الفصل الثالث والعشرون

ذات يوم، بينا كان الإمبراطور يتمشَّى على ظهر الباخرة حسب عادته بعد الظهر، هبَّت زوبعة هائلة، فلم يشأ أن يدخل إلى مَخْدَعه وطلب أن يجيئوه «بالريدنكوت»١ الأشهب اللون، الذي كان الإنكليز أنفسهم لا ينظرون إليه إلَّا باحترام وإعجاب.

كانت قراءة الجرائد تستغرق معظم وقته على ظهر الباخرة، إلَّا أنه لم يكن يطالعها إلَّا على سبيل التَّسْلية. وكان كثيرًا ما يقع فيها على تجاديف وافتراءات مُصوَّبة إليه، ولكن جميع ذلك لم يكن يستطيع النَّيْل منه. قال للاس كاز ذات مرة: «لم يكن السمُّ ليستطيع يومًا أن يؤثِّر في ميتريدات، وهكذا الافتراءات منذ عام ١٨١٤؛ فإنها لا تستطيع أن تؤثِّر فيَّ!» وميتريدات هذا كان عدوًّا للرومانيين، قِيل إنه تعوَّد السمَّ منذ الصغر، حتى لم تبقَ تؤثِّر فيه عوامله مهما كانت شديدة. دامت حروبه مع الرومانيين من العام ٩٠ إلى ٦٣ قبل المسيح من غير انقطاع.

في الخامس عشر من شهر تشرين الأول وصلت الباخرة نورثنبرلان إلى مرفأ سنت هيلين، وفي السادس عشر منه نزل الإمبراطور إلى اليابسة مع الأميرال والجنرال برتران، فحلَّ في البدء في بريار عند أحد تجار الجزيرة السيِّد بلكومب. لم تكن إقامته هناك إلَّا إقامة مؤقَّتة؛ لأن سكنه الأخير كان قد عُيِّن في لونكوود، وهو منزل حاكم الجزيرة، إلَّا أنه لم يكن قد أُعِدَّ بعدُ لاستقباله. صادف نابوليون في منزل بلكومب كلَّ الإكرام الذي يليق به، فلم يضجر ولم يتذمَّر من شيء؛ لأن هذه العيلة الكريمة لم تعدَم وسعًا في توفير أسباب الراحة والتسلية للأسير العظيم.

لم يخرج نابوليون مدَّة إقامته ببريار إلَّا مرة واحدة ليزور ضابط فرقة سنت هيلين، فكان يصرف وقته في كتابة مذكِّراته التي كان يُمْلِيها تارة على لاس كاز، وطورًا على ابنه، وحينًا على مونتولون أو على غوركو وبرتران؛ أمَّا نزهاته اليومية فكانت تنحصر في أروقة حدائق بريار، أو في أحراجها التي كانت ملأى بالوهاد واللجج.

كان يحرث حديقة السيِّد بلكومب عبد مُسِنٌّ يُدعَى طوبيا وهو هندي استولى عليه أحد النوتيين الإنكليز وباعه سلعة بخسة؛ فكان الإمبراطور، كلما مرَّ أمام هذا العبد المسكين، يقف وقفة المتأمِّل ويُبدِي له اهتمامًا بأمره، حتى إنه حدَّثته نفسه بأن يدفع ثمن تحريره، ولم يكن يتحدَّث عن الاستيلاء عليه إلا بسَخَط شديد، وذات يوم بينا كان واقفًا أمامه، أخذ يحدِّث نفسه بما يلي: «يا لها من آلة بشرية! لو كان طوبيا بروتوس٢لما تردَّد أنِ انتحَرَ، ولو كان أزوب٣لتوصَّل أن يكون مستشار الحاكم، ولو كان مسيحيًّا صميمًا لحمل قيوده على مرأى من الله وباركها. أمَّا طوبيا فإنه ليرضخ لمشيئة القدر فينحني ويشتغل بطويَّة سليمة.» وبعد أن أنعم النظر فيه بعض ثوانٍ ابتعد وهو يقول: «كان لهذا الرجل أهلٌ وملذَّات وحياة خاصة به، ولقد اقترفوا جريمة فظيعة بحمله إلى هذه الجهة ليموت تحت أثقال الاستعباد.» ثم توقَّف أمام لاس كاز فجأةً وقال له: «ولكني أقرأ في عينيك؛ فأنت تفكِّر أنه ليس بالمثل الوحيد في سنت هيلين! اعلم يا عزيزي، أنه ليس هناك أقل تشابه، فلو كانت الجناية أكبر من تلك لأيَّدت الضحايا وسائل غير هذه. لم يحمِّلونا آلامًا جسدية، ولو حاولوا ذلك لكنَّا خدعنا ظالمينا فإن لنا نفسًا! … ثم إننا لنبقى شهداء قضية خالدة! … فهناك ملايين من البشر يبكوننا، والوطن يتنهَّد حزنًا علينا، والمجد مُرْتدٍ ثوب الحِداد! … إن للشقاء بطولته ومجده أيضًا! … لو متُّ وأنا على العرش، في وسط غيوم عظمتي، لبقيت مشكلًا في نظر الكثيرين، أما اليوم، وقد حلَّ بي الشقاء، فيستطيع العالم أن يدينني عاريًا!»

