أوليته

ولد عبد القادر المغربي في اللاذقية، حيث كان أبوه قاضيًا، ثم انتقل إلى طرابلس الشام حينما انتقل أبوه إليها، وتلقى العلم فيها على أبيه وأفاضل رجالات أسرته، وكبار علماء بلدته، فكان أبوه يجمع له ضوابط منظومة من قواعد العلوم المختلفة ويحمله على حفظها، ثم ختم القرآن الكريم وهو ابن عشر سنوات، وحفظ المتون العلمية المشهورة كالألفية والأجرومية والسنوسية وجوهرة التوحيد، ثم لزم الشيخ حسين الجسر علَّامة طرابلس ومؤسس المدرسة الوطنية فيها، وكانت هذه المدرسة أول معهد علمي محدث، وقد وصف زميله في الدراسة الشيخ محمد رشيد رضا هذه المرحلة من عمرهما فقال في مقدمة كتاب البينات:

سبقني المغربي إلى طلب العلم وسبقته إلى مطالعة بعض كتب الأدب والتصوف والتاريخ قبل طلب العلم …

ولما دخلت المدرسة الوطنية في طرابلس الشام كان هو في الصف الأول من تلاميذها، وكان الشعر والأدب أول أسباب التعارف والتآلف بيننا، وكان موضع عجب مني في اجتهاده؛ إذا شرع في حفظ درس يضع رءوس إبهاميه في أذنيه وبقية أصابعه فوق عينيه، حتى لا يسمع صوتًا ولا يرى شيئًا، ثم يقرأ ما يريد حفظه قراءةً بصوت بين الجهر والمخافتة، ولا وسيلة لجمع الفكر وتوجيه قوة النفس أمثل من هذه الوسيلة، ثم عطلت المدرسة الوطنية وانتقل ناظرها أستاذنا الشيخ حسين الجسر الشهير إلى المدرسة السلطانية١ في بيروت، وتبعه بعض تلاميذها، فدخلوها ومنهم صديقي صاحب «البينات» ولما تركها الأستاذ، وعاد إلى طرابلس عادوا معه؛ لثقتهم بتعليمه وتربيته، وانقطع إلى تعليم فنون اللغة وعلوم الشرع، والتقينا ثانيةً عنده في المدرسة الرجبية، فكان لكل منا وجهة هو موليها في العلوم الشرعية، وإنما كنا مشتركين في طلب آداب اللغة والعلوم المصرية ومطالعة المجلات والجرائد حتى المصرية الممنوعة من البلاد العثمانية التي كانت تأتي في البُرد الأجنبية لقناصل الدول، فيطلعني عليها بعض أصحابي من أدباء النصارى، فنطالعها مجتمعين تارةً أو منفردين أخرى.٢

والحق أنَّ المغربي وصديقه رشيد رضا قد أفادا من شيخهما العلَّامة الجسر فوائد قومت تفكيرهما ووجهتهما الوجهة الصالحة حتى قال المغربي عنه: «وقد كان شيخي الجسر مصلحًا دينيًّا دقيق النظر، ولكنه مع هذا بقي طول حياته محافظًا متحفظًا شديد الحذر، وأهم ما استفدناه من طريقه في الإصلاح يمكن تلخيصه مما وقع لي في زمن الحداثة وطلب العلم.

ذلك أنني بعد أن تلقيت من دراستي على والدي الاستسلام إلى كل ما جاء في الكتب الموروثة عن أسلافنا الماضين، والتصديق بنصوصها من دون تردد ولا ارتياب، عدت فاقتبست من شيخنا الجسر تعاليم فيها شيء من حرية النقد وانطلاق الفكر، وقد تعلمنا أنَّ النصوص الدينية الموروثة فيها الغث وفيها السمين، وأنَّ بينهما ما هو غير صحيح ولا معقول ولا منطبق على القرآن ولا السنة النبوية الصحيحة فيجب الانتباه إليه والتنبه عليه، والتحذير منه، وتمييز غثه من سمينه، وحقه من باطله، ولتمييز الحق من الباطل في نقل الأخبار طريقتان:
  • (١)

    التدقيق في سند الخبر وروايته.

