن الذي بنته ماري تيريز. وأما البلاط النمسوي فقد كان هجر العاصمة ولحق ببقايا الجيش. عند هذا اتجهت السلطة التي بقيت في فيينا، وعلى رأسها السيد ده بوبنا، إلى شنبرن لترفع واجبات الإكرام إلى الإمبراطور. فرحَّب نابوليون بهذا الوفد ونشر إذاعة أمر بها جنوده بالمحافظة على النظام التام واحترام الأهالي وحقوقهم.

إن الاستيلاء على فيينا لم يوقف المجريات العسكرية؛ فإنَّ مورات ولان، اللذين بقيا يطاردان الجيش النمسوي الروسي في انهزامه نحو المورافي، أُتِيح لهما أن يقاتلاه يومين كاملين، ١٥ و١٦ تشرين الثاني، في هوللنبرن وجونتروف. ولقد لعب المرشال سول دوره في تلك الواقعة الأخيرة.

في تلك الأثناء كان المرشال ناي، الذي عُهِد إليه بالإغارة على التيرول، يقوم بواجبه بما فُطِر عليه من الذكاء والبسالة حسب تعبير المذكِّرة الخامسة والعشرين؛ فبعد أن استولى على قلعتي شارنيز ونوستارك دخل إلى أنسبروك في السادس عشر من شهر تشرين الثاني فوجد فيها ستة عشر ألف بندقيَّة وكميَّة وافرة من البارود.

وفي اليوم التالي من موقعة جونتردف حمل الإمبراطور معسكره العام إلى زنائيم ومن ثم إلى بورليز فبرون. وكان الروسيون في انهزامهم يقاسون كلَّ يوم انكسارًا جديدًا. في نهاية الأمر خُدِعوا بحركة تقهقهر عالَجَها نابوليون لِيُوهِمَهم أنه في موقف خطر عليه وعلى جيشه فوقفوا، واتخذوا موقف القتال، جاهلين أن رئيس الجيش الفرنسي إنما عالج ذلك ليوقفهم في المكان الذي اختاره لمقاتلتهم. عند هذا جمع نابوليون مرشالييه وأشار إلى صفوف الأعداء صارخًا: «هذا الجيش لي.» وبعد ذلك نشر نداء من معسكر أوسترلتز يقول فيه: «أيها الجنود، إن الجيش الروسي يتأهَّب للأخذ بثأر الجيش النمسوي، فسترون الكتائب نفسها التي قاتلتموها في هوللابرون وطاردتموها حتى هذا المكان.

إن المراكز التي نشغلها لَمراكز هائلة. أيها الجنود، سأدير بنفسي جميع كتائبكم، وسأبقى بعيدًا عن النار إذا ألقيتم التشويش وسوء النظام في صفوف الأعداء بما فُطِرتم عليه من البسالة والذكاء. وأما إذا تبيَّن لي أن النصر بعيد المنال؛ فإنكم لترون إمبراطوركم مُعرِّضًا نفسه للضربات الأولى؛ إذ إن النصر لا ينبغي أن يتردَّد فترةً في تلك الواقعة العصيبة التي يتوقَّف عليها شرف المشاة الفرنسيين.

ويجب على كلٍّ منكم أن يضع أمام عينيه هذه الفكرة وهي قهْر هؤلاء المأجورين، الذين أدَّبت فيهم إنكلترا الأحقاد على أمتنا.

ثم إن هذا النصر يضع حدًّا للحرب، فيُتاح لنا إذ ذاك أن نعود إلى معسكرنا الشتوي، الذي سنجتمع فيه بالجيوش الجديدة التي تتألَّف في فرنسا، ويكون السلام جديرًا بشعبي، بكم وبي.»

كانت فرنسا من عيد التتويج السنوي على يوم واحد، فجرت في المساء تنويرات في المعسكر احتفالًا بتلك الذكرى. وفي اليوم التالي تحقَّقت آمال نابوليون؛ إذ إن نظرياته العسكرية، التي عضدها ذكاء قوَّاده وبسالتهم وشجاعة جنوده، قد حملت إليه في أوسترلتز انتصارًا من تلك الانتصارات الجازمة التي لا تُذكَر في تاريخ حياة القوَّاد العظام إلَّا في الندر. وهذه هي تفاصيل الموقعة الكبرى كما وردت في المذكِّرة الثلاثين.

موقعة أوسترلتز

«في السادس من فريمير،١ أعطى الإمبراطور هدنة ليوفِّر الدم فيما إذا رضي العدوُّ بعقد صلح نهائي، إلا أنه ما لبث أن شعر بأن للعدو فكرة أخرى، وأن المداولات ليست إلَّا حيلة حربية لإرقاد انتباهه.

في السابع منه، الساعة التاسعة صباحًا، أُتِيح لجحفل من الكوزاك عضَّدته كتيبة من الخيَّالة الروسيين أن تثني الصفوف الأولى من جيش الأمير مورات، وتحدق بفيشو، وتأخذ خمسين رجلًا من مشاة الفرقة السادسة، في ذلك النهار اتجه إمبراطور روسيا إلى فيشو، واتخذ الجيش الروسي مركزًا له وراء هذه المدينة.

كان الإمبراطور قد أرسل معاونه الجنرال سافاري ليهنئ إمبراطور روسيا عند وصوله إلى الجيش. وفي حين كان الإمبراطور يستطلع عن عدد الأعداء المعسكرين في فيشو، عاد إليه الجنرال سافاري شاكرًا إمبراطور روسيا على ما أبداه نحوه من الحفاوة والإكرام، ومُثْنِيًا على الغرندوق قسطنطين لحسن اعتنائه به، ولكن كان من السهل عليه أن يدرك، من المباحثات التي جرت بينه وبين الحاشية المحيطة بإمبراطور روسيا، أن الشكوك والتهوُّر والطيش ستسود في الديوان العسكري كما سادت في الديوان السياسي.