في الثامن عشر من شهر كانون الأول غادر نابوليون بريار واتجه إلى لونكوود، فهذا المأوى الجديد مهَّد له راحة أوفر من تلك، إلَّا أنه لم يصادف فيه تنكيدًا من قبل سجَّانيه أقل من التنكيد الذي صادفه من قبلهم وهو في بريار؛ إذ إن السجَّانين وضعوا له خفراء تحت نوافذه، وضربوا حوله نطاقًا من التحزُّر الظالم.

ذات يوم، في أواخر شهر كانون الأوَّل، بينما كان يتنزَّه على ظهر جواده، اضطر أن يترجل بسبب الأوحال المتراكمة على الطريق، وإذا برجليه تغرقان في الوحول حتى الركبتين فقال: «إنها لصدفة مشئومة.» ولما تملَّص من هذه الورطة استطرد قائلًا: «لو كنَّا توارينا في هذه المستنقعات، لقال عنا المراءون في أوروبا، إننا غرقنا بسبب جرائمنا.»

كان جميع الإنكليز الذين يمرُّون بهذه النواحي، يتوقَّفون في سنت هيلين ليتفرَّجوا على ضحية حكومتهم، على الرجل الأشهر، أمَّا نابوليون، فكان يستقبلهم بترحاب شديد. وفي أول كانون الثاني سنة ١٨١٦ اجتمع رفاق نابوليون، وصحَّت عزيمتهم على أن يرفعوا إليه تهانئهم بمناسبة عيد رأس السنة، ولكن نابوليون، الذي ذكَّرته هذه التهانئ بأيام عظمته السالفة، لم يظهر على وجهه ما أحدثه في نفسه الفرق بين هذه التهانئ العائلية في لونكوود، والاحتفالات الفخمة في التويلري، وتكلَّف استقبال ندماء التعس والشقاء، وأبقاهم عنده لتناول الغداء على مائدته، قال لهم: «إنكم أصبحتم لا تؤلِّفون إلَّا قبضةً من الرجال في طرف العالم، فيجب أن ينحصر عزاؤكم في حبِّكم بعضكم بعضًا.»

كان كلَّ يوم يرى حول لونكوود جمعٌ من النوتيِّين، وقد ازدروا بالأوامر وبالخفراء أيضًا، وجاءوا يتفرَّجون على هيئة البطل الأسير، فكان نابوليون يقول: «يا للمُخيِّلة من سلطة قاهرة! إنها لتسطو على جميع الرجال! هؤلاء ناسٌ لا يعرفونني، ولم يقع نظرهم عليَّ يومًا، إلَّا أنهن سمعوا بي. أجل، إن المُخيِّلة لتسود على العالم بأسره!»

لم يعتم الاعتقال والهواء الرديء في سنت هيلين أن حملا ثمارهما المشئومة؛ فإن صحة الإمبراطور لم تلبث أن أخذت تسوء من يوم إلى يوم، ولقد أخطأ من زعم أن تركيبه الجسديَّ كان قويًّا، وأصاب من قال: «ليس جسدُه من حديد بل روحه.» سوى أن قليلًا من الرجال كابدوا من الأتعاب والمشقات ما كابده نابوليون. يذكر البعض أنه قطع المسافة التي بين فاللادوفيل وبورغوس، وهي خمسة وثلاثون فرسخًا، بخمس ساعات ونصف على ظهر جواده.

