قلب المرأة

١

عرف القرَّاء من رواية ابن أرلندا، كيف فاز الرجل العبوس بإنقاذ ذلك الغلام الذي كانت أرلندا بجملتها عاقدة آمالها عليه، وكيف أن اللورد بالمير عمَّ هذا الفتى، ومس ألن ابنة ذلك اللورد، يبذلان ما يسعهما من الجهد في سبيل الاستيلاء على هذا الفتى؛ طمعًا بثروته، وابتغاءَ تشتيت شمل الأرلنديين بعد فقد زعيمهم.

ونحن نبسط للقرَّاء في هذه الرواية ما جرى من الحوادث الغريبة بين الرجل العبوس وبين تلك الفتاة ابنة اللورد، التي أقسمت على التنكيل بالرجل العبوس منقذ زعيم الأرلنديين وساعدهم الأيمن في المهمات.

وكان آخِر عهدنا بالرجل العبوس أنه صعد بالفتى من فسحة السجن إلى تلك الغرفة المشرفة عليها، حيث كانت والدة الفتى وشوكنج، وأنه حاول إنقاذ جوهان كولدن فلم يَفُزْ لانقطاع الحبل به.

فلما دفع الغلام إلى أمه كان مشهدًا مؤثِّرًا لا يحيط به وصف.

وكان الرجل العبوس أعَدَّ مركبةً تنتظر على باب المنزل، فقال للأرلندية: كفى يا ابنتي وهلم بنا إلى الفرار؛ لأننا غير آمنين في هذا المنزل، وإذا بقينا به هنيهة فقد يقبضون علينا ونساق جميعنا إلى السجن.

ثم خرج بها وبالفتى وبشوكنج فركبوا تلك المركبة وسارت بهم، فأخذ الرجل العبوس يد الأرلندية وقال لها: إني قد ردَدْتُ إليك ابنك، ولكنه محكوم عليه بالسجن خمسة أعوام، وقد ارتكب فوق ذلك جناية الفرار من سجنه، وقُتِل بسببه أحدُ حرَّاس السجن.

وأريد بذلك أن ابنك ليس لك الآن، بل هو للبوليس ويجب أن نبالغ في الحرص عليه.

فطوقت الأرلندية ولدها بذراعيها كأنما الخطر قد تمثَّل لها حقيقةً، وقالت: إني أحميه.

فابتسم الرجل العبوس، وقال: ولكن الأفضل أن نحذر من البوليس.

– كيف ذلك؟

– ذلك ما أتعهد به إذا كنتِ تثقين بي.

فأجفلت الأرلندية وقالت: ألعلك تريد أن تفصلني عن ولدي أيضًا؟

– كلا، ولكني سأجد طريقة تستطيعين أن تريه بها كل يوم بل كل ساعة، ألَمْ تسمعي بمدرسة أبناء المسيح؟

فنظرت إليه نظرة انذهال وقالت: كلا.

– إنها مدرسة إذا دخل إليها الفتى وتزيَّا بزيِّ تلامذتها، لا تستطيع الحكومة القبض عليه لما لها من الامتيازات؛ لأن ابنك قد بات الآن بين خطرين، أحدهما خطر الحكومة التي حكمت عليه، ولا بد لها من البحث عنه بعد فراره.

والثاني وهو الخطر الأشد، اللوردُ بالمير، قاتلُ أخيه زوجِك وعمُّ ولدك، فهو لا يفتأ يبحث عنه مع فتاته.

ولذلك فقد وجب أن نغيِّر اسم ولدك، ونُدخِله في هذه المدرسة، بحيث يبيت فيها آمنًا كل خطر.

وإني سأفعل جميع ذلك، غير أني أحتاج إلى مهلة يومين، يجب أن أحذر بهما عليكما كل الحذر، ولا أستطيع ذلك إلا إذا أطعتني طاعة لا حد لها.

– ومتى عصيتك يا سيدي في أمر منذ عرفتك إلى الآن؟

فلم يجبها الرجل العبوس، وجعل ينظر إلى مياه التميس مفكِّرًا، والمركبة تسير على ضفته إلى أن وقف السائق بها حيث أمر.

فقال لها العبوس: لقد وصلنا يا ابنتي فانزلي.

ثم وثب من المركبة إلى الأرض، وأنزل الفتى، ثم خرجت الأرلندية من المركبة ونظرت إلى ما حولها، فرأت خلاء متسعًا ليس فيه غير بعض بيوت صغيرة متفرقة، وفي وسط هذا الخلاء كنيسة كاثوليكية تحيط بها مقبرة متسعة، وهي كنيسة سانت جورج الكاتدرائية.

فقال العبوس عند ذلك لشوكنج: اذهب الآن في شأنك، وعند الصباح تذهب إلى سانت جيل فترى الأب صموئيل، وتقول له: إن الأمور قد جرت على ما تمنيناه، وإن الغلام قد نجا.

فذهب شوكنج بالمركبة، وعاد الرجل العبوس إلى الأرلندية، فقال لها: إننا سنكون بمأمن هنا من رجال الحكومة؛ إذ لا يوجد في جميع لندرا بوليس يجسر على أن يبحث عنا في المقابر.

ثم سار بها وبالفتى في تلك المقبرة التي كانت قبورها البيضاء تظهر للعين على شدة الظلام حتى وصلوا إلى الكنيسة، فقرع الرجل العبوس بابها ففُتِح الباب على الفور، وظهر رجل يحمل بيده مصباحًا، فقال له العبوس: إننا نحن الذين تنتظرهم.

قال له الرجل: مَن أرسلكم؟

– أرسلنا ذلك الذي نخضع له كلنا، إلى أن يبلغ الزعيم رشده ويغدو رجلًا.

– إذن ادخلوا.

٢

وكان هذا الرجل شيخًا أحنت ظهره الأيام، وبيَّضت شعره السنون، وطالت لحيته حتى بلغت صدره.

فلما دخلوا أقفل الباب وسار أمامهم بمصباحه، فاجتاز إلى الكنيسة، ثم صعد بهم سلمًا يؤدي إلى جرس الكنيسة، وهناك غرفة تحت قبة الجرس دخلوا إليها.

فقال الرجل العبوس للأرلندية: هو ذا المكان الذي تختبئين فيه مع ولدك، وإني أستحلفك بأبيك وباسم أرلندا أن لا تبرحي هذا المكان إلا حين أعود إليك بنفسي.

وأنت هنا في مأمن مع ولدك حتى ولو وشوا بك إلى البوليس، فإنه لا يجسر على الدخول إليه، ولكنه إذا علم بوجودك مع ولدك في هذه الكنيسة طوقها بالرقباء إلى أن تخرجي منها، فيطول سجنك في الغرفة.

– لا أبالي بالسجن مهما طال عهده إذا كان ولدي معي.

– إذن اقسمي لي أنك لا تبرحين الحجرة.

– أقسم لك بتربة زوجي الشهيد.

– وأنا سأعود إليك بعد يومين.

ثم قبَّلَ الفتى، وودَّعها وانصرف.

ولما خرج من الحجرة لقي الشيخ حارس الكنيسة ينتظره، فسأله: أحقيقة ما قلته لي؛ إنه في كل يوم تأتي امرأة بملابس السواد عند الفجر تبكي وتصلي فوق أحد القبور؟

– نعم يا سيدي، فإني أفتح باب المقبرة في الساعة السادسة من صباح كل يوم، فأجدها على الباب.

– إذن تقفل الباب في كل ليلة؟

– نعم، وإنما أبقيته مفتوحًا الليلة من أجلك.

– وبعد ذلك ماذا تصنع تلك المرأة؟

– تدخل إلى المقبرة، ولم أَرَ وجهها إلى الآن؛ لأنها تتبرقع بنقاب كثيف وتذهب إلى القبور.

– أَمَا رأيتها عند أي قبر تقف؟

– نعم.

– إذن سِرْ أمامي ودلني عليه.

فسار الشيخ أمامه، وهو يبسط أشعة مصباحه على القبور كي يهتدي إلى القبر، وكان الرجل العبوس يقول في نفسه: إذا كانت هذه المرأة هي التي أظنها، فقد أصبح اللورد بالمير في قبضتي، وبِتُّ قادرًا على قتال مس ألن مقاتلة الأكفاء للأكفاء.

وبعد هنيهة وقف الشيخ أمام قبر، فأخذ العبوس المصباح من يده وأدناه من الضريح، فرأى مكتوبًا عليه:

هذا ضريح ديك هارمون، مات في العشرين من عمره، شهيد الغرام.

فقال للشيخ: أهنا تقف المرأة وتبكي؟

– نعم.

ولم يكن يوجد تاريخ تحت الكتابة، غير أن ظاهر الضريح كان يدل على أنه حديث البناء، فقال الرجل العبوس للشيخ: أتعلم متى دُفِن هذا الشاب؟

– كلا، ولكني أشاهد تلك المرأة من عهد قريب كل يوم دون انقطاع، وقد أخبرت الأب صموئيل بما رأيته.

– حسنًا، فقد عرفتُ ما كنتُ أريد أن أعرفه.

ثم أقفل راجعًا، ولكنه لم يخرج من باب المقبرة، بل عاد إلى الكنيسة، فدهش الشيخ وقال له: ألعلك تريد مقابلة الأرلندية أيضًا؟

– كلا، ولكني أريد أن أنتظر في الكنيسة إلى أن تحين الساعة التي تحضر فيها المرأة.

ثم تركه ومضى إلى مكان الاعتراف ودخل إليه.

أما الشيخ فإنه كان يعلم أن الرجل العبوس من كبار زعماء الأرلنديين فلم يعترضه بشيء، بل انحنى أمامه وقال: متى تريد يا سيدي أن أوقظك؟

– متى فتحت باب المقبرة.

فانصرف الشيخ، والتَفَّ العبوس بردائه، ونام نومًا هادئًا.

وعند الصباح أقبل الشيخ لإيقاظه، فوجده مستيقظًا، فقال له: أفتحت الباب؟

– نعم.

– أَأَتَتِ المرأة؟

– كلا، ولكنها ستحضر قريبًا.

فتركه العبوس وذهب إلى ذلك الضريح الذي رآه في الليل، واختبأ وراء ضريح يشرف عليه.

ولم تمر هنيهة حتى رأى المرأة مقبلة، وهي مقنعة بقناع كثيف، فمشت توًّا إلى الضريح حتى إذا وصلت إليه ركعت أمامه، وجعلت تبكي وتنتحب، وتقول أقوالًا تقطع القلوب من الإشفاق، فكان مما قالته وسمعه العبوس: أين أنت يا ولدي؟ أحق أن الأموات لا يرجعون؟ وما بالك لا تجيب نداء أمك ولا ترثي لنحيبها؟ ألم تكن بي برًّا رحومًا! فما للعهد غير فيك يا ولدي! وكيف أنا عائشة بعدك! إنهم قتلوك حبًّا، ولكنهم قتلوني دونك، فإنما الميت ميت الأحياء.

ثم تشهق وتنتحب، وتذرف الدمع السخين، وتنادي ولدها بأشجى النداء، كأنما هي ترجو أن يجيب نداءها، حتى إذا ثاب إليها رشدها ورأت أنها تخاطب ميتًا، حبست دمعها المنسكب، وانصرفت إلى الصلاة عن نفس فقيدها الحبيب.

ثم نهضت نهوض القانطين، وذعرت حين رأت الشمس مرتفعة، كأنها خشيت أن يفاجئها أحد وهي في هذا الموقف، فأسرعت إلى ضريح ولدها، وقبَّلت ذلك الحجر المنقوش عليه اسمه قبلة الخاشع، وعادت مسرعة من حيث أتت.

وعند ذلك سار الرجل العبوس في إثرها، وهي لا تراه، حتى انتهت إلى منزلها وهو في زقاق ضيق، وحاولت أن تدخل فأسرع العبوس ووضع يده على كتفها، فالتفتت إليه مرتعبة وهمَّتْ أن تصيح، ولكنه بادرها بإشارة سرية من أشائر الأرلنديين، وذهب اضطرابها، وجعلت تنظر إليه بدهش، فقال لها: ألستِ والدة ديك؟

فجزعت تلك الأم عند سماع اسم ولدها الميت، وقالت له: بالله لا تذكر هذا الاسم أمامي وأشفِقْ عليَّ.

– إني كنت صديق ديك وأنت أمه.

– قلتُ لكَ لا تذكر هذا الاسم؛ فإنهم يقتلوني أيضًا إذا عرفوا أني في قيد الحياة؛ لأنهم يعتقدون أني ميتة كولدي، ولم يبْقَ لي غير عزاء واحد في هذه الحياة التعيسة، وهو أني أذهب عند مطلع كل فجر فأبكي على ضريحه، فإذا علم الذين قتلوه أني في قيد الحياة كان الخطر عظيمًا عليَّ.

– لقد كان الخطر عظيمًا أمس، أما اليوم فقد زال كل خطر.

– لماذا؟

– ذلك لأني سأحميك؛ فإني كنت صديق ولدك، وأنا ألَدُّ أعداء مس ألن بالمير التي مات ابنك ضحيةَ هواها.

فصاحت المرأة عند ذلك صيحة خرجت معها مكنونات صدرها.

فقال لها الرجل العبوس: لا تفوهي بحرف هنا، وادخلي بي إلى منزلك؛ إذ يجب أن أعرف كل شيء، كي أستطيع أن أنتقم لابنك الحبيب.

٣

ثم أخذ العبوس بيدها ودخل بها إلى منزلها، فذهبت تلك الأم المنكودة إلى غرفة ففتحتها، وقالت: هنا مات ولدي.

ثم انطرحت على مقعد في تلك الغرفة، وهي واهية القوى، وقالت للرجل العبوس: تقول إنك عرفت ولدي، وكنت صديقًا له، فأين كنتَ تراه؟

– في ويت هال.

– لا أعرف ذاك المكان الذي تذكره، ولكني كنتُ أعلم أن ولدي كان يبرح المنزل كل ليلة، فما كنت أعترضه؛ إذ كنت أراه يكاد يجن من يأسه.

فقال العبوس: إني غادرت لندرا مدة، ثم عدت إليها، فأخبروني أن ابنك قد مات شهيد الغرام، ولم أجد بين إخوانه مَن يخبرني حقيقة أمره؛ ولذلك أردتُ أن أعلم منك كل شيء بالتفصيل.

فوثقت تلك الأم منه لما رأته من دلائل الصدق والوفاء بين عينيه، ولا سيما أنه قد أشار لها تلك الإشارة الدالة على أنه مثلها من الأرلنديين، فحكت له حكايتها كما يأتي: إني امرأة أرلندية كان زوجي إنكليزيًّا، وهو من جنود البحارة، فرآني يومًا في أحد موانئ أرلندا، وتزوَّج بي على اختلاف مذهبينا فتبعته إلى لندرا.

وبعد سنة من زواجنا غادرني وسافر في دارعة، فولدت غلامًا بعد شهر من سفره، وما رأيته بعد ذلك العهد؛ لأن تلك الدارعة غرقت، وما نجا أحد من بحارتها، فعينت لي الحكومة راتبًا صغيرًا.

وقد خطر لي عند ذلك أن أعود إلى أهلي في أرلندا، غير أن مستقبل ولدي أثناني عن السفر، فاستخدمت في محل تجاري فكان راتبي منه وما أقبضه من الحكومة يساعداني على تربية ولدي وتعليمه.

ولما بلغ السادسة عشرة من عمره ترك المدرسة، واستخدم في أحد المصارف براتب كان يكفينا، فمنعني عن العمل، وأقمنا في هذا المنزل الذي تراه.

ودام ذلك عامين كنتُ في خلالهما أسعد أمٍّ وأسعد امرأة، إلى أن جاءنا يومًا صاحب المنزل الذي نقيم فيه فقال لولدي: إن أرض هذا المنزل للوردٍ من أعظم نبلاء إنكلترا، وإن هذا اللورد محتاج إلى سكرتير، فهل تريد أن تكون في خدمته فأسعى لك هذا السعي، فإنك تكسب منه ضعف ما تكسبه الآن.

فما ترددنا في قبول هذا الاقتراح، وفي اليوم التالي ذهب بولدي إلى اللورد، فأعجب بذكائه وعيَّنَه سكرتيرًا له، فكان في كل يوم يذهب إلى منزله فيكتب له بإملائه جميع رسائله.

ومضى على ذلك شهران وأنا أحسب نفسي سعيدة بسعادة ولدي، وقد تغيَّرَتْ عوائده تغيُّرًا فجائيًّا لم أفطن له في ذلك العهد، مع أن عيون الأمهات تنفذ إلى أعماق قلوب أبنائهن فلا تخفاهن خافية من أسرارها.

فقد كان من عادته قبل دخوله في خدمة اللورد أن لا يكترث للبهرجة والزينة، وكانت ملابسه على أتم البساطة، لكن عاداته تغيَّرَتْ بعد ذلك، فأصبح شديد التأنُّق كثير البهرجة، ثم تبدَّلَتْ أخلاقه من الزهو إلى الانقباض بالتدريج، فما مر به عهد طويل حتى تجهم وجهه، ولم يَعُدْ يلقى إلا مقطب الجبين، فما شككت أن الغرام قد نفذ إلى قلبه.

وقد أتى لي يومًا قائلًا: إن اللورد بالمير كثرت أشغاله في هذه الأيام لانعقاد جلسات البرلمان، وإنه مضطر إلى الاشتغال معه في الليل، فصدقته وبقي شهران يخرج كل ليلة بعد العشاء، ومن ذلك العهد بدأت حياته السرية، وبدأ عذابه وعذابي، فكنتُ يومًا أرى وجهه مقتمًا بظلمات اليأس فينقبض قلبي، ويومًا أراه مشرقًا بنور البشر فأفرح لفرحه، لكنه لم يكن يبوح لي بشيء من مكنونات صدره.

وما زلت معه بين اليأس والرجاء إلى أن جاءني يومًا وعلائم السرور بادية بين عينيه، فقال: لقد حان لي أن أبوح لك بسري، فإني أحب ابنة اللورد بالمير.

فذعرتُ لهول هذا الخبر وقلتُ: ويحك أيها التعس كيف تحبها وبينكما هذا التباين في المقام؟

– ولكنها تحبني.

فجعلت أبكي وأتوسَّل إليه أن يرجع عن هذا الجنون، وأن يعتزل خدمة اللورد، لكنه أبى لاعتقاده أنها تحبه، وأنها راضية بزواجه، فاضطررت مُكرَهَةً إلى الامتثال؛ لأني رأيت السهم قد نفذ، ولم يَبْقَ سبيل لرده عن هذا الغرام الجائر.

ولا أدري ما جرى بينه وبين هذه الفتاة الهائلة، ولكني رأيت اليأس قد دبَّ إلى قلبه بعد زمن قريب، فلم يَعُدْ يلين بكلامي، ولم يَعُدْ يتحدَّث بغير الموت.

إلى أن أصيب بحمى عقبها هذيان، فلم يكن يتكلم إلا عن مس ألن، ولم أكن أفارقه لحظة، ثم خفَّتْ وطأة الحمى وزال الهذيان بعد أسبوع، وكان ذلك اليوم يوم أحد، فسوَّلَ لي القدر المحتوم أن أذهب إلى الكنيسة، فلما عدْتُ منها رأيته شديد الاصفرار، فصحت بالرغم عني صيحة ذعر، أما هو فابتسم وقال: أسألك العفو يا أماه لما ترينه مني من نكران الجميل، فإني قد نسيت أمي الحنون، ولم أفتكر إلا بشقائي والخلاص منه.

وعند ذلك رفَعَ عنه الغطاءَ فصحت صيحة هائلة؛ ذلك أني رأيت الفراش مصبوغًا بدمه الزكي.

وهنا انقطعَتْ عن الحديث، وجعلت تبكي بكاءً شديدًا.

فأخذ الرجل العبوس بيدها، وجعل يعزيها بأرَقِّ الألفاظ إلى أن حبست دمعها، وعادت إلى الحديث فقالت …

٤

إن القنوط تمكَّنَ من صدر ولدي المنكود، وطعَنَ نفسه بخنجر ثلاث طعنات.

ولما رأيتُ هذا المنظر الهائل جعلتُ أصيح مستنجدة، فأسرع إليَّ صاحب البيت، أما ولدي فإنه قال لي وهو يبتسم: لا فائدة من الاستغاثة يا أماه، فقد دَنَتِ الساعة.

ولم يكن مخطِئًا وا أسفاه! فإن كل جرح من جراحه الثلاثة كان قاتلًا، ولكنه غالَبَ بشبابه الموتَ ستًّا وثلاثين ساعةً، لم يكن يفتر في خلالها عن طلب الغفران مني عما جناه عليَّ، وعن ترديد اسم ألن.

ولما بدأ دور النزاع نظر إليَّ نظرةَ الحزين، وقال لي: إني أريد يا أماه أن أُدفَن في مقبرة كاثوليكية، وأن تُدفَن معي هذه المحفظة المختومة فتجعلينها وسادة لرأسي، فإن هذه المحفظة تحوي الرسائل التي كانت تبعثها إليَّ تلك الظالمة.

ثم قضى نحبه على صدري، فدعوت كاهنًا أرلنديًّا فأخبرته بكل ما حدث وهو الكاهن صموئيل، فذهب وعاد بأربعة من الأرلنديين، وكنتُ قد وضعت المحفظة بيدي تحت رأسه، فأقفلوا التابوت وساروا بذلك الابن الحبيب الذي طالما تمنيت أن أفديه.

وهنا عادت إلى البكاء الأليم حتى لم يَبْقَ في جفنيها دمع، فقال لها الرجل العبوس: ألعلك رأيت مس ألن؟

فاضطربت المرأة واتَّقَدَتْ عيناها حين سمعت اسم قاتلة ابنها، وقالت: نعم رأيتها مرة واحدة، وعلمت أن ولدي قد أحبها لفرط جمالها، وأنها قتلته لما رأيْتُ في عينيها من دلائل المكر والشر.

– أين رأيتها يا سيدتي؟

– رأيتها هنا، فقد زارتني بعد وفاة ولدي بيوم واحد، وكنت وحدي لا أنيس لي غير اليأس، فرأيت الباب قد فُتِح ورأيت فتاةً دخلَتْ منه، فحسبت حين رأيتها أنها من ملائكة السماء، إلى أن كلَّمَتْني فعلمت أنها من أبالسة جهنم، وإليك ما قالته بلهجة السيادة والاستكبار: أيتها المرأة إني ابنة اللورد بالمير، وإن ولدك عشقني عشقًا لم أدفعه إليه، وقد علمتُ وعلم أبي أنه لم يخلف لك شيئًا من المال، ولذلك أتيت إليك كي أعطيك ما في هذه المحفظة من الأوراق المالية، فإنها تعينك على العيش، وفي مقابل ذلك أن تعطيني جميع أوراق ولدك.

فعلمتُ أنها تريد أن تشتري مني رسائلها إليه، فدفعت لها محفظتها باحتقار وقلت لها: إن كل أثر لولدي مقدَّس لا تمسه يدك الدنسة. فخرجت وقد نظرت إليَّ نظرة ملؤها الضغينة والحقد.

ومر على ذلك ثلاثة أيام، وبينما أنا جالسة في الليلة الثالثة أندب ولدي، رأيت زجاج النافذة قد كُسِر فجأةً، ودخل منها رجلان متنكران مقنعان، فهجما عليَّ ووضعا كمامة في فمي، ثم جعلا يبحثان في المنزل، فعلمت أنهما يبحثان عن رسائل مس ألن، ولكنهما ذهبا دون أن يظفرا بشيء؛ لأن الرسائل كانت في الضريح.

وفي اليوم التالي جاء صاحب المنزل وكان من المشفقين عليَّ، فقال لي: إن حياتك هنا معرَّضة للخطر. فذهبت إلى أقفر شارع في لندرا فاختبأت به شهرين، وأذاع صاحب المنزل في خلالهما خبر وفاتي، فلما أيقنت أن خبر وفاتي قد اتَّصَل بمس ألن عدتُ إلى المنزل الذي مات فيه ولدي، وأنا لا أخرج منه إلا مرة كل يوم عند الفجر كي أزور الضريح.

وهنا انتهت حكايتها وعادت إلى البكاء، فوقف الرجل العبوس وقال لها: إذن قد وضعت رسائل مس ألن في الضريح؟

– نعم.

– أَلَا يعلم أحد بوجودها فيه؟

– لا يعلم بأمرها سواك، وإني لم أَبُحْ لك بسرها إلا حين رأيت إشارتك الرئيسية الأرلندية التي يجب أن يخضع لها كل الأرلنديين.

– وأنا لا أبوح بما أؤتمن عليه من الأسرار، فثقي إن دم ولدك لا يذهب هدرًا، والآن أخبريني كيف تعيشين؟

– إني أعيش بشغل يدي، وبفضل صاحب المنزل الذي أنا فيه.