إن جيشًا تلك إدارته لا يلبث أن يرتكب هَفَوات. أما الإمبراطور فأعطى في الحال أمرًا للجيش بالتقهقر، كم ينهزم، واتَّخذ مركزًا حسنًا على مسافة ثلاثة فراسخ إلى الوراء، وشرع يجتهد في تحصينه وتنظيم الكتائب فيه.

ثمَّ بعث إلى إمبراطور روسيا يطلب مقابلة، فأرسل إليه هذا معاونه دولكوروكي، الذي استطاع أن يلاحظ تحفُّظ العسكر الفرنسي وضعفه؛ إذ إن موقف الحرس الكبير والتحصينات التي كانت تجرى بسرعة أرت الضابط الروسي جيشًا نصف مغلوب.

إن الإمبراطور، الذي لم يكن من عادته أن يستقبل المداولين في معسكره العام بتحزُّر واحتراس، اتَّجه بنفسه إلى مكان الجيش حيث اجتمع بالضابط الروسي الذي، بعد أن حيَّاه، أراد أن يلج معه مسائل سياسية. إلَّا أن الإمبراطور لم يلبث أن تبيَّن له أن الضابط يخبِط خَبْطَ عَشْواء في كلامه المجرَّد من أيَّة معرفة بمصالح أوروبا وموقف البر. كان الضابط، بكلمة واحدة، بوقًا صغيرًا تنفخ إنكلترا به. فأخذ يخاطب الإمبراطور مخاطبته لضابط روسي دونه مقامًا وقدرًا، ثم عاد إلى الإمبراطور إسكندر، وملء زعمه أن الجيش الفرنسي على وشك الانكسار. ولقد يدرك، كم تحمَّل الإمبراطور من ذلك الضابط، من علم، أن هذا عرض عليه في نهاية الحديث، أن يتخلَّى عن بلجيكا ويضع التاج الحديدي على رأس ألدِّ أعداء فرنسا.

في العاشر من الشهر أبصر الإمبراطور بفرح عظيم من أعلى معسكره الجيش الروسي يحاول على قيد رميتي مدفع أن يحوِّل ميمنته، وتبيَّن له إذ ذاك إلى أيِّ حدٍّ ضلَّل جهل الفن الحربي عمدة ذلك الجيش، ولقد قال مرارًا: «سيصبح هذا الجيش في قبضتي قبل غدٍ مساء.»

على أن شعور العدوِّ كان يختلف اختلافًا بيِّنًا، فكان يدنو من حرسنا الكبير إلى مسافة رمية غدَّارة، غير خائفٍ إلَّا من أمر واحد وهو أن يفلت منه الجيش الفرنسي. أما الجيش الفرنسي فكان يعالج إبقاء هذه الفكرة في مخيِّلة العدوِّ. وبعد هنيهة زحف الأمير مورات، مع فرقة قليلة من الخيَّالة، إلى السهل وما لبث أن عاد بسرعة مُظْهِرًا استغرابه من قوى العدوِّ الهائلة. كان كلُّ ذلك يرمي إلى إضلال القائد الروسي وإثباته في وهمه. وفي المساء أراد الإمبراطور أن يزور الجيش مقنَّعًا، إلَّا أنه لم يكد يخطو بضع خطوات حتى كُشِف أمره. لا يمكن وصف الفرح الذي استولى على الجنود لدى رؤية الإمبراطور. رفعت فوانيس من القشِّ على ألوف من الخشبات الطويلة، ومَثَل ثمانون ألف رجل أمام الإمبراطور يحيِّونه بالهتاف الشديد، وما هي إلا ثوانٍ قلائل حتى دنا منه أحد الجنود القدماء وقال له: «مولاي، إنك لن تعرِّض نفسك، وإنِّي لأعدك باسم الجيش، بألَّا تحتاج إلى القتال بسوى العيون، وإننا سنحمل إليك غدًا أعلام الجيش الروسي لنحتفل بمهرجان تَتْويجك.» وعندما دخل الإمبراطور إلى معرَّسه، وهو كوخ بناه له الجند من القشِّ، قال: «هذه أجمل ليلة في حياتي، ولكنِّي أفكِّر بأسف أني سأفقد عددًا كبيرًا من هؤلاء البواسل.» لو قُدِّر للعدو أن يرى هذا المشهد لقُطع به، ولكنه بقي مستمرًّا في الإسراع إلى حتفه.

قام الإمبراطور باستعداداته الحربية بأسرع ما يكون، فأرسل المرشال دافو إلى دير رايجرن مع فرقة من فرقه وأخرى من الرماحة ليحجز الجناح الأيسر من العدوِّ، وأعطى المرشال لان قيادة الميسرة، والميمنة إلى المرشال سول، والوسط إلى المرشال برنادوت، والخيَّالة جميعها إلى الأمير مورات. كانت ميسرة المرشال لان مستحكمة في سانتون، وهي مركز عظيم حصَّنه الإمبراطور ووضع فيه ثمانية عشر مدفعًا، وعهد بحراسته إلى فيلق المدفعية الخفيفة السابعة عشرة. وكانت فرقة القائد سوشه تؤلِّف ميسرة المرشال لان، وفرقة القائد كافاريللي تؤلِّف ميمنته المدعمة بخيَّالة الأمير مورات. وكان أمام هذه فرقتا الهوسَّار٢ والقناصة تحت قيادة الجنرال كيلليرمان، وفرق رمَّاحة والتر وبومون، وفرق القائدين نانسوتي وهوتبول المدرَّعة مع أربعة وعشرين مدفعًا خفيفًا تحت الطلب.

وكان إلى يسار المرشال برنادوت، أي الوسط، فرقة القائد ريفو تدعمها ميمنة الأمير مورات، وإلى يمينها فرقة القائد دروه.

وكان إلى يسار المرشال سول قائد ميمنة الجيش فرقة الجيش فاندام، وفي وسطه فرقة القائد سنت هيلير، وإلى يمينه فرقة القائد الباسل لوكران.