حملت الجرائد إلى سنت هيلين نبأ موت مورات، وعذاب بورليه، وإعدام ناي،٤ فلمَّا قرأ لاس كاز على مسمع من الإمبراطور الجريدة التي تحمل نبأ موت ملك نابولي مورات، تلك المِيتة الفظيعة، أخذ نابوليون يده بشدة وصرخ قائلًا: «لقد كان الكالابريون أكثر إنسانيَّة وكرمًا من الذين أرسلوني إلى هذا المكان.» في أثناء ذلك كان غضب الأريستوقراطية الحاليَّة قد اشتد وتعاظم، واكتسحت رجعة ١٨١٥ فرنسا بأسرها؛ فإن دم لابيدوايير وناي وشرتران وموتون دو فرنه كان قد امتزج بدم برون وراميل.

لم تلبث الوزارة الإنكليزية أن اختارت لنابوليون سجَّانًا آخر هو هدسن لوو! … هدسن لوو! لا يلبث المقت والهول أن يحرِّكا جميع النفوس الشريفة لدى ذكر هذا الاسم … أَيْ كيث وكوكبرن، لقد تركتما في قلبيكما بقية من الإعجاب والاحترام للبطولة والمجد والنبوغ وعظمة الشهرة والحظ؛ إنكما لم تفقها جيدًا الخدمة التي عُهِدت إليكما! بل صُوِّر لكما، عن حُسْن نية، أن قد عُهِد إليكما بحراسة بطل فرنسا … لقد أخطأتما الذكاء، وسقيًا لهذا الخطأ! هو ذا سجَّان آخر فُتِح له في تنفيذ مآرب أسياده العظام فوق ما فُتِح لكما، فسيعلِّمكما ما كان يتطلَّبه منكما الانتقام والخوف، وما يستطيع أن يقوم به، بسنوات قلائل، هواء كهواء سنت هيلين ورجل كهدسن لوو!

لم يعرف كاتب من الكتبة أن يصوِّر هذا «الخوف» الذي ذكرناه، بمثل العبارة التي صوَّره بها شاتوبريان عندما لَفَظ في مجلس الأعيان هذه الكلمات الخالدة؛ إذ قال: «كان الريدنكوت الأشهب وقبَّعة نابوليون مَوْضُوعة على رأس عصا على منحدر برست، تثبان بأوروبا إلى حمل السلاح!»

كان أول ما عمله هدسن لوو أن قرأ على مسمعٍ من الإمبراطور نشرات تُصوِّر حكم نابوليون وطباعه بألوان ذميمة، وكانت إحدى هذه النشرات صادرة عن الكاهن ده براد سفير فرسوفي، إلَّا أن خباثةً من هذا النوع لم تكن سوى ضرْبٍ من الشيطنة عند رجل مُتخلِّق بأخلاق السير هدسن. ولقد أراد هدسن لوو أن يُحضِر إليه جميع خدم الإمبراطور، لكي يسألهم كُلًّا بمفرده، عن السبب الذي يدعوهم إلى البقاء في سنت هيلين بعدما سمعوا بآذانهم ما جاء بحقِّ سيدهم في النشرات التي قرأها؛ فهذا المنهج أثار سخط الإمبراطور، وجرحه جرحًا عميقًا نفذ إلى صميمه، وعندما انتهى السير هدسن من استشارة الأوفياء تلك الاستشارة المهينة، جنح إلى لاس كاز ومونتولون، وقال لهما إنه مسرور وإنه سيطلع حكومته على أن كلًّا منهم أمضى بملْء اختياره وإرادته، ثم أخذ يطنب بمناظر الجزيرة، وقال: إن الإمبراطور وحاشيته غير محقِّين بتذمُّرهم؛ ولما أظهرا له أنه ليس هناك شجرة واحدة يستظلُّونها، تحت سماء مُحرِقة كهذه السماء، أجاب بخبث: «سنزرع!» وذهب عنهما من غير أن يَزِيد كلمةً على ما قال.