  • (٢)
    تدقيق النظر في إمكانية الخبر وعدم إمكانيته، وهذا ما قرره الفيلسوف العربي ابن خلدون في الكتاب الأول من مقدمته الذي بحث فيه عن طبيعة العمران … فكان شيخنا الجسر رحمه الله في درسه إنما يشرح لنا ما قاله ابن خلدون في نظريته، وقد علمنا بأن ندقق الخبر ونعمق النظر، فليس كل نص يقبل، سواء أعقل أم لم يعقل، بل نزن كل ذلك بميزان القرآن والسنة وطبائع العمران اللهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ، بينما كان والدي رحمه الله، بسبب تربيته الأزهرية، لا يسمح لي في أن أنحو هذا النحو في النظر والتدقيق وإعمال الفكر في التفريق بين النصوص الدينية.
غير أني لما اتصلت بالسيد الأفغاني، وأنعمت النظر في دراسة تعاليمه، انتقلت في حياتي الفكرية إلى الدور الثالث أو الطور الثالث، وهو أن نفهم النص الديني فهمًا صحيحًا، مراعًى فيه قوانين اللغة، وقواعد بلاغتهما، ونستوثق من مطابقة النص للكتاب والسنة، ثم نجرأ على التصريح بما فهمنا من النص سواء أوافق رأي غيرنا أم لا. وقد اقتبسنا هذه الطريقة في الفهم من أقوال السيد الأفغاني وتعاليمه المروية المبثوثة في العروة الوثقى أولًا، ثم في سائر ما علق بكفنا من كتاباته وكتابات تلميذه الشيخ محمد عبده ثانيًا، فالأساس الذي بقي عليه الإصلاح الديني إذن هو تمييز نصوص الدين والحرص على فهمها فهمًا حرًّا، مستندًا إلى قواعد اللغة العربية وقوانين بلاغتهما، ثم الجرأة في الدعوة إلى الصحيح المعقول من تلك النصوص، واطِّراح الباطل الدخيل عليها، والجهر بذلك كله من دون جمجمة في قول أو تقية من ذي صول.»٣
والحق أنَّ شيخنا قد مرَّ في دراساته بأطوار أو أدوار ثلاثة:
  • أولها: دور الدراسة المنزلية في طرابلس أو الدراسة في المدرسة السلطانية ببيروت سنة (١٣٠٠ﻫ/١٨٨٢م)، وقد كان فيه محافظًا أشد المحافظة، تلقى فيه علوم الدين الأولية، وحفظ ما حفظ من آي الذكر الحكيم والحديث النبوي الشريف، وبعض المتون الدينية واللغوية والكلامية، وكان في هذا الدور طالبًا مستسلمًا إلى كل ما يسمع، حافظًا لكل ما يقال له دون أن يناقش أو يتردد أو يرتاب.
  • وثانيها: دور حرية الفكر وانطلاقه ومحاكمة ما يسمع، وهو الدور الذي اتصل فيه بالشيخ حسين الجسر (١٨٤٥–١٩٠٩م)، وكان الشيخ الجسر هذا عالمًا فاضلًا واسع الاطلاع على الثقافة الإسلامية، تلقى علمه في الأزهر على كبار شيوخه، ثم رجع إلى بلده طرابلس، وكان ذا نزعة إصلاحية، فرأى ما عليه المسلمون من الجهل بحقيقة الدين، وقواعد العقيدة الإسلامية الصحيحة، فعمد إلى تأليف الرسائل الصغيرة ونشر المقالات المفيدة، مقومًا اعوجاج العقائد، وعاملًا على نشر الإسلام الصحيح، ومن أشهر ما خلف لنا في ذلك كتاباه اللطيفان: «الحصون الحميدية» و«الرسالة الحميدية» في تبيين العقيدة الإسلامية السلفية النقية من الأوضار والضلالات، وقد كان واسع الاطلاع على العلوم الطبيعية والفلسفية فزاده ذلك رسوخًا في فهم الدين وتنقيته مما علق به. وقد اتخذ الشيخ الجسر تلاميذه وكتبه جريدة «طرابلس الشام» وسائط لنشر دعوته الإصلاحية، وكان الشابان النابغان الطرابلسيان عبد القادر المغربي ورشيد رضا ألمع تلاميذه وأكثرهم استفادة من طريقته.
  • وثالثها: دور التعمق في الدراسة والمناقشة والبحث، وهو الذي اتصل فيه بجريدة «العروة الوثقى» التي كان يصدرها في باريس الإمامان الأفغاني ومحمد عبده، واسمعوه يتحدث إليكم عن أول صلته بالإمامين وجريدتهما فيقول:
    أول ما فوجئت باسم جمال الدين كنت تلميذًا في المدرسة السلطانية، التي أمر بإنشائها في بيروت الوالي حمدي باشا سنة ١٣٠٠ﻫ/١٨٨٢م، وكان ناظر المدرسة يومئذ الشيخ أحمد عباس الأزهري، المشهور في بلاد الشام بعلمه وفضله والتهاب وطنيته، رأيت يومًا الشيخ أحمد بين الطلاب، وهم في ساحة المدرسة يرتعون ويلعبون وحوله طائفة منهم، وبيده جريدة يشير بها إليهم، وسمعته يقول لهم وقد سألوه عنها: إنها «العروة الوثقى»، يصدرها السيد جمال الدين الأفغاني، ويساعده في تحريرها صديقي الشيخ عبده المصري، وأفاض الشيخ أحمد في وصف «العروة»، والغرض من إنشائها ووصف الرجلين وعلوِّ مكانتهما، وبدرت منه التفاتة، وإذا تلميذان صغيران يمران أمامه، فأشار إلى أحدهما وقال: هذا ابن الشيخ عبده، وأشار إلى الآخر قائلًا: وهو أخوه حمودة، وكنت لا آبه بهذين التلميذين ولا أرتاح لرؤيتهما، فصرت من يومئذ أنظر إليهما بإجلال وأحب التقرب منهما والحديث إليهما، ورجعت إلى طرابلس الشام من المدرسة السلطانية عام ١٣٠١ﻫ حاملًا إلى صديقي الشيخ رشيد رضا صاحب المنار رحمه الله خبر «العروة الوثقى» ومنشئها، وأخذت أبحث عن أعدادها، وكانت ثمانية عشر عددًا مبعثرة لدى بعض فضلاء طرابلس الذين كانت تأتيهم عفوًا أو بطلب منهم، فجعلت ألتقطها من عندهم لأنسخها وأعيدها إليهم، وكان شريكي في هذا الحرص الشيخ رشيد، وكان هو ينسخ إليهم من مقالاتها، أما أنا فكنت أنسخها بقلمي من ألفها إلى يائها، ثم جمعت كراريسها في مجلد،٤ ثم يورد افتتاحية العدد الأول ويعلق عليها بقوله: «هذه الفاتحة هي خلاصة برنامج العرض الذي أنشئت مجلة «العروة الوثقى» من أجله؛ تنبيه الضعفاء إلى ما يريده الأقوياء بهم، وشرح الأسباب التي أدت إلى ضعف الضعفاء وقوة الأقوياء، ويريد بالأقوياء سياسيي أوروبا وزملاءهم سياسيي الشرق الذين ساروا على آثارهم، وقلدوهم في استبدادهم بالضعفاء والتفريط في مصالحهم، فالأفغاني وعبده كانا يريدان أن يكون لهؤلاء الضعفاء — وهم المسلمون — دول قوية آخذة بأسباب المدنية والعمران الموصلة إلى العزة والاستقلال مع مراعاة تعاليم الإسلام الأساسية.