وكان المرشال دافو مُنفصِلًا إلى يمين القائد لوكران الذي يحرس منافذ حياض سوكولنيز وسلنيز وقراهما، ومعه فرقة فريان ورمَّاحة فرقة الجنرال بورسيه. أما فرقة كودن فكان عليها أن تزحف في الصباح إلى نيكولسبورج لتحجز فرقة العدو وتمنعها من تجاوز الميمنة.

في ذلك الوقت كان الإمبراطور ومعه رفيقه الأمين المرشال برتيه، ومعاونه الأول القائد جونو، وجميع أركان حربه، تحت الطلب مع كتائب حرسه العشرة، وكتائب الجنرال أودينو العشرة التي يقود الجنرال دوروك قِسْمًا منها.

وكانت هذه الكتائب الاحتياطية مصطفَّة على خطَّين يتخللها أربعون مِدْفعًا تستخدمها فرقة مدفعية الحرس، وكان في نية الإمبراطور أن يهجم بهذه الكتائب حيثما يرى ضرورةً للهجوم. لقد كان هذا الاحتياط يوازي جيشًا كاملًا.

في الساعة الواحدة من الصباح، امتطى الإمبراطور جواده ليطوف المراكز ويتفقَّد مكان نيران العدوِّ، فانتهى إليه أن الروسيين صرفوا الليل بالسكر والهتاف، وأن فرقة من المشاة الروس اتجهت إلى قرية سوكولنيز التي تشغلها كتيبة من فرقة القائد لوكران.

في الحادي عشر من شهر فريمير صعدت الشمس ساطعة النور، وإذا بعيد ذكرى التتويج، الذي ستحدث فيه أجمل موقعة حربية في العصر، أجمل نهار من أيَّام الخريف.

إنَّ هذه الموقعة، التي أصرَّ الجنود على إعطائها لقب يوم الأباطرة الثلاثة، والتي لقَّبها غيرهم بيوم المهرجان، وسمَّاها الإمبراطور يوم أوسترلتز، لتبقى خالدة في مفاخر الأمة الكبرى.

كان الإمبراطور محاطًا بمرشاليته جميعهم ساعة أشرقت الشمس وظهر الأفق جليًّا، فأعطى أمره إلى كلٍّ من المرشالية بأن يتجه إلى فرقته، ثم عبر بين الجنود وقال لهم: «أيها الجنود، يجب أن ننهي هذه المعركة بصاعقة تقضي على كبرياء العدوِّ.» وما كاد يتلفَّظ بهذه العبارة حتى رُفِعت القبعات على رءوس الحراب، وهتف الجميع «ليحيَ الإمبراطور.» وبعد فترة قصيرة سُمِع دوي المدافع من أطراف الميمنة واشتبك القتال.

في تلك الساعة اهتزَّ المرشال سول، كمن أُصِيب بسكرة شديدة، ووثب إلى مرتفعات قرية برنجن بفرقتي القائدين فاندام وسنت هيلير، وبتر ميمنة العدو، ووثب مورات بخيَّالته، ومشت الميسرة التي يقودها المرشال لان. عند هذا دوَّت المدافع على طول الصفِّ، فإذا هي مائتا مدفع تتخلل مائتي ألف جندي؛ موقعة هائلة من مواقع الجبابرة! لم يمر ساعة على القتال حتى انشقَّت ميسرة العدوِّ، وأما الميمنة فوصلت إلى أوسترلتز معسكر الإمبراطورين العام اللذين أشارا إلى حرس إمبراطور روسيا بالزحف ليتفق لهما اجتماع الوسط بالميسرة. وما هي إلا مدة قصيرة حتى هاجم الحرس الإمبراطوري الروسي كتيبة من الفرقة الرابعة وقلبتها بطنًا لظهر؛ إلَّا أن الإمبراطور لم يكن بعيدًا، فعندما انتبه إلى هذه الحركة، أمر المرشال باسيير بأن يهجم لنجدة ميمنته بجنوده القاهرين.

أما النجاح فكان مضمونًا؛ إذ إن الحرس الروسي تشتَّت تشتُّتًا فظيعًا، واستولي على القائد والمدفعية والأعلام جميعهم، وأما جحفل الغراندوق قسطنطين، فقد سُحِق سحقًا، ولولا سرعة جواده لما استطاع هو نفسه سبيلًا إلى النجاة.

أبصر الإمبراطوران هزيمة الحرس الروسي من مرتفعات أوسترلتز. في تلك الساعة تقدَّم وسط الجيش الذي يقوده المرشال برنادوت، وأُتِيح لثلاث من كتائبه أن تحمل حملة باهرة، وقُيِّض للميسرة، التي يقودها المرشال لان، أن تحمل ثلاث حملات انتصرت جميعها. أما فرقة القائد كافريللي فقد امتازت أيضًا بما قامت به من الجهود، وقُدِّر للكتائب المدرَّعة أن تستولي على مدافع العدوِّ.

في الساعة الواحدة بعد الظهر كان النصر محتَّمًا من غير أن نحتاج إلى رجل واحد من الجيش الاحتياطي، أما الجيش العدو، الذي أُحِيط به من جميع أطرافه، فقد وجد نفسه محاصَرًا في بحيرة. عند هذا انقضَّ عليه الإمبراطور بعشرين مدفعًا وطارده من مركز إلى آخر؛ في ذلك الحين رأينا مشهدًا فظيعًا كمشهد أبو قير، حين ترامى عشرون ألفًا من الأعداء في المياه وأُغْرِقوا في البحيرات.