فأخذ من جيبه قبضة من الجنيهات ودفعها إليها قائلًا: إن أرلندا لا تهمل أبناءها.

ثم أفلت منها مسرعًا كأنه لا يريد أن يسمع شكر هذه الأم البائسة، وسار في الشارع وهو يقول: لقد أصبحت ابنة بالمير في قبضة يدي.

•••

وبعد حين كان مع الأب صموئيل يتباحثان عن ابن أرلندا، فقال له الكاهن: أرى أن الغلام لا يزال معرَّضًا للأخطار.

– لا خطر عليه ما زال مختبئًا مع أمه في كنيسة المقبرة.

– ولكن لا يمكن أن يقيما فيها مدة طويلة حذرًا من افتضاح أمرهما.

– هو ما تقول، لذلك سأذهب الآن وأخرجهما؛ إذ قد وجدتُ مكانًا ليقيم الغلام فيه ولا يستطيع أحد إخراجه منه.

– أين؟

– في مدرسة أبناء المسيح، وهي المدرسة التي بناها إدورد السادس، فجعلها تحت رعاية محافظ العاصمة، وجعل من امتيازاتها أن كل تلميذ يلبس ملابسها الرسمية لا يستطيع أحد مسه بسوء ولو كان من القاتلين، فَلْنفرض أن رالف دخل إلى هذه المدرسة ولقيه يومًا أحد حراس سجن الطاحون، فإنه ينحني أمامه ولا يجسر على القبض عليه.

– إني أعرف جميع ما ذكرته عن امتيازات هذه المدرسة، لكني أعلم أيضًا أن إدخال الغلمان في سلك تلامذتها من أصعب الأمور.

– ولكني وجدت طريقة ميسورة، أَلَا تذكر أنه حين وصول الفتى إلى لندرا مع أمه سرقته امرأة تُدعَى مسز فانوش؟

– نعم أذكر، لكني لا أدري ما كانت تريد من سرقته.

– لكني أنا أعلم، فإنها أرادت أن تستعيض به عن غلام قتلته، وكان أهله عهدوا إليها بتربيته، وهذا الغلام إذا كان في قيد الحياة يحق له الدخول إلى هذه المدرسة؛ لأن أباه من الضباط، ولذلك سأعيد رالف إلى مسز فانوش.

فأجفل الكاهن وقال: كيف ذلك؟

أما الرجل العبوس فإنه ابتسم وقال: أرجوك أن تثق بي أَلَمْ تجربني في المهمات؟

ونظر إليه الكاهن نظرةَ إعجاب وقال: ولكن مَن أنت، فإني على طول عهدي بك لم أعرفك إلى الآن؟

فأطرق العبوس برأسه إلى الأرض وقال: لقد قلت لك إني رجل ارتكَبَ أعظم الآثام، وهو يرجو عفو الله بأعظم توبة.

ثم نهض يحاول الذهاب، فقال له الكاهن: إلى أين؟

– إلى مسز فانوش.

ثم ودَّعَ الكاهنَ وخرج من الكنيسة، فلقي عند بابها شوكنج ينتظره، فقال له: إن فانوش لم تَعُدْ إلى منزلها في لندرا، وهي لا تزال في همبستاد.

– إذن هلمَّ بنا إليها.

٥

لقد تركنا مسز فانوش في الجزء الأول من هذه الحلقة في منزلها في همبستاد، وكانت ترسل خادمتها كل يوم إلى لندرا؛ لأنها لم تكن تجسر على الذهاب إليها، فقد كانت تخشى ثلاثة أمور: أولهما أن يشكوها اللورد بالمير فتحقِّق الحكومة في أمرها، والثاني أن يعود أولئك الرجال الذين بحثوا عن رالف ولم يجدوه، والثالث أنها كانت تخشى مس إميلي وزوجها أن يطالبانها بولدهما.

وقد مرت العشرة أيام ولم يَعُدْ إليها الرجل العبوس وأعوانه، ولم يأْتِها أحدٌ من قِبَل اللورد بالمير.

وفي اليوم العاشر أرسلت خادمتها إلى لندرا كي تبحث لها عن رسائل، وأقامت تنتظر وهي خائفة وكأنها تتوقع حدوث مصاب، إلى أن عادت الخادمة تحمل كتابًا، أخذته وفضته بيد ترتجف ونظرت إلى التوقيع فاضطرب فؤادها، ثم قرأت الكتاب فكان متضمنًا هذه الكلمات الوجيزة:

غدًا أحضر مع امرأتي، ونرى ولدنا العزيز …

وكان هذا الكتاب من الماجور واترلي زوج مسز إميلي، وضعت فانوش رأسها بين يديها وقالت: ماذا أعمل الآن؟ إني قتلت ولدهما منذ عشرة أعوام، أي حين عهد به إليَّ تخلُّصًا من نفقاته، ولم أخبرهما بموته كي يواصلا إرسال النفقات، وسرقت ابن الأرلندية حين علمت بعزمهما على الحضور كي أجعله بدلًا من ولدهما، فهرب الأرلندي مني، رباه كيف أعمل؟

وكانت الخادمة تسمع كلامها فقالت لها: لا أجد بأسًا عليك، فإن والد الغلام سيذهب إلى منزلك في لندرا فتقول له العجوز إنك مسافرة مع الغلام.

فتنهدت فانوش وقالت: ولكنها تبيعني بعشرة جنيهات، بل إذا دفع لها أقل من هذا المبلغ ترشده إلى منزلي هنا، أنسيت كيف خانتني مع اللورد بالمير؟

– لقد أصبتِ، إذا شئتِ فَلْنسافر حقيقة.

– ولكن إلى أين نسافر والماجور قادم غدًا؟

– نسافر إلى بلدي في أيكوسيا.

– ولكن الماجور يشكوني إلى الحكومة، ولا بد للبوليس أن يعلم في النهاية أين أنا، ثم يهتدون إلى ولتون الذي كان يعيننا على قتل أولئك الأطفال، فيُحكَم علينا بالإعدام جميعًا.

فلم يظهر على الخادمة شيء من علائم الخوف، وقالت: أما الشنق فهو أقل ما نستحقه، ولكن عزائي أن تلك العجوز الشمطاء ستموت معنا، فلو لم ترشد اللورد بالمير إلى منزلك لما أصبنا بهذه النكبة.

ولم تكد الخادمة تتم حديثها حتى سمعتا وقع خطوات في الحديقة، فوقفت المرأتان منذعرتين، وكان الليل قد أرخى سدوله فلم تريَا أحدًا ولكنهما كانتا تسمعان صوت اقتراب الخطوات.

ولم تمضِ هنيهة حتى رأتَا أن باب الغرفة قد فُتِح، وظهر منه شوكنج، فرجعت فانوش منذعرة إلى الوراء؛ إذ عرفت أنه أحد أولئك الرجال الذين قيَّدوا اللورد وطلبوا منها رالف.

ثم رأت بعده الرجل العبوس، ولكنه لم يكن يلبس تلك الملابس التي رأته فيها منذ عشرة أيام، بل كان متنكرًا بزي البوليس، فما شككت أنهما قادمان للقبض عليها.

وكان الاثنان مسلَّحين، فأشهر الرجل العبوس مسدسه، ودنا من فانوش وقال لها: إنك تعلمين، كما أعلم، أنه لا يوجد جيران لك في هذا المنزل، إذا استغثت لا يجيبك أحد، وفوق ذلك إني بملابس البوليس كما ترين.

سقطت فانوش راكعة على ركبتها والتمست العفو منه، فنظر إلى شوكنج وأمره أن يذهب بالخادمة إلى المطبخ ولا يدعها تهرب، فأخذ الخادمة ممتثلًا، وبقي العبوس فقال لها: أول ما أبدأ به أني لست آتيًا للقبض عليك، اطمئني، فإذا كنتُ لم أقبض عليك على ما لدي من براهين على جرائمك، فذلك لأني أريد الاتفاق معك، فإني أراك ذكية الفؤاد.

فارتعشت فانوش وجال في خاطرها أن هذا الرجل يريد أن يسهل لها سبيل الفرار مقابل مبلغ من المال، فقالت له: إني يا سيدي أفعل كل ما تريده مني، ولكني لست غنية.

فابتسم العبوس وقال: إنك مخطئة فلست بطالب مال، فاصغي إليَّ ودعيني أذكر لك شيئًا من أمرك، فإنك قتلت إلى الآن عشرة أطفال منهم ابن الماجور واترلي، وسيأتي هذا الماجور غدًا يطالبك بولده، فلا تستطيعين رده إليه، فيشكوك وينفضح أمرك، ولا يكون عقابك غير الشنق.

وكانت فانوش تضطرب اضطرابًا شديدًا، فقال لها: لكن إنقاذك ممكن من جميع هذه الأخطار، فإن الفتى الأرلندي الذي هرب من منزلك قد وجدناه، ويمكنك أن تقدِّميه للماجور بأنه ولده، فهو لا يعرف ابنه وقد دفعه إليك وهو في المهد منذ عشرة أعوام، ولم يَرَه مرةً بعد ذلك العهد.

وسألت فانوش: أين هو الفتى؟

– عندي.

– أترده إليَّ؟

– كلا، لكني أضعه في مكان تذهبين إليه مع مسز إميلي والماجور فتجدونه فيه.

– إني لا أفهم شيئًا مما تقول.

– لا بأس إذا لم تفهمي، فستعلمين كل شيء فيما بعدُ، أما الآن فانظري من هذه النافذة، أَلَا تجدين المنزل الأحمر المعتزل؟

– نعم، لكنه مقفر لا يسكنه أحد في الشتاء.

– بل سيسكنه رجل عجوز يجب أن تذهبي إليه، وهو يخبرك بما يجب أن تصنعيه.

– والغلام؟

– سيكون هناك.

– أيكون وحده؟

– كلَّا مع أمه.

فأشكل هذا القول على فانوش، وعاد إليها سوء الظن بالرجل العبوس، فقالت: إني لا أعرف ذلك الرجل، حتى إني لا أعرف اسمه.

– إنه يُدعَى ليرتون، فإذا ذهبت إليه يستقبلك في الحال، لكني أرى من دلائل عينيك أنك غير واثقة مني فدعيني الآن أهديك نصيحةً، وهي أن تفعلي كل ما أقوله لك دون اعتراض، وإلا فإنك لا تسلمين من العقاب الذي تعرفينه.

فاضطربت فانوش وقالت: سأطيعك في كل ما تريد.

– وإني أحذرك أيضًا من الفرار، فإنك لا تخطين خطوة حتى يقبض عليك الجواسيس، أما إذا لم تخالفي قولي فإنك تبيتين آمنة من كل ما تخشينه.

– لكن بقي أمر يا سيدي أظنك تجهله، وهو أن هذا الغلام الأرلندي وافر الذكاء شديد البأس، فهو يقول للماجور إنه ليس بولده الحقيقي، ويشكوني إليه.

– إنك مخطئة، فإن الغلام سيعانقك حين يراك، ويفعل ويقول كل ما تريدينه، والآن أستودعك الله على أن أراك غدًا، فاحذري أن تنقصي شيئًا مما قلته لكِ، ولا تنسي المشنقة.

ثم تركها وذهب إلى شوكنج وقال له: هلمَّ بنا، فإن لدينا مهمة خطيرة يجب قضاؤها في هذه الليلة.

ومشى أمامه فتبعه حتى وصلا إلى منزل صغير، فقال له الرجل العبوس: أتدري إلى أين نحن ذاهبان؟ إن ذلك لا يخطر في بالك، مهمتنا في هذه الليلة نبش قبر ميت.

فاضطرب شوكنج، وقال: ألعل الميت في هذا المنزل؟

ولم يجبه الرجل العبوس، بل صعد أمامه وهو يشيعه، ففتح إحدى غرفه بمفتاح كان معه، ودخل ثم أقفل باب الغرفة.

ونظر شوكنج في أثاث الغرفة فلم يجد فيها غير كرسي وخزانة ومقعد، ولكنه لم يجد قبورًا ولا موتى، فابتسم العبوس وقال له: إن القبور لا تُبنَى في المنازل أيها الأبله.

– ولكني أراك في هذا المنزل كأنك صاحبه، وأنا أعرف منزلك.

– إن لي في لندرا عشرين منزلًا فاطمئن، فإنك لا تنام في الخلاء ما زلتَ في خدمتي، أما دخولي إلى هذا المنزل الآن فلكي أتنكَّرَ بغير الزيِّ الذي أنا فيه؛ لأن رجال البوليس لا يحفرون القبور.

ثم خلع ثيابه وارتدى ملابس غيرها، وخرج مع شوكنج توًّا إلى الكنيسة، حيث كانت الأرلندية وابنها.

وقرع الباب ففتح له حارس الكنيسة، ودخل مع شوكنج وقال له: أحدث أمر جديد؟

– إن الغلام وأمه لا يزالان في الغرفة، وقد حضر في هذا المساء الكاهن صموئيل، فقابلهما وأمرني أن أطيعك في كل أمر.

وقال العبوس لشوكنج: انتظرني خارج الكنيسة إلى أن أعود إليك.

وقال لحارس الكنيسة: أحضر لي معدات الحفر؛ لأني أريد أن أنبش القبر الذي تعهده.

ثم تركه وصعد إلى الأرلندية المقيمة مع ولدها في قبة الجرس.

أما شوكنج فإنه وقف عند باب الكنيسة، وجعل ينظر نظرات خوف وذعر إلى القبور، فيضطرب ويقول في نفسه: إني ما خفت في حياتي من الأحياء، أما الأموات فلا طاقةَ لي على لقائهم.

وجعل المسكين ينتفض من الخوف بالرغم من ثقته الشديدة بالرجل العبوس، حتى إنه ترحَّمَ على أيام شقائه الماضية، وكاد يندم لانتظامه في خدمة الرجل العبوس.

ثم أقبل العبوس يحمل معدات الحفر فقال لشوكنج: هلمَّ بنا.

فنظر شوكنج إلى تلك المعدات نظرة ذعر، وقال: أحقٌّ إذن إننا سننبش قبرًا؟

– متى كنتُ ممازحًا أيها الأبله؟

ثم التفت إلى حارس الكنيسة، وقال له: متى تفتح باب المقبرة عادة؟

– عند الفجر.

– إنني سأذهب هذه الليلة بالفتى وأمه، فمتى ذهبنا تقفل باب المقبرة، ولا تفتحه إلا قرب الظهر أتدري لماذا؟

– لا.

– ذلك كي لا تستطيع تلك المرأة التي تأتي عند كل فجر الحضور غدًا حسب عادتها، فإننا سننبش القبر هذه الليلة، ولكن اطمئن فإننا لا نريد أخذ الميت، وفي صباح غد تحضر الحفار وتأمره أن يُصلِح الضريح بحيث إذا جاءت المرأة لا تعلم أنه قد نُبِش.

ثم تركه ومشى بين القبور أمام شوكنج، فكان يتبعه ورجلاه تضطربان من الخوف، حتى وصلا إلى ضريح شهيد الغرام، فأعطى العبوس المصباح لشوكنج، وجعل يحفر الضريح حتى انتهى إلى التابوت.

وهنا أخذ العرق ينصب من جبين شوكنج، وسقط المصباح من يده وانطفأ، وجعلت أسنانه تصطكُّ من الخوف، وقال للعبوس بصوت يتهدج: ألعلك يا سيدي تضطرني إلى حمل الجثة. إني أسألك المعذرة فإن ذلك فوق طاقتي.

– تبًّا لك من أبله، أتراني تلميذ طبيب يسرق الجثث لتشريحها، اذهب وانتظرني في الكنيسة فسأقضي هذه المهمة وحدي، بل قِفْ مكانك فقد فرغت من هذه المهمة.

ثم فتح التابوت دون أن ينير المصباح، وأخرج لفافة من الورق كانت موضوعة تحت رأس الميت كما أخبرته أمه، وعاد فأهال التراب كما كان وهو يقول: نَمْ آمنًا أيها الحبيب فسأنتقم لكَ.

وعاد إلى الكنيسة وقال للحارس: أَصحا الغلام من رقاده؟

– نعم.

– إذن قُلْ لأمه تحضر به، فإني أنتظرهما.

وبعد هنيهة خرج العبوس وشوكنج والغلام وأمه، فأقفل الحارس الباب، وركبوا جميعهم مركبة وسارت تنهب الأرض إلى همبستاد.

٦

وكان الرجل العبوس قد أخبر الأرلندية بمشروعه، فركبت معه دون أن تسأله سؤالًا، وكذلك ولدها فقد كان آمنًا مطمئنًا مع العبوس.

ولما سمع شوكنج العبوسَ يأمر السائق بالذهاب إلى همبستاد قال له: ألعلنا عائدين إلى منزل فانوش؟

فاضطربت الأم ورالف لذِكْر هذا الاسم، لكنهما لم يخافا.

أمَّا العبوس فإنه قال: كلا، بل نحن ذاهبون إلى منزلي في البرية.

– ألك منزل أيضًا في البرية؟

– ليس منزلي بل منزلك.

فاختبل شوكنج وقال: أنا لي منازل في البرية؟

– نعم أنت.

ورأى شوكنج أن علائم الجد بادية بين عيني الرجل العبوس، فقال له: إني رأيتك يا سيدي تخترع العجائب، وكنتُ أول مَن آمَن بك، غير أني ليس لي منازل بل إن الغرفة التي استأجرتها ستنتهي مدة إيجارها غدًا، وربما بِتُّ في الخلاء.

فقال له بلهجة المؤنب: ألعلك أنفقت الجنيهات العشرة التي قبضتها من اللورد بالمير؟

فأطرق برأسه خجلًا وقال: إني ما قبضت مثل هذا المبلغ في حياتي، ولما وصل إلى يدي ظننت أنه لا يفنى وأسرعت في إنفاقه.

– لا بأس فإن الأموات لا يحتاجون إلى مال ومنازل.

فابتسم وقال: لكني حي يا سيدي، أكلمك وتكلمني كما ترى.

– أما أنا فسأبرهن لك أنك لستَ ميتًا فقط، بل إنه لم يَعُدْ يوجد في الأرض اسم شوكنج.

وضحك شوكنج، وقال: إني شديد الأمانة يا سيدي، لكن ليس إلى هذا الحد.

– اصبر وسترى، لكنك قائل في نفسك الآن إني من المجانين.

ولم يُجِبْه شوكنج، لكنه جعل ينظر إليه وعلائم القلق بادية في عينيه.

– وإذا طلبتُ إليك أن تذهب بي إلا بدلام بدلًا من أن تتبعني إلى همبستاد، لا تجزع واصبر، وسترى أن كل ما قلتُه لكَ حقيقة لا ريب فيها.

واندفع شوكنج مع تيار الهواجس، وقد كانت حادثة المقبرة ضعضعت رشده، فأجهز كلام العبوس عليه.

ومما زاد في اضطرابه أن الأرلندية كانت تسمع كلام الرجل العبوس، فلم يظهر عليها شيء من علائم الدهشة على غرابة تلك الأقوال.

واستمرت المركبة تسير حتى أوقفها العبوس، فنظر شوكنج من بابها وقال: إننا ذاهبون إلى منزل فانوش.

– أتظن؟

– بل أؤكد، انظر أليس هذا منزلها؟

– دون شك، ولكن اخرج الآن من المركبة وسوف ترى.

ثم خرج العبوس والأرلندية وغلامها، وخرج بعدهم شوكنج، وهو يعجب كيف أن العبوس يهزأ به على ما عرف به من الجد؟

وساروا جميعهم بضع خطوات يتقدَّمهم العبوس، إلى أن وقف عند منزل مقابل لمنزل فانوش وطرق بابه، فأسرع خادمه وفتح الباب.

وعند ذلك التفت شوكنج إلى الرجل العبوس وقال: إلى أين نحن ذاهبون؟

لزيارة منزلك في البرية.

– أَلَا تزال تهزأ بي يا سيدي؟

– ومتى رأيتني مزحت أو كذبت؟

وعند ذلك فتح الباب فدفع العبوس شوكنج وساروا في إثره واجتازوا مماشي الحديقة، ثم دخلوا فسحة متسعة أرضها من المرمر، وفيها كثير من التماثيل، ففتح الخادم بابًا فظهرت منه غرفة مفروشة بأجمل الرياش، وفي وسطها مائدة رصفت عليها صحون الطعام وأنواع الشراب، فقال شوكنج في نفسه: لا شك أني حالم، لكنه حلم جميل أرجو أن يطول إلى أن أشرب ما على هذه المائدة من الشراب.

فجلس العبوس حول المائدة واقتدوا به، فقال لشوكنج: لا شك أنك جائع، فإننا ما تعشينا بعدُ.

– ولكني من الأموات يا سيدي وكيف يأكل المائتون؟

– إن شوكنج الذي مات ولستَ أنت.

– ألستُ واحدًا أنا وشوكنج؟

– سوف ترى أنك مخطئ، ولكن مَن كان مثلك من خيرة النبلاء لا يجلس على المائدة بهذه الملابس.

– لنفرض أني أمسيت نبيلًا، لكني أين أجد غير هذه الثياب؟

– إن خادم غرفتك يذهب بك إلى غرفة التزيُّن، فتلبس ما يروق لك.

فجعل شوكنج يحيل نظره بين العبوس والأرلندية ويقول: خادم غرفتي! غرفة التزين! لا شك أني حالم، لكن هذا الحلم سيذهب بعقلي!

وعند ذلك قرع العبوس جرسًا، ففُتِح باب ودخل منه خادم، فأسرع إلى شوكنج وانحنى أمامه بملء الاحترام، وقال: أتأمرون سعادتكم أن أذهب بكم إلى غرفة الملابس؟

فلما رأى شوكنج هذا الاحترام، وسمع الخادم يلقِّبه بألقاب السعادة، دنا من الرجل العبوس وقال له: اقرص يدي بالله، عَلِّي أستفيقَ فقد راعني هذا الحلم.

فدفعه العبوس بيده وقال: اذهب أيها الأبله، وكفاك حماقة.

فأيقن شوكنج بعد هذه الصدمة أنه حقيقة في يقظة، وسار في إثر الخادم وهو يقول في نفسه: إن الرجل الذي يهزأ بالبوليس، وتُفتَح له أبواب السجون، غير كثير عليه أن يهزأ بي.

وخرج الخادم من تلك الغرفة يتبعه شوكنج، وسار به من فسحة إلى فسحة، ومن قاعة إلى قاعة، وشوكنج ينظر إلى ما حوله من فاخر الرياش نظرات المجانين، حتى دخل به إلى قاعة الحمام وقال: يجدر بسعادتك أن تستحم.

فعاد شوكنج إلى الظن أنه حالم، لكنه وجد الحلم جميلًا، فخلع ثيابه الرثَّة البالية واستحم، فلما فرغ من الاستحمام التمس منه الخادم أن يمشطه ويزينه فأذن له، ثم خرج من الحمام إلى القاعة التي خلع فيها ثيابه، فوجد بدلًا من تلك الثياب الرثَّة قميصًا من أنعم الكتان، ورباط رقبة أبيض، وصدرة أزرارها من النحاس الأصفر، وأخذ الخادم يلبسه بملء الاحترام.

ولما فرغ من جميع ذلك نظر في المرآة فأعجب بنفسه، ورأى أنه بات يشبه اللوردية، فقال له الخادم: والآن يا صاحب السعادة، أتريد أن أوصلك إلى قاعة الطعام؟

ونظر عندها شوكنج إلى الخادم نظرةَ تأنيبٍ وقال له: والآن أيها الوقح أَلَا تريد الإيضاح؟

– مُرْ يا سيدي ماذا تريد؟

– أولًا أريد أن أعلم مَن أنت؟

– إني خادم غرفة سعادتكم.

– أراك تلقِّبني بألقاب السعادة.

– أَمَا أنت اللورد ويلموت؟

– أنا اللورد ويلموت؟!

– دون شك يا سيدي.

– وأين أنا الآن؟

– في قصرك.

– ولكن أَلَا تعلم أيها الأبله مَن أنا؟

– كيف لا أعلم يا سيدي، أَلَمْ أقل لك إنك اللورد ويلموت؟

– بل إني أُدعَى شوكنج، وليس لي منازل إلا في الحانات.

وعند ذلك سمع صوتًا يقول له عند عتبة الباب: بل أنت اللورد ويلمورت، وهذا القصر قصرك فشوكنج قد مات.

فالتفت منذعرًا فرأى الرجل العبوس وقد تردى بتلك الملابس التي كان يلبسها حين كان يدعو نفسه اللورد كورنهيل، فقال له الرجل العبوس: هلمَّ بنا الآن إلى العشاء، وسأخبرك كيف أن شوكنج قد تقمَّص بجسم اللورد ويلموت.

فمشى شوكنج يريد أن يتبعه، ولكن الخادم استوقفه وقال له: لقد نسيت يا سيدي أن تأخذ نقودًا.