كانت صحة الإمبراطور تضعف شيئًا فشيئًا، وفي أواخر نيسان رأى نفسه مضطرًّا أن يَعْدِل عن التمتُّع بالحرية القليلة التي تُركِت له، وحرم نفسه من الخروج إلى النزهة. جاء الحاكم ليراه، فاستقبله المريض العظيم وهو مُستَلْق على مقعد طويل، وغير مرتد ثيابه. وبعد أن ذكَّره بأنه رفض الذهاب إلى روسيا أو إلى النمسا، وأنه لم يرد أن يدافع حتى آخر حدود الدفاع في فرنسا، وذلك ما قد يكون أناله شروطًا ذات أهمية، استطرد قائلًا: «إن أعمالك لن تشرِّفك في التاريخ! ثم إن هناك حكمةً علياء مُنتقِمة لا بدَّ أن تثأر منك عاجلًا كان أو آجلًا! وقد لا يمضي وقت قصير حتى تكفِّر عن إثمك! … لقد أظهر وزراؤك بتعليماتهم أنهم يريدون أن يتملَّصوا مني! ولكن لماذا لم يجرؤ الملوك الذين اضطهدوني أن يصدروا أمرًا علنيًّا بموتي؟ فقد يكون هذا الأمر أكثر شرعًا من ذاك؛ وقد تكون نهاية عاجلة قد أظهرت من الجرأة، من جهتهم، أكثر مما تظهره مِيتة بطيئة كالتي حكموا عليَّ بها.»

فلم يجب الحاكم بسوى التعليمات التي زعم أنها أُلْقِيت عليه، والتي توجب ألَّا يخرج الإمبراطور من غرفته إلَّا ومعه ضابط يرْقُب خطواتِه؛ ما جعل الإمبراطور يقول له: «لو أُعطِيت تعليمات كهذه لما خرجت من غرفتي قطُّ.» وفي تلك الآونة بشَّر السير هدسن نابوليون، بقُرْب وصول مركب، يُقِلُّ قصرًا من الأخشاب والأثاث والمأكولات إلى لونكوود، إلَّا أن نابوليون لم يظهر اكتراثًا كبيرًا بالآمال التي حاول الحاكم أن يدبَّها فيه، وأخذ يتذمَّر من تصرُّف الوزارة الإنكليزية، التي تمنع عنه جميع ألوان التعزية كالكتب والجرائد، وما هو أفظع من جميع ذلك الأنباء عن ولده وامرأته، قال: «أمَّا من جهة المأكولات والأثاث فكلانا جندي يا حضرة السيد، فلا نعلِّق عليها أهمية كبرى، قد تكون زرت المدينة التي وُلِدت فيها، وقد تكون ولجت بيتي أيضًا، فوقع نظرك على أثاثه البسيط الذي لم أخجل به يومًا؛ إذن، فبالرغم من أني قبضت على ناصية عرش، ووزَّعت كثيرًا من التيجان، لم أنسَ قطُّ حالتي الأولى؛ فإن مقعدي هذا وسريري الذي ترى كافيان.»

ولما انصرف الحاكم من عند الإمبراطور، بعد أن عرض عليه مرارًا عديدة عناية طبيبه الخاص ورفضها نابوليون، أطلع الإمبراطور حاشيته على جميع ما ورد في حديثه مع السير هدسن، وبعد أن سكت قليلًا قال: «يا له من وجهٍ مشئوم لئيم وجْه هذا الحاكم! لم أقع في حياتي ولن أقع على رجل مثله! …» وكأن هذه التصرُّفات الخسيسة، التي يبديها نحوه أعداؤه الألدَّاء، لم تكن كافية لهدم حياته العظيمة، حتى جاءت بعض مخاصمات من قِبَل أوفيائه أنفسهم تزيد على تعسه وبؤسه. قال لاس كاز: تمكَّنت الفتنة من الانسلال بين أبطال الأمانة الذين جاءوا يشاطرون الإمبراطور نفيه وليالي شؤمه، حتى إن اثنين من هؤلاء صحَّت عزيمتهما على البراز يومًا، فبلغ نابوليون ذلك، فجمع حاشيته وقال لها: «يجب أن تكونوا هنا عائلة واحدة، لقد تبعتموني لتخفِّفوا من آلامي، إذن فكونوا جميعكم إخوة أو تصبحوا في نظري مُؤلمِين! تريدون أن تجعلوني سعيدًا فكونوا إخوة أو تصبحوا في نظري عقوبةً وعذابًا! تريدون أن تتقاتلوا تحت نظري! ألم أعد غاية عنايتكم؟ ألا ترون أنظار الغرباء شاخصة إلينا؟ أريد أن تشربوا جميعكم من روحي … أريد أن أرى جميع من يحيط بي سعداء، حتى عمانوئيل الصغير الذي ترونه أمامكم …»