ألقت السلاح فرقتان من الروس تُعَد الواحدة أربعة آلاف وسلَّمتا أسيرتين. أما نتيجة هذا النهار فهي: أربعون علمًا روسيًّا بينهما أعلام الحرس الإمبراطوري، عددٌ من الأسراء كبير لم تتمكن أركان الجيش بعدُ من معرفتهم جميعهم، اثنا أو خمسة عشر قائدًا، خمسة عشر ألفًا من الروسيين بقوا في ساحة القتال وتُقدَّر خسائرنا بثماني مائة قتيل وألف وخمس مائة أو ألف وست مائة جريح. إن هذا لا يدهش العسكريين الذين يعرفون أن الهزيمة إنما هي وحدها التي تسبِّب خسارة الرجال، ولم ينكسر من فرقنا إلَّا كتيبة من الفرقة الرابعة لا غير. بين الأسراء: القائد سنت هيلير الذي أُصِيب في بدء المعركة فبقي طوال النهار في ساحة القتال، لقد أُفْرِغ عليه المجد، والقوَّاد كيلليرمان، والتر، فالهوبر، تييبو، كومبان، سباستياني وراب معاون الإمبراطور. هذا الأخير هو الذي قبض على الأمير ريبنان، قائد خيَّالة الحرس الإمبراطوري الروسي، في حين كان يهاجم تلك الخيَّالة وهو على رأس رمَّاحة الحرس. أما الرجال الذين امتازوا، فهم الجيش الذي أُفرِغ عليه المجد. لقد كانوا يَثِبُون إلى القتال هاتفين: ليحيَ الإمبراطور! وكانت فكرة الاحتفال بُعَيد التتويج الإمبراطوري تدبُّ في الجند روح الحماس والاستبسال.

كان الجيش الفرنسي، على ما هو عليه من كثرة العدد، أقلَّ عددًا من الجيش العدوِّ، الذي كان يُعَد خمسة آلاف رجل بعد المائة، بينهم ثمانون ألف روسي وخمسة وعشرون ألف نمسوي. لقد أُتلف نصف هذا الجيش وانهزم بعضه انهزامًا تامًّا، وألقى البعضُ الآخر السلاح.

إن هذه الموقعة لتكلِّف بطرسبرج دموعًا من دم! أتراها تنبذ ذهب إنكلترا بسخط شديد؟ وذلك الأمير الفتى، الذي تؤهِّله فضائله العديدة لأن يكون أبًا لشعبه، أتراه ينفض عنه نفوذ حاشيته المأجورة التي تفقده محبَّة شعبه له وتوقعه في أشد النكبات؟ إن الطبيعة، التي منحته الخصال الشريفة، أعدَّته ليكون مؤاسيًا لأوروبا، ولكن الآراء الجاحدة، التي جعلته حليفًا لإنكلترا، ستفسح له في التاريخ مكان الرجال الذين يعملون على تعاسة هذا الجيل. إن كانت فرنسا لا تستطيع أن تبلغ السلام إلَّا بالشروط التي عرضها دولكوروكي على الإمبراطور والتي عُهِد بحملها إلى السيد ده نوفوزيلزوف، فلتثق روسيا بأنها لن تنال ذلك وإن كان جيشها معسكرًا على مرتفعات مونمارتر.

في الثاني عشر صباحًا قدم الأمير جان ده ليكتنستن، قائد الجيش النمسوي، إلى الإمبراطور في معسكره العام وجرت بينهما مقابلة طويلة. على أننا نتابع نجاحنا. لجأ العدوُّ إلى كودنج على طريق أوسترلتز، فلحق به الجيش الفرنسي وأعمل فيه القتل.

لم يسطِّر التاريخ بعدُ موقعةً أفظع من هذه؛ لا يزال صراخ الألوف من الرجال صاعدًا من وسط البحيرات. إن القلب ليتفطَّر شفقة وحزنًا! ألا إن الدم المهروق والآلام الشديدة لتقع على رءوس الجبناء من الإنكليز.»

إن الملكية والأريستوقراطية الأوروبيتين، اللتين أُذلتا في شخص إمبراطوري ألمانيا وروسيا، ملكهما الغمُّ الشديد والانكسار الفظيع ساعة تناهى إليهما أن العصبة الجديدة قد صادفت في أوسترلتز الأمة نفسها التي صادفتها في زوريخ ومارنغو. ويظهر أن الحكمة العلياء أرادت أن تدبِّر تقاربًا في العهود فعيَّنت بنفسها، لعيد ذكرى التتويج، أول انتصار جازم للإمبراطور نابوليون، كأنما أرادت بذلك أن تثبت للعالم أن جنود الإمبراطورية إنما هم يكمِّلون بجدارة واستحقاق واجب الجحافل الجمهورية، وأن أبهات الحكم المطلق لم تُظمِئ عقلية الشعب والجيش أكثر مما أظمأتها روح القائد الكبير، وأن الثورة الفرنسية التي لن تُغلَب ما زالت تسود في فرنسا. إلا أن هذه النكبة، التي لم تُصِب إلا روسيا والنمسا ولكنها أثَّرت في برلين ولوندن تأثيرًا شديدًا، لم تؤدِّب محرِّكي الحرب.

بقي ديوان سن جمس مستمرًّا في خططه العدائية ضد فرنسا بالرغم من انكسار حلفائه انكسارًا تامًّا. ولقد جاءت عاقبة موقعة ترافالغار تمنحه تعويضًا عظيمًا؛ إذ إن المراكب الفرنسية والإسبانية المتحالفة قد أتلفها نلسون على شواطئ إسبانيا الجنوبية، على أنه دفع حياته ثمنًا لهذا الفوز الإنكليزي الجازم. تناهى هذا النبأ إلى نابوليون، وهو في وسط انتصاراته السريعة الباخرة على النمسويين والروس، فقال: «لقد صرفت معظم وقتي في البحث عن رجل النوتية من غير أن أوفَّق إلى وجوده. إن في هذه الحرفة خاصية ووضعية تقفان بي موقف الضائع … لو اتفق لي أن وجدت ذلك الرجل فأية نتيجة كانت أفلتت منَّا؟ ولكن ملكي لم يوفِّر لي رجلًا تمكن من ناصية النوتية فخلق فيها شيئًا جديدًا.»