فوقع هذا الكلام على شوكنج وقوع المياه الباردة على الرأس وقال: نقود! ومَن أين تريد أن آخذها؟

فأجابه العبوس ضاحكًا: إنك تأخذها من خزانتك يا حضرة اللورد.

ثم أراه خزانة جميلة كانت في الغرفة ومفتاحها فيها، وقال له: افتحها وخذ منها ما تشاء.

فامتثل وفتح الخزانة بيد ترتجف، فقال له: افتح الآن هذا الدرج.

ففتحه واصفَرَّ وجهه لِمَا رآه من أكداس الذهب، ورجع خطوة إلى الوراء وهو يقول: ما هذه المناظر إني أكاد أجن.

– إذا كان ذلك فخذ ما تريده من الذهب، فيُنتفَع به قبل أن تجن.

فمد شوكنج يده إلى المال وهي ترتعش، وأخذ خمسة جنيهات وضعها في جيبه، وإنما اقتصر عليها لأنه ما رأى في حياته مثل هذا القدر من المال، فراعه منظر الذهب حتى إنه لم يستطع اغتنام الفرصة.

أما الرجل العبوس فإنه أخذ بيد شوكنج، وقال وهو يبتسم: إنك جائع دون شك.

– لا أعلم، وكيف تريد أن أعلم إذا كنتُ جائعًا وأنا لا أدري إلى الآن إذا كنتُ ميتًا أم حيًّا؟

فضحك العبوس وسار به إلى المائدة، ولم يكن فيها فسأل شوكنج: أين الأرلندية وولدها؟

– إنهما نائمان.

– أهما نائمان في قصري؟

– نعم.

فتمعن هنيهة ثم قال له: إني أخدمك يا سيدي منذ عهد بعيد، ألم أخدمك بإخلاص؟

– دون شك.

– إذن أي ذنب جنيته فعاقبتني عنه بالهزء؟

– لست هازئًا بك ولا ريب عندي بإخلاصك، فاجلس أمامي واشرب كأسًا من الخمر وَلْنتحدث.

فصبَّ في كأسه وشرب، وعند ذلك قام الرجل العبوس إلى منضدة صغيرة عليها معدات الكتابة، فأدناها من المائدة.

– ما هذا ولماذا أدنيت أدوات الكتابة؟

– لتكتب وصيتك.

فصاح شوكنج صيحة منكرة، وسقطت الكأس من يده وقال: لقد علمت الآن سبب قولك لي إن شوكنج قد مات، فإنك وضعت لي سمًّا في الخمر التي شربتها.

٧

جرى بين الرجل العبوس وشوكنج حديث طويل، وفي اليوم التالي زارت فانوش شوكنج. فَلْندع الآن ما جرى بينهم إلى مقام آخَر، وَلْنذهب بتصوُّر القارئ إلى فندق سانت جمس حيث يقيم الماجور واترلي وامرأته مسز إميلي والدا الغلام اللذان أودعاه مسز فانوش.

كانت مسز إميلي قد تزوجت الماجور واترلي بعد موت أبيها، وهو من الأشراف الأغنياء، ولكنها لم ترث منه شيئًا؛ لأن مال الأب لا يرثه غير بكر أبنائه في اصطلاح الإنكليز، وكان زوجها فقيرًا فلم يكن لهما غير راتبه من الجيش.

وقد وصلا إلى لندرا في انتصاف الليل، فذهبا إلى ذلك الفندق وباتا فيه، وعند الصباح نهضا باكرًا وجعلا يتحدثان، قالت له امرأته: أأنت واثق من أننا سنلاقي هذا الولد العزيز بعد الفراق الطويل؟

– دون شك أيتها العزيزة سأجده حيث تركناه.

– ولكني أشعر بانقباض في نفسي لا أدري له سببًا، وأخشى أن يكون أصيب بمكروه، إننا لم نعلم شيئًا عنه منذ عشرة أعوام.

– إني أؤكد لك أنه حي.

فغطت رأسها بين يديها، وقالت: أما أنا فلا أجسر على تصديق ما تقول.

– ما هذا الجنون أيتها الحبيبة، إني أقسم لك بأننا سنجده قويًّا جميلًا معافى.

– يظهر أن ثقتك شديدة بهذه المرأة التي عهدنا إليها تربيته.

فارتعش الماجور، وقال: دون شك.

– مسكين ولدنا، مَن يدري كيف يكون مستقبله؟

– إنه لا يكون غنيًّا، ولكنه يخرج جنديًّا كأبيه.

– ما هذا الظلم الفادح في شرائعنا، إن أبي مات عن كثير من الملايين ورثها أخي البكر. أيكون لأخي مثل تلك الثروة، ويعيش ولدي فقيرًا منكودًا؟

فسالت دمعة من عين هذا الوالد الحنون، وقال: ليست السعادة بالغنى أيتها الحبيبة، والآن إني ذاهب إلى منزل تلك المرأة، وسأعود إليك قريبًا بولدنا الحبيب.

– كيف ذلك؟ أَلَا أذهب معك؟

– كلا، إن السفر قد أتعبك، ثم إن الفرح قد يؤذيك، فابقي هنا وسأعود بعد ساعة. ثم تركها وركب مركبة وذهب إلى منزل فانوش في لندرا، حتى إذا وصل إليه دق الباب بيد تضطرب، ففتحت له الخادمة وقالت: ماذا تريد؟

– أريد مسز فانوش.

– إن منزلها هنا يا سيدي، ولكنها ليست في منزلها، ألست الماجور واترلي؟

– نعم، أين ذهبت.

– إنها في منزلها في همبستاد، وقد أرسلتني إلى هنا كي أنتظرك وأذهب بك إليها، فإنها مع ولدك في البرية.

فصاح الماجور صيحة فرح وقال: أهو بخير؟

– إنه على خير وعافية، فهلمَّ بنا يا سيدي، إني أرى دلائل الجزع بادية عليك.

وسار الاثنان إلى همبستاد، وكانت فانوش تنتظر الماجور في غرفتها، فكان أول سؤال له: أين ولدي؟

فابتسمت فانوش وقالت: إني أعلم نفاد صبرك وشوقك إلى لقائه، غير أني أرجوك أن تصغي إليَّ، إن ابنك بخير وعافية، وهو على مسافة خطوتين من هذا المنزل، وسأذهب بك إليه في الحال.

فسكن جأش الماجور، وعادت فانوش إلى الحديث فقالت: إني عهدت بتربية غلامك إلى امرأة أرلندية فربَّته خير تربية، وصار يدعوها بأمه، فلما ورد كتابك كتبت إليها أن تحضر به.

– ولكن لماذا لم تجئ به إلى هنا؟

– تفضَّل يا سيدي وانظر من هذه النافذة، أَلَا ترى سور حديقة، وأنه يوجد وراء هذا السور قصر للورد أرلندي واسع الثروة، وقد أحب هذا اللورد ولدك حبًّا شديدًا، وهو يُدعَى اللورد ويلموت، فأحب أن يتبنَّاه إذ ليس له أهل ولا بنون، وإنما قلت لك تلك الأقوال كي تعلم السبب لوجوده الآن في قصر اللورد، والآن هلمَّ بنا إذا شئتَ أن تتبعني.

– أأرى ولدي هناك؟

– دون شك.

وذهب الاثنان إلى القصر، فلما دخلا الحديقة كان رالف يلعب فيها، فنظر إلى الماجور نظرة انذهال، وقالت فانوش له: هو ذا ولدك. فأسرع إليه فحمله بين يديه، وصار يضمه إلى صدره ويقبِّله.

وفيما هو على ذلك أقبل خادم وقال له: إن مولاي اللورد ويلموت يعدُّ نفسه سعيدًا باستقبال الماجور واترلي في غرفته، فإنه مصاب بداء النقرس ولا يستطيع الخروج لاستقبالك.

فحمل الماجور رالف، وهو يعتقد أنه ولده وذهب إلى ويلموت، أي إلى صاحبنا شوكنج.

٨

وكانت هذه الرواية قد مُثِّلت مرارًا أمام مؤلفها الرجل العبوس، حتى أتقنوا تمثيلها كل الإتقان.

فلما دخل الماجور رأى امرأة تذرف الدموع الغزيرة، وهي الأرلندية، فدنت منه قائلة: أتوسَّل إليك يا سيدي أن لا تفرقني عن ولدي، فقد ربَّيْتُه وغذَّيْتُه بلبني حتى بتُّ أحبه.

فتأثر لكلامها ووعدها بما طلبت، ثم سار وراء الخادم إلى غرفة اللورد ويلموت، فوجد شيخًا هرمًا نائمًا في سريره، وبالقرب منه شخص لابس ملابس سوداء.

وكان هذا الشيخ اللورد ويلموت، أي شوكنج، والرجل الواقف بالقرب منه العبوس، فحيَّاهما الماجور، وجلس قرب السرير ومعه رالف.

ولما خرج الخادم قال ويلموت للماجور مشيرًا إلى الرجل العبوس: إنه يا سيدي طبيبي الخاص.

فانحنى أمام الطبيب وعاد ويلموت إلى الحديث فقال: إن لهذا الغلام يا سيدي فضلًا عظيمًا عليَّ، فقد كان عزائي الوحيد في متاعبي وأوجاعي، وقد كان يأتي إليَّ كل يوم، فأذكر حين أراه ولدًا وحيدًا فقدته لما بينهما من الشبه الغريب.

– أفقدت ولدك وهو في هذا العمر؟

فظهرت على اللورد علائم التأثر وقال: نعم، إنه يشبهه في كل شيء، واعلم يا سيدي أني أحببت ولدك كما كنت أحب ولدي، وأنا الآن مصاب بداء عضال، فأذنْ لي أن أضمن مستقبل هذا الغلام الحبيب.

ثم أشار إشارة إلى الطبيب، فجاءه بمحفظة، فأخذها اللورد وقال يخاطب الماجور: إنني لا أقرباء لي وليس لي مَن يرثني، فأحببت أن أجعل ابنك وريثي، وكتبت وصيتي بهذا الشأن بحيث لم يَبْقَ إلا أن توقِّع أنت عليها؛ كي يصح أني تبنَّيته، وإني جعلته وريثي، ولكني أشترط مقابل ذلك شرطًا واحدًا.

– قُلْ يا سيدي اللورد.

– إن ولدك سيكون بفضل الثروة التي سأمنحه إياها من كبار الناس، ولذلك يجب أن يتعلم خير تعليم، وشرطي الذي أقترحه عليك هو أن يتعلم في مدرسة أبناء المسيح، وإن إدخاله سهل عليك لأنك من ضباط الجيش البري، وأبناء الضباط يؤثرون على سواهم في دخول هذه المدرسة.

– هو ما تقول يا سيدي، فإن قضاء هذه المهمة سهل ميسور عليَّ.

– وإني أزيد على شرطي اقتراحًا آخَر، وهو أني أحب تنفيذ الشرط في الحال؛ إذ قد أموت قريبًا لاستفحال دائي، ولا تستغرب هذا الطلب مني يا سيدي، فإن ولدي الفقيد كان من تلامذة هذه المدرسة.

– إني أقبل يا سيدي جميع شروطك راضيًا مسرورًا، فإنني لا أرى أحسن من هذه المدرسة.

فأخذ اللورد عند ذلك عقد التبني وعرضه على الماجور، وفي هذا العقد بيان ثروة اللورد، وهي أموال يبلغ ريعها ثلاثين ألف جنيه في العام، وأراضٍ كثيرة في أرلندا.

فلما رأى الماجور هذه الثروة العظيمة التي ستكون لولده، ورأى أنه هو الذي سيتولَّى إدارتها، أخذ القلم ووقَّع على العقد في الحال.

وعند ذلك تنهَّدَ الرجل العبوس تنهُّد الفرج؛ لأن هذا الضابط بات مقيَّدًا بعد توقيعه، متعهِّدًا بإدخال رالف الذي يعتقد أنه ولده إلى مدرسة أبناء المسيح.

أما الماجور فإنه قال للورد ويلموت: إن امرأتي تنتظر عودتي إلى الفندق بفارغ الصبر؛ لأنها لا تعلم إذا كان ابنها بين الأحياء أو الأموات، أتأذن لي يا سيدي أن أذهب إلى لندرا وأعود بها كي تشاركني في التوقيع على العقد؟

– دون شك فاذهب يا سيدي بأمن الله.

•••

وبعد أن ذهب الماجور قال الطبيب — أي الرجل العبوس — للمرحوم شوكنج: إني راضٍ عنك يا شوكنج، فقد أحسنت تمثيل دورك.

– إني فهمت كل ما حدث يا سيدي ما خلا أمرًا واحدًا.

– ما هو!

– هو أن رالف بات ابن الماجور واترلي.

– ذلك يكون إلى أن أظهر للماجور بالبراهين الناصعة أن رالف هو ابن السير أدمون بالمير، لكن هذا اليوم لا يزال بعيدًا، وما زال الغلام في هذه المدرسة نكون آمنين عليه إلى أن يبلغ رشده، ويتولى زعامة الأرلنديين.

– لقد سلمت في ذلك، لكن هذه الثروة الطائلة لمَن تكون؟

– للغلام.

– أهي حقيقة؟

– دون شك.

– والأرض؟

– إنها بعض ما خُصِّصَ للمهمة التي نسعى إلى قضائها.

– ووالدة الغلام ماذا نصنع بها؟

– سندخلها بصفة خادمة للغلام.

فنظر شوكنج إلى العبوس نظرةَ إعجابٍ، وكَفَّ عن السؤال.

٩

وَلْنَعُدِ الآن إلى مس ألن عقدة هذه الرواية، وعدوة الرجل العبوس اللدودة، فإنها كانت جالسة مع أبيها اللورد بالمير في غرفة أشغاله، يتحدثان عن مقالة كتبتها صحيفة التيمس عن فرار الغلام الأرلندي من سجن الطاحون بمساعي أحد زعماء الأرلنديين يُلقَّب بالرجل العبوس، وأن البوليس أعياه التفتيش عن الغلام وعن العبوس الذي قتل أحد حرَّاس السجن، ونوَّم الآخرين نوم تخدير، حتى إنها وضعت جائزة لمَن يقبض عليه.

وكان أبوها يقرأ هذه المقالة، فلما أتم تلاوتها قالت له: لقد أخطأت التيمس يا أبي، فإن الرجل العبوس ليس من عامة الأرلنديين كما ذكرت، بل هو زعيمهم الأكبر، وهو نفس الشخص الذي قيَّدك في منزل تلك المرأة التي ذهبت إليها لإحضار رالف، وهو نفس الشخص الذي تجاسر على الدخول إلى غرفتي عند انتصاف الليل، وقد صدقت التيمس بقولها إنه سارق الغلام من السجن، وهو الذي أخفاه عن العيون.

– ولكن أين خبَّأه؟

– إني أعلم ما لم يعلمه البوليس من أمره، فإنه نكر الغلام باسم غريب، وأدخله مدرسة أبناء المسيح، فبات البوليس عاجزًا عنه كما تعلم.

فاحتدم اللورد غيظًا وقال: لكن كيف عرفت جميع هذا؟

– اصغ إليَّ يا أبي، إني لست سوى امرأة، ولكني أقسمت يمينًا محرجة أن أحبط مشروع الأرلندي وأسحق واضعه.

– إني لا أفهم ما تقولين.

– إن الأرلنديين متى فقدوا زعيمهم تفرَّقوا، وتشتَّتَ شملهم، وما زعيمهم غير هذا الذي يلقِّبونه بالرجل العبوس، ويحسبونه من عوام الناس.

– أتريدين مخاصمة هذا الشخص الشديد؟

– نعم، وإني واثقة من الفوز عليه، لكن بشرط واحد.

– ما هو؟

– هو أن لا تسألني عن خطتي، وتفعل ما أقول لك دون اعتراض.

فاضطرب اللورد وقال: أحب يا ابنتي أن أرضيك في كل شيء، لكني أراك مقتحمة أخطارًا قد تسوء عاقبتها.

فابتسمت الفتاة وقالت: لا أنكر يا أبي أني من النساء، لكن بين جنبي قلبًا يحب الانتقام، وأنا أكره هذا الشخص السري كرهًا عجيبًا، يسدد عزائمي وينيلني مأربي من إسقاطه؛ لذلك يجب أن تطيعني دون أن تسألني عن شيء.

فأطرق اللورد برأسه إلى الأرض وقال: سأفعل يا ابنتي كل ما تريدين.

وعلى ذلك فقد اتفق الاثنان على كره الرجل العبوس والانتقام منه.

وكان كُرْه اللورد له أنه انتزع منه الغلام وحرمه من تلك الثروة الطائلة التي كان يطمع فيها، وهي تكرهه لأنه امتهنها ودخل إلى غرفتها في منتصف الليل ووقف على سرها، فإنه كان أخبرها بالرسائل التي عثر عليها بالضريح، فإنه لقيها في اليوم التالي، وقال لها إني أعرف مكان تلك الرسائل التي كتبتها إلى ديك المنكود الذي مات شهيد غرامك، فأصبحت منذ ذلك الحين تخضع له صاغرةً، وتضمر له في نفسها حقدًا لا يطفئ حره إلا القتل.

وكان الرجل العبوس قد وعدها حين لقيها آخِر مرة أن يزورها في اليوم التالي عند انتصاف الليل، فمضى الزمن المضروب دون أن يحضر، ولكنها لقيت على المستوقد رسالة لم تعلم كيف أتت، ففضتها بيد ترتجف وقرأت ما يأتي:

مس ألن

سأغيب بضعة أيام، فلا أستطيع أن آتي في الموعد المعين، لكن اطمئني، فإني شديد الحرص على الرسائل فلا تنالها إلا يدي.

عدوك اللدود

فجعلت مس ألن منذ ذلك اليوم تنتظر الرجل العبوس كل ليلة، ولكنه لم يحضر فزاد حقدها وعولت على قتله شر قتل؛ لأنه بات مطلعًا على أسرارها الفاضحة، ورأت أن أباها غير كفؤ لإعانتها، فعزمت على أن تستعين على عدوها برئيس الأساقفة الإنجليكان، لما بين الإنجليكان والكاثوليك من العداء الديني الذي لا يقارنه عداء.

ولما استقرت على هذا الرأي ركبت مركبة وذهبت إلى منزل الأسقف، لكنها قبل أن تبلغ إليه ذهبت إلى منزل امرأة فقيرة، كانت تستخدمها في أغراضها، فأوقفت مركبتها في الشارع ودخلت ماشية في الزقاق المؤدي إلى منزلها، فعلمت من تلك المرأة أن زوجها في السجن لدين عليه، فدفعت لها قيمة الدين، وأمرتها أن ترسله إليها بعد خروجه من السجن.

وكانت هذه المرأة مريضة، فعلمت منها أن الأب صموئيل يعودها في مرضها، وينعم عليها بما يقيها شر الجوع، فسرت مس ألن بهذا الاتفاق؛ إذ باتت واقفة على أثر هذا الكاهن، وذهبت من عندها بعدما حذرتها بوجوب كتمان أمرها عن الكاهن.

١٠

كان الزقاق الذي تسكن فيه هذه المرأة قذرًا، كثرت فيه الحانات والسكارى، فبينما كانت مس ألن سائرة فيه إلى الشارع حيث تنتظرها المركبة رأت رجلين يتعقبانها، فخافت وأسرعت في سيرها، لكن أحد الرجلين أدركها فتأبط ذراعها، ثم خاصرها، وقال: إلى أين أنت ذاهبة أيتها الحسناء؟

فأفلتت منه وهربت، غير أنه جعل يركض في إثرها وقد انضم إليه رفيقه، فقبض عليها مرة ثانية وقال لها: لقد عرفتك، فإنك خليلة فارلن عدوي اللدود، إني ضربته أمس ضربةً كسرت أسنانه، وسأسلبه اليوم خليلته.

وحاولت مس ألن أن تفلت منه فلم تستطع، فقالت له: دعني لست بخليلة هذا الرجل، وما سمعت اسمه قبل الآن.

– بل أنت كاذبة، فقد عرفتك وليس خليلك هنا الآن فيحميك.

فتملصت مس ألن وجعلت تركض، ولكن السكير أدركها، وفيما هو ضاغط على خصرها أخرجت خنجرًا صغيرًا من جيبها وطعنته به طعنة نجلاء في صدره فأفلتها الرجل، وسقط يخبط بدمه، وأسرعت الفتاة بالعدو حتى كادت تبلغ موقف المركبة.

لكن السكارى خرجوا من تلك الحانات لما سمعوه من صياح الرجل، وانطلقوا كلهم في إثر الفتاة، فلم تمضِ هنيهة حتى طوَّقوها، وباتت محصورة بينهم، وكان بعضهم يمتهنها ويقول إنها من أهل الحي، وبعضهم يقول هي غريبة سارقة، وآخَرون يقولون بل هي قاتلة سفَّاكة، هلموا إلى القبض عليها وجرها إلى مركز البوليس.

أما مس ألن فكانت تقاوم ما أمكنها المقاومة وتحاول الفرار، وفيما هي تناضل عن نفسها سقط البرقع الكثيف التي كانت مقنعة به، فانكشف وجهها وظهر جمالها للعيون، وكان خير شفيع لدى أولئك السكارى، حتى إن أحدهم التمس لها عذرًا وقال: حرام أن تموت هذه المليحة شنقًا.

فرد آخَر: إن الشنق لا مفر منه إذا كان الجريح بات قتيلًا.

أما مس ألن فإنها خافت في البدء خوفًا شديدًا، ثم عادت إليها سكينتها، فأجالت نظرًا تائهًا بين أولئك المتجمهرين وقالت لهم بلهجة السيادة: لقد رأيتم وجهي، فهل يوجد من يعرفني؟

فقال أحد الحاضرين: إني في هذا الحي منذ ثلاثين عامًا، فلم أَرَها في خلالها مرة واحدة.

وعادت مس ألن إلى الحديث فقالت: إن هذا الرجل السكير تعرَّض لي بالسوء، وطاردني إلى أن قبض عليَّ وأراد بي شرًّا فطعنته دفاعًا عن نفسي، ومَن منكم لا يدافع عن نفسه في مواقف الخطر؟

فقال بعض الحاضرين: إنها مصيبة فيما تقول ولا لوم عليها.

وقال آخرون: بل يجب أن تُسلَّم للشرع، وهو يحكم بأمرها.

وقالت صاحبة الخمارة: لا تغتروا بجمالها ونعومة يديها، فإنها من السارقات.

فتحمست مس ألن لهذه التهمة وقالت لها: لقد كذبت أيتها المرأة، ولو عرفتم مَن أنا لأطرقتم الرءوس إجلالًا.

فقهقه بعض الحضور وقال: لنذهب بها إلى البوليس، فهو أعلم منَّا باحترام الأشراف.

وهنا اختلف المتجمهرون؛ فكان بعضهم معها وبعضهم عليها، غير أن الأكثرية كانوا يريدون الذهاب بها إلى مركز البوليس.

وقد اشتدَّ نضالهم حتى كادوا يتخاصمون، وكاد الفريق القاضي عليها يفوز بها، وفيما هم على ذلك دخل رجل بينهم لم يعلم أحدٌ من أين أتى، ولكنه انقض عليهم انقضاض الصاعقة، فجعل يبدد شملهم يمنة ويسرة، ويدفع مس ألن إلى موقف المركبة، وكان كلما دفع رجلًا من أولئك السكارى سقط على الأرض من قوة الصدمة.

وما زال يفرِّق عنها الناس وأنصارها منهم يساعدونه، حتى بلغ بها المركبة ففتح بابها وأدخلها إليها، ثم صعد في إثرها وأقفل الباب، وأمر السائق أن يسير إلى شارع أدم ستريت.

وعند ذاك تفرَّسَتْ مس ألن في ذلك الرجل الذي حماها وأنقذها من الافتضاح، فلما رأته صاحت صيحة دهش غريبة قابلها بالابتسام، فإنه كان عدوها الرجل العبوس.

١١

ثم تنهدت جزعًا ونظرت إلى هذا العدو الشديد نظرة الرجل الخائف، فابتسم الرجل العبوس وقال لها: اعترفي يا سيدتي أني أتيت حين الحاجة إليَّ فأنقذتك.

وزاد اضطراب الفتاة وقالت: أنت!

– نعم أنا كما ترين.

– ولكن مَن أنت؟ وكيف أجدك في كل سبيل؟

– إن ذلك من عوامل الصدفة والاتفاق يا سيدتي.

– لكني لا أرى للصدفة دخلًا في شئونك.

– بل أقسم لك أني وُجِدتُ الليلة اتفاقًا في هذا الشارع، فقُدِّرَ لي أن أنقذك مما كنت فيه من الأخطار، وإني لا أعلم يا سيدتي كيف أتيت إلى هذا الشارع، ولعلك جئت إليه للبحث عن والدة ديك.

فاضطربت الفتاة لذكر اسم الفتى الذي قتلته حبًّا وقالت له: اسكت.