فالشيخ المغربي في طوره الثالث هو تلميذ «العروة الوثقى» التي سيطرت على لبه سيطرة عجيبة استمعوا إليه يقول: «أعطيت العروة الوثقى كل وقتي دراسة وتفهمًا، وكنت أحيانًا أعنى بشرح ألفاظها وتعابيرها … ولا جرم أنَّ «العروة الوثقى» مهدت بين يدي ناشئة العرب مناهج في الكتابة وأساليب الإنشاء ما كانوا يعهدونها من قبل، ونبهت إلى وجوب استعمال كلمات اللغة الفصحى والاستعانة بها على إيراد المعاني العصرية ومطالب الحياة الاجتماعية … وقد تضمن العدد الأول مما يحتاج إلى الشرح من فصيح اللغة نحو ثلاثين كلمة.»٥
فأنتم ترون أنَّ الشيخ قد فنى في «العروة الوثقى» وفي تدارسها وشرح ألفاظها وانتقادها، وقد ذكر في كتابه عن «جمال الدين» طرفًا يسيرًا مما كان قد علق على نسخته المخطوطة من «العروة»، أحصى ما فيها من الكلمات اللغوية التي شرحها، فبلغت «في أعداد العروة كلها زهاء خمسمائة كلمة»٦ ولا عجب فإن الشيخ كان مفتونًا باللغة ومفرداتها منذ نعومة أظفاره.
ولم يكن تأثير «العروة الوثقى» في الشيخ من الناحية اللغوية والأسلوب وحسب، بل من الناحية الفكرية فقد قال: «إني لما اتصلت بالسيد الأفغاني وأنعمت النظر في دراسة تعاليمه انتقلت في حياتي الفكرية إلى الدور الثالث أو الطور الثالث، وهو أن نفهم النصَّ الديني فهمًا صحيحًا مراعًى فيه قوانين اللغة وقواعد بلاغتها، ونستوثق من مطابقة النص للكتاب والسنة، ثم نجرأ على التصريح بما فهمناه من النص سواء أوافق رأي غيرنا أم لا. وقد اقتبسنا هذه الطريقة في الفهم من أقوال السيد الأفغاني وتعاليمه المروية والمبثوثة في «العروة الوثقى» أولًا، ثم في سائر ما علق بكفنا من كتاباته وكتابات تلميذه الشيخ محمد عبده ثانيًا، فالأساس الذي بنى عليه الإصلاح الديني إذن هو تمييز نصوص الدين والحرص على فهمها فهمًا حرًّا مستندًا إلى قواعد اللغة العربية، وقوانين بلاغتها، ثم الجرأة في الدعوة إلى الصحيح المعقول من تلك النصوص والتعاليم واطِّراح الباطل الدخيل عليها، والجهر بذلك كله من دون جمجمة في قول أو تقية من ذي صول.»٧
واستمر الشيخ في هذا الدور طوال عمره يدأب ويجد، ويدرس ويجتهد حسب شروط الاجتهاد السابقة، حتى كانت له آراء ونظريات نعرض لها فيما بعد إن شاء الله، وقد تمرس بهذا الأمر تمرسًا حينما ازدادت صلته بالشيخين، واجتمع إليهما في الآستانة أو في القاهرة، فأفاد من صحبتهما واجتهد في السير على غرارهما يتتبع آثارهما ويقرأ لهما، ودفعه الشوق لرؤية جمال الدين،٨ وكان في سنة ١٣١٠ﻫ/١٨٩٢م مقيمًا في دار الخلافة، فسافر إليه وظل في جواره سنة واحدة أفاد فيها منه فوائد جليلة ضمن كثيرًا منها في كتابه اللطيف عن جمال الدين، ثم رجع إلى طرابلس عاكفًا عن دراسة آثار جمال الدين، وأولع بعدئذ بدراسة آثار الشيخ محمد عبده، واستجاب إلى دعوته الخيِّرة، وشرع يصدع بالإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي فاستدعاه الإمام محمد عبده إلى مصر حيث المجال للدعوة الإصلاحية آنذاك أرحب وأوسع، ولكن ما لبث الأستاذ الإمام أن لقي وجه ربه٩ فانصرف المغربي إلى الصحافة، وكتب في كبريات جرائد مصر مقالات أثارت العزائم وشحذت الهمم الغافية.١٠
يقول رشيد رضا واصفًا الحقبة التي سبقت سفر المغربي إلى القاهرة سنة ١٩٠٥: ولما اشتد اضطهاد الحكومة الحميدية للأحرار، وأصحاب الأقلام والأفكار، وأسرفت في إيذاء قراء المنار، كان نصيب صاحبي ونصيب آخرين من أهل العلم والفضل السجن، فلما أنقذه الله تعالى منه هاجر إلى مصر، فسألت شيخنا الأستاذ الإمام أن يجعله كاتبًا للإفتاء عنده، فارتاح لذلك واستكتبني مذكرة لوزارة الحقانية في ذلك، وهو في سرير المرض الذي توفاه الله تعالى فيه؛ لأنه تعالى قدر أن يكون هذا الرجل كاتبًا اجتماعيًّا لا قاضيًا ولا كاتبًا شرعيًّا. وهو لو لم يكن موطنًا نفسه على هذا العمل، ولا شاعرًا بقوة استعداده له، حتى إنه لما دعي إلى الكتابة في الجرائد المصرية استشارني في الموضوعات التي ترجى فائدتها وتلقيها بالقبول، وفي الأسلوب الذي يحسن اختياره، ولعله ما أبهم إمضاءه «المغربي» فلم يصرح باسمه إلا لأن شعوره باستعداده كان دون قوته، كما هو شأن طلاب الكمال الذي لا حد له بعد أن يصيبوا حظًّا عظيمًا منه، وأما الناقصون المغرورون، فإنهم يتيهون عجبًا بكل ما يخطونه١١ والحق أنَّ المغربي لو سلك سبيل القضاء والوظائف الرسمية لضاع في ذلك الخضمِّ، ولكن انصرافه إلى الكتابة جعل منه فردًا من بناة حركتنا الإصلاحية، وقد كان في القاهرة يحرر في جريدتي «الظاهر» و«المؤيد» حتى عرفه الناس على الرغم من توقيعه مقالاته بتواقيع مستعارة، إلى أن انزاح كابوس الظلم الحميدي عن البلاد الشامية بعد إعلان الدستور العثماني سنة ١٩٠٨م فرجع إلى بلدة طرابلس الشام سنة ١٩٠٩م.