إن إتلاف الأسطول الفرنسي أحزن الإمبراطور حزنًا شديدًا؛ إذ إنه أراه السلطان البحري راسخًا في يد الإنكليز. ولكن لِنَعُدْ الآن إلى أوسترلتز. في اليوم التالي لهذه المعركة قدَّم الأمير جان ده ليكتنستن، قائد الجيش النمسوي في مورافي، إلى معسكر الإمبراطور نابوليون. جاء يتوسَّل إليه بأن يسمح بمقابلةٍ لسيده، الذي كان بحاجة إلى كرم المنتصر وإنصافه؛ لينقذ تاجه وولاياته من تطبيق حقوق الفتح، فمنحه نابوليون ما أراد، وجرت المقابلة التي رغب فيها الأمير المغلوب، في اليوم نفسه، في مقرِّ البطل المنتصر.

عندما دخل الإمبراطور فرنسوا على نابوليون في كوخه قال له هذا: «إنني أستقبلك في القصر الوحيد الذي أسكنه منذ شهرين.» فأجابه الإمبراطور بتبسمة مغلوبة: «إنك لتستفيد جدًّا من سكنك هذا، وإنه ليحلو لك.» وما هي إلَّا بضع ساعات حتى اتُّفق على هدنة وأُجلت شروط الصلح. نزل إمبراطور ألمانيا عند الظروف فأخذ يلطِّف غضب القاهر على الإنكليز، فقال له بتكلُّف: «إنهم لتجَّار، يضعون البر في بركان من النار ليضمنوا لهم تجارة العالم.» ثم تكلَّم باسم إمبراطور روسيا فقال: «إنه ينفصل عن إنكلترا ويرغب في عقد الصلح على حدة.» ثم استطرد قائلًا: «إن فرنسا لمحقة في خصامها مع إنكلترا.» فرنسا محقَّة! أليس من الغرابة أن يُرى الأمراء، الذين هيَّجوا ضد فرنسا كتائب من الجند لا تُحصَى، يعترفون بحقِّ أعدائهم ويضعون المسئولية على كاهل حلفائهم؟ أليس من الفظاعة أيضًا أن لا يأتي هذا الاعتراف الفجائي إلَّا بعد عشرين موقعة تدفَّقت فيها دماء البشر كالسيل الجارف؟

لم يسئ نابوليون التصرُّف بالتفوُّق الذي أنالته إيَّاه حوادث الأمس، بل وعد أن يوقف زحف كتائبه ويترك الجيش الروسي في سبيله، بشرط أن يتعهَّد إسكندر بالعودة إلى ولاياته ويتخلَّى عن بولونيا النمسوية والروسية، فوعده الإمبراطور فرنسوا بذلك باسم إسكندر وانصرف، يتبعه الأميران ده ليكتنستن وده شوارتزنبرج، فشيَّعه نابوليون حتى مركبته وعاد ينام في أوسترلتز. قال نابوليون وهو عائد من تشييع الإمبراطور: «لقد أجبرني هذا الرجل على اقتراف هفوة؛ إذ كنت أستطيع أن أتابع انتصاري فأستولي على الجيش الروسي والنمسوي بأجمعه، ولكن لا بأس، فقد وفَّرت بذلك بعض قطرات من الدموع.»

كان نابوليون قد خاطب جنوده قبل المعركة ليُضْرِم فيهم الحماس ويتنبَّأ لهم عن النصر، ولم ينس أن يخاطبهم أيضًا بعد المعركة ليهنئهم بالبسالة النبيلة التي أظهروها في تحقيق نبوءته، قال: «أيها الجنود، إنني لمسرور بكم! لقد حقَّقتم في يوم أوسترلتز كلَّ ما توقعته من بسالتكم. لقد زيَّنتم نسوركم بمجد خالد … وإني لأحملكم إلى فرنسا عندما يتمُّ لنا كلُّ ما هو ضروري لسعادة الوطن ونجاحه. أيها الجنود، سيراكم شعبي بفرح عظيم، ويكفيكم أن تقولوا إذ ذاك: كنت في موقعة أوسترلتز؛ ليجيبكم السامع: هو ذا بطل.»

كان الجنرال سافاري، معاون نابوليون، قد رافق إمبراطور ألمانيا ليعلم هل يرضى إسكندر بالعهود التي اتخذت باسمه؟ أمَّا القيصر فبادر إلى تأييد الوعد الذي أعطاه حليفه العظيم، ثم قال للمرسل الفرنسي: «لقد كنتم دوني عددًا إلَّا أنكم فُقْتُموني في جميع خطط القتال.» فأجابه سافاري: «هذا فنُّ الحرب وثمرة خمس عشرة سنة من المجد، هي الموقعة الأربعون التي يشهرها الإمبراطور.» فقال القيصر: «صحيح، إنه لرجل حرب عظيم، أمَّا أنا فهي المرة الأولى التي أرى فيها النار، ثم إني لم أحدِّث نفسي قطُّ بمضارعته. لقد جئت لنجدة إمبراطور ألمانيا وها أنذا عائد إلى عاصمتي.»

وُقِّعت الهدنة المتفق عليها بين نابوليون وإمبراطور ألمانيا في السادس من شهر كانون الأول، ووُقِّعت بإمضاء المرشال برتيه والأمير ده ليكتنستن. إن توقيف العداوات هذا أُتْبِع بأمرين، قضى الأول بمنْح مرتبات تُصرَف لأرامل الجنود الذين قُتلوا في أوسترلتز وأولادهم، وقضى الثاني بتذويب المدافع الروسية والنمسوية التي غُنِمت في ساحة القتال لينصب بها في ساحة فاندوم عمود نصر تخليدًا لمجد الجيش الفرنسي. وأصدر الإمبراطور أمرًا ثالثًا يقضي، أولًا بأن يُثقَّف أولاد القوات والضباط والجنود الذين ماتوا في موقعة أوسترلتز على نفقة الدولة، وثانيًا بأن يجمع اسم نابوليون إلى أسمائهم المعطاة لهم عند عمادهم.