– إذن أسألك المعذرة يا سيدتي عن جلوسي معك في هذه المركبة، فإني ما فعلت ذلك إلا لأني أحب أن أحادثك في بعض الشئون.

– قُلْ ما تريد فإني مصغية إليك، وفي هذا المقام لا يسعني إلا شكرك عن إنقاذي هذه الليلة، فإنهم لو ساروا بي إلى مركز البوليس لاضطررت إلى إظهار اسمي.

وقد قالت هذا القول بصوت أجش، دلَّ على أنها مُكرَهة بعامل الأدب على شكره، لكن عينيها كانتا تدلان على ما يضمره قلبها من الحقد والشر.

ولم يكثرت العبوس لظواهر حقدها، وقال لها: أبدأ يا سيدتي بالاعتذار عن إخلالي بالموعد الذي عيَّنتُه لك، ثم أخبرك أين توجد الرسائل التي كتبتها إلى ديك.

فاصفَرَّ وجه الفتاة، وخافت خوفًا شديدًا، حتى إنها أسفت لنجاتها من السكارى.

أما الرجل العبوس فإنه مضى في حديثه فقال: إن جواد مركبتك يا سيدتي سريع الجري، فقد وصلنا إلى جسر وستمنستر دون أن نتكلم شيئًا، وأخشى أن نبلغ منزلك قبل أن يفرغ الحديث.

فأوقفت المركبة وقالت للسائق: لا تذهب بي توًّا إلى المنزل، بل سِرْ بطريق الدير، وعرِّجْ على ندوة البرلمان، وسِرْ من هذا الطريق حتى تصل إلى شارع ترافلفار، ثم نظرت إلى الرجل العبوس وقالت له: تكلَّمْ يا سيدي، فإني مصغية إليك.

فقال لها الرجل العبوس: إن ظواهر أعمالي يا سيدتي تدل على أني لستُ من أهل المدنية، لكني في الحقيقة على غير ذلك، ولا أنكر أني أخللت بما وعدتك به من زيارتك عند منتصف الليل، لكني كنتُ كثير المشاغل، فإنك تعلمين أنهم زجُّوا ابن أرلندا، أي ابن عمك العزيز، في سجن الطاحون، ثم علمت ما كان من إنقاذه وكفى بذلك شاغلًا يمهِّد الاعتذار، لكنك تعلمين أيضًا أن قيامة الحكومة قد قامت عليَّ، وعيَّنت جائزة لمَن يقبض على الرجل العبوس ميتًا أو حيًّا، فإذا كان الغلام أمن المخاطر ونجا من السجن، فإني في أشد مواقف الأخطار.

فقالت له بلهجة المتهكم: ألعلك تريد يا سيدي أن أحميك وأخفيك عن الرقباء؟

– بل إني أريد منك فوق ما تظنين، وأتوقع منك أشد من الخطر الذي أنا فيه.

– كيف ذلك؟

فقال لها: إني ذلك الرجل الذي أنقذت الغلام من السجن، وأنا هو ذاك الرجل المتهم بقتل الحارس، وقد أخذ البوليس يبحث عني، فإذا عثروا عليَّ حُوكِمت وشُنِقت، وأنت تكرهينني أليس كذلك؟

– لا أنكر أني أكرهك، وإن تكن قد أنقذتني منذ هنيهة.

– ومع ذلك فإني صحبتك في مركبتك على معرفتي أنك عالمة بأمري، ونحن الآن في شارع البرلمان على قيد خطوتين من مركز البوليس، انظري تجدي البوليس واقفًا على الرصيف، فإذا فتحت نافذة المركبة وأشرت إليه يسرع ويقبض عليَّ، فلا يكون مصيري عندها إلا الشنق، أهذا جل ما ترغبين؟

فخفق فؤاد الفتاة خفوقًا شديدًا وردَّتْ: هذا أكيد.

– ولكنك ترين أني لم أضطرب لهذا الخطر، ولا أزال جالسًا بقربك غير خائف منك، فإني مسلَّح.

– وماذا يفيدك السلاح مع رجال البوليس؟

– ولكنه يفيدني معك يا مس ألن، فليس سلاحي المسدس والخنجر، بل هو ذاك السر الذي تعلمينه.

فارتعشت مس ألن ولم تُجِبْ، ومضى في حديثه وقال: لقد قلت لك يا سيدتي إني أنتظر منك أكثر ما تظنين.

– أحقيقة ما تقول وما عساك تريد مني؟

– أريد أن تكوني حليفتي فيما أنا شارع به من المهام.

فضحكت ضحك الهازئ وردَّتْ: لا شك أنك مجنون.

فقال لها ببرود: اصغي إليَّ يا سيدتي، إن أباك قد خان أرلندا.

– إن أبي لم يخنها، فهو من الإنكليز.

– ليكن ما تقولين، فإني لا أحب مجادلتك بالألفاظ، والذي أريده منك أن تشتركي معي في خدمة أرلندا.

– إن هذا لا يكون، وإن فعلته فلا أفعله إلا مُكرَهة مضطرة.

– مَن يعلم فقد تضطرين.

ثم نظر إليها تلك النظرة التي طالما فعلَتْ في نفسها فعل الكهربائية، وأطرقت بنظرها كي يزول تأثير نظراته، ثم رفعت رأسها وقالت: إني أراك معتمدًا على تلك الرسائل التي ألقتها إليك يد الاتفاق أو الجناية أو الإثم، أليست هذه الرسائل عندك؟

– نعم يا سيدتي.

– من أين أخذتها؟

– من ضريح ديك هاريسون.

وتنهدت مس ألن وقالت في نفسها: لا شك أني بلهاء؛ إذ كان يجب أن يخطر لي هذا الخاطر.

وقد سكتت ولم تُجِبْ، وقال هذا الرجل العبوس: لقد أخطأت يا مس ألن، فإني غير معتمد على هذه الرسائل، ولكنني أبقيها عندي سلاحًا أدافع به في آخِر ساعة.

– على أي شيء تعتمد في حملي على الاشتراك في خدمة أرلندا؟

– إن قلبك قد بلغ من كرهي إلى أبعد الغايات، ولكن لا بد لي من الاستيلاء على هذا القلب، ولا تعقد هذه المحالفة بيننا غير يد الغرام.

ثم فتح باب المركبة وهو يقول إلى اللقاء يا سيدتي. لا تخشي أمرًا؛ لأن رسائلك في مكان أمين.

ووثب من المركبة مسرعًا، وجعل يعدو مبتعدًا عنها، وهي تنظر إليه باهتة معجبة حتى توارى عن الأنظار.

١٢

ثم ثابت إلى رشدها فكاد قلبها يتفطر من الغيظ وقالت: إن هذا الرجل قد غلبني، ولكن لا بد لي أن أسحقه كما الأفعى.

وكانت العواصف تثور في نفسها وتقول: من هذا الرجل الذي وقف على سري، وكيف عرف كل حقيقة من دقائق حياتي، وأنا لا أعلم شيئًا من أمره، وإني أراه تارةً من النبلاء، وتارةً من العوام، فبينما هو يتنزَّه في هايد بارك ممتطيًا أكرم جواد، إذ هو في وينغ في أقذر الحانات؟

وما هذه النظرات السحرية التي امتاز بها على أقرانه من الرجال؟ وما هذه القحة التي يبدو بها، فقد كلَّمني كمَن له سلطان عليَّ، وأنذرني واتهم أبي بالخيانة؟

ولما وصلت إلى هذا التصور شعرَتْ أن كبرياءها قد انسحقت، فهاجت منها عوامل الانتقام وقالت: إن هذا لا يطاق، ولا بد من عقاب هذا الرجل، وليس له غير رئيس الأساقفة، فلا يفل الحديد إلا الحديد.

ثم أوقفت السائق وقالت: سِرْ بي في الحال إلى لونتج هيل.

فامتثل السائق وسار جواده ينهب الأرض.

وكانت مس ألن تحدِّث نفسها خلال سير المركبة فتقول: لا جرم أن الكره الديني أشد من الكره السياسي، وهذا الأسقف سألجأ إليه فيعينني في انتقامي أكثر من مائة وزير.

وبعد ربع ساعة وصلت المركبة إلى منزل الأسقف، فخرجت مس ألن منها ودخلت إلى ذلك المنزل، فأقامت في قاعة الاستقبال وانتظرت فيها قدوم الأسقف.

ثم جاء الأسقف وهو بملابس السواد الدالة على أنه من أساقفة الإنجليكان، فلما دخل الغرفة ورأى مس ألن دهش بجمالها، ورجع خطوة إلى الوراء كأنما خشي تجربة الشيطان.

أما مس ألن فإنها ابتسمت، وقالت له: ألست يا سيدي بحضرة الأسقف السير بترس توين؟

فنظر إليها مقطبًا وقال: نعم أنا هو.

– ليطمئن بالك يا سيدي، فلست طالبة إحسان، وما أنا من عامة الناس.

– مَن أنت يا سيدتي؟

– أرى أنك لم تعرفني.

– هو ما تقولين، ولكن يخال لي أني رأيتك.

– وأنا قد رأيتك مرتين عند أبي.

فدهش الأسقف وقال: عند أبيك يا سيدتي؟

– نعم، وقد حضرت مجلسكما فكنتما تتحدثان بأمور خطيرة.

فحدَّق بها وقال: إنني ذكرت الآن إني رأيتك، ولكني أرى أنك قد تغيَّرْتِ.

– لم يتغيَّر بي شيء غير ملابسي، على أني لا أريد أن أتعب ذاكرتك، إني أُدعَى مس ألن ابنة اللورد بالمير.

فكان لذكر اسمها تأثير شديد على الأسقف، فإنه وقف وانحنى أمامها باحترام، ثم قال: أسألك المعذرة، يا سيدتي، فقد عرفتك الآن حق العرفان.

– إذن اعلَمْ يا سيدي الأسقف أني ما أتيت إليك في الساعة العاشرة إلا لأمر خطير.

فانحنى الأسقف أيضًا، وقال: إني مصغٍ إليك.

– إني قادمة من أجل أرلندا.

فاتَّقَدَتْ عينا الأسقف لذكر أرلندا، وظهرت منهما علائم الحقد، فسرَّتْ مس ألن لهذه العلائم وقالت له: إن ابنة اللورد بالمير يا سيدي مطلعة على دقائق السياسة كما لا يخفاك.

– لا ريب عندي في ذلك يا سيدتي، فقد ذكرت حضورك حين كنتُ أحادِث أباك بهذه الشئون واشتراكك معنا بالآراء.

– ذلك لأن أبي ليس له كاتم أسرار سواي، فأنا أفتح رسائله، وأنا أكاتب باسمه كبارَ الناس، ولأبي نفوذ كبير في المجلس الأعلى كما تعلم.

– ذلك أمر مشهور، فإنه أشد اللوردية نفوذًا.

– ثم إنه ألد عدو لأرلندا ولأولئك الأشقياء الأرلنديين الذين تفاقَمَ شرهم في هذه الأيام، وجعلوا يحاربون إنكلترا بالسر.

فاتقدت عينا الأسقف ببارق الحقد.

وأتمت مس ألن حديثها وقالت: غير أن أعداءهم أشد من أعداء أبي وأحزابه.

فقطب الأسقف جبينه وقال: مَن هم هؤلاء الأعداء يا سيدتي؟

– أنت ورجالك.

– أتظنين؟

– أؤكد؛ لأن العداء السياسي قد يزول بزوال السبب، خلافًا للعداء الديني فإن ناره لا تخمد. وإن الكاهن الإنجليكاني يكره الكاثوليكي، وما مقر أولئك الكاثوليك في بلادنا غير أرلندا.

– هو ما تقولين.

– ولأجل هذا أتيتك؛ لأني أذكر أنك عرضت على أبي أن تساعده بذلك الجيش السري الذي تتولَّى أنت قيادته، أليس كذلك؟

فنظر السير بترس توين إلى الفتاة دون أن يجيبها، فرآها تبتسم ابتسامة ممزوجة بالثقة والهزء كما يبتسم أهل السياسة.

وعادت إلى الحديث فقالت: إن للمذهب الإنجليكاني جمعيات دينية لها أغراض سياسية، ولديها جمعيات سرية لها نفوذ عظيم على أساقفة المذهب، حتى على أسقف كونتوربوري نفسه. وأنا أعلم يا سيدي أنك الزعيم الأكبر لأعظم هذه الجمعيات السرية، التي عزمت عزمًا أكيدًا على إبادة الأرلنديين.

– هو ما تقولين.

– ولأجل هذا أتيتك؛ لأن أبي أخطأ برفض ما عرضته عليه من المساعدة، غير أني لا أرتكب ما ارتكبه من الخطأ.

– ألعل أباك اللورد أدرك هذا الخطأ.

– كلا لست آتية من قِبَل أبي.

– إذن من قِبَل مَن؟

فأجابته ببرود: إني آتية من نفسي.

فنظر الأسقف عند ذلك إليها معجبًا، ثم ارتعش حين التقى نظره بنظرها، ورأى ذلك الشعاع الذي ينبعث من عينيها، فيدل على توقُّد الذكاء وثبات الإرادة، فوثق لفوره بهذه الفتاة التي زادتها الطبيعة قوة بما وهبتها من سلاح الجمال، وقال لها: تكلمي يا سيدتي، إني مصغٍ إليك وفي إصغائي دلالة على رضاي بمحالفتك.

– إذن اعلم يا سيدي، ولا أزيدك علمًا أنك ورجالك قد ضربتم أرلندا ضربات رهيبة، ولكنكم لم تفوزوا إلى الآن؛ لأن توماس الجن ذاك المرابي الخاضع لكم كل الخضوع، قد أُحبِطت مساعيه، فإنه ما لبث أن سجن الكاهن صموئيل، حتى خرج الكاهن من سجنه وعاد إلى زعامة قومه.

– أتعرفين هذا؟

– بل أعرف أيضًا أن أعداءكم الأرلنديين كانوا ينتظرون أربعة زعماء اتفقوا على الاجتماع في صباح الأحد في كنيسة سانت جيل، مع ذلك الكاهن الذي ذكرته لك.

– هذا أكيد.

– إن الكاهن خرج من السجن، ولكن الزعماء الأربعة تاهوا في شوارع لندرا، ولم يتمكَّنوا من الاجتماع في الكنيسة لسجن الكاهن في اليوم المعين، وهم لا يعرف بعضهم بعضًا.

– هذا أكيد أيضًا.

– وإن توماس الجن كاد يموت قتيلًا، وخرج الكاهن من السجن، واجتمع الزعماء الأربعة بعد تفريقهم. أَلَا ترى يا سيدي، إني واقفة على دقائق هذه الحوادث؟

– هو ما تقولين، ولكني معجب كيف وقفت على هذه الأسرار؟

– وسيكون عجبك أشد حين تعلم أني أعرف منها فوق ما تعرف، أتذكر يا سيدي كيف أنهم خطفوا ابن أرلندا من السجن؟

– نعم، وقد كان خطفه رجل من عمَّال الأرلنديين، ويُلقَّب بالرجل العبوس.

– وهذا الذي تجهله يا سيدي؛ لأن هذا الرجل ليس من عمَّالهم، بل هو زعيمهم الأكبر، أرأيت أني علمت ما لم تعلمه وأنت رئيس الجمعية السرية الكبرى، وما لم يعلمه أبي وهو أعظم رجل في البرلمان؟

فحاول السير بترس توين أن يجيبها، ولكنها أوقفته بإشارة وقالت: إن الرجل الذي عرفت أنه زعيم الأرلنديين الأكبر، والذي عجز عنه بوليس لندرا، قد عرفته أنا ورأيته.

فاضطرب الأسقف وقال: أنت رأيته! وأين كان ذلك؟

– إني رأيته مرات كثيرة في منزلي وفي الخارج.

– متى؟

– لقد جاء إلى منزلي منذ ثلاثة أسابيع، ورأيته أيضًا منذ أسبوع، ومنذ ساعة.

– منذ ساعة؟

– نعم، وقد كان جالسًا أمامي في المركبة، يكلِّمني دون كلفة كما أكلمك.

فتعجب الأسقف وقال: ولكن، من أين أتى ذاك الشخص؟ وماذا يريد؟

– إن هذا سر من أسراري. والآن، أتريد أن تعلم لماذا أتيت إليك؟

– دون شك.

– إذن، أعلم أنك مع أصحابك تكرهون أرلندا كرهًا قويًّا دعا إليه التعصب الديني، ولكني أكره أرلندا؛ لأني أكره الشخص الذي يتولَّى زعامة الأرلنديين، ويعد لهم فوزًا قد يكون قريبًا.

فامتعض وجه الأسقف وقال: كلا، إن ذلك لا يكون.

– بل هو كائن إذا تغافلنا عنه، ولكني أقسمت يمينًا محرجة أن لا تثبط لي همة، ولا تتراخى لي عزيمة قبل أن أسحق ذاك الشخص، وهذا هو السبب الذي أتيتك من أجله.

وإذا تحالفنا كنتَ عوني على زعيم الأرلنديين، وكنت عونك على تمزيق شملهم.

أتريد أن تكون حليفي؟

فمد الأسقف يده وصافحها، وقد اتقدت في عيونها بوارق الانتقام، وبات للرجل العبوس عدوان قديران لا يُستهان بهما.

١٣

وَلْنَعُدِ الآن إلى امرأة بادي، وهي تلك المرأة التي زارتها مس ألن وأعطتها ما على زوجها من الدين كي تخرجه من السجن، وأمرتها أن تبعثه إليها بعد إطلاق سراحه.

وفي اليوم التالي أخرجت المرأة زوجها من السجن، وجاءت به إلى المنزل، فسرَّ سرورًا عظيمًا، ثم سألها عن الذي أحسن إليها، فقالت له: مس ألن.

فلم تظهر عليه علائم الامتنان، بل إنه امتعض وقال: لا شك أنها محتاجة إليَّ.

– هو ما تقول، إنها تنتظرك الليلة.

– أين؟

– عند باب حديقة منزلها.

فصمت بادي هنيهة، ثم قال: إن مس ألن نبيلة وغنية، ولكنها شريرة.

– إني أعلم ما تعلمه عنها، ولكنها محتاجة إلينا، فهي تدفع لنا أجرة خدماتنا.

– وإذا أرادَتْ أن تستخدمنا لأمر سيئ؟

فهزت امرأته كتفيها وقالت: إنْ مَن برح به الفقر، وبات يخشى على أولاده من الموت جوعًا، لا يبالي بالمقاصد؟

فاضطرب بادي وقال: إني بت نادمًا لخروجي من السجن.

– هذا ما كنت أتوقَّعَه منك، فقد تعوَّدْتَ الكسل حتى بتَّ عاجزًا عن العمل.

وكأنما هذا التقريع قد أثَّر بالزوج فقال لها: اصغي إليَّ يا امرأتي العزيزة، إنك تعلمين أني أنتهي بعد كل جدال بالإذعان لك والامتثال لما تريدين، فاعلمي الآن أن مس ألن لم تشفق علينا هذا الإشفاق إلا وهي تريد أن تستخدمنا في أسوأ المقاصد، فإذا شئتِ كنتُ آلة في يدها، ولكني إذا أُصِبْتُ بمكروه، وكانت عاقبة خدمتي تلك الفتاة الشنق، فإن تبعة دمائي تقع عليك، وأنت المسئولة عن بنينا.

– إني راضية بهذه التبعة، وإنها لن تقع عليَّ.

– إذا كان ذلك فإنا راضٍ، وسأذهب إلى مس ألن كما تريدين.

وتعشى بادي مع امرأته وأولاده، ثم خرج من المنزل وقال لامرأته: إني ذاهب لمقابلة الأصحاب.

– ولكن احذر أن تنسى الموعد المعين، فإنها بانتظارك.

ومضى بادي إلى إحدى الحانات حيث يجتمع أصدقاؤه، فلقي اثنين منهم، فجلس معهما وجعلوا يتحدثون بالأعمال ومشاقها، فكان بادي يشكو ويتململ، والرفيقان يتشاوران بالنظر.

إلى أن بدرت منهما نظرة تدل على الاتفاق، فقال له أحدهما: لقد خطر لنا أن نشركك في مهمة عهدت إلينا يكون لك منها مال وفير.

– ما هي هذه المهمة؟

– إن الحكومة عيَّنَتْ جائزة قدرها مائتا جنيه لمَن يقبض على الرجل العبوس، وقد وقفنا على آثار ذاك الشخص الهائل وعلمنا أين يقيم، فهل لك أن تكون معنا فيكون لك ثلث الجائزة؟ إننا نستفيد من قوة ساعدك، وأنت تستفيد من وقوفنا على آثاره.

– لا أرفض ولا أقبل، وسأرجئ جوابي إلى الصباح إذ عليَّ مهمة.

فأجابه أحدهما: لقد أخطأت فإن فوزنا مضمون.

– ولكني تعهدت عهدًا لا بد لي من قضائه، وقد أقضي مهمتي في ساعة وأتبعكما، فأين تكونان؟

– في روتشريت قرب الكنيسة، وربما كنَّا في المقبرة.

– في أية ساعة؟

– عند انتصاف الليل.

– إذن سأوافيكما.

ثم شرب كأسه وودَّعهما، وانصرف إلى منزل مس ألن وهو يقول: لا أدري ماذا تريد مني تلك الفتاة، ولكني كنت أؤثر لولا امرأتي أن أكون مع هذين الزميلين، وأعينهما على سفالة غايتهما، فإنهما أشرف من صدق تلك الفتاة كيف كان.

•••

وَلْندخل الآن إلى قصر اللورد بالمير من حديقته إلى غرفة مشرفة عليها، حيث كانت مس ألن جالسة وحدها تنتظر، فإنها بعد أن تعشت مع أبيها تركها وذهب إلى البرلمان، ودخلت هي إلى مخدعها، بعد أن منعت الخدم من الدخول إليها.

وكانت قد أقامت في الليلة السابقة في تلك الغرفة، فكانت تخرج من حين إلى حين إلى الحديقة وتطل من بابها، عساها تجد بادي الذي كانت تنتظره ولم يحضر.

وفي الليلة التالية دخلت إلى الغرفة نفسها، ولم تكن وحدها بل كان معها الأسقف بترس توين.

وكان كلاهما يتكلمان بصوت منخفض، فكانت مس ألن تنهض عند كل فترة من الحديث إلى النافذة، فتطل منها وتصغي.

فسألها الأسقف: ألعلك تنتظرين قدوم أحد؟

– نعم، إني أنتظر ذلك الرجل الذي أخبرتك عنه، وإني معجبة لإبطائه وقد دفعت لامرأته ما كان عليه من الدين كي تُخرِجه من السجن.

– لعلها لقيت بعض الموانع، وما عسى تريدين منه؟

– إنه ينفعنا نفعًا كبيرًا، فقد قلت لك إن امرأته وأولاده كانوا عائشين مدة سجنه من فضل كاهن كاثوليكي.

– ألعله الأب صموئيل زعيم الأرلنديين؟

– هو نفسه، ولكن هذا الكاهن ليس زعيم الأرلنديين، بل هو أحد الزعماء، وما الزعيم الأكبر إلا الرجل العبوس؛ ولذلك أرجو باستخدام هذا الشخص الذي أنتظره أن أعرف مركز الأب صموئيل، ومتى اقتفينا أثر الأب عرفنا مكان الرجل العبوس.

– لقد أصبت، ولكن هذه الحرية والمساواة في إنكلترا، تضران بنا ضررًا بليغًا.

إن الحكومة تعلم أن لهذا الكاهن أعظم اتصال بالعصابات الأرلندية السرية، فلو كان ذلك في غير هذه البلاد لقضت الحكومة عليه في الحال، ولكنها عندنا لا تقبض عليه إلا متلبِّسًا بالجريمة مهما علمت خفاياه، ولولا ذلك لبلغنا منه ما نريد.

– إنك ترى إذن ما أراه، وهو أنه لا بد من استعمال الحيلة.

– هو ما تقولين، وهذا ما كنت أبحث عنه، ولعلي أجد حيلة تسهل لنا المراد.

وعند ذلك سمعت مس ألن قرعًا على باب الحديقة، فقالت: هو ذا الشخص الذي أنتظره قد أتى، فاصبر إلى أن أفتح له.

ثم خرجت إلى الحديقة وفتحت الباب، فكان الطارق بادي، فسارت أمامه وأمرته أن يتبعها إلى حيث كان الأسقف ينتظرها.

فقالت له: لا بأس أن تجيبني عما أريد أمام حضرة الأسقف، فإنه من أصدقائي، واعلم أني ما دعوتك إلا لمهمة تضمن لك الخير والمستقبل الحسن.

فانحنى بادي أمامها وقال لها: هذا ما أرجوه يا سيدتي، فقد أبيت الآن قضاء مهمة كان لي منها مال جزيل.

– قُلْ لي ما هي تلك المهمة؟

– يظهر أن الحكومة وضعت جائزةً، لمَن يقبض على شخص يُدعَى الرجل العبوس.