أخذ المغربي بعد اتصاله بالأفغاني ومحمد عبده يجهر بضرورة الإصلاح الديني والاجتماعي، والتنبيه إلى تأخر المسلمين ولزوم إحداث انقلاب ديني اجتماعي يعود بالمسلمين إلى بساطة الدين وأصوله الثابتة، كما كان يجهر بانتقاد الطريقة التي كان عليها رجال العهد الحميدي في إدارة البلاد العثمانية وأسلوبهم في الحكم مما أخر المسلمين عن أمم الأرض، وكانت رسائله بهذا الشأن لا تنقطع إلى الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا، الذي سبقه في السفر إلى مصر عام ١٣١٥ﻫ، وقد عثرنا على بضعة أبيات من قصيدة كان المغربي نظمها، يخاطب بها السلطان عبد الحميد، وينتقد سياسته الداخلية انتقادًا شديدًا وإهماله إصلاح أحوال المسلمين من رعيته وهي قوله:

بلِّغ أميرَ المؤمنينَ نصيحةً
تبغي القبول ولا تريدُ ثوابا
قبر تعمِّره ببدرة عسجد
وتعيد عمران البلادِ خرابا١٢
تكسو الدعيَّ الحُلة البيضاء إذ
تكسو الشعوب من السواد ثيابا
تجبي الضرائب من فقير مملق
تغني بها المتملق الخلَّابا
تُقصي إلى الأطراف كلَّ محنَّك
وتبيت تُدني النَّوك والأوشابا
كم من بريء صادق حكمت في
حوبائه المتجسس الكذابا
بل هذه الخصيان كيف تقدمت
بيض الفحول السادة الأنجابا؟
ضيَّعت ملكك وامتهنت رجاله
فعَلامَ تحوي التاج والألقابا؟