كان الإمبراطور يشعر بأن صحته أصبحت تتطلَّب عناية كبيرة، فأراد ذات يوم أن يستشير الطبيب «أوميارا»،٥ ليعلم منه إذا كانت وزارته ترضى بأن تجعله طبيب الحكومة الإنكليزية لدى نابوليون، فنزل الطبيب عند مشيئته بكلِّ طيبة خاطر، وقال له إنه أصبح من الآن فصاعدًا طبيب نابوليون.
بعد أن دعا الحاكم من غير جدوى «الجنرال بونابرت» ليتناول الغداء على مائدته، اتجه إلى لونكوود، في منتصف شهر أيار؛ ليخبر أسيره بأنَّ قصر الأخشاب قد وصل؛ أمَّا نابوليون فاستقبله استقبالًا سيِّئًا جدًّا، وصرح له بأن الأميرال، بالرغم من بعض مخالفات، قد استحق ثقته به وأنَّ خلفه لن يوحي إليه مثلها. هذا التوبيخ جرح السير هدسن، فأجاب أنه لم يجئ ليتلقَّى دروسًا، فقال له نابوليون: «لقد قلتَ يا حضرة السيد بأن التعليمات التي جاءتك أكثر هولًا من تعليمات الأميرال، فهل هي تقضي أن أموت بالحديد أم بالسم؟ إني لأتوقَّع كلَّ شيء من وزرائك، وها أنذا أنفِّذ الحكم في ضحيَّتك! لا أفهم كيف تستعمل السمَّ، أمَّا الحديد فقد وجدت له وسيلة! إذا حدَّثتْك نفسُك يومًا بأن تخرق حرمة داخلية بيتي، فاعلم، أن الثالثة والخمسين الباسلة٦ لن تدخله إلا على جثَّتي!»

كان هدسن لوو يخشى أن لا ينتبه الإمبراطور أنه أسير في لونكوود، فأخذ كلَّ يوم يذكِّره ذلك ببعض إهانات جديدة؛ أمسك أولًا الرسائل التي ترده من أوروبا، وإن كانت قد أتت مفضوضة ومن طريق غير مشبوهة، زاعمًا أنها لم تمرَّ تحت نظر المراقبة، ثم نظر في نفقات الإمبراطور فرأى أن عدد الأوفياء، الذين لم يريدوا أن يفترقوا عن سيِّدهم، إنما هو كبير جدًّا، حتى إن الإمبراطور، الذي صرف حياته أمام فوَّهات المدافع، لم يجد بدًّا من الاستسلام إلى الملل وصحَّت عزيمته على أن لا يغادر غرفته إلَّا ليزور مدام ده مونتولون في بيتها.

كان لهذه السيدة ولد في السابعة أو الثامنة من عمره يُدعَى تريستان، فحَلَا للإمبراطور أن يسمع منه أمثولاته يتلوها غيبًا، ولمَّا اعترف له الولد بأنه لا يدرس كلَّ يوم قال له نابوليون: «ألا تأكل كلَّ يوم؟» فأجابه مونتولون الصغير: «بلى يا مولاي.»

– إذن فيجب عليك أن تشتغل كلَّ يوم، إن مَن لا يشتغل لا ينبغي له أن يأكل.

– إذن فسأشتغل كلَّ يوم.

فضحك نابوليون وضرب بيده على بطن تريستان قائلًا: «هو ذا نفوذ البطن الصغير، هو الجوع، هو البطن الصغير الذي يحرِّك العالم.»

وكانت عائلة بالكومب تزور نابوليون من وقت إلى آخر، فيظهر لها كثيرًا من العطف والاحترام. لم يكن سيد الحروب يخشى على رزانته وشهرته الخالدة أن تُضْئِلهما مجاراة الناس في تسليتهم، فكان يحلو له أن يصرف بعض ساعات في تعليم إحدى أوانس عائلة بالكومب لعبة «البلياردو». كما كان يحلو له، وهو في بريار، أن يشترك مع بعض الشابَّات في لعبة «الكولن مايار.»