فارتعش الأسقف والفتاة وقالت له: كيف عرفت ذلك؟

– عرفته من صديقين لي يقولان إنهما يعرفان مكان هذا الرجل، وطلبا إليَّ أن أساعدهما في القبض عليه على أن أنال ثلث الجائزة.

فبرقت أسِرَّة الأسقف، واتَّقَدَتْ عينا الفتاة بأشعة الفرح، ولم يعلم أحد ما حصل بينهما وبين بادي، غير أن هذا الإنسان كان يقول حين خرج من ذلك القصر: ويح لنفسي! إنني بعتها بيع السلع لهذين الشيطانين الرجيمين.

وسار ذاك المنكود إلى منزله، فلقي ولديه نائمين وعليهما دلائل الراحة، وأمهما ساهرة بجانبهما، فقال لها بلهجة المتهكم: يظهر من نومهما الهادئ أنهما تعشيا عشاء طيبًا هذه الليلة.

– نعم، إن ذلك من فضل مس ألن المحسنة إلينا، ألعلك رأيتها؟

– نعم.

– ولكني أراك آسفًا، فهل لم تحسن استقبالك؟

– بل إنها قابلتني خير مقابلة.

– إذن ألَمْ تعهد إليك بمهمة؟

– بل كلَّفَتْني بما كنتُ أتوقعه منها.

ثم جعل يدخِّن صامتًا مفكِّرًا، وامرأته تنظر إليه، دون أن تجسر على مقاطعته، إلى أن قال لها فجأةً: في أي يوم يزورك الأب صموئيل؟

– غدًا، إذ تعوَّدَ أن يزورنا كل أحد.

– إنه من أهل الخير والصلاح، أليس كذلك؟

– دون شك فطالما أحسن إلينا، ووقى أولادنا شر الجوع.

فابتسم بادي ابتسامًا هائلًا، وقال: إذن اعلمي أيتها الأم أننا سنخون هذا الإنسان الذي خلص أولادنا من الجوع.

فارتعشت المرأة ولم تُجِبْ، وعاد بادي إلى الكلام قائلًا: إننا سنخون هذا الإنسان عملًا بإرادة مس ألن، ألم تقولي لي أن مَن برح به الفقر، وخشي على أولاده الجوع لا يبالي بالمقاصد؟

فتنهَّدَت المرأة وقالت: نعم، إن هذا معتقدي.

– إذن سنخون هذا الأب الجليل.

– ولكن كيف؟

– سوف ترين.

ثم قام يحاول الانصراف فسألته: إلى أين؟

– إلى حيث أنفذ أوامر مس ألن.

وودَّعها وانصرف ناظرًا نظرة حنو إلى ولديه.

فلما توارى عن امرأته ابتسمت وقالت: وما تهمني خيانة هذا الكاهن، إنه أرلندي، وهل تجب الشفقة على الأرلنديين؟

أما بادي فإنه ذهب إلى مقبرة كنيسة سانت جورج، فالتقى بصديقيه اللذين لقيهما في الخمارة، وكانا كامنين في تلك المقبرة للرجل العبوس؛ كي يقبضا عليه وينالا جائزة البوليس.

١٤

لقد تركنا السير بترس توين ذلك الأسقف ومس ألن تلك الفتاة الهائلة مختليين في غرفتها، فلم يعلم أحد ما دبَّرَاه من مكائد السوء.

وبقي الأسقف عندها إلى الساعة الثانية بعد نصف الليل، فلما انصرف كانت علائم الفرح الأكيد ظاهرة على وجه الفتاة، إشارةً إلى الانتصار، فإن الحقد لم يتجسم في قلبها تجسمه في تلك الليلة.

وكان من عادة مس ألن أن تدخل إلى مخدع أبيها في أي وقت أرادت، فخرجت من الغرفة التي كانت فيها مع الأسقف، وحاولت الذهاب إلى غرفة نومها فرأت، وهي سائرة في الرواق، نورًا ينبعث من غرفة أبيها، فقالت في نفسها: إن جلسات البرلمان تُعقَد ليلًا، وندر أن تنتهي في مثل هذا الوقت، ثم إن من عادة أبي أن يذهب إلى النادي بعد انصرافه من البرلمان، فلا يعود إلى المنزل قبل الفجر، فما باله اليوم قد غيَّر تلك العادة؟

وقد شغل بالها على أبيها، فذهبت توًّا إلى غرفته وقرعت بابها، ثم والت القرع فلم يُجِبْها أحد فقالت في نفسها: ألعله نام ونسي أن يطفئ المصباح؟

وعند ذلك نظرت من ثقب القفل، فرأت مائدة كبيرة وُضِعت عليها الكتب والجرائد، ورأت شخصًا جالسًا أمامه مديرًا ظهره للباب، وهو غارق في بحار الهواجس والتأملات.

فعلمت من ذلك الثوب الطويل الذي كان متَّشِحًا به أنه ثوب أبيها، ففتحت الباب ودخلت، ولكن هذا الرجل الفكير لم ينهض من مكانه ولم يلتفت إليها.

فابتسمت مس ألن وقالت في نفسها: إن أبي يعتقد أنه من كبار رجال السياسة، فهو يتصور الآن أن العالم بات في قبضة يده.

ثم تقدَّمَتْ خطوة إلى الأمام.

وعند ذلك سقط الرداء فجأةً عن ذلك الرجل، والتفت إلى مس ألن، فصاحت صيحة رعب وجمد الدم في عروقها، وانعقد لسانها عن الكلام؛ ذلك أن هذا الرجل الذي كان متَّشِحًا برداء اللورد بالمير لم يكن اللورد بالمير، بل كان الرجل العبوس.

لما رأى الرجل العبوس ما كان منها وثب مسرعًا إلى الباب، وأقفله كي يحول دون فرارها.

غير أن مس ألن لم تكن تستطيع الفرار لاضطراب رجليها، ولا تستطيع الاستغاثة لانعقاد لسانها من الرعب، فدنا منها الرجل العبوس وقال لها مبتسمًا: إني وعدتك يا مس ألن بزيارة، فوجب عليَّ الوفاء بوعدي.

ثم تقدَّم منها ووضع يدها بين يديه، فتكهرب جسم الفتاة حين لمست يده، وعادت إليها كبرياؤها وهيبتها، فقالت له بصوت يتهدج من الغضب: أيها الشقي، إنك لن تخرج من هنا.

ثم وثبت إلى الجدار المعلَّق فيه حبل الجرس، ولكن العبوس سبقها إليه فحال بينها وبينه، وقال لها بصوت منخفض: اطمئني يا سيدتي، فإني لا أريد قتلك، ولا أتجاوز معك حد الاحترام، بل أقسم لك إني لا أقاوم خدمك متى دعوتهم للقبض عليَّ، ولا أمنعك عن دعوتهم بعد أن تسمعي كلامي.

فعاد الرعب إلى قلبها وقالت: أنت! أنت!

أما العبوس فبقي محافظًا على سكينته وقال لها: اصغي إليَّ يا سيدتي، وافعلي بعد ذلك ما تشائين، أما الآن فاعلمي أن أباك في النادي يلعب بالورق مع أصحابه، وهم أصحابي، وسيدوم لعبهم إلى الساعة الرابعة بعد نصف الليل، فإذا لم أعُدْ إلى ذلك النادي في الساعة الرابعة، تكون حياة أبيك معرَّضَة للخطر، فإن اثنين من رجالي كامنان له عند باب النادي ومستعدان لقتله حين خروجه منه، إلا إذا عدتُ إليهما وألغيت هذا الأمر.

أعلمتي الآن الخطر الذي ينذر أباك إذا قرعت الجرس، وقبض عليَّ خدمك، اقرعيه إذا كنتِ تجسرين؟

فتجلَّدَتْ مس ألن وقاومت نظرات العبوس، فقال لها: إني أحب منك هذه البسالة، فإنك عدو شديد مَن كان مثلي يحسب له حسابًا، وإن عواطف المرأة لم تتغلب عليك؛ لأنك حويت في صدرك قلب رجل، فهلم نتحدَّث إذ لا تزال بيننا ساعة تكفينا للحديث.

ثم أخذ يدها مرة ثانية، وأجلسها على المقعد، فجلس بقربها وقال لها: إنك تكرهيني كثيرًا.

– نعم، إني أكرهك أشد كره، ولا أخافك.

– لقد علمت أنك أقسمت يمينًا محرجة على قتلي، وأن أسعد أيامك سيكون ذلك اليوم الذي أُعلَّق فيه مشنوقًا في سجن نوايت.

– إنك واقف على الحقيقة، وهذا هو قصدي بعينه، اقتلني إذا شئتَ فإنك قادر على قتلي، وأنا لا أستطيع دفاعًا.

فابتسم الرجل العبوس، وقال: كلا، إني لا أريد بك شرًّا، ولا أريد لك غير الخير.

– ذلك لأنك معتمد على تلك الرسائل التي يفضحني إظهارها، ولاعتبارك أنها خير سلاح، ولكنك مخطئ يا سيدي، اعلم أن المرأة إذا اشتَدَّ حقدها تضحي بشرفها في سبيل الانتقام.

ففتح الرجل العبوس عند ذلك سترته، وأخذ من جيبه محفظة أوراق، ودفعها إليها وقال لها: إن رسائلك يا سيدتي في هذه المحفظة فخذي افحصيها، واطرحيها في النار.

مدَّتْ مس ألن يدًا مضطربة إلى المحفظة، وقالت له: احذر فإنك تجرِّد نفسك من السلاح.

فأجاب مبتسمًا: إني ألقاك أعزل، ولا أخشاك.

فاصفر وجه الفتاة من الغيظ، وأخذت الرسائل منه وهي تقول: أتحسب نفسك قويًّا إلى هذا الحد؟

فلم يُجِبْها العبوس إلا بالابتسام.

١٥

فهَزَّت أريحية المروءة مس ألن، وقالت: وأنا أيضًا لا أحارب عدوًّا مجرَّدًا من السلاح، فخذ هذه الرسائل التي كنتَ تنذرني بها، فإن القتال بيننا يكون أشد.

ابتسم العبوس أيضًا وقال لها: بل دَعِيها معك وألقيها في النار، فلا فائدة لي بها، واسمعي أحدِّثك بأمر آخَر، ألَمْ أقُلْ لكِ إني أقمت رجلين على باب النادي ليقتلا أباك إذا لم أَعُدْ إليهما في الساعة الرابعة؟

– نعم.

– إذن فاعلمي أني كنتُ كاذبًا فيما قلته، فإني لم أَرَ أباك، ولا يكمن له أحد، وإنك ترين أني أصبحت من غير سلاح، فإن الرسائل معك، وإن أباك آمِن في النادي، وما يمنعك من أن تقرعي الجرس وتنادي الخدم، فيقبضوا على الرجل الذي عجز بوليس لندرا عن القبض عليه.

ثم وقف أمامها مبتعدًا عن الجرس، وقد وضع يديه فوق صدره وجعل ينظر إليها بسكينة واطمئنان.

فكانت عينا ألن تتقدان نارًا وجسمها ينتفض، فقالت له: إنك شديد الجرأة أو غير حكيم، وإلا لما بدرت منك هذه الأقوال.

– إذا كنتِ ترين ذلك لما لا تغتنمين الفرصة؟

– أَلَا تعلم أني أقسمت أن أسلمك للقضاء؟

– دون شك.

– إذن أنت تريد أن تكون أكرم مني فيما فعلت، ولكني لا أدعك تفوز عليَّ مثل هذا الفوز، نعم إني أكرهك وأريد لك كل شر، ولكني إذا كنت أريد هلاكك، فلا أحب أن أناله بالخيانة.

ولقد أحسنت بأنك جردت نفسك أمامي من السلاح، فلا أقاتلك وأنت أعزل، فخُذْ رسائلي إن شئتَ وارحل حرًّا آمنًا، إن البوليس لن يقبض عليك تحت سقف منزلي.

فكفَّ الرجل العبوس عن الابتسام، وتجهَّمَ وجهه، وقال لها: يا مس ألن أنت لست المرأة التي أريد أن تكون محط أمالي، غير أنك مشيت خطوة إلى قصدي.

فقالت له بلهجة المتهلل: أحق ما تقول؟

– إنك قد أصبحت مخلصة بعدائك.

– ولكنه عداء لا يقف بي عند حد.

– لكن كيف شئتِ، فإنه سيخدم مقاصدي في مستقبل الأيام.

فقالت له بلهجة تشف عن الاحتقار العظيم: تقول إنك تطمع أن أخدم مقاصدك، فهل يمكن معرفة هذه المقاصد؟

– دون شك، فإني ما أتيت إلا لهذا.

– إذن تكلَّمْ، فإني مصغية إليك.

فقال لها الرجل العبوس وقد تكلَّفَ الرقة والدعة: يا مس ألن إنك صبية حسناء، وهبتك الطبيعة خير ما تهب أبناءها من الحمية والذكاء، وأنت من أنبل نساء المملكة، فإذا أيَّدت مشروعًا فلا بد له من النجاح.

– هذا ما أرجوه.

– عفوك يا سيدتي، فقد أخطأت في تأويل كلامي، فإني لا أريد بما قلته المشروع الذي تخدمينه الآن، بل المشروع الذي ستخدمينه، وهو الذي سيفوز.

– ما هو المشروع؟

– أرلندا؟

فأجابته بضحك يشف عن هزئها واحتقارها.

غير أن الرجل العبوس لم يكترث لظواهر احتقارها فقال لها: لقد كان لأبيك أخ مات شهيد أرلندا التي تهزئين بها الآن.

– إن هذا الأخ كان من المتمردين العصاة.

– سيأتي يوم يا مس ألن لا يكون الخائن المتمرد في عرفك هذا الأخ بل …

– حسبك لا تتم القول إنك تريد أن تعني أبي فيما أظن.

– إذن سيأتي يوم وما هو ببعيد، توقفين فيه شبابك وجمالك وثروتك وذكاءك لخدمة أرلندا مهد أجدادك.

وكان الرجل العبوس يتكلَّم بلهجة الواثق المطمئن، فاضطربت مس ألن لسكينته وقالت له: اذهب يا سيدي.

– لا أذهب قبل أن أخبرك كيف يكون تغيُّرك وانتقالك من حزب إلى حزب، وهو منحصر بكلمتين يا سيدتي وهما إنك ستحبينني.

فعبق وجهها بالاحمرار، وقالت له: كفى، اذهب في الحال، أو أفقد رشادي وأنادي الخدم.

وكان العبوس حين قال لها هذا القول تراجع حتى التصق بالجدار المسدولة فوقه الستائر.

وعادت تأمره بالذهاب، وهي تشير بيدها إلى الباب.

غير أنه لم يخرج من الباب التي كانت تشير إليه، بل إنه مد يده من تحت الستار، ولم يكن غير لحظة حتى رأت أنها باتت وحدها في تلك الغرفة.

ذلك أن هذا الرجل الغريب قد توارى عن أنظارها، وخرج من منفذ سري لم تعرفه هي ولا أبوها وهو منزلهما، فكادت تجن من الهوس لعرفانها أنه يستطيع الدخول إلى منزلها والخروج منه دون أن يراه أحد.

ووقفت هنيهة حائرة مضطربة لا تجسر على شيء إلى أن زال خوفها تباعًا، فأخذت المصباح ودنت من المكان الذي توارى منه الرجل العبوس، فأزاحت الستار وبحثت طويلًا في الموضع الذي رأته مد يده فيه، ولكنها لم تعثر على شيء.

فجعلت تنقر على الجدار علها تقف من اختلاف الصوت على مكان المنفذ فما اهتدت إلى شيء.

وطال بحثها حتى أدركت عجزها، ووضعت مصباحها فوق المستوقد قائلة: ما هذه العجائب التي مرت بي، ألعلي حالمة أو أنا من المجانين؟

غير أن الرسائل التي تركها الرجل العبوس كانت لا تزال في موضعها تجيبها بأفصح لسان أنها ليست مجنونة ولا حالمة.

وأسرعت إلى المحفظة، وأخذت منها تلك الرسائل التي كتبتها إلى ذلك الفتى المنكود، الذي قتلته حبًّا، وجعلت تعدها لأنها كانت تعرف مقدارها، فما انتهت من عدها حتى اصفرَّ وجهها؛ إذ رأت أنها تنقص رسالة، ربما كانت هي الرسالة التي أوضحت فيها غرامها كل الإيضاح، وأغوت بها ذاك الفتى المنكود.

ولما خطر لها هذا الخاطر هاجت هياج اللبؤة وقالت: ويح لهذا الشقي، أنه لا يزال يهزأ بي، وإن ظفرت به مرة أخرى لا يجد في قلبي ذرة من الإشفاق والرحمة.

ثم طرحت تلك الرسائل في النار حتى إذا صارت رمادًا سمعت صوت إقفال الباب الخارجي، وعلمت أن أباها اللورد بالمير قد عاد من النادي.

١٦

ووقفت عندها مس ألن موقف المترددة بين أن تنتظر أباها في غرفته حيث كانت، وبين أن تخرج منها قبل وصوله.

ثم رأت أنها لا بد لها من إخبار أبيها؛ لأن الرجل العبوس لو كان قد خرج من الباب لتمكَّنَ إنكار أمره عن أبيها، لكنه خرج من منفذ سري فلم تجد بدًّا من محادثته في شأنه للاشتراك معها في البحث عنه.

وعلى ذلك بقيت في الغرفة تنتظر دخول أبيها، فانذهل حين رآها وقال: ما تفعلين هنا في مثل هذه الساعة؟

فقالت له ببرود: إنك تعلم يا أبي شروطي.

– نعم، إني أعلم أني أنا الساعد العامل، وأنت الرأس المرشد، أليس كذلك؟

– نعم، ولكن يجب أن تكون أيضًا الأب الذي يشير ويعلم ابنته ما تجهله.

– ما تعنين بذلك وما تجهلين؟

– اسمح لي يا أبي قبل أن أوضِّح لك السبب لوجودي في غرفتك، أن أسألك أسئلة أرجو أن لا تدهش منها، فقُلْ لي هل المنزل الذي نقيم فيه لنا؟

– دون شك يا ابنتي، فقد اتصل إليَّ بالإرث من أبي، ولِمَ هذا السؤال؟

– سأخبرك فقُلْ لي أيضًا هل ألواح القاعة الخشبية قديمة العهد؟

– نعم.

– وهذه القاعة التي نحن فيها، أَلَهَا غير بابين؟

– كلا وأنت ترينهما.

– إنك مخطئ يا أبي، إنه يوجد باب ثالث. ثم أخذت المصباح وقالت له: تعال معي.

فتبعها اللورد بالمير إلى الجدار الذي طالما بحثت فيه عن اللولب السري.

وهناك أشارت إلى مكان فيه، وقالت: إن الباب الثالث يجب أن يكون هنا.

فأخذ اللورد المصباح من يدها، وجعل يبحث في كل مكان من الجدار، إلى أن أعياه البحث فقال لها: أين وجدت هذا الباب يا ابنتي، إني لا أرى له أقل أثر.

– وأنا أيضًا لا أراه مثلك، ولكني واثقة أنه موجود.

ثم تابعت بلهجة ثقة زعزعت اعتقاده: إني رأيت بعيني هذا الباب قد فُتِح وأُقفِل، وقد خرج منه شخص كان هنا منذ ساعة.

فرجع اللورد منذعرًا، وقال: مَن هذا الشخص، وكيف يدخل إلى غرفتي؟

– إنه كان فيها وهو متَّشِح بردائك وعلى رأسه قبعتك، وكان جالسًا حول طاولتك، وظهره إلى الباب الذي دخلت منه.

فنظر اللورد إلى ابنته نظر الخائف، كأنما خشي أن تكون قد فقدت رشادها، غير أنها أشارت بيدها إلى ردائه وقبعته اللذين تركهما الرجل العبوس على الكرسي.

فنظر اللورد إليهما وقال: ولكن مَن هو؟

– إنه هو.

وقد قالت هذه الكلمة بصوت يتهدج من الغضب، ويعرب عمَّا في فؤادها من الحقد، فعلم اللورد أنه ذلك الرجل الذي انتزع منه الغلام، وبات زعيمًا للأرلنديين، أي ذاك الرجل العبوس الذي عبث ببوليس لندرا، وتجاسر على الدخول إلى منزل لورد كي يخلو بابنته، بل ذاك الرجل الذي قيَّده وكمَّمه في حديقة منزل فانوش، فاضطرب لجسارته النادرة، والتفت إلى ابنته وقال: إني أريد يا ألن أن أسديك نصيحة.

– ما هي؟

– هي أن تنقطعي عن مناظرة هذا الرجل، فَلْنبرح إنكلترا سائحين.

– لماذا يا أبي ألعلك خفته؟

– ليس خوفي على نفسي يا ابنتي، بل عليك.

– لقد كان هذا اليوم يا أبي آخِر أيام انتصارات هذا الرجل، وسأسحقه سحق الزجاج.

وكانت يد اللورد بالمير لا تزال تبحث في الجدار، فقال لها: ولكني لا أجد شيئًا من أثر ذاك الباب، فإما أن يكون هذا الرجل من السَّحَرة، أو تكون عيناك قد مثَّلَتَا لك هذه الأوهام.

ولكنها لم تُجِبْه بل تركته، وأسرعت إلى النافذة، وجعلت تصغي فسمعت صوت صفير اصطلاحي.

وقد وصل الصفير إلى مسمع أبيها، فقال لها: ما هذا؟

– انتظرني هنا يا أبي.

ثم خرجت من الغرفة إلى الرواق، وهناك سلم نزلت منه إلى الحديقة.

وكانت الساعة قد بلغت الرابعة بعد انتصاف الليل، فاجتازت الحديقة غير هيابة، وفتحت بابها المشرف على الطريق.

أما الصفير الذي سمعته فقد كان رمزًا اتفقت عليه مع بادي حين كان عندها، فإنه وعدها حين خروجه أن يعود إليها بعد اجتماعه برفيقيه الطامعين بالقبض على العبوس.

ولما فتحت الباب رأته واقفًا فقالت له: ماذا حدث؟

– إني عرفت المكان الذي يختبئ به الرجل العبوس، فإنه يقيم في قبة جرس كنيسة سانت جورج.

فارتعشت، إذ ذكرت أن الفتى الذي خدعته وقتلته بغرامها قد دُفِن في مقبرة الكنيسة.

ثم قالت له: أَعَلِمَ رفيقاك بهذا الاكتشاف؟

– لقد كانا يحسبان من قبلُ أنه في الكنيسة، فلما وثقت أنه في القبة أرجعتهما عن تلك الفكرة.

– حسنًا فعلتَ، فاحرص أن تخبرهما بشيء، وتعال معي الآن فإني محتاجة إليك.

فدخل بادي وأقفلت باب الحديقة وسارت أمامه، فتبعها طائعًا ممتثلًا، وذهبت به إلى غرفة في الحديقة فيها معدات وآلات، وأمرته أن يأتي بمطرقة وإزميلًا ثم قالت له: اتبعني.

فحمل الآلتين وتبعها.

١٧

ولم يكن بادي يعلم شيئًا مما تريده مس ألن، غير أنه عندما باع إرادته للفتاة عول أن يكون آلة صماء في يديها لقضاء أغراضها، وفوق ذلك فقد كان يرى نفسه فقيرًا معدمًا مغلوبًا على أمره من امرأته وبنيه، ولم يكن قد تربى تربية صالحة تبعده عن مواقف الزلل، فرأى أنه لا وسيلة له يعيش بها عيشًا شريفًا، ورضي أن يخدم مس ألن كيف كانت مقاصدها.

أما مس ألن فإنها اجتازت به الحديقة إلى السلم، وصعدت منه إلى الرواق، ثم دخلت منه إلى الغرفة وهو يتبعها.

وكان اللورد لا يزال مضطربًا لما سمعه من ابنته، فلما رآها عائدة بذلك الرجل الفقير، دهش وقال لها: مَن هذا؟

– هو شخص أستخدمه.

– وما الآلات التي يحملها؟

– إن عيني لم تمثِّلَا لي الأوهام يا أبي، كما قلتَ، ولستُ من اللواتي يعتقدن بالسحر، فلا بد أن يكون في الجدار مخرج سري أريد أن أعرف إلى أين ينتهي.

ثم حملت المصباح، وعادت إلى البحث في الجدار بحثًا مدققًا، فلم تقف على أثر لذلك الباب الذي رأته فُتِح وأُغلِق أمامها، ولكنها كانت تذكر مكانه فدلت بادي عليه وقالت له: افتح لي ثقبًا هنا.

فأخذ بادي مطرقة وإزميله وبدأ بالعمل.

غير أن اللورد اعترض ابنته وقال: ماذا تفعلين إن صوت المطرقة سيوقظ جميع مَن في المنزل من الخدم، فيسرعون إلينا ويقفون على السر.