ثم إنَّ الحكومة الحميدية لم تجد بدًّا من اعتقاله، فأوعزت «سلطات المابين» في الآستانة بذلك إلى خليل باشا البكدشلي والي بيروت، فحضر إلى طرابلس بنفسه، واعتقل المترجم في أوائل عام ١٣٢٢ﻫ/١٩٠٤م ليلًا، ثم ساقه إلى بيروت ليلًا تحت حراسة شديدة خوفًا من هياج الرأي العام وأقارب المترجم، وهم كثيرون، وقد بقي موقوفًا عدة أشهر في «دائرة البوليس» بسراي البرج، ثم إنَّ الحكومة وضعت يدها على مكتبته وأوراقه، وأخذ الوالي بنفسه يمعن فيها بحثًا وتنقيبًا، ولكنها في نهاية الأمر أعادت إليه بعضها بعد خروجه من المعتقل، ولما أفرج عنه بعد أشهر، واتصل ذلك بعلم الأستاذ الإمام الشيخ عبده استدعاه إلى مصر، وقدم إلى وزارة مصطفى فهمي باشا طلبًا بتسميته كاتب فتوى لديه، وحين وجد المغربي أنه لم يعد في وسعه البقاء في البلاد العثمانية تحت هذه المراقبة الشديدة من رجال عبد الحميد استطاع الإفلات والسفر خلسة إلى قبرص في الباخرة الخديوية ومنها إلى مصر، فبلغها في ١٧ ربيع الثاني ١٣٢٣ﻫ الموافق ٢٠ يونيو ١٩٠٥م، ولكن المنية كانت قد عاجلت المفتي الشيخ محمد عبده بعد وصوله إليها بقليل، فعكف على الاشتغال بالصحافة محررًا في جريدة الظاهر التي كان يصدرها المحامي المشهور إذ ذاك «محمد بك أبو شادي»، ثم دعاه الشيخ علي يوسف للمشاركة في تحرير «جريدة المؤيد» خلفًا للمرحوم السيد عبد الحميد الزهراوي، فاتسع له فيها المجال لنشر فكرة الإصلاح الديني والاجتماعي، ونقد أوضاع المؤسسات الدينية ومنها الأزهر الشريف، وقد كتب عشرات المقالات في هذا الموضوع وفي البحوث الدينية واللغوية والأدبية الأخرى، وظل يحرر في «جريدة المؤيد» إلى أن أعلن الدستور العثماني سنة ١٩٠٨م، فعاد إلى سورية في عام ١٩٠٩م، وواصل الكتابة في «المؤيد» والصحف المصرية الكبرى كاللواء، والشعب، والعلم، ومجلة الهداية وبعض صحف بيروت، ومما نشره في المؤيد يومئذ مقال بعنوان «حجاب المرأة في الإسلام»، تناقلته عنها الصحف السورية، وكان له تأثير عميق في البلاد، وحمل عليه المحافظون من أجله حملات منكرة.

وفي عام ١٩١١م / ١٣٣٠ﻫ أنشأ في طرابلس الشام جريدة باسم «البرهان»، وكانت مباحثها تدور حول بعض أمور سياسة الدولة الداخلية، وموضوعات الاجتماع الإسلامي، والدعوة إلى وحدة الكلمة، والعمل على تكوين كتلة إسلامية قوية تستطيع أن تقف في وجه مطامع أوروبا. وكان يمدها بالمقالات بعض كبار الكتاب كالأمير شكيب أرسلان المؤرخ المصلح المشهور، والأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي — أديب فلسطين الكبير — وغيرهما من كبار كتاب العصر، ولكنه اضطر إلى وقفها عند اشتراك الدولة العثمانية في الحرب العامة أواخر عام ١٩١٤م؛ لأن أكثر مشتركيها في مصر والهند، وقد دعته الحكومة العثمانية في تلك السنة إلى الانضمام إلى الشيخ عبد العزيز جاويش والأمير شكيب أرسلان، والسفر إلى المدينة المنورة؛ لتأسيس كلية إسلامية فيها، أطلقت عليها الحكومة اسم «معهد دار الفنون»، فأسسوها باحتفال حافل إلا أنَّ نشوب الحرب العامة قضى على ذاك المعهد. ثم أنشأت وزارة الأوقاف العثمانية في القدس عام ١٩١٥م كلية دعتها «الكلية الصلاحية»، وكان الغرض منها تخرج علماء ومبشرين بالدين الإسلامي، يجمعون بين العلوم الدينية والعلوم العصرية، فاشترك المغربي في تأسيسها وتنظيم شئونها مع الشيخ عبد العزيز جاويش والأمير شكيب أرسلان، وأخذ يدرس فيها الآداب العربية وفنون البلاغة والسيرة النبوية إلى أن أسست الحكومة العثمانية في دمشق عام ١٩١٦م «جريدة الشرق»، وسمَّته مديرًا لهيئتها التحريرية، فانتقل إلى دمشق وأخذ ينشر في الجريدة مقالات في الأدب والتاريخ والإصلاح الإسلامي، ومما نشره فيها عام ١٩١٦م مقال بعنوان «النهضة الدينية في الأمة الإسلامية»، دعا المسلمين فيه إلى التجدد ونبذ الخرافات، وقد أحدث دويًّا في البلاد بين الشيوخ وأرباب التقليد، وأعيد طبع المقال فيما بعد في الجزء الثاني من «كتاب البيِّنات»، ولما رزحت سورية تحت الاحتلال الإنكليزية — الفرنسي في أواخر عام ١٩١٨م لزم الشيخ داره وعكف على التأليف، ومن تآليفه التي أتمها في تلك الحقبة تفسيره لجزء «تبارك»، وقد حذا فيه حذو الأستاذ الشيخ محمد عبده في تفسيره لجزء «عمَّ».