نقل المعسكر العام من أوسترلتز إلى برون٣ حيث طلب الإمبراطور الأمير ريبنان، أميرالاي الحرس، وقال له إنه لا يريد أن يحرم إمبراطور روسيا من جنوده البواسل، وإنه يستطيع أن يجمع أسراء الحرس الإمبراطوري الروسي جميعهم ويعود بهم إلى وطنهم.
وفي الثالث عشر من كانون الأول عاد نابوليون إلى شنبرن،٤ حيث استقبل وفد شيوخ صلح باريس وبشَّرهم بعقد الصلح القريب، وعهد إليهم بأن يحملوا إلى باريس الأعلام التي غُنِمت في أوسترلتز وخُصِّصت لكنيسة نوتردام. وفي الوقت نفسه كتب إلى الكردينال الأسقفي ليفوِّض إليه حراسة تلك الوديعة المجيدة، ويذكِّره بتلاوة الذبيحة الاحتفالية التي تُقام كلَّ سنة في كرسي الأسقفية لذكرى البسلاء الذين ماتوا في سبيل الوطن.

بينما كان الإمبراطور يستعرض الجنود في مدة إقامته بشنبرن وصل إلى الكتيبة الرابعة، التي قُهِرت في أوسترلتز وفقدت نسرها، فصرخ قائلًا: «أيها الجنود، ماذا صنعتم بالنسر الذي أنلتكم إياه؟ ألم تقسموا أن تدافعوا عنه بأرواحكم؟ فكيف نكثتم بقسمكم إذن؟» فأجابه الضابط: «إنَّ حامل العلم قُتِل في المعركة من غير أن يتبيَّنه أحد في وسط الدخان، إلَّا أن الفرقة قامت بواجبها حقَّ القيام؛ لأنها قهرت كتيبتين من الروسيين وغنمت منهما علمين.» عند هذا تردَّد نابوليون فترةً ثم طلب من الضباط والجنود أن يقسموا أنهم لم ينتبهوا إلى فقدان نسرهم، فأقسم الجميع على ذلك، فقال لهم الإمبراطور مبتسِمًا: «إذن فأنا أرد عليكم نسركم.»

جرت المداولات في سبيل السلام بنشاط كليٍّ، فنجم عنها معاهدة برسبورج التي وُقِّعت في السادس والعشرين من كانون الأول، واتحاد الولايات البندقية بمملكة إيطاليا، ورفع منتخبي البافيير وويرتنبرغ إلى المقام الملوكي، ولقد بشَّر نابوليون جيشه بهذا الحادث السعيد في نشرة أصدرها في السابع والعشرين منه قال لهم فيها: إنهم بعد أن رأوا إمبراطورهم يقاسمهم الأخطار والمشقَّات، سيجيئون ليروه مُحاطًا بالعظمة والمجد، اللذين هما ملك شرعي لرأس أول شعب في العالم، وزاد على ذلك بقوله: «إنني لأحيي مهرجانًا كبيرًا في أوائل أيار، في باريس، وستحضرونه جميعكم، ثم نذهب بعد ذلك إلى حيث تنادينا سعادة الوطن وخيرات المجد. أيها الجنود، إن الفكرة التي تمثِّلكم متألِّبين حول قصري، قبل ستة أشهر، تبسم في قلبي وأحسُّ لها حنوًّا شديدًا. سنحيي ذكرى الذين ماتوا في ساحة الشرف، وسيرانا العالم مستعدين لأن نحذو حَذْوَهم ونصنع بعدُ أكثر مما صنعنا — إذا اضطررنا إلى ذلك — ضدَّ الذين يحاولون النيل من شرفنا، أو الذين يستسلمون للذهب الفاسد الذي يبذله أعداء البر الأبديِّين.»

هذه اللهجة الفتَّانة الساحرة الساطية على أرواح الجنود، تلك النداءات الشخصية في مواقف الاستعراض، تلك اللهجة العسكرية الحميمة التي كان نابوليون يحسن معالجتها، هي التي جعلت البعض يقولون عنه إنه إنما كان يسطو بها على الجنود في ساحات القتال، وقد سمَّاها البعض نوعًا من الشعوذة. إلا أن الكَتَبة الذين عزوا إليه ذلك لم يدركوا أن صنعةً مثل هذه، إذا انطبقت على الحذاقة التي يبديها رجل كبير ليجعل الأمة أو الجيش جديرًا بتوليد أمور عظيمة لا يُستفاد منها أن الرجل الكبير ينحط إلى مستوى ما يسمُّونه مشعوذًا، بل إن هذه الشعبذة قد ترتفع إلى مستوى الوطنية والذكاء السياسي، وأحيانًا إلى عظمة النبوغ. ألا فليتصفَّحوا التاريخ يتضحْ لهم أن جميع المحسنين إلى الإنسانية، جميع المصلحين العظام، إنْ بوضع الشرائع، وإنْ بالدين أو بالفتوحات، إنما عالجوا الطريقة نفسها التي عالجها نابوليون في السيادة على الرجال والسير بهم إلى المقدرات العظمى. وإذا كانت الطريقة السامية التي اتخذوها في سبيل سعادة الأمم ومجدها تُسمَّى شعبذة، كما أن نفوذ المرشال دانكر على ماري ده ميديسيس سُمِّي سحرًا، فلا ينبغي، في عصرنا هذا، أن تنصب كوم الحطب لمثل هؤلاء المشعبذين، بل الأجدر أن يُقال: «المجد لشعبذتهم!»