فقالت له بسكينة: اقفل الباب من الداخل بالمفتاح فلا يدخل إلينا أحد، وعاد بادي إلى العمل، فأزال قشرة الجدار وأصاب إزميله جسمًا صلبًا.

فقال اللورد بالمير: إنه صخر صلب.

– كلا، بل صفيحة من الحديد.

– إذن أَزِلْ هذه الصفيحة.

وكانت إزالتها سهلة، فإنه جعل يثقب ما حواليها حتى أزال كل ما كانت عالقة به من الطين، فأخرجها من الجدار وانكشف ما تحتها، وصاحت مس ألن صيحة انتصار؛ إذ رأت بابًا مصبوغًا بلون الحديد لا قفل له ولا زلاج، لكن به زر من النحاس.

فأدارت الزر ففُتِح الباب في الحال، ودخل منه هواء رطب، وظهر رواق ضيق مظلم.

فالتفتت مس ألن إلى أبيها وقالت له: يجب أن نعلم إلى أين ينتهي هذا الدهليز.

– وأنا من رأيك فاصبري إلى أن أعود.

ثم خرج إلى غرفة مجاورة، وعاد بمسدسين فدفع واحد لابنته، وتسلَّح بالآخَر، وقال لها: هلمي بنا الآن.

أما مس ألن فإنها أعطت المصباح لبادي، وقالت له: سِرْ أمامنا بهذا الدهليز.

وسار بادي أمامهما يحمل المصباح وهما يتبعانه، ولم يكن الدهليز طويلًا فانتهوا منه إلى سلم، وعند ذلك نزل بادي ورفع المصباح إلى ما فوق رأسه كي ينير لهما الطريق.

وكانت درجات السلم كثيرة، ولما نزلوا ثلاثين درجة وقف بادي فقالت له: لماذا توقفت؟

– إني أسمع صيحة لا أعلم ما هي.

فأصغت وسمعت صوتًا يشبه أمواج البحر يبلغ إلى المسامع من مسافة بعيدة، فقالت لبادي: إذا كنتَ خائفًا هات المصباح فأنا أسير أمامك.

– كلا يا سيدتي، فإني لستُ من الذين يخافون.

ثم مشى أمامهما وتبعاه، وكان هواء الدهليز يتغيَّر تباعًا كلما تقدَّموا في المسير حتى صار باردًا نقيًّا، فعلمت مس ألن أنهم قد تجاوزوا حدود المنزل، وأنهم ينزلون في جوف الأرض.

ثم انتهوا من نزول السلم، فشعر بادي بأنه يسير فوق أرض رطبة تكاد تكون موحلة.

ورأى الثلاثة على نور المصباح أنهم في محل يشبه القبور، وفي هذا القبو منفذ إلى دهليز عريض.

والتفتت مس ألن عند ذلك إلى أبيها، وقالت له: لم نعلم شيئًا من أمر هذا السلم والدهليز، فإن كليهما قديم العهد، انظر إلى حجارة القبة، فإنها سوداء تدل على مرور العصور بها.

وكان ذلك الصوت الذي سمعوه آخِذًا بالارتفاع، فوضع اللورد بالمير يده فوق جبينه، وقال: لقد ذكرت، فإننا الآن فيما أظن على مسافة قريبة من ويت هال، ولا شك أن الدهليز قد حُفِر في عهد شارل الأول حين كان سجينًا، وقد حفره أعوانه لإنقاذه، وأظن أنه متصل بنهر التيمس قرب جسر وستمنستر، أما الصوت الذي نسمعه فهو صوت تكسر الأمواج على الصخور.

– إذن فَلْنَسِرْ إلى النهاية.

ثم أخذت المصباح من بادي وسارت أمامهما في ذلك الدهليز، وهي تقول في نفسها: عجبًا كيف تيسَّرَ للرجل العبوس اكتشاف الدهليز؟

١٨

وقد أصاب اللورد بالمير فيما قاله؛ لأن الدهليز قد حفره أنصار ذلك الملك التعيس شارل الأول كي ينقذوه.

وكانت مس ألن وأبوها وبادي كلما تقدَّموا خطوة في الدهليز وجدوا آثارًا تدل على القدم، وقد رأت فوق تلك الأرض الرطبة آثار أقدام، فما شككت أنها خطوات العبوس صنعت تلك الآثار، فإن الدهليز لم يدخل إليه إنسان منذ مائتي عام.

ولبثت مس ألن تسير في طليعة رفيقيها، وصوت الأمواج يزيد ارتفاعًا كلما تقدَّموا، مما يدل على قربهم من التيمس.

وفيما هم سائرون نفذت إليهم نسمة شديدة كادت تطفئ المصباح، فجعلت مس ألن تحميه بيديها وتصونه من الهواء، إلا أن الهواء اشتد فجأةً فأطفأ المصباح، وباتوا يتخبطون في ظلام دامس.

ولكنها لم تحضر معها كبريتًا وغيره من معدات النور، فاضطربت وخشيت أن لا تهتدي إلى الطريق، إلا أن بادي كان لديه علبة من ذلك الكبريت الشمعي الذي يستعمل للزينة لاقتباس النور، فهو لا يحرق لكنه ينير نورًا أحمر هنيهة وجيزة ثم ينطفئ.

وأعطى بادي العلبة إلى اللورد، فأضاء واحدة منها وقال: إن العلبة تكفينا للعودة.

– إلى أين نعود؟

– إلى المنزل.

– هذا محال، فلا بد لي من البلوغ إلى نهاية الدهليز ولو مشيت في الظلام الحالك، ثم مشت أمامهما دون أن تنتظر جواب أبيها، غير مسترشدة إلا بذلك النور الضعيف.

وما زالت تسير وهي تشعر كلما تقدَّمَتْ بازدياد رطوبة الأرض، حتى شعرت فجأةً أنها تسير في المياه.

واقترح اللورد مرة ثانية أن يعودوا إلى المنزل ولكنها اعترضت، وعند ذلك ظهر لهم نور أحمر ينبعث من بعيد كأنه مصباح معلق بقبة الدهليز.

– لم نَعُدْ في حاجة إلى النور، فإن النور المنبعث يرشدنا.

ولكنها لم تسر بضع خطوات حتى شعرت أن الماء قد بلغ إلى ركبتيها.

وكان اللورد يسير مقتفيًا أثرها ويده على مسدسه، ومستعد لإطلاقه عند أول خطر تتعرض له ابنته.

وكانوا كلما قربوا ينجلي لهم النور، وتزيد أصوات المياه ارتفاعًا حتى انتهوا من اجتياز السرداب المظلم، وعلموا أنه مشرف على نهر التيمس، ورأوا ذلك النور فكان مصباحًا من الغاز موضوعًا عند ضفة النهر، تنبعث منه أشعته إلى أول السرداب من ثقب متسع كان محفورًا في جسر النهر على علو مترين من سطح المياه.

وكانت مس ألن قد وصلت قبل رفيقيها إلى ذلك الثقب، فعرفت الطريق التي سلكها الرجل العبوس والثقب الذي دخل منه، ورأت حلقة من الحديد مربوطة في الثقب، فأيقنت أن العبوس قد أتى إلى السرداب بقارب وعاد به كما أتى.

فلما انتهت من جميع أبحاثها قال لها أبوها: أَلَا تقولين لي الآن عمَّا أسفرت تلك الأبحاث والرحلة الليلية؟

– إنها أرشدتني إلى طريقة سأنهجها.

– ما هي؟

– ذلك سر من أسراري، وأنت تعلم شروطي يا أبي، فاسمح لي أن أكتم عنك هذا السر، وهلم نَعُدِ الآن على أعقابنا، فقد عرفنا الطريق.

فعادوا جميعًا والظلمات تكتنفهم، فكانوا يسترشدون من حين إلى حين بكبريت العلبة وهم يسيرون ويتوقون الاصطدام بأيديهم كما يسير العميان، حتى وصلوا إلى القبو واهتدوا إلى السلم.

وبعد ربع ساعة كانوا جميعهم في غرفة اللورد بالمير، فأخذت مس ألن كيسًا مملوءًا بالذهب، ودفعته إلى بادي قائلةً: خُذْ هذا المال مقابل كتمانك لما رأيت، واعلم أن هذه الهبة لا دخل لها بما وعدتك به من المكافأة.

فأخذ بادي الكيس دون أن يظهر عليه شيء من علائم السرور، وقد أطرق برأسه إلى الأرض وقال: لا حاجة يا سيدتي إلى أن تدفعي لي الهبات عن كتماني، فإني عاهدت نفسي على الإخلاص لك، منذ رضيت أن أكون من عبيدك وبعتك نفسي.

فهزت مس ألن كتفيها دون أن تجيبه، ونظرت إلى أبيها فقالت له: يوجد في لندرا كثير من العمال الماهرين، فيجب أن يصلحوا هذا الباب الذي كسرناه، ويعيدوا الجدار كما كان، وإنما ينبغي إتمام كل ذلك اليوم؛ لأن الرجل العبوس قد يعود في المساء، ولا يجب أن يعلم شيئًا من اكتشافنا.

وعندها أشارت إلى بادي أن يتبعها وخرجت من الغرفة إلى الرواق، ونزلت إلى الحديقة وهو في إثرها حتى بلغت إلى الباب.

وكان الفجر قد انبثق، وبدت أشعته تخترق ذلك الضباب الكثيف الذي يخيم على لندرا ستة أشهر في العام، ففتحت مس ألن باب الحديقة كي يخرج بادي وقالت له: إن هذا اليوم يوم أحد، وهو موعد زيارة الأب صموئيل لامرأتك وأولادك أليس كذلك؟

– نعم يا سيدتي.

– وأنت تظن أن الرجل العبوس يختبئ في قبة جرس كنيسة سانت جورج؟

– بل أنا واثق.

– اذهب الآن وانتظر في منزلك إلى أن يأتي الأب صموئيل فتقول له هذا القول، وهو أنه يوجد ثلاثة رجال يفتشون عن الرجل العبوس، وقد علموا أنه يبيت في قبة الجرس، وقد رأوا أن يدخلوا إليها في الليلة التالية ويقبضوا عليه، ثم تَذْكُر له أسماءَ رفاقك الذين يبحثون عنه.

ودهش بادي وقال: ولكن الأب صموئيل أرلندي، والعبوس مثله، فإن أخبرته بذلك يحذره فيهرب.

فابتسمت مس ألن وقالت له: افعل ما قلته لك، ولا تحاول أن تفهم مقاصدي.

١٩

وَلْنَعُدِ الآن إلى أحد أشخاص هذه الرواية الذي تركناه منذ زمن بعيد وهو الأب صموئيل، ذلك الكاهن الرءوف الذي شغف الفقراء، وملأ حبه قلوب البؤساء حتى اللصوص.

كان ذلك اليوم يوم أحد، والأب صموئيل يحتفل في صباحه بقداس في كنيسة سانت جيل.

وهناك فريق من المصلين راكعون على الأرض الباردة؛ لأن الكنيسة لم يكن فيها شيء من الكراسي والمقاعد لفقرها.

وكان الأب صموئيل واقفًا في باب الهيكل يبارك الشعب بعد انتهاء القداس، ويرشدهم خير إرشاد، وكان موضع عظته في ذاك اليوم وجوب الإحسان إلى الفقير، ومساعدة البائس، ونصرة الأرامل واليتامى، وكان يتدفق كالسيل، ويلقي أجزل الكلام، ويمثل لذة المحسن وأجره أجمل تمثيل.

وبعد ذلك انتقل إلى الكلام عن الجامعة الأرلندية، فبدأ بالكلام عن بني إسرائيل، وسيرهم في التيه إلى الأرض الموعودة، ثم شبه الأرلنديين بالإسرائيليين والإنكليز بالمصريين من حيث الاضطهاد، فكان لكلامه أعظم وقع وأجمل تأثير.

وكان بين الذين يسمعون عظته رجلان لابسان ملابس السواد، كانا يصغيان إلى أقوال صموئيل كل الإصغاء دون أن ينتبه إليهما أحد.

ولما فرغ الأب صموئيل من عظته، وتقدَّمَ الناس لتناول القربان، انسَلَّ الرجلان من بين الحضور وخرجا مسرعين من الكنيسة، ولم يقفا حتى بلغا شارع كرافانشامل.

وكان الرجلان متفاوتين في العمر، أحدهما السير بترس توين، والآخَر قسيس فتى من قسس تلك الطائفة.

فقال القسيس للرئيس: ما رأيك بهذا الأب؟

– أرى أنه لو كان يوجد مثله كثيرون بين كهنة الكاثوليك لجذبوا بسحر بيانهم جميع الإنجليكان.

– إذن نحمد الله أنه لا يوجد في لندرا سواه.

– نعم، ولكن الأب صموئيل استطاع بدهائه من ضم كثيرين إلى مذهبه، وهو أحد الشخصين الذين نخشاهما، وأما الآخَر فهو ذاك الشخص الذي عجز بوليس لندرا عن إيجاده، وهو الذي يلقِّبونه بالرجل العبوس.

– ألَمْ ترد إليك رسالة في هذا الصباح من ابنة اللورد بالمير؟

– نعم، وقد قالت لي فيها أن هذا الشخص سيكون في قبضة يدنا بعد ثلاثة أيام، ولكني أريد أن أقبض على هذا الزعيم الثاني الذي يدعونه الأب صموئيل.

– وا أسفاه! إنك ترجو المحال يا سيدي فيما أراه أن للمذهب الكاثوليكي مطلق الحرية في أرلندا، وليس لدينا برهان يثبت اشتراك الأب صموئيل مع الثوار الأرلنديين.

– هو ما تقول، ولكني حيث كنت أسمع عظته، خطر لي أن الأب صموئيل شديد المطامع لتوقد ذكائه، وإننا نستطيع أن ندخله إلينا من هذا الباب.

– ولكنك تعلم أنه شديد الزهد بالمال، وأنه يفرِّق كل ما يملكه على الفقراء.

– قد لا يطمع بالمال، وقد يغرُّه الجاه والرتب، فأساعده على نيل كل ما يريد شرط أن أحادثه ساعة، فقد وضعت خطة أرجو أن تسفر عن الفوز بعد أن أقابله.

– أأنت تطلب أن تراه؟

– لست أنا بل أنت.

فدهش القسيس، وقال: أنت يا سيدي على جلال قدرك تقابل مثل هذا الصعلوك، وأنت أعظم رجال كنيستنا، بل أنت الذي تلقي الأوامر سرًّا حتى إلى أسقف كنتربوري.

فأجابه بجفاء: إن الغاية تبرِّر الواسطة، وفوق ذلك فإن هذا الشخص من أصحاب العقول الراجحة، وهو في قومه أرفع منزلةً مني بين قومي، فاصغِ الآن إلى ما ألقيه إليك واعمل بالتدقيق، اعلم أنه يوجد في سوتوارك قرب كنيسة سانت جورج زقاق يُدعَى آدم ستريت.

– إني أعرفه.

– وفي هذا الزقاق يوجد ممر يقيم فيه شخص يُدعَى بادي له امرأة وولدان، وهذه العائلة إنجليكانية، ولكن الفقر قد برح بها حتى اضطرت إلى قبول الصدقات من كاهن كاثوليكي، وهذا هو الأب صموئيل، وقد علمت أنه سيذهب إليها اليوم بين الساعة العاشرة والحادية عشرة على هذا الصباح، فاعمل أن تكون قرب ذلك المنزل في هذا الوقت.

ومتى رأيت الكاهن خرج من المنزل تعرض له في الطريق وقُلْ له: «يوجد شخص مشرف على الموت، وهو كاثوليكي المذهب، ولكنه كان يتظاهر أنه إنجليكاني حرصًا على مركزه، وهو الآن على فراش الموت، وقد طلب إليَّ أن أجيئه بكاهن كاثوليكي.»

– أتظنه يقبل بالحضور إذا قلتُ له هذا القول؟

– دون ريب.

– وبعد ذلك؟

– تأتي به إلى البيت المجاور لمنزلي أي بيت طباخي.

– أيوجد فيه حقيقةً شخصٌ يحتضر؟

– نعم وهو طبَّاخي بعينه.

– ولكنه من الأرلنديين يا سيدي، وقد طردته حين عرفته.

– هو ما تقول، ولكني أرجعته اليوم، بعد أن تعهَّدَ أن يخدمني بإخلاص.

فانحنى القسيس، وانصرف لتنفيذ أوامر سيده.

وبعد ساعة كان واقفًا في زقاق آدم ستريت، فرأى بعد هنيهة الأب صموئيل داخلًا إلى منزل بادي، فوقف عند الباب ينتظر خروجه.

٢٠

أما الأب صموئيل فإنه لما قرع الباب ردَّ عليه صوت رجل من الداخل، فسُرَّ صموئيل لأنه عرف أنه صوت بادي، وكان سروره أنه خرج من السجن، فلما دخل حيَّاه قائلًا: أهذا أنت؟ أخرجت من السجن؟

فقبَّل يده باحترام وهو يضطرب، وقال: نعم يا سيدي.

– ألعلك دفعت دينك أم هربت؟

– لا هذا ولا ذاك يا سيدي، بل دفعوا عني.

فابتسم الأب صموئيل ابتسامة رضى وقال: يسرني أنه لا يزال يوجد أهل مروءة في بابل التي يلقِّبونها بلندرا.

فأطرق بادي مستحييًا وقال: لا تهنئني يا سيدي بخروجي من السجن، فإنك لو عرفت مَن أطلق سراحي لما غبطتني.

وهناك أقبلَتْ امرأته وولداه فقبَّلوا يد الكاهن، فقال بادي لامرأته بجفاء: اذهبي أيتها المرأة إلى السوق واشتري خبزًا، وأنتما اذهبا والعبا فإني أحب أن أبقى وحدي مع حضرة الأب صموئيل.

فانصرفت المرأة بولديها على الفور ممتثلة.

أما الأب صموئيل فقد أعجب بلهجة بادي، لما رآه عليه من علائم القنوط، وأما بادي فإنه لبث مطرقًا برأسه إلى الأرض إلى أن سمع إقفال الباب الخارجي.

وعندها التفت إلى الأب صموئيل وقال له: إني يا سيدي إنكليزي، ومذهبي إنجليكاني، ولكنك أرلندي طالما أحسنت إلى عائلتي، وحميت ولدي من الموت جوعًا، فلا أحب أن أسيء إلى أرلندا وأنت منها.

إني يا سيدي كنتُ سجينًا لدين عليَّ قيمته عشرة جنيهات، وهو مبلغ زهيد لدى الكثير من الناس، وأما لدينا فهو يعادل جميع كنوز إنكلترا.

وقد كنتُ ليلة أمس في السجن فسمعنا الجرس يدق، والأبواب توشك أن تقفل، وإن الإنسان يا سيدي شرير بالطبع، غير أن الشقاء يزيده شرًّا ويحكم ملكة السوء فيه.

وإني بينما كنتُ أبكي ذاكرًا امرأتي وولدي وما يقاسون من الجوع، كان المسجونون معي يضحكون عليَّ ويهزءون بي، فيقولون لي هو ذا الجرس قد قُرِع من أجلك، وهذه امرأتك التي ترثي لشقائها قد أتت لتدفع دينك وتُخرِجك من السجن.

وقد كانوا يقولون ذلك على سبيل الهزء، وفيما هم على ذلك جاءني الحارس، وقال: تعال فقد أتى مَن ينقذك.

فظننت أنه يهزأ مثلهم، ولكني تبعته إلى أن بلغنا الفسحة، ودهشت حين رأيت نقولا.

فقال الأب صموئيل: مَن هو نقولا هذا؟

– إنه شخص محتال سيئ السيرة والسريرة، أكرهني الشقاء مرات إلى مشاركته في بعض المهمات.

– أهذا الذي أخرجك من السجن؟

– نعم يا سيدي، فلما أطلق سراحي وخرجت وإياه من السجن قلت له: ألعلك أصبحت غنيًّا وبِتَّ قادرًا على افتدائي بعشرة جنيهات؟

فأجابني: كلا، ولكني أرجو أن أكون غنيًّا في حين قريب، أما الآن فقد عهدوا إليَّ بمهمة خطيرة إذا فزنا بها كان لنا منها خير وفير، ودفعوا لي قسمًا مقدَّمًا، فرأيت أن أُشرِكك في قضاء هذه المهمة، فنغدو أربعةً: أنا وأنت ومكفرسون وجوهان.

ولم يَشَأ نقولا أن يزيد شيئًا على ما قال، فغادرني عند جسر واترلو قائلًا: اذهب الآن إلى امرأتك وأولادك، وسنلتقي هنا عند منتصف الليل.

فقال له الأب صموئيل: إنك ذهبت دون ريب إلى هذا الملتقى، فما هي هذه المهمة؟

– هي أن نقبض على شخص أرلندي محكوم عليه بالإعدام، يُلقَّب بالرجل العبوس.

– لقد عرفت سبب اضطرابك الآن، ولكن ثِقْ أنهم لا يجدون هذا الشخص الذين يبحثون عنه.

– إنك مخطئ يا سيدي؛ لأن نقولا يعرف أنه مختبئ في قبة الجرس في كنيسة سانت جورج.

فاصفَرَّ وجه الأب صموئيل، ولم يَقُلْ كلمة.

وأتم بادي كلامه فقال: إن البوليس قد عرف أيضًا هذا المحل الذي يختبئ فيه، فكمن له في الطريق حتى يخرج؛ إذ لا يحق للبوليس الدخول إلى الكنيسة.

وهنا تنهَّدَ بادي تنهُّد الآسف الحزين، وركع أمام الأب صموئيل فقال له: إني يا أبي لا أخدع مَن يُحسِن إليَّ، فأنقذ هذا الشخص قبل أن يقبضوا عليه.

فسرَّ الكاهن من إخلاصه، وقال له: إنك رجل شريف طاهر السريرة يا بادي، وسنكافئك عن هذا الإخلاص، فقُلْ كم هي حصتك من جائزة القبض على الرجل العبوس؟

– مائة جنيه.

– إن أرلندا فقيرة، ولكنها على فقرها لا تتقاعس عن مكافأة المخلصين لها، فسأحضر لك مائة جنيه يوم الأحد القادم.

ثم أخرج جنيهًا من جيبه ودفعه لبادي، فأبى أن يأخذه وقال: لسنا بحاجة إلى النقود؛ لأن نقولا أعطاني مقدَّمًا جنيهين، وهما يكفيان لنفقات أسبوعين، فادفع هذه الصدقة لمَن هو أتعس منَّا.

فتأثَّر الكاهن من كلامه، وردَّ المال إلى جيبه، ثم صافحه مودِّعًا وهو يقول: إنك إنسان طيب السريرة، وسيجازيك الله عما فعلت.

وبعد أن ذهب الأب صموئيل عادت امرأة بادي، فلقيته واضعًا رأسه بين يديه، والدمع يترقرق في عينيه، فقالت له: ماذا حصل أوثق الكاهن مما قلته له، إذن ستكون مس ألن راضية عنا؟

فغضب بادي على امرأته وتهدَّدها بقبضة يده، ثم عاد إلى نفسه فقال: ويح لنفسي ما أشقاها!

فأجابته امرأته بضحك قوي، ثم قالت له: لا ريب أنت ساذج القلب كما أراه من علائم الندم. وعَلَامَ الندم، أَعَلَى ما قبضته من مس ألن؟ إن الفقراء لا يندمون إلا على ما يفوتهم، ومَن كان مثلنا يجب عليه خدمة مَن يقيه الشر والعوز.

فلم يُجِبها بادي بشيء، ولكنه برح المنزل فذهب يتنزَّه على شاطئ النهر تفريجًا لكربته، فإن خيانته للكاهن نغصت عيشه، وكاد يقتله تقريع الضمير.

٢١

أما الأب صموئيل فإنه خرج من منزل بادي وهو ضيق الصدر مضطرب البال، لخوفه على الرجل العبوس، بعد أن وثق أن البوليس قد عرف مكان اختبائه.

غير أن خوفه من الذين اتفقوا على القبض عليه لنيل الجائزة كان أشد من خوفه عليه من البوليس، فإن كان الإنكليزي يطمع بالمال يُقدِم على جسام الأمور ولا تعترضه الصعاب.

ولذلك كان أول ما خطر له حين خروجه من منزل بادي أن يسرع إلى كنيسة سانت جورج لإنذار العبوس.

وكانت الكنيسة قريبة من المنزل الذي خرج منه، فلما خرج ذهب توًّا إلى الكنيسة.

وكان القسيس الذي أرسله بترس توين ينتظر خروج الأب صموئيل في عطفة الزقاق كما تقدَّم، فرآه مصفرَّ الوجه شديد الاضطراب حين خروجه، ثم رآه قد سار في طريق الكنيسة معارضًا الطريق الذي كان ينتظره فيه، فلم يَرَ من الحكمة أن يناديه.