وحاول المحتلون الفرنسيون أن يعهدوا إلى الشيخ بعض الأعمال العلمية والدينية، ومنها إفتاء طرابلس للإفادة منه، ولكنه كان يرفض بإباء إذ كان متشائمًا من الحالة التي آلت إليها البلاد بعد أن رأى الإنكليز والإفرنسيين يقسمون بلاد الشام إلى مناطق ودويلات صغيرة، ويغدرون بالملك حسين حليفهم وينفونه إلى قبرص وكثيرًا ما كان ينشد قول أبي العطاء السندي في بني أمية:

أليس الله يعلم أنَّ قلبي
يُحب بني أمية ما استطاعا
وما بي أن يكونوا أهلَ عدلٍ
ولكني رأيت الأمر ضاعا

ولما أنشأت حكومة المرحوم الملك فيصل بن الحسين في دمشق «ديوان المعارف»، الذي سُمِّيَ فيما بعد «المجمع العلمي العربي» كلفته أن يكون عضوًا عاملًا فيه فلم يتردد في القبول؛ لأنه رآه بعيدًا عن جو السياسة، ووجد أنَّ العمل فيه يساعده على خدمة اللغة العربية ومدها بالمصطلحات العلمية الجديدة، فعكف على العمل في المجمع من وضع مصطلحات علمية وتصحيح أخطاء شائعة وإلقاء محاضرات كثيرة ممتعة في مواضيع مختلفة بلا كلل ولا ملل، وعهد إليه أيضًا في عام ١٩٣٣م بتدريس اللغة والآداب العربية في كلية الحقوق بالجامعة السورية، حتى إذا كان عام ١٩٣٤م أصدر فؤاد ملك مصر مرسومًا بتسميته عضوًا عاملًا في مجمع اللغة العربية الملكي بمصر، وهو الذي أطلق عليه فيما بعد اسم «مجمع اللغة العربية»، فكان لا ينقطع عن السفر إلى القاهرة في شتاء كل سنة لحضور جلسات هذا المجمع والمذاكرة مع إخوانه الأعضاء في مواضيعه، وتزويد مجلته بالكثير من المقالات والأبحاث العلمية واللغوية المختلفة.

وكان أصاب «المجمع العلمي العربي» في دمشق عام ١٩٣٣م بعض الاضطراب، واضطر إلى التوقف لأزمات مالية طارئة، فانقطعت مجلته عن الصدور، إلى أن كان عام ١٩٣٥م فعهدت الحكومة السورية إلى المغربي برئاسة مجمع دمشق فقام بأعبائها على غير رضًى منه؛ لأنه كان يحب البعد عن الأعمال الإدارية التي تحول بينه وبين الانقطاع للعلم والتفرغ للبحث، فأعاد إصدار المجلة كسابق عهدها، ثم عادت الأزمة المالية مرة ثانية في عام ١٩٣٧م، فتوقفت المجلة أيضًا عن الصدور حتى أوائل عام ١٩٤١م، ثم أعيد إصدارها بعد أن وضعت لها المخصصات الكافية في الميزانية، وعاد المغربي إلى أعماله العلمية، يشغل منصب نائب رئيس المجمع بعد أن أسندت الرئاسة إلى المرحوم محمد كرد علي، فاستأنف بحوثه العلمية واللغوية وإلقاء المحاضرات الشيقة الممتعة، وفي عام ١٩٤١ انتخب عضوًا في «المجمع العلمي العراقي» ببغداد، فكان يمدُّ هذه المجامع الثلاثة بآرائه وبحوثه التاريخية والأدبية واللغوية بدون انقطاع إلى أن اختاره الله إلى جواره، بعد أن خلَّف للخزانة العربية عددًا كبيرًا من المؤلفات والمحاضرات والأبحاث.

أما مؤلفاته فنتكلم عن كل منها فيما بعد، وأما محاضراته التي تنيف عن المائة محاضرة فقد كان ألقى أكثرها في قاعة المجمع العلمي بدمشق والباقي في بعض المدن السورية واللبنانية والمصرية في غضون ثلاثين سنة، نشر شيء منها في مجلدات المحاضرات الثلاثة التي أصدرها المجموع المذكور، وأما أبحاثه العلمية المتنوعة ومقالاته التي تدور حول الإصلاح الديني والاجتماعي والتاريخ والأدب، فإنها جد كثيرة، وكان نشر معظمها في «جريدة المؤيد» كما أنَّ أبحاثه اللغوية وآراءه في تنمية اللغة والعربية وإحياء ألفاظها وما إلى ذلك، فهي مبثوثة في مجلة مجمع اللغة العربية المصري، ومجلة المجمع العلمي في دمشق.