قدمت بعثة من مفوِّضي السلطات الأوروبية إلى سنت هيلين، ورغبت في مقابلة نابوليون، إلَّا أن الإمبراطور رفض مقابلة مفوِّضي الحلفاء، قائلًا للأميرال مالكولم، الذي قدم إلى لونكوود ليستأذنه بقبول هؤلاء المفوِّضين: «كلانا رجل يا حضرة السيد، وإني لآخذ رأيك. أترى من الحكمة أن أستقبل في بيتي مُفوِّض إمبراطور النمسا، الذي تزوَّجت من ابنته بعد أن تمنَّى هذا الزواج ساجدًا، والذي أرجعت إليه عاصمته مرتين متواليتين، أمن الحكمة أن أستقبل مفوِّضه الذي لا يحمل إليَّ سطرًا واحدًا يُنْبِئ به عن صحة ولدي؟ وهل من الحكمة أيضًا أن أستقبل مُفوِّض الإسكندر الذي تمجَّد بصداقتي، والذي لم تقع بيننا سوى حروب سياسية لا دخل لها بالشخصيَّات؟ ألم يكن حريًّا بجميع هؤلاء الملوك أن يحفظوا في صدورهم ذرة من القلب؟»

إلَّا أن كلمات التوبيخ التي ما فتئ الإمبراطور يوجِّهها إلى هدسن لوو، ما لبثت أن أدَّبت السمَّ في أحقاد هذا الحاكم، وضاعفت مظالم حراسته. ذات يوم أرسل السيد هوبهوز إلى الإمبراطور كتابًا وضعه في حوادث الأيام المائة، وقد كتب عليه «إلى نابوليون الكبير!» فحجز الحاكم هذا المؤلف زاعمًا أن الكاتب أساء فيه إلى كستليراغ، وبعد أيام قلائل تجاسر أن يمثل أمام الإمبراطور الذي كان يتنزَّه في حديقته، وحاول أن يبرِّئ نفسه أمامه؛ إلَّا أن نابوليون، الذي ضاعف كلام الحاكم سَخَطه، قال له بحضور الأميرال نفسه ما يلي: «إنك لم تَقُدْ يومًا من الأيام إلَّا شرذمات من المتشرِّدين الخائنين والسفلة الأنذال! وإني أعرف أسماء جميع القوَّاد الإنكليز الذين أبلَوا بلاءً حسنًا، سوى أنني لم أسمع باسمك مرة إلَّا مَمْهورًا بلقب قائد لصوص! إنك لم تَقُد رجالًا شرفاء يومًا من الأيام، ولم يُتَحْ لك أن تتعوَّد الحياة معهم!» فأجابه السير هدسن بأنَّه لم يسعَ وراء المهمَّة التي عُهِدت إليه، فاستطرد نابوليون قائلًا: «إنَّ مثل هذه المراكز لا يُسعَى وراءها؛ إذ إن الحكومات تمنحها للذين يتقذَّرون!» عند هذا أعلن الحاكم لأسيره أن الحكومة الإنكليزية تُصِرُّ بشدة على تخفيض نفقات لونكوود، فأجابه الإمبراطور: «لا تُرسِل إليَّ شيئًا لغذائي، إذا شئت، فأذهب أتغدَّى على مائدة ضبَّاط الثالثة والخمسين البسلاء، إني واثق من أني لا أجد بينهم من لا يرى نفسه سعيدًا بإخلاء مركزٍ لجنديٍّ قديم. اغرب من وجهي، ولا تمثُل أمامي إلَّا عندما تصحب إليَّ أمرًا بموتي، فتجد الأبواب جميعها مفتوحة في وجهك!»

عندما اتضح لهدسن لوو أنه أصبح عنوان الاحتقار في نظر نابوليون وجميع الفرنسيين في لونكوود، صحَّت عزيمته على إشراك الإنكليزيين في سنت هيلين بالموقف العدائي الذي يُظهِره نابوليون وأتباعه؛ فأخذ يُشِيع أن الأسير الفرنسي إنما يقصد بموقفه هذا أن يحتقر الأمَّة الإنكليزية، وأن هذا الاحتقار يشمل ضبَّاط الفرقة الثالثة والخمسين بأسرها، ولمَّا بلغت الإمبراطور هذه الإشاعة المختلفة، طلب إليه أكبر هؤلاء الضبَّاط سنًّا، وهو الكبيتان بوينتون، وأخبره أنَّ ما يدعيه الحاكم إنما هو افتراءٌ محض، ثم استطرد قائلًا: «لست امرأة مسنَّة، فأنا أحب الجندي الباسل الذي تعمَّد بالنار من أيَّة أمة كان!»