إن وداع نابوليون لعاصمة النمسا لجديرٌ بأن تحضنه صفحات التاريخ كما حضنت آخر نداء وجَّهه إلى جيشه، قال: «سكان فيينا، إنني لم أَظْهَر بينكم إلا قليلًا، ليس ذلك عن ترفُّع أو عن كبرياء، ولكني لم أشأ أن أحوِّل فيكم أقلَّ ميل حقيق بأميركم الذي اتفقت معه على عقد صلح جازم. تفضلوا باستلام خزانة السلاح السليمة، التي جعلتْها قوانينُ الحرب ملكًا لي، هديَّة منِّي تبرهن عن احترامي الشديد لكم، واستخدموها دائمًا في سبيل المحافظة على النظام، أما الآلام التي كابدتموها فاعزوها إلى نكبات الحرب، وأما الرعاية التي حملها جيشي إلى نواحيكم فأنتم مدينون بها للكرامة التي استحققتموها.»

لم يكد هذا النداء يوقَّع، ويُعلَن الصلح لشعب فيينا والجيش الفرنسي، حتى أصدر نابوليون نداءً جديدًا أشهر فيه للعالم جحود بلاط نابولي الذي جاء يفتح مرافئه للإنكليز مزدريًا بمعاهدةٍ عُقِدت قبل شهرين. إن بعض البوربونيين اتحدوا مع إنكلترا وخانوا فرنسا؛ ما أثار كره الأمة ومَقْتها وأدَّى إلى خلع بوربونيي نابولي عن العرش. نعطي أولًا النداء الذي وجَّهه نابوليون إلى الجيش الكبير:

من معسكر شنبرن الإمبراطوري في ٢٦ كانون الأول ١٨٠٥
أيها الجنود

منذ عامين، عملتُ كلَّ ما بوسعي لإنقاذ ملكٍ، وعمل كلَّ ما بوسعه لهلاكه.

لم يستطع أن يقاومني إلَّا مقاومة ضعيفة، بعد معارك ديغو، وموندوفي، ولودي. ولقد وثقت بكلام هذا الأمير وكنت كريمًا نحوه.

عندما انحلَّت العصبة الثانية في مارنغو بقي ملك نابولي، الذي كان أول من شهر تلك الحرب الجائرة، وحيدًا لا عضد لديه وقد تخلَّى عنه جميع حلفائه في لونيفل، وتوسَّل إليَّ فغفرت له للمرَّة الثانية.

منذ أشهر قليلة كنتم على أبواب نابولي. وكان لديَّ إذ ذاك حججٌ شرعية في الاشتباه بالخيانة والثأر من الإهانة التي لحقت بي. إلَّا أني صفحت مرةً أخرى، واعترفت بتجرُّد نابولي، وأمرتكم بالجلاء عن هذه المملكة وأُنقِذ بلاط نابولي للمرة الثالثة!

أنغفر مرة رابعة؟ أنثق مرة رابعة ببلاط لا وفاء له ولا شرف ولا رشد؟ لا، لا! لقد نُزع السلطان من سلالة نابولي؛ فإن بقاءه لا يتفق مع راحة أوروبا وشرف تاجي.

أيها الجنود، ازحفوا، وأسقطوا بين الأمواج تلك الكتائب الضعيفة من طغاة البحار! وليشهد العالم كيف نعاقب المزوِّرين الخائنين العهود! لا تُبْطِئوا بإنبائي أن إيطاليا قد أصبحت جميعها راضخة لشرائعي، أو لشرائع حلفائي، وأن أجمل بلاد على الأرض قد حُرِّرت من رقِّ الرجال الجاحدين، وأن المعاهدات المُقدَّسة قد انتُقم لها، وهدأت أرواح جنودي البسلاء الذين قُتِلوا خنقًا في مرافئ سيسيليا لدى عودتهم من مصر، بعد أن تملَّصوا من أخطار الغرق، والصحاري، ومائة موقعة!

إن جيش إيطاليا، الذي قادته انتصارات ماسينا إلى حدود النمسا فأصبح الفرقة الثامنة من جيش ألمانيا، حقَّق بجدارة أمنية نابوليون باستيلائه على مملكة نابولي. أما هذا الفتح السريع فقد أُعلِن في المذكرة السابعة والثلاثين للجيش الكبير بهذه الكلمات: «مشى الجنرال سن سير إلى نابولي ليعاقب ويسقط عن العرش الملكة المجرمة التي تعدَّت على كلِّ ما هو مقدَّس بين الرجال بما أُوتِيت من قلَّة الحياء. ولما توسَّط لها البعض أمام الإمبراطور قال: إن امرأة تحاول إلقاء الأمة في بحر من الدم لا تستحق الصفح ولا الشفقة، لقد نُزِع السلطان من ملكة نابولي، وحققت تلك الجريمة الأخيرة قدرها. فلتذهب إلى لوندن تضاعف عدد الدسائس وتؤلف جمعية مع دراك، سبنسر، سميث، تايلور، وويكهام، وتستطيع أن تدعو إليها، إذا رأت موافقًا، البارون دارمفلد، ده فرزن، دانتريك، والراهب موروس.»

أراد نابوليون، قبل أن يغادر فيينا، أن يتفاهم بوضوح مع مُرسَلٍ مِن قِبَل ملك بروسيا هو السيد ده هو كويز، الذي لم يجئ إلى مسرح الحرب إلَّا ليرقب حركاتها ويتسنَّى له أن يسرع بشهر اتحاد سيده مع بلاطي النمسا وروسيا لدى أول انكسار يصدر من الجيش الفرنسي. إلا أن معركة أوسترلتز أجلت هذه الحركة، ولم يبقَ لدى الوزير البروسي إلَّا أن يهتمَّ بعقد معاهدة جديدة مع السيد ده تالليران، فلمَّا مثل أمام الإمبراطور قال له هذا بلهجة صارمة مع ترفُّع عظيم: «أهو تصرُّف شريف ذلك الذي ينهجه معي سيدك؟ كان أجدر به أن يشهر عليَّ الحرب مباشرةً، ولو لم يكن هناك سبب لشهرها … إنني لأؤثر الأعداء الأحرار على الأصدقاء المراوغين. ما معنى ذلك العمل؟ تقولون: إنكم حلفائي، ثم تعدُّون في مانوفر فرقة من ثلاثين ألف رجل لتلحقوها بجيش روسيا الكبير. لا أرى مُسوِّغًا لهذا التصرف، إن هو إلا مظاهر العداء! إذا كانت سلطتكم عاجزة عن معالجة هذه المسائل كلِّها فأخلدوا إلى النظام، أما أنا فسأزحف إلى أعدائي حيثما يكونون.» لم يستطع السيد ده هوكويز أن ينكر على نابوليون هذه التوبيخات الشرعية التي تلقَّاها منه، ولكي يُنسي موقفه الملتبس أظهر نفسه مستعدًّا لأن يداول مع فرنسا على الأسس التي عرضها السيد ده تالليران، فأمضى معاهدة علنية أُبدِلت فيها الهانوفر ضد زعامة بروت وانساخ، في حين كان السيد ده هردنبرج يداول في برلين مع ديوان لوندن على مرأى من ملك بروسيا نفسه. وسنرى قريبًا نتائج هذه المداولة المزدوجة.