وكان للمغربي شعر هو أقرب إلى شعر العلماء، كان قاله في أول نشأته الأدبية، ثم لما خاض غمار الكتابة والتأليف أعرض عن النظم إعراضًا تامًّا، على أنَّ له بعض المقطعات التي نظمها في بعض المناسبات، وهي متينة التركيب ولطيفة المعنى.١٣

وكان المغربي إذا ما قرأ كتابًا قديمًا أو حديثًا علق عليه هوامش وتعليقات وشروحًا لو جردت وطبعت لبلغت كتابًا يفوق الأصل، وقد رأيت في خزانة كتبه الكثير من ذلك، كما رأيت طائفة كبيرة من الكراريس كان لخص فيها في حداثته بعض العلوم الدينية واللغوية والكونية، وشرحًا على دواوين البحتري والمتنبي وأبي تمام. وخزانة كتبه تعتبر من الخزائن المشهورة في سورية لما حوته من الكتب المخطوطة في علوم الدين واللغة، حتى إنَّ بعضها يعد من الكتب النادرة، هذا فضلًا عن الكتب المطبوعة في مختلف الفنون، وقد كتب الأستاذ المرحوم عبد الله مخلص مقالة طويلة عن نفائس ذخائرها في مجلة المجمع العلمي العربي.

هذه خلاصة أولية عن الرجل وسيرته وحياته العلمية. أما أخلاقه وطبائعه ومزاياه فنوجز الكلام فيها بقولنا: كان حرَّ الفكر صريحًا متشددًا في رأيه، لا يحيد عنه متى اقتنع أنه صواب، صابرًا على هجمات خصومه في سياساته وآرائه الدينية لا يبالي بهم، وكان النصر بجانبه في أكثر الأحيان، وكان بعيدًا عن الدنيا وحطامها، لم يسع قط إلى منصب أو فائدة مادية مهما عظمت، وكان كثير الاهتمام بشئون العالم الإسلامي وجمع شتات المسلمين والسعي لرفع مستواهم ومجاراة الأمم الأخرى، والتدليل على أنَّ الدين وأصوله تحض على كل ما فيه الخير للبشر، ويظهر هذا بصورة جلية في مقالاته المنشورة في «المؤيد» وفي كتاب البيِّنات ومحاضراته العديدة، وإنَّ رسوخه وطول باعه في علوم اللغة العربية وأسرارها. ولا سيما تمكنه من علم الصرف، كان يساعده كثيرًا على التعمق في فهم النصوص الدينية وأقوال شعراء العرب والألفاظ التي نقلت عنهم واشتقاقاتها وإدراك المراد منها، ويظهر هذا في تفسيره لجزء تبارك، وفي كتابه الاشتقاق والتعريب، ولا ننسى جولاته الواسعة في شرح الحقوق التي منحها الإسلام للمرأة ودفاعه عنها في مناسبات عديدة، كما أنه كان رحمه الله واقفًا بالمرصاد لكل متهجم على الدين الإسلامي أو على اللغة العربية، فكان يقارعهم بقلمه ويدفع الحجة بالحجة، بأسلوب رفيع في المتانة وقوة الدليل، وكان أسلوبه بعيدًا عن الإسفاف، ولم ينقل عنه أنه استعمل في ردوده ألفاظًا نابية أو عبارات شائنة، كما كان يتصف بصفة قلما جاراه فيها أحد من العلماء في عصره، وهي الصبر على العلم والبحث والتأليف ساعات معتزلًا في غرفة عمله، مكبًّا على كتبه وقراطيسه بلا كلل ولا ملل، وقد نقل عنه أنه في حداثته كان يقبع في غرفته أيامًا خاليًا بنفسه، لا تفتح غرفته لأحد إلا للخادم التي تناوله طعامه.

ومما تجدر الإشارة إليه هو سعيه المتواصل إلى توسيع أفقه العلمي والثقافي منذ فجر حياته، فقد أولع منذ حداثته بدراسة اللغة الإفرنسية وحفظ الشيء الكثير من أشعارها، غير أنه كان يصعب عليه الكلام بها؛ لأنه تلقاها عن الكتب والمعاجم وعن أساتذة سوريين، ولم يتعلمها على أبنائها، وقد كان مع ذلك يحسن الترجمة عنها مستعينًا بالمعجم، وقد ترجم أثناء إقامته في مصر رواية «غادة الكاميليا» لإسكندر دوماس، ومثَّلها الشيخ سلامة حجازي في عام ١٩٠٨م.

وكان للمغربي في محاضراته العامة ودروسه التي يلقيها على طلابه في الجامعة السورية أسلوب هو الغاية في الطلاوة، كما كان له صوت حسن الجرس جهوري المقاطع، ينحدر كأنه السيل بلا تلعثم ولا توقف، كل ذلك ببيان مشرق، وأسلوب أخَّاذ بحيث لا يملُّ سامعه مهما أطال. وكانت له قدرة بارعة على شرح عويصات المسائل العلمية، وأسرار العربية وتقريبها من الأفهام بالشواهد وضرب الأمثال.

هذه صفحة عن نشأة عبد القادر المغربي وسيرته، وهي — كما ترون — صفحة مشرقة تصور حياة شخصية عاملة عالمة قام صاحبها بقسط ليس باليسير في خدمة دينه ولغته وبلاده وقوميته العربية.