ولكنه تبعه مقتفيًا أثره، وكان الأب صموئيل يسير مسرعًا غير منتبه إلى القسيس لشدة اضطرابه، حتى وصل إلى الكنيسة فدخل إليها، وبقي القسيس منتظرًا في الخارج وهو يقول في نفسه: سأنتظر إلى أن يقضي شأنه في الكنيسة، فلا بد له من الخروج منها.

أما الأب صموئيل فإنه دخل توًّا إلى الكنيسة، وكان الناس لا يزالون مزدحمين فيها، فصعد مسرعًا درجات السلم المؤدية إلى قبة الجرس، ودخل إلى الغرفة التي يبيت فيها العبوس، فلقيه نائمًا نومًا هادئًا، وظهرت على محياه سيماء البشاشة.

وزاد اضطراب الأب صموئيل لما رآه عليه من ظواهر الدعة والاطمئنان، وقال في نفسه: قد يكون نائمًا مثل هذا النوم إذا فاجأه أولئك الأشقياء هذه الليلة.

ثم دنا وهَزَّ كتفه برفق، ففتح العبوس عينيه، ونظر إلى الأب صموئيل مبتسمًا، فجلس في سريره وقال له: أسألك المعذرة إذ لقيتني نائمًا؛ لأني لم أكن أنتظر زيارتك.

ثم تأمَّلْ محيا الأب صموئيل فراعه اصفراره، فقال له: ماذا حصل؟ وما دعاك إلى هذا الاضطراب؟

فرد صموئيل خائفًا: إنهم عرفوا مكانك.

– هذا الذي كنتُ أتوقعه، فقُلْ لي يا سيدي ماذا حصل؟ وكيف عرفت ذلك؟

فقَصَّ عليه الأب صموئيل عندها جميع ما سمعه من بادي.

فقال له الرجل العبوس: لقد قلتُ لك إني كنت أتوقع ذلك؛ لأن شوكنج قد وقع أول أمس في قبضة أولئك الأشقياء، ونجا منهم، وكان بينهم بادي، ولكن ألم تقُلْ لي الآن أن بادي خرج من السجن ليلة أمس؟

– هذا ما قال لي.

– ولكنه كاذب فيما قاله؛ لأنه خرج من السجن منذ يومين، ولا أدري قصده من كذبه، كما أني لا أعلم الآن غايته من خيانة رفاقه بغية إنقاذي، ولكني سأقف على الحقيقة غدًا.

فبهت صموئيل لِمَا رآه من سكينة العبوس وقال له: ولكنك لا تبقى هنا على الأقل.

فابتسم العبوس، وقال: بل أبقى هنا، أي إني أعود في المساء، أما الآن فإني مضطر إلى الذهاب إلى هايد بارك.

– لأي غرض؟

– لأقابل مس ألن.

– لتقابل ابنة اللورد بالمير ألد أعدائك؟!

– نعم، إني أريد أن أجعلها من أخلص الخادمين لأرلندا.

ثم نزل من سريره، ففتح حقيبة ملابس كانت في الغرفة، وقال للأب صموئيل: إنك إذا نزلت إلى الكنيسة، وأقمت فيها هنيهة أمرُّ بك فتراني ولا تعرفني، وإنما أقول لك هذا كي تطمئن عليَّ؛ لأني لا أخاف أولئك الكامنين لي.

فهدأ بال الأب صموئيل لسكينة العبوس، ونزل إلى الكنيسة فركع عند باب الهيكل قرب مدخل السلم المؤدي إلى القبة، بينما كان العبوس منهمِكًا في تغيير زيِّه.

٢٢

لبث الأب صموئيل راكعًا عند باب الهيكل، وهو ينظر من حين إلى حين إلى مدخل السلم راجيًا أن يرى العبوس، فلم يَرَه حتى انتهت الصلاة، وأخذ المصلون يخرجون من الكنيسة.

وعند ذلك رأى شخصًا دنا منه وحيَّاه، وركع أمام باب الهيكل، فردَّ الأب تحيته دون أن يكترث به ورأى أنه لا يعرفه.

وكان لابسًا ملابس بسيطة، ولكن في غاية التأنُّق، وفي خنصره خاتم ثمين من الماس، وفي يده كرباج قبضته من الفضة.

وكان أسود الشعر والعينين، غير أن هيئته كانت تدل على أنه من الإنكليز، فركع وصلَّى صلاة قصيرة، ثم نهض وحيَّا الكاهن مرة ثانية، ومشى إلى الباب الخارجي ببطء.

وإن الشعب الكاثوليكي في لندرا شديد الفقر؛ لأن معظمه من الأرلنديين، فعجب الأب صموئيل لما رآه من ظواهر غنى هذا الرجل، وأخذ يراقبه وهو منذهل أشد الانذهال.

حتى إذا خرج هذا الشخص من الكنيسة إلى الفسحة الخارجية رأى خادمًا أيكوسيًّا يمسك بيده لجام فرس كريم، فزاد دهش الأب صموئيل حين رأى الخادم أسرع بالفرس إليه وقدَّم له اللجام بكل احترام.

ووثب الرجل إلى ظهر الجواد ولكنه لم يسرع بالسير؛ لأن فقراء الأرلنديين تجمهروا حوله ومدوا أيديهم له مستعطين، فأشار إلى خادمه أن يوزِّع عليهم الصدقات بسخاء عظيم.

ثم دنا منه جندي شيخ فقير، قُطِعت يداه في المعارك، وسأله الإحسان فأعطاه جنيهين، وقال له، مشيرًا إلى الأب صموئيل: أتعرف هذا الكاهن؟

– نعم، فهو الأب صموئيل.

– اذهبْ وقُلْ له يدنو مني.

وكان الأب صموئيل لا يزال ينظر إليه معجبًا بما يراه، ففهم من الإشارة ما يريده، وأتى إليه بنفسه، فأخذ الرجل محفظة ملأى بالأوراق المالية من جيبه وقال له: أتأذن لي يا حضرة الكاهن أن أقدِّم لك هذه الهبة للكنيسة؟

فاشتدت دهشة الأب صموئيل، ولكن دهشته هذه المرة لم يكن لما رآه من سخاء هذا الإنسان، بل لما قد سمعه من صوته، فقد ذكر أن هذا الصوت صوت الرجل العبوس، فإنه لم يَبْقَ من دلائل الشبه به غير هذا الصوت.

ولما رأى الأرلنديون الأب صموئيل يحادث هذا الشخص النبيل، ابتعدوا عنهما احترامًا.

فقال الرجل العبوس للكاهن وهو يبتسم: إذا كنتَ أنت لم تعرفني بعد هذا التنكُّر، فكيف تخاف أن يعرفني البوليس، وأولئك الكامنون لي للقبض عليَّ فاطمئن؛ لأني لو أردت لجئتك في هذا المساء شيخًا عجوزًا يلتمس منك صدقةً فلا تعرفه.

وعندها حيَّاه وسار بجواده وهو لا يزال ينثر المال على أولئك البؤساء، فتفرَّق الناس تباعًا بعد هنيهة وتوارى العبوس عن الأنظار، ولم يَبْقَ في تلك الفسحة غير الأب صموئيل، وهو تائه في بوادي الأفكار.

وكان القسيس الذي أرسله بترس توين إلى الأب صموئيل ينتظر منذ ساعة، فلما رأى تفرُّق الناس والكاهن وحده في الكنيسة، دخل إليه ودنا منه، فذعر الأب صموئيل حين رآه؛ لاستفحال العداء بين قسس الإنجليكان وكهنة الكاثوليك في ذلك الوقت.

غير أن القسيس لم يكترث لهذه الظواهر، فدنا منه وحيَّاه بملء البشاشة والاحترام.

ثم قال له: إننا يا سيدي الكاهن مهما بلغنا من الافتراق، فإننا نأتلف بجامعة الحنان حين يدعونا الواجب المقدس إلى مساعدة الإنسان.

فرد عليه صموئيل تحيته، وقال: لقد أصبت يا سيدي، إن افتراق كلمتنا بالمذهب لا يمنع اجتماعنا في المبدأ.

– إني ذهبت في البدء إلى كنيسة سانت جيل، ولما لَمْ أَلْقَكَ فيها أتيتك إلى هنا، ولقد اتفق لك كثيرًا يا سيدي، فيما نعلم أنك كنتَ تساعد بنقودك واعتنائك كثيرًا من الذين أخنى عليهم الدهر من أهل طائفتنا.

– إن جميع الناس إخوان.

– ونحن أيضًا يا سيدي نجري على مبدئك، ودليل ذلك أنه يوجد الآن بين يدينا شخص تعس كاثوليكي، وهو في حالة النزع، وقد بذلنا له كل ما يمكن بذله من الجهد والعناية تعزيةً له عما هو فيه، ولكنه حين رأى نفسه مُشرِفًا على الموت سألَنَا أن ندعوك إليه ليعترف، ولا أظنك تأبَى الذهاب معي إليه يا سيدي.

– كيف أرفض، ومَن يرفض مساعدة شخص يحتضر؟

– إذن هيَّا معي.

فخرج الاثنان ولقيا مركبة أجرة، فركبا بها وسارا.

٢٣

ولم يكن الأب صموئيل يعلم إلى أين يسير به القسيس، إلى أن وصلت بهما المركبة إلى الجسر، فأمر القسيس السائق أن يتجه إلى كنيسة سانت بول.

فأجفل الأب صموئيل، وقال له: كيف يكون ذاك الشخص كاثوليكيًّا وهو في كنيستكم؟

– لا أعلم، وما أنا إلا منفذ لأوامر السير بترس توين، فهو الذي أرسلني.

فلم يُجِبْه الأب صموئيل، ولكنه غرق في بحار الهواجس ولم يَفُهْ بكلمة، حتى وصلت المركبة إلى كنيسة الإنجليكان، فنزل الكاهنان منها ودخلا إلى الكنيسة، وكانت أول مرة يدخل فيها الأب صموئيل إلى كنائس الإنجليكان.

وكان للكنيسة سلم يؤدي إلى منزل السير بترس توين، وهو طويل يبلغ مائة درجة.

فقال له القسيس: إن الشخص المريض يا سيدي في منزل السير بترس توين، فاصعد هذا السلم إليه تجده هناك مع المريض.

فبقي القسيس في الكنيسة وصعد الأب صموئيل، حتى إذا انتهى من درجات السلم الطويل، لقي السير بترس توين واقفًا عند باب غرفة، فأحسن استقباله وقال له: تعال معي فإن المريض في هذه الغرفة.

ودخل الأب صموئيل في إثره، فلقي سريرًا فيه شخص تبدو عليه علائم قرب الموت.

وعند ذلك خرج السير بترس توين وهو يقول للأب صموئيل: إن المسكين يا سيدي يود أن يعترف فاسمح لي إذن أن أدعكما منفردين، وستراني عند انصرافك في انتظارك كما رأيتني حين قدومك.

ثم خرج فأقفل الأب صموئيل الباب، وعاد إلى ذلك المريض فتأمله وعرفه، فقال له: كيف فاجأك المرض وقد كنتَ معافى، وكيف عدتَ إلى خدمة هذا الزعيم بعد أن طردك؟

فرد الأرلندي بصوت منخفض: اصغِ إليَّ يا سيدي، فقد أمروني أن أمثِّل هذا الدور كي يحتالوا عليك بالحضور إليهم، فلم أجد بدًّا من الامتثال؛ لأنهم أنذروني بالقتل، وكنتُ في قبضتهم.

أما أنا فلا أخون الأرلنديين، واعلم أن زعيم الإنجليكان إنما أرجعني إلى خدمته لهذه الحيلة، ولا أعلم ما يريدون منك، ولكن يجب أن تحذر منهم كل الحذر، فإنهم سقوني شرابًا لا أدري ما هو فأُصِبْتُ بعده بالحمى، وأصبحت كما تراني غير أني لم أفقد صوابي، ولهذا احرص من هؤلاء الأشرار.

فعجب الأب صموئيل للمكيدة ولم يعلم الغرض منها، فأقام نحو نصف ساعة مع الأرلندي يسأله أسئلة مختلفة علَّه يقف على شيء من أسرار هذه الحيلة، ولم يهتدِ إلى مراد.

وكان السير بترس توين واقفًا عند باب الغرفة ينتظر خروج الأب صموئيل من عند المريض وهو يحسبه يعترف.

فلما عجز الأب صموئيل عن الوقوف على خفايا المكيدة من الأرلندي، خرج من عنده مصفرَّ الوجه، ولكنه ثابت الجأش مستعد لمقاومة كل ما يتوقعه من الأخطار، فلقيه السير بترس توين قرب الباب، وقال له: تعال معي يا سيدي؛ إذ يجب أن أحدثك في بعض الشئون. فتبعه الأب دون أن يجيبه.

إن كنيسة بول مبنية فوق قمة عالية، وهي مرتفعة البناء بحيث إن المطلَّ منها تظهر له لندرا بجملتها؛ لإشرافها عليها من كل جهاتها.

وقد ذهب السير بترس توين بالأب صموئيل إلى سطح الكنيسة، كما ذهب الشيطان بالسيد المسيح إلى قمة الجبل لإغوائه، فقال له: انظر إلى ما يمتد إليه بصرك.

فقال له الأب صموئيل: لماذا تريد أن أنظر إلى لندرا؟

– إن لندرا سيدة العالم، وهذه الكنيسة التي تقف الآن فوق سطحها سيدة لندرا، إنك يا سيدي لا تزال في مقتبل الشباب، وأنت متوقِّد الذهن، ذكي الفؤاد، فصيح اللسان، لِمَ لا تكون عظيمًا كما تقتضيه نفسك العظيمة؟

فبهت الأب صموئيل، وقال: إني لا أفهم ما تقول.

– لا أسألك أن تنظر إلى ما تحت قدميك، بل انظر هناك، في الجهة الغربية، إلى ذلك القصر الشاهق العظيم، الذي لا يحجبه الضباب عن الأنظار، أَلَا تراه؟

– نعم، فهو قصر لمبث بالاس.

فقال له السير بلهجة العظمة والكبرياء: إن هذا القصر يقيم فيه رئيس طائفتنا، وهو قصر فخيم، وُشِيَتْ جدرانه بالذهب، وبُنِيت سلالمه بالمرمر، إني أقدِّم لك هذا القصر.

فرجع الأب صموئيل خطوة إلى الوراء، ونظر إليه كما نظر السيد له المجد إلى الشيطان حين قال له إني أهبك مملكة الأرض. ثم قال له: أَلِي أنا تريد أن تمنح هذا القصر؟

وقد قال له هذا القول بلهجة المضطرب، فحاول السير توين أن يستفيد من اضطرابه وقال: انظر إلى هذه المدينة الواسعة التي يدعونها لندرا، إنها عاصمة إنكلترا، بل عاصمة ثلاث ممالك، بل هي عاصمة العالم بأسره، فإنك في أي مكان جُلْتَ فيه من المعمورة حتى الصحارى، وفي أي ماء مخرت فيه من البحور إلى الغدران والخلجان، تجد الراية الإنكليزية خافقة تشير إلى ما بلغناه من العظمة.

إن لندرا سيدة البلاد تسود عليها سلطتان إحداهما سلطة النبلاء، والثانية سلطة رجال الدين، فيتولى رئيس الوزراء إحداهما، ويتولى أسقف كنتر بوري عامة الأخرى، أتريد أن تكون يومًا خليفة هذا الأسقف وتصبح رئيس رجال الدين في بلاد الإنكليز؟ إن توقد ذهنك يدل على أن الله إنما خلقك لتكون من قادة الأفكار ورسل الهدى، فلا بد أن تكون نفسًا طامحة إلى العلاء، فدَعْ هذا المذهب العتيق، فقد صدأ لما تعاقب عليه من الدهور، وتخلَّى عن هذه الكنيسة القديمة، وهلم إلينا تجد عندنا ما تطمع فيه من مجد وهناء.

فاستحال انذهال الكاهن إلى احتقار، ولكنه لم يَفُهْ بكلمة، فحسب السير توين أنه تمكَّنَ من إغوائه، فاندفع في حديثه يحاول إتمام الغواية وقال: إنك نشئت على المذهب الكاثوليكي وصرت كاهنًا في عهد شبابك، وخدمت مذهبك بملء الغيرة والإخلاص، فقُلْ لي ماذا لقيت من الفوائد؟ فإنك تعظ أولئك الأرلنديين الفقراء وتعيش فقيرًا مثلهم، وتخدم مبدأهم الذي لا بد أن يكون نصيبه الفشل، أيروق لك أن تفني شبابك وأنت على ما عرفت به من الذكاء في خدمة مبدأ لا رجاء بفوزه، وتنفق العمر معدمًا فقيرًا؟

تعال إلينا تجد الثروة قد فتحت لك أبوابها، والنعم مغدقة عليك من كل صوب، والأماني تبتسم لك أين سرت، فلا يمر بك عهد قريب حتى تصبح أحد ذينك السائدين على لندرا، بل على إنكلترا بأسرها.

وهنا لم يسع الأب صموئيل السكوت، فقال له بصوت مختنق: إذن أنت تسألني أن أستبدل مذهبًا بمذهب؟

فأجابه السير بملء القحة: بل أريد أن تعتقد اعتقادًا راسخًا بأفضلية مذهبنا، وتعتنقه باختيار واعتقاد.

وعند ذلك خطا الكاهن إلى السير توين، فأخذ يده وقال له: اصغ إليَّ يا سيدي كما أصغيت إليك.

وقد انقلب الأب صموئيل فجأةً من حال إلى حال، فاتقدت عيناه بأشعة الغضب وتهدج صوته، حتى إن السير بيترس توين أطرق بنظره إلى الأرض، كأنه لم يطقْ أن يتحمل نظراته.

أما صموئيل فإنه مشى بمحدِّثه خطوة وأراه أيضًا لندرا، فقال له: نعم، لقد أصبت فإن لكم القصور الباذخة الموشاة جدرانها بالذهب، ولكم البحار وما فيها من الجواري والمنشآت، ولكم السيادة التجارية في جميع أرجاء العالم.

إنك أريتني يا سيدي لمبث بالاس والبرلمان ووستمنستر، وأنا أرجوك أن ترسل نظرك إلى أبعد من هذه الأماكن في جهة الشمال، وتطلقه حول تلك المنازل الحقيرة، أَلَا ترى بينها تلك الكنيسة البسيطة التي تدعوها كنيسة سانت جورج؟

إن هذه الكنيسة لنا يا سيدي، وهي تعادل كنيسة القديس بطرس في روما، وإن الهيكل الذي نصلي فيه هو نفس الهيكل الذي كان يصلي فيه الكهنة المسيحيون الأولون منذ ثمانية عشر قرنًا.

وبعدُ، فكيف تحدثني بقدم مذهبنا، ومتى كان طول العهد بالمذهب شأنًا له؟ أَلَا ترى أن شيعتكم قد أسست منذ الأمس، فما مَرَّ بمذهبكم الجديد نصف قرن حتى تشعَّبَ إلى طوائف، وبتم أنتم أخوان تتقاتلون اقتتال الأعداء، يبتدع الزعيم منكم بدعة فيلتف حوله الناس، وفي كل يوم لكم بدعة، أما نحن فليس لنا غير هيكل واحد.

ثم إنكم تضعون في كنائسكم صور عظماء رجالكم من القادة والأمراء، أما نحن فإننا نضع تماثيل زعماء كنيستنا الأقدمين، فإنهم لم يبلغوا هذا المبلغ من الإكرام عندنا إلا لثباتهم في الإيمان.

ومهما يكن من أمر كنيستنا الأرلندية وضعفها، فإنها تثبت ثبوت الجبل الراسخ مهما هبت عليها العواصف؛ ذاك لأن إيماننا خالد أبدي لا يتزعزع.

إنك تريني مملكتكم وقصوركم، وأنا أريك منازلنا الحقيرة المحيطة بكنيستنا الفقيرة، ولكني أقول لك إننا على فقرنا أغنى منكم على ثروتكم، ولو خُيِّرْنا لما رضينا بغير هذا الفقر، فإنه مع إيماننا الصادق خير من مجدكم الباطل.

وكان الأب صموئيل يقول هذا القول بصوت رنَّان يشبه صوت أوتار الأرغن، وقد اتقدت عيناه ببارق من الغضب حتى خشي السير بترس توين أن يعترضه، ولم يجسر على النظر إليه.

أما الأب صموئيل، فإنه وقف في حديثه عند هذا الحد، وأشار إلى السير توين إشارة ملؤها العظمة والكبرياء، فابتعد السير توين من طريقه وخرج الأب مرتفع الرأس شامخ الأنف، فنزل من سلم المنزل إلى الكنيسة ومنها إلى الشارع.

وكان القسيس الذي أتى به لا يزال واقفًا في مكانه ينتظر أوامر رئيسه، فلما رأى الأب صموئيل على هذه الحالة، أيقن أنه قد حدث بينه وبين رئيسه أمر خطير.

وأسرع إلى سطح الكنيسة فرأى السير توين واقفًا متكئًا على الشرفة ودلائل الاضطراب بادية عليه، ولم يشعر بقدوم القسيس، ولم يجسر على مفاتحته بالحديث إلى أن حانت التفاتة من الزعيم ورأى القسيس، وقال له بلهجة الغاضب الحاقد: إن هذا الكاهن بات من ألد أعدائنا فقد فشلت معه، لكني سأسحقه سحق الإناء، وسيكون القتال شديدًا بيننا.

ثم ضم يديه وأشار بهما إلى كنيسة سانت جورج، وقال: الويل لأبناء هذه الكنيسة ولزعيمهم، فسيكون لهم معي شأن تذكره بعدي التواريخ.

٢٤

وَلْنَدَعِ الآن الأب صموئيل خارجًا من الكنيسة، والرجل العبوس ذاهبًا إلى هايد بارك على أمل أن يرى مس ألن، وَلْنَعُدْ إلى جوهان ونيقولا، اللذين كانا يحاولان القبض على العبوس.

فإن بادي تربَّص معهما قسمًا من الليل، ثم قال لهما: إنكما مخطئان، فإن العبوس غير مقيم في القبة.

فقال له نيقولا: أين تظنه مختبئًا؟

– ذلك سري فلا أبوح به.

– ولكننا الآن شركاء، فلا حق لك أن تكتم عنَّا أمرًا إنما اشتركنا من أجله.

فقال له بادي: أرجوك أن لا تستاء مني، وأن تصغي إليَّ، فإني حين لقيتكم كنتُ أنا أيضًا متعهدًا بالقبض على الرجل العبوس، ولكني لم أكن أعمل لأجلي.

– لأجل مَن؟

– لأجل شخص غني قادر أن يدفع أضعاف ما يدفعه البوليس من المكافأة، وقد قلت لكم الآن إني أعلم أين يختبئ العبوس.

– إذن لماذا لا ترشدنا إلى مكانه.

– لا أستطيع أن أرشدكم إليه قبل أن يأذن لي الذي أخدمه، ولا تخشيا خسارة الجائزة، فإنكما ستنالان ضعف ما ترجوان.

وكان بادي يتكلم بلهجة تشف عن الصدق والإخلاص، فوثق به نيقولا وقال له: متى ترى هذا الشخص الذي تخدمه؟

– في هذه الليلة، وأنا ذاهب الآن.

– ومتى نراك؟

– حيث تريدان.

فقال له نيقولا: إذن تجدنا هنا عند ضفة النهر، فإننا سننام في أحد القوارب.

– وأنا سأوافيكما.

ثم تركهما وانصرف.

وقد عرف القرَّاء ما حدث لبادي، فإنه تركهما وذهب إلى المس ألن، ففتح لها الدهليز كما قدَّمناه.

وقد كان بادي أخبرها بما حدث، فأمرته أن يخبر الأب صموئيل بأن البوليس علم مكان الرجل العبوس، وأطلقت سراحه، فغيَّرت بذلك جميع الخطة التي اتفق عليها مع رفيقَيْه.

أما جوهان ونيقولا، فإنهما انتظرا بادي مدة طويلة إلى أن دبَّ النعاس في أجفانهما، فناما في القارب واستيقظا بعد نوم طويل، فلم يحضر بادي مع أنه عاهدهما على الملتقى.

واستاء جوهان واشتدت ظنونه ببادي، وقال لرفيقه: إني أرى غير ما رأيته من هذا الرجل، فهو إما يهزأ بنا أو أنه يخوننا.

فقال له نيقولا: وأية فائدة له من خيانتنا؟

– إنه يخدم الأرلنديين، أَلَا تعلم أين يقيم؟

– إنه يقيم في زقاق من أزقة آدم ستريت.

– إذن هلم نذهب إليه فنقف على الحقيقة.

فوافقه نيقولا، وذهب الاثنان إلى شارع آدم ستريت.

وكانت الساعة التاسعة صباحًا، أي في الوقت الذي أقبل فيه الأب صموئيل لمنزل بادي، فرآه جوهان حين ذهابه، وهزَّ يد رفيقه وقال له: انظر أَلَا ترى الرجل اللابس السواد، أَلَا تعلم مَن هو؟

– إنه الأب صموئيل الأرلندي، بل زعيم الأرلنديين، ولا شك أنه يعرف مقر العبوس، فلِمَ لا نتبعه بدلًا من أن نسير إلى منزل بادي.