بعد أن حاول السير هدسن لوو، من غير جدوى، أن يبرِّئ نفسه أمام نابوليون، لم يجد بدًّا من الالتجاء إلى إهانات جديدة، فطلب إليه الدكتور أوميارا، وقال له بعنف: «قل للجنرال بونابرت إنه من الواجب عليه أن يلطِّف تصرُّفاتِه معي، وإلَّا يضطرني إلى استعمال طرق جديدة.» ثم عزا إلى نابوليون موت الملايين من الناس، واستطرد قائلًا: «إني أعتبر علي باشا السفَّاح أدْعَى إلى الاحترام من بونابرت.» ولكي ينفِّذ هدسن لوو تهديداته الشديدة عدَّل نفقات لونكوود تعديلًا كبيرًا، حتى إن نابوليون وجد ذات يوم أن الضروريات قد نقصت كثيرًا على مائدة أتباعه، إلى درجة، أنه كاد ذات مرَّة لا يجد على مائدتهم ما يأكلونه. منذ ذلك الوقت أمر بأن يُباع قِسْم من أوانيه الفضيَّة؛ ليعوِّض بثمنها، ما كان يجتزئه الحاكم الظالم. أما هدسن لوو، الذي ساءَه أنه دفع الإمبراطور إلى بيع أوانيه الفضيَّة ليعيش، فلقد أراد أن يستفيد من هذه السانحة ليخترع طريقة جديدة في الإساءة إلى أسيره. كان هناك مشترون يتسابقون إلى الحصول على شيء من ممتلكات الرجل العظيم، حتَّى ارتفع سعر الصحن إلى مائة جنيه، فصُوِّر للحاكم أن يُصدِر أمرًا يقضي بأن لا يُباع شيء من هذه الأواني إلَّا للشخص الذي يعيِّنه هو، إلَّا أن الإمبراطور قد فكَّر، من جهته، في إيقاف هذه المسابقة، وأمر بأن تُحذَف عن الآنية الفضية أيَّة إشارة تدلُّ على أنها صادرة عن بيته.

كانت هذه الغموم اليومية من أشدِّ العوامل في إضعاف صحة الإمبراطور وتغيير ملامحه الطبيعية، إلَّا أن هذا الضعف لم يمنعه من مواصلة أعماله العقلية التي باشرها منذ وصوله إلى الجزيرة. ففي اليوم نفسه، الذي حاول فيه هدسن لوو أن يزعجه بإصدار الأمر المتعلِّق بالآنية الفضيَّة، أملى على الجنرال غوركو موقعة مارنغو، وقرأ لاس كاز موقعة أركول التي كان أملاها قبل مدة.

ذات يوم قدم الكولونيل رياد إلى لونكوود، وطلب أن يمثُل أمام الإمبراطور. كان يحمل مذكرة ضمَّنها السير هدسن مطاليبَ جديدة؛ وهذا ما جاء فيها: «على الفرنسيين الذين يرغبون في البقاء مع الجنرال بونابرت أن ينزلوا عند جميع الأوامر التي تُلقَى عليه، من غير أن يعترضوا على واحد منها، أمَّا الذين يرفضون فيُرسَلون حالًا إلى رأس الرجاء الصالح. كلُّ مَن يسمح لنفسه بأن ينهج نَهْجًا سيئًا مع الحاكم أو الحكومة، يُرسَل حالًا إلى رأس الرجاء الصالح، حيث لن يُؤذَن له بالعودة إلى أوروبا.» فلمَّا قرأ الإمبراطور هذه المُذكِّرة المُجحِفة التي أصدرها سجَّانه قال: «أفضِّل أن يذهب الجميع، على أن أرى حولي أربعة رجال أو خمسة مُضطربين دائمًا أو مُهدَّدين في كلِّ آونة بالإبحار عَنْوة. ألا فليطرد جميع الناس، وليضع خفراء على الأبواب والنوافذ، وليمنع عني حتَّى الخبز والماء، فلا يهمُّني كلُّ ذلك. إن روحي حرَّة، وقلبي حرٌّ كما لو كنت في أوروبا أسنُّ لها الشرائع.» على أننا لم نذكر جميع الأوامر التي أراد هدسن لوو أن ينزل الإمبراطور عندها، فلقد صرَّح فوق ذلك بأنه مُحظَّر على نابوليون أن يَلِج أيَّ بيت كان، أو أن يتحدَّث مع أحد يصادفه في نزهاته، التي يقوم بها على ظهر جواده أو مشيًا على الأقدام. وزاد على تصريحه هذا تصريحًا آخر ينطوي، على أن الأوامر التي وُضِعَت «للجنرال بونابرت»، تشمل جميع حاشيته.