بينما كان الإمبراطور عائدًا إلى باريس مرَّ بمونيخ حيث بقي بعض أيام ليحضر زفاف الأمير أوجين٥ إلى ابنة ملك البافيير. كتب الإمبراطور، من هذه العاصمة، في السادس من شهر كانون الثاني سنة ١٨٠٦، إلى مجلس الشيوخ المحافظ ليطلعه على أن معاهدة برسبورج ستخضع له عما قريب. قال: «أردت أن أطلعكم بنفسي على شروط المعاهدة، في جلسة علنية، ولكن زفاف ولدي الأمير أوجين إلى الأميرة أوغستا ابنة ملك البافيير سيؤخِّرني عن المجيء إلى باريس بضعة أيام، يُخيَّل إليَّ أن هذه الأيام طويلة على قلبي، ولكنِّي، بعد أن استسلمت طويلًا لواجباتي العسكرية، أشعر براحة عذبة في الاهتمام بواجبات رب عائلة. ولكن، لكيلا أؤخِّر نشر معاهدة الصلح، أصدرت أمري بأن تطلعوا عليها من غير مهلة.»

ثم أرسل الإمبراطور إلى مجلس الشيوخ كتابًا آخر يطلعهم فيه أنه تبنَّى أوجين، وأعطاه حقَّ الصعود بعده إلى عرش إيطاليا لعدم وجود أبناء شرعيِّين غيره.

جرى زفاف هذا الأمير الشاب في الخامس عشر من كانون الثاني سنة ١٨٠٦، في مونيخ. وحضره نابوليون وجوزيفين اللذان ازدانت بوجودهما الأعياد التي أحياها بلاط البافيير بمناسبة هذا الاتحاد. كان أوجين قد رفض بادئ ذي بدء النزول عند رغبة الإمبراطور في تزويجه من تلك الابنة؛ لأنه كان يمقت أن يتزوج زواجًا سياسيًّا، إلَّا أنه لم يكد يرى ويختبر الأميرة الشابة التي قُدِّرت له حتى وافق نابوليون على نظرياته.

بينما كان الإمبراطور يمد إقامته بالبافيير، كانت فرق الدولة الكبرى والشعب الباريسي تستعد لاستقبال قاهر أوسترلتز استقبالًا فخمًا.

في الواحد من شهر كانون الثاني سنة ١٨٠٦ حمل التريبونه إلى لوكسانبرج تتبعه الموسيقى العسكرية وقسم من عساكر محافظة باريس، الأعلام الأربعة والخمسين التي سلَّمها الإمبراطور إلى مجلس الشيوخ، وكان المهردار الكبير وجميع الوزراء حاضرين في تلك الجلسة، في ذلك الحين، أصدر مجلس الشيوخ أمرًا باسم الشعب الفرنسي يقضي:
  • أولًا: بتشييد تمثال نصر لنابوليون الكبير.
  • ثانيًا: بأن يمثُل مجلس الشيوخ أمام جلالته الإمبراطورية والملكية ويرفع إليها واجب إعجاب الشعب الفرنسي ومحبته وإخلاصه.
  • ثالثًا: بأن تُحفَر رسالة الإمبراطور إلى مجلس الشيوخ المؤرَّخة في السادس والعشرين من فنديميير عام ١٤، والصادرة من ألشنجن على صفائح من الرخام تُوضَع في قاعة جلسات المجلس.
  • رابعًا: بأن تُحفَر في ذيل هذه الرسالة الكلمات التالية:

    «إن الأعلام الأربعين، والأربعة عشر علمًا التي أضافتها إليها جلالته قد حملها التريبونه إلى مجلس الشيوخ ورُكِّزت في هذه القاعة يوم الأربعاء في الواحد من شهر كانون الثاني سنة ١٨٠٦.»

ولقد نالت كاتدرائية باريس حصَّتها في توزيع غنائم تلك المعركة الخالدة. علمنا قبلًا أن الأعلام التي خُصِّصت لها أُرسِلت إلى المجلس البلدي في باريس من معسكر شنبرن الإمبراطوري. في التاسع عشر من كانون الثاني قدم إكليروس الأسقفية ليستلمها بأبهة عظيمة على باب كنيسته التي رُكِّزت على قبابها العالية.

١  الشهر الثالث من السنة الجمهورية في فرنسا (من ٣١ تشرين الثاني إلى ٢٠ كانون الأول).
٢  جندي من الخيالة الخفيفة، وفي فرنسا أربعة عشر جحفلًا من الهوسار.
٣  مدينة في النمسا الهونغرية، عاصمة المورافي، عدد سكانها ١٢٥٠٠٠.
٤  قرية في النمسا، قرب فيينا، فيها القصر الإمبراطوري العظيم الذي مات فيه الدوق ده ريشتاد ابن نابوليون.
٥  هو أوجين بوهارنه، ابن جوزيفين زوجة نابوليون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