هوامش

(١) أسسها في بيروت والي سورية حمدي باشا في سنة ١٣٠٠ﻫ على طراز المدارس الحديثة؛ ليستغني المسلمون عن مدارس المبشرين، فكانت نواة تكونت حولها جمعية المقاصد الخيرية المشهورة ومدارسها.
(٢) مقدمة كتاب البينات الجزء الثاني للشيخ محمد رشيد رضا /د، ﻫ/.
(٣) انظر كتاب «جمال الدين الأفغاني ذكريات وأحاديث»، طبعة دار المعارف ص٤٣–٤٥.
(٤) جمال الدين الأفغاني ص١٣–١٦ وقد رأيت مجموعة العروة الوثقى بخطه في خزانته.
(٥) كتاب جمال الدين الأفغاني ص١٦-١٧.
(٦) كتاب جمال الدين الأفغاني ص٤٥.
(٧) انظر كتابه عن «جمال الدين الأفغاني» ص٤٥.
(٨) يقول المغربي في كتابه عن جمال الدين الأفغاني ص٣٥: إنه بارح طرابلس إلى دار الخلافة للدخول في بعض معاهدها العلمية، ويقول الشيخ رشيد رضا في مقدمته للجزء الثاني من كتاب البيِّنات /و/: إنه ذهب إليها للانتظام في سلك القضاء الشرعي … ولم ينجح في طلب القضاء، ولو نجح لحال القضاء والقدر دون اشتغاله بالتحرير والإنشاء؛ ولحرمت أمته العربية من هذه الآيات البينات. وليس بين القولين اختلاف، فإن طلاب وظائف القضاء أو نواب القضاء — كما كانوا يسمونهم آنئذ — كانوا يدخلون في معهد خاص في الآستانة، ثم يتخرجون منه نواب قضاة في أنحاء الإمبراطورية العثمانية.
(٩) توفي الإمام محمد عبده في ١١ تموز (يوليو) ١٩٠٥.
(١٠) انظر مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق المجلد ٣ / ٤٩٩.
(١١) انظر مقدمة البيِّنات الجزء الثاني (د).
(١٢) يشير إلى الأموال الطائلة التي أمر السلطان عبد الحميد الثاني بإنفاقها على بناء زاوية وضريح لوالد شيخه السيد أبي الهدى الصيادي الرفاعي في حلب.
(١٣) ومنها قوله في وصف مرضه «كف الأسد» وغيرها وبذكر تداويه بالبنسلين:
كفكفت كفك يا أسد
يا أيها الخصم الألد
بالله ثم بالبنسلين
وقل هو الله أحد
وأويت من ربي ورحمته
إلى ركن أشد
أنشبت ظفرك في لا
ترثى لبنت أو ولد
أو صاحب يرجو لي إلا
بلال من سقم الجسد
ونسبت في الآجال ما
حكم الإله وما وعد
هذا يعجل حتفه
وحياة ذا أنسًا ومد
أرسلت طير الشؤم منـ
ـقضًّا فحام وما ورد
وسللت سيف البغي منسلطًا
فحاك وما عضد
ورميت سهمك خلسةً
فأصاب درعًا من زرد
إن كنت ترصد موتتي
فالبنسلين لك الرصد
أو إن أردت مساءتي
فالله ربي لم يرد
وأراك مغري بالشيو
خ تسومهم برح الكمد
متهددًا متوعدًا
لا بالصداع ولا الرمد
بل بالتصلب والحصا
والضغط أو ريح السدد
والفلج والرئيات أو
مرض المثانة والدرد
والكل سهل هين
في جنب تخليط الفند
هي علة في الرأس لكن
ذكرها عم البلد
هي علة في النكر تحكي
الكفر بالله الصمد
هي علة قد رد صا
حبها إلى عمر نكد
من بعد علم لم يعد
يدري ولا سرد العدد
هي علة أيعيش صا
حبها بجد أم بدد
عدوه في الأحيا وفي
الأموات أجدر أن يعد
فأعجب له يمشي على الأ
رضين هامًا قد لحد
يا رب تلك شكيتي
فاغفر ووفق للرشد
وقال أيضًا:
أيا ابن الثورة الكبرى تقبل
دعاءً من أخٍ ثقة صميم
تركت حمى العروبة لهف قلبي
عليه لقى لصهيون لئيم
ورحت تقيم في الأفغان تشدو
«ألا حي المنازل بالغميم؟»
قالها على لسان الدكتور خالد الطباع؛ ليرسلها إلى المرحوم الشيخ فؤاد الخطيب الشاعر المشهور، وقد عين وزيرًا مفوضًا للملك ابن سعود في الأفغان — واستوحى المعنى من بيتين لبعض ظرفاء الأعراب وهما:
رددت مخافة الحجاج أني
بكابل في است شيطان رجيم
مقيم في مضارطه أغني
ألا حي المنازل بالغميم
وقال أيضًا يخاطب الشيخ العالم الإيراني المشهور أبا عبد الله الزنجاني:
إليك أخي في الله أحكي شهادة
تجلي لعين الناس كنه دخائلك
فلستَ بسنِّي ولستُ بشيعة
ولكن إلى القرآن رجعي شمائلك
ومن ذلك قوله:
يا صديقًا لقد ملكت بصدق القول
ودي فكنت خير صحابي
إنَّ شوقي إليك أعظم من أن
يشرح المرء كنهه في كتاب
وقوله:
وما ألذ الحياة لولا
مصائب المرء في حياته
يموت كل امرئ لعمري
بقدر من مات من لداته

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