قال نابوليون في إحدى شكاياته: «إنهم يختصرون حياتي بإغضابهم إيَّاي!» ولقد أصاب في قوله؛ إذ إن الحمَّى بدأت تستولي عليه وتتمكَّن منه يومًا بعد يوم، إلَّا أن رفاقه في أيام الشؤم رفضوا جميعُهم مغادرته، بالرغم من شدة الشروط التي وضعها هدسن لوو سوى أن الإمبراطور طلب أن يُوضَع حدٌّ لهذه التهديدات اليومية بأن يُذْعِن رفاقه إلى الذهاب لرأس الرجاء الصالح؛ أما هم فأصرُّوا على البقاء إصرارًا اضطرَّ الإمبراطور أن يلزم الصمت.

في أواخر شهر تشرين الثاني سنة ١٨١٦ أصدر هدسن لوو أمرًا بإبعاد لاس كاز إلى الرأس. أمَّا لاس كاز، فبعد أن بقي مدة في رأس الرجاء الصالح، مُنِح أمرًا بالذهاب إلى أوروبا حيث قاسى كثيرًا من الاضطهادات.

١  هو الريدنكوت الذي كان يلبسه في ساحات الحروب.
٢  وُلِد في نحو العام السادس والثمانين قبل المسيح. ابن إحدى شقيقات كانون، وسليل بروتوس الأول. إن التربية الصارمة التي تعهَّده بها خالُه أوصلته إلى مستقبل مُفجِع. أغضبته مطامع القيصر الذي كان شاخصًا إلى السلطة المُطلَقة، وهيَّجته توبيخات أصدقائه الذين دسُّوا له ذات يوم ورقة كتبوا فيها: «أتنام يا بروتوس وروما في الحديد؟» فتآمر وصديقه كاسيوس على اغتيال القيصر، الذي كان يعطف عليه ويعامله معاملة الوالد لولده. أبصره القيصر ذات يوم رافعًا خنجره عليه في وسط القتلة، فلم يدافع، وغطى وجهه بوشاحه صارخًا: «حتى أنت يا بني؟!» قاتل أنطوان وأوكتاف بروتوس وكاسيوس فقهرهما في سهول فيليبس عام ٤٢ قبل المسيح، فيئس بروتوس عند هذا من نجاة الجمهورية وانسحب من ساحة القتال … ورفع نظره إلى السماء المُرصَّعة بالنجوم صارخًا: «أيتها الفضيلة، لستِ سوى كلمة!» ثمَّ ترامى على حسام بسطه له أحد أصدقائه. إن اسم بروتوس يوحي اليوم ذكرى رجل جمهوري مُتصلِّب يضحي بكلِّ شيء، حتى بحياته، في سبيل المبادئ.
٣  (٥٠٠ ق.م) قَصَصيٌّ يوناني، كان عبدًا ثم تحرَّر.
٤  عندما سقطت الإمبراطورية عام ١٨١٥ اضطر مورات إلى التخلِّي عن مملكته نابولي، ثم حاول أن يسترجعها ولكنه قُبِض عليه في بيزو وحُكِم عليه بالإعدام. أمَّا ناي، فبعد أن جعله لويس الثامن عشر عينًا من أعيان فرنسا سنة ١٨١٤، بعد تنازُل نابوليون عن العرش وذهابه إلى جزيرة ألبا، عاد إلى الانضمام لنابوليون في حملة الأيام المائة، ولما انكسر الإمبراطور في واترلو، وسقطت الإمبراطورية للمرة الثانية حكم عليه مجلس الأعيان بالموت وأُعْدِم رميًا بالرصاص.
٥  (١٧٨٦–١٨٣٦) جرَّاح إنكليزي. طبيب نابوليون الأول في سنت هيلين، واضع مذكرات قيمة عن منفى الإمبراطور.
٦  هي الفرقة المحافظة في سنت هيلين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