فوافقه أيضًا وسارا على بعد بضع خطوات من الكاهن يقتفيان أثره.

ثم رأياه قد وقف عند منزل بادي ودخل، فاضطربا ونظر جوهان إلى نيقولا وقال له: لم يَبْقَ لدي ريب أن بادي يخدعنا، ما زال الأب صموئيل قد دخل إلى منزله.

وبعد هنيهة رأَيَا امرأة بادي وولديه قد خرجوا من المنزل، فمَرَّ جوهان بالمنزل ونظر نظرة الفاحص من إحدى نوافذه، فرآه يصافح بيده يد بادي ويهزها، وقد ظهرت على وجهه علائم الامتنان.

ونادى رفيقه بالإشارة وقال له: انظر أعندك شك بعدُ أنه من الخائنين؟

– ما زال الأمر كذلك فلا بد من عقابه، وهنا تحالف الرفيقان واتفقا على قتل بادي.

ثم انصرفا على أن يعودا في المساء، فإن القتل أستر في الظلام.

وبعد حين، عادت امرأة بادي فجعلت تحادثه بما سيناله من الثروة في خدمة مس ألن، بينما كان جوهان ونيقولا يتآمران على قتله.

٢٥

وَلْنَعُدِ الآن إلى الرجل العبوس، فقد تركناه خارجًا من كنيسة سانت جورج ممتطيًا فرسًا كريمة، وقد بالغ في التنكر حتى إن الأب صموئيل نفسه لم يعرفه إلا من صوته.

وسار بجواده خببًا إلى وستمنستر، واجتاز شارع التلغراف، ودخل إلى الحديقة الملكية عند الظهر.

والعادة في لندرا أن الأشراف يتنزهون في هايد بارك في أواسط النهار، فإذا بزغت الشمس واخترقت أشعتها ضباب لندرا الكثيف، أقبل الفرسان والفارسات إلى تلك الحدائق إقبال العطاش على موارد الماء.

وقد صفا الجو في ذلك اليوم بعد الصفاء، فلما قدم العبوس رأى كثيرًا من الناس قد سبقوه إلى تلك الحدائق الغنَّاء، فجال بينهم واستلفت فرسه أنظار الجميع لندور الجياد الأصيلة في بلاد الإنكليز.

وكان جماعة من الفرسان مجتمعين حين مرَّ بهم العبوس، فاختلفوا بين أن يكون إنكليزيًّا، أو فرنسيًّا، أو أميركيًّا، وكان اختلافهم مؤديًا إلى الرهان حسب عادة الإنكليز، فلا أحَبَّ إليهم من الرهان.

وقد طال خلافهم حتى قال بعضهم: إنه هندي.

وقال آخرون: بل إنه برازيلي.

وكان بينهم شاب يُدعَى البارون إدموند فقال لهم: إني أعرف هذا الرجل، فهو روسي يُدعَى الكونت ر. وهو عاشق مفتون بالمس ألن ابنة اللورد بالمير.

فاعترضه أحد الحاضرين، وقال له: ما هذه القصص التي ترويها يا إدموند.

– إني لا أستنبط، بل أروي الحقيقة، فإنكم تعلمون أن مس ألن أجمل فتاة في بلاد الإنكليز، وقد ردَّتْ كل خطَّابها، وليس فيهم غير الغني النبيل، أَلَا تذكرون حكاية ابن اللورد س. وكيف أنه حاول الانتحار من أجلها في العام الماضي؟

فردَّ أحدهم: بل نذكر أيضًا البارون وليم الذي سفك دمه منتحرًا في سبيل غرامها.

– إذن فاعلموا أن مس ألن سافرت على إثر هذه الحادثة إلى إيطاليا، وأقامت فيها عامين وهنا يبدأ تاريخها.

وقال الجميع: بالله ارْوِ لنا شيئًا من أخبارها.

– أروي لكم ما تعلَّقَ بهذا الروسي، فأنها أقمت شهرًا في موناكوا، وهذه المدينة يزورها كثير من الروسيين كما تعلمون، وخلبت في هذا الشهر عقل الكونت، وأقسمت على أن يتزوجها.

قال أحدهم: أتظن أن هذا الرجل الذي مرَّ بنا هو الكونت الروسي، وكيف تؤيِّد رأيك؟

– بأمر بسيط، وهو أن مس ألن لم تأتِ إلى هايد بارك منذ ثلاثة أشهر، وهي قد أتت اليوم.

وردَّ أحدهم: لقد أصبت، فقد رأيتها الآن داخلة من ويث هال.

وقال آخَر: إن قولك هذا لا يبرهن على شيء.

فاعترض عند ذلك واحد منهم، وقال: إنكم تستطيعون عقد الرهان أيها السادة، وأنا أراهن مع إدموند وأثبت صحة ما قاله.

وكان المعترض فتًى يدعونه المركيز لاكروا، فقالوا له: كيف تُثبِت ذلك أيها المركيز؟

– ذلك سهل ميسور لدي، فإني أذهب إلى مس ألن نفسها وأسألها، فإني من أصدقائها.

وقال له أحدهم ممازحًا: ولكنك لا تتزوجها فيما أعتقد.

– معاذ الله، فإن زوج مس ألن لا يكون زوجًا لها بل عبدًا.

وعند ذلك تراهَنَ الفريقان على ألف جنيه، فقال قسم منهم إن العبوس هو الكونت الروسي عاشق مس ألن، وقال الفريق الآخَر إنه ليس روسيًّا ولا عاشقًا.

ولما تمَّ الاتفاق على الرهان بينهم، لكز المركيز بطن جواده، وسار مقتفيًا أثر مس ألن حتى أوشك أن يدركها، فالتفتت إلى ورائها وعرفته فحيَّتْه وهي تحسب أنه سيمر بها دون أن يكلِّمها، ولكنه حين وصل إليها جعل جواده محاذيًا لجوادها، وقال لها: إني عقدت رهانًا يا مس ألن.

– ما هو هذا الرهان؟

– هو أن الكونت الروسي في لندرا، وأنه الآن في هايد بارك، وقد أتى ليراك.

فابتسمت وقالت: إن هذا الكونت قد هامَ بي في موناكو، ولكنه نسيني الآن دون شك.

– ولكن ذلك محال يا سيدتي، فإنه في لندرا.

– أَلَا يمكن أن يكون أتى إليها لغير مهمة الغرام؟

– ومع ذلك فإنه الآن معنا في هذه الحدائق.

– ألعلك تعرفه؟

– كلا، ولكننا رأينا فارسًا مرَّ بنا لا يعرفه أحدٌ منَّا، غير أن السير إدموند يقول إنه الكونت.

– وأين هذا الفارس؟

– هو الذي أمامك على فرسه الأسود ووراءه خادم.

فنظرت إلى حيث أشار فرأت ذلك الفارس أي الرجل العبوس، فقالت: إني بعيدة جدًّا عنه ولا أرى وجهه، فلا أستطيع أن أعلم إذا كان هو الكونت، فهل تريد أن تصحبني لأدركه؟

– حبًّا وكرامةً يا سيدتي.

ودفعت عند ذلك فرسها، وانطلق انطلاق الريح والمركيز يتبعها، ولكنه لم يركض بها هنيهة حتى أوقفته فجأةً؛ لأنها اقتربت من الرجل العبوس وعرفت فرسه والخادم الذي كان يتبعه.

فانذهل المركيز وسألها: لماذا أوقفتِ الجواد؟

فاصفرَّ وجه الفتاة، ولكنها تجلَّدَتْ وابتسمت؛ إخفاءً لاضطرابها ثم قالت: إنك تعلم يا حضرة المركيز إني غريبة الأخلاق، فأنا أريد منك الآن أن تبقى هنا.

– لماذا؟

– لأني أريد أن أدنو من هذا الرجل وحدي، فإذا كان هو الكونت الروسي أو لم يكن عدت إليك، فتعلم إذا كنتَ خسرتَ الرهان أو كنتَ من الرابحين.

– ليكن ما تريدين.

فتركته مس ألن واقفًا في ظل شجرة، وأرخت لجوادها العنان، فاندفع في إثر الرجل العبوس.

٢٦

أما العبوس فإنه رأى مس ألن تتبعه فدفع جواده مسرعًا إلى أحد أبواب الحديقة؛ كي تقرب المسافة ويسهل عليه الخروج حين الاقتضاء.

وتبعته مس ألن مسرعة أيضًا، وهي بين الشك واليقين في أمره، فإنها وثقت أنه هو بعينه حين رأت الجواد وخادمه، ولما دنت منه وتبيَّنَت وجهه صاحت صيحة دهش، وانذهلت ذهولًا شديدًا حين رأت أنه غير العبوس الذي تعرفه.

ولم يتمالك العبوس عن الابتسام، ونظر إليها تلك النظرات المكهربة، فغضت بصرها وهي تقول في نفسها: لا شك أنه هو بعينه، فإذا كان قد غيَّر وجهه فإنه لم يغيِّر عينيه.

وكان العبوس عند ذلك دنا منها بجواده، وحيَّاها بصوت رخيم كشف النقاب عن تنكُّره؛ إذ عرفته أيضًا من صوته، فقال لها: أسألك العفو يا مس ألن، فإني اضطررت إلى هذا التنكُّر.

فقالت له معجبة: أهذا أنت أيضًا؟

– نعم وسترينني كل يوم إلى أن تحبينني.

ثم سار بجواده بإزاء جوادها، والخادم يسير في إثرهما على مسافة بعيدة.

وأخذ يحادثها من غير كلفة فيقول: ما أجمل هذا اليوم! إنه يشبه أيام الربيع، وما أرق أحاديث الغرام فيه! أليس كذلك؟

ونظرت إليه نظرة احتقار، وقالت له بلهجة المتهكم: أَلَا تزال على ما كنتَ فيه من الجنون.

– ربما.

– إنك أمس مثَّلْتَ دور السَّحَرَة، وأراك اليوم تمثِّل دور الدون جوان، وتحاول استغواء القلوب.

– يعجبني منك هذا التهكم، فإنه يدل على البغض، وإن البغض مقدمة الحب لدى مَن يعرفون خفايا القلوب.

فهزَّتْ كتفيها احتقارًا، وقالت: إنك كنتَ أمس تحت سقف منزلي، فاحترمت حقوق الضيافة، أما الآن فإننا في محل عمومي، ويوجد بالقرب منا نحو عشرين نبيلًا يعتقد بعضهم أنك كونت روسي، وأن هذا الكونت أيضًا من عشَّاقي.

– ماذا تعنين بذلك يا مس ألن؟

– أعني أني إذا أشرتُ إشارةً إلى هؤلاء النبلاء أسرعوا إليَّ، ولا يبقى عليَّ إلا أن أقول لهم إن هذا الرجل الذي لا تعرفونه والذي حسبتمونه نبيلًا …

فقاطعها الرجل العبوس وقال لها مبتسمًا: إنه من أشقياء الناس، وإنه زعيم أولئك الأشرار الذين يتآمرون على إنكلترا، وإنه ذلك اللص الذي أنقذ الغلام الأرلندي من سجن الطاحون، أليس هذا الذي تريدين أن تقوليه يا مس ألن؟

– نعم، فإني أستطيع أن أناديهم وأقول لهم هذا القول.

وأجابها بسكينة: وإنهم من النبلاء كما تقولين، ولكل نبيل الحق بأن يكون بوليسًا عند الاقتضاء، فلا يحتاجون إلى بوليس للقبض عليَّ، إذن اصدري أمرك إليهم، فإني لا أتزحزح من مكاني ولا أحاول الفرار.

– إنك تنذرني كما أرى، ولكن احذر.

فقال لها بلهجة المتهكم: وأنت يا سيدتي، أَلَا تحذرين من أن يقال عنك بأنك ذات علائق مع اللصوص.

– إني لا أبالي بما يكون من سمعتي، إذا بلغتُ غايتي من الانتقام.

– إذن نادي هذا المركيز الذي ينتظرك في ظل الشجرة.

– كلا، بل أريد اليوم أن أكون كريمة أيضًا، كما كنتُ أمس، وفوق ذلك فإن هذا اليوم يوم أحد تُعقَد فيه المهادنات.

– وماذا تخشين مني يا مس ألن بعد أن أرجعت إليك الرسائل التي كتبْتِها إلى ذلك الفتى المنكود؟

وقطبت جبينها، واتقدت عيناها ببارق الغضب، وقالت له: أتجسر أيضًا أن تباحثني في هذه الرسائل، بعد أن حجزتَ واحدةً منها عندك.

فاضطرب العبوس فجأةً، وقال: إن هذا محال يا سيدتي، فقد عددتُ الرسائل التي أعطيتك إياها، فهي سبع عشرة رسالة.

– وأنا كتبت ثماني عشرة.

فقال لها بلهجة تشف على الصدق الأكيد: إني أقسم لك يا مس ألن أني ما وجدت في الضريح غير سبع عشرة رسالة، وإني لا أعلم شيئًا من أمر الرسالة المفقودة، لكني أقسم لك أيضًا أني سأقف على حقيقتها، فإذا كانت موجودة رددتها إليك.

ثم حيَّاها مودِّعًا، وابتعد عنها يعدو خببًا بجواده، فوقفت مس ألن تنظر إليه حتى توارى عن الأنظار.

فقالت في نفسها: إن هذا العدو عدو شريف، وأنا واثقة أن الرسالة ليست عنده، ولكن أين هي؟

وبعد أن توارى العبوس عن أنظارها، عادت إلى المركيز الذي كان لا يزال ينتظرها، فقالت له مبتسمة: يسوءني أنك خسرت الرهان يا سيدي المركيز؛ لأن الشخص ليس الكونت الروسي، فادفع الرهان ولا تَعُدْ لمثله.

ثم تركته ضاحكة، وذهبت في طريق آخَر.

•••

وبقيت تتنزه في الحدائق إلى الساعة الثانية بعد الظهر، فلمَّا عادت إلى منزلها أعطاها الخادم رسالةً باسمها ففضَّتْها، ولم تكَدْ تقف على ما فيها حتى اضطرب قلبها، فإنها كانت تحتوي على الرسالة المفقودة، ورسالة من الرجل العبوس هذا نصها:

إن والدة الفتى حفظت تلك الرسالة على سبيل التذكار، فأرجعتها إليك مع تقديم واجب الاحترام، فاقبليه من ذاك الذي لا بد أن تحبيه.

الرجل العبوس

فهاجت أحقاد مس ألن هياج البراكين النارية، فمزَّقَتِ الرسالتين وقالت: أمَّا الآن وقد بِتُّ لا أخشاك فسوف ترى ما يكون مني، إن الحرب قد بدأت الآن، وسأسحقك سحق الزجاج.

٢٧

إن يوم الأحد في لندرا أقبح أيام الأسبوع، لما يعتري الإنسان فيه من الملل، فإن جميع المخازن والأندية تقفل أبوابها، وتعطل الأعمال بجملتها، وتسود السكينة فيها، فلا تجد في شوارعها غير شراذم من الناس يسيرون الهويناء سكوتًا وجومًا، بعضهم من قبيل التدين احترامًا لذلك اليوم، وبعضهم على سبيل العادة.

ولذلك يعدون هذا اليوم كليلة العاشق لا نهاية لها.

حتى إذا توارت الشمس في الحجاب، واتَّقَدت مصابيح الغاز في الشوارع، وفتحت الحانات أبوابها، تنفَّسَ الناس الصعداء، وخرجوا متهللين مستبشرين فغصت الطرقات، وعادت الأعمال إلى مجاريها، فكانوا كلهم كأنهم في حفلة عيد.

وأخص ما يكون الزحام في شوارع الفقراء، فإن الحانات فيها تفتح أبوابها في الساعة الثامنة، فتغص بالسكارى، ويعربدون على قدر سكرهم، ولكن البوليس يتساهل معهم في تلك الليلة تساهلًا عظيمًا، فلا يقبض على سكير ولا يؤنِّب معربدًا؛ كي لا ينغص على الناس سرورهم بعد ضجرهم العظيم في ذلك اليوم الطويل.

وكان بادي مقيمًا في منزله مع امرأته وولديه في ذلك اليوم، فلما أقبل المساء حنَّتْ نفسه إلى الشراب، وقال لامرأته: إني ذاهب أتنزه قليلًا، فإني مصاب بصداع خفيف.

– ولكن البرد يزيد صداعك؛ لأنه قارص.

– إني أزرر ثوبي فأتقيه.

– أؤثر أن تبقى في المنزل، ولا أدري لماذا؟

– أقول لك الحق، إني كنتُ مصابًا بصداع، ولا أريد التنزه، بل أريد أن أشرب كأسًا مع الإخوان.

– يوجد عندنا إبريق ملآن من البيرا السوداء، فاشرب منه ما تشاء.

– إن الشرب في المنزل لا يلذ كالشرب في الحانات.

فتنهدت امرأته، وقالت: وقد صدق مَن قال فيكم معشر الرجال إنكم فطرتم على العناد.

فتغلَّبَتْ عواطف الجفاء من بادي على عواطف السلام، وقال لها مغضبًا: لماذا تودين أن أبقى في البيت؟ ولِمَ هذا الاستبداد؟

– قلتُ لك لا أعلم.

– أيكفي هذا البرهان السخيف لحملي على الامتثال لك، أم تحسبين أننا خُلِقنا لإرضائكن ولنكون لَكُنَّ عبيدًا؟

– إن قلبي يحدِّثني بحلول مصيبة، وقد ظهر لي من الأب صموئيل أنه غير واثق بك.

ثم لا أعلم ما كانت غاية مس ألن من أمرها لك أن تحذر صموئيل من الكامنين للرجل العبوس.

– وأنا لا أعلم أيضًا، ولا أزال أعد أمرها من الألغاز.

– إنها مثل أبيها، تكره الأرلنديين أشد الكره، فكيف تسعى إلى إنقاذ هذا الأرلندي.

– قلتُ لكِ لا أفهم شيئًا من مقاصدها، حتى إني لا أريد أن أبحث في أوامرها الغامضة، وإني عولت على الخضوع لها، منذ بعتها نفسي بيع السلع.

ثم تركها وخطا خطوة إلى الباب، ولكنها أمسكت ذراعه وأوقفته، وقالت له: اصغِ إليَّ، فلقد قلت لك إنه خُيِّلَ لي أن الأب صموئيل غير أمين معك.

– ماذا تريدين بذلك؟

– أريد أن تبقى في المنزل؛ لأني أخاف عليك من الأرلنديين.

فهَزَّ بادي كتفيه استخفافًا وقال: إذا كان لا بد من الخوف، لا يكون خوفي من الأرلنديين.

– ممَّن إذن؟

– من نيقولا وجوهان.

– لماذا؟

– لأني وعدتهما أن أوافيهما في الليلة السابقة، غير أن مس ألن منعتني من رؤيتهما.

ولكني لا أقابلهما في هذه الليلة، فإني ذاهب إلى الحانة التي بجوارنا، وهما لا يزالان كامنين قرب الكنيسة.

فقالت له بصوت مضطرب: إذن لا بد لك من الذهاب.

– دون شك فقد قتلني الضجر، وسيحييني الشراب.

– بادي، أرجوك أن تبقى.

وقد قالت له هذا القول بلهجة دلال، فخشي بادي أن يؤثر عليه دلالها، فتكلَّفَ الغضب، وقال: لقد لقيت من الضجر منك أكثر ما لقيه الناس من هذا اليوم الثقيل، فدعيني أذهب إلى حيث أشاء، فقد سُجِنتُ شهرًا كاملًا، أتريدين أن تسجنيني أنت أيضًا؟

ثم أبعدها بجفاء، وخرج من المنزل.

فلم يبتعد عنه مسافة قريبة حتى لقيه جوهان، وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟

– إلى خمارة إليزابت، أشرب كأسًا من البيرا.

– إذن هلم بنا، إني رفيقك.

ثم تأبَّطَ ذراعه وسار به، فلم يَرَ الناس بعد ذلك العهد بادي المنكود حيًّا.

٢٨

لقد رأينا كيف كانت امرأة بادي تلح على زوجها بالبقاء في المنزل، وتنتقل معه من التحذير، إلى الضغط، إلى الاستعطاف والالتماس، دون أن تفوز بمراد، فإن النساء مهما بلغ من سلطتهن على الرجل لا يبلغن منه مرادًا متى أصر على قضاء بغيته، ولا سيما إذا كانت بغية السكر أو المقامرة.

فلما خرج بادي من المنزل غير مكترث لامرأته وتوسُّلها، أنامت المرأة ولديها، وجعلت تقرأ في التوراة منتظرة عودة زوجها، وهي تنظر إلى ولديها النائمين من حين إلى آخَر.

ولبثت تقرأ، حتى انقطعت أصوات الناس من الخارج، إشارةً إلى تقدُّم الليل، فزاد اضطراب تلك الزوجة واشتدت هواجسها، فأقفلت توراتها وقامت إلى الباب الخارجي، فوقفت على العتبة تنتظر على أحر من الجمر.

وكانت كلما رأَتْ شخصًا قادمًا حسبته زوجها، حتى إذا مرَّ بها واستمر في سيره، زادت هواجسها، وتمكَّنَتْ منها المخاوف، فإن قلبها كان ينذرها بمصاب أليم.

ولما طال انتظارها دون أن يعود، عولت على أن تبحث عنه في الخمارات التي يختلف إليها.

فدخلت إلى المنزل فتفقدت ولديها، ثم خرجت فأقفلت الباب وسارت في تلك الخمارات تبحث عنه فلم تَجِدْه.

وكانت تسأل عنه السكارى وكلهم يعرفونه، فقال لها أحدهم: إني رأيته ذاهبًا في جهة التميس.

فأيقنت المرأة أنه ذاهب إلى خمارة إليزابيت؛ لأن جيبه كان مفعمًا بالنقود، فآثر هذه الخمارة لغلاء المشروبات فيها.

فذهبت إلى تلك الخمارة، فلم تجده ولم تجد أحدًا يعرفه، ولكنها سألت الحاضرين إذا كان بينهم مَن يعرفه أو رآه.

فأجابها أحدهم: إني رأيته منذ ساعة ذاهبًا إلى كنيسة سانت جورج وهو يتمايل في مشيته كالسكران.

– أكان وحده؟

– كلا، بل كان مع شخصين أظنهما أرلنديين.

وكان هذا الشخص الذي يحدِّثها جوهن، الذي لقي بادي حين خروجه من منزله.

فاضطربت المرأة اضطرابًا شديدًا حين سمعت ذكر الأرلنديين، وخرجت مسرعةً عائدة إلى منزلها، وهي تحسب أنها تجد زوجها فيه، وتقول في نفسها: إن الساعة كانت قد بلغت الرابعة صباحًا، فإذا هو لم يَعُدْ فقد أُصِيب بنكبة لا محالة.

وكانت كلما اقتربت من المنزل شعرت باضطراب في ساقيها وخفوق في قلبها، حتى إذا وصلت إلى مدخل الزقاق الذي يقيمون فيه رأت جماعة من الرجال يتحدَّثون، وعليهم علائم الاهتمام كأنهم يتحدثون بأمر خطير، فدنت منهم مضطربة دون أن ينتبه لها أحد، فرأت الزقاق غاصًّا بالناس، ورأت بينهم نحو عشرة من أفراد البوليس.

وكان البوليس والجماعة واقفين أمام منزلها، فدنت خطوة أيضًا، ثم وقفت منذعرة وقد رعبت رعبًا قويًّا؛ ذلك أنها رأت باب المنزل مفتوحًا، ورأت بعض الناس فيه، ثم سمعت صوتًا لا يمكن أن تنخدع فيه وهو صوت ولدها.

وقبل أن تخطو أتت إليها إحدى جاراتها، فصافحتها وهي تقول: ما هذه النكبة أيتها العزيزة، إنها لا تقبل العزاء.

ولم تكن قد عرفت شيئًا بعدُ، ولكنها علمت كل شيء بعد صراخ ولديها، وكلام جارتها.

فدخلت إلى المنزل، وقد اصفرَّ وجهها، واحمرت عيناها، فلقيت فيه زوجها بادي ولكنها لقيته ميتًا لا حراك فيه.

وقد رأته منطرحًا على الأرض، وولداها حول الجثة يصيحان صياحًا يقطع القلوب، وكان منظر الجثة هائلًا، فإنها كانت مطعونة أربع طعنات اثنتين في بطنه، واثنتين في الكف والوجه.

غير أن بادي لم يُقتَل بهذه الجراح؛ إذ لم يكن بينها جرح قاتل، ولكنه مات مخنوقًا، فإن أثر ضغط الأيدي كانت بادية في العنق.

ثم إن ملابس الميت كانت تدل على أنه دافع دفاع اليأس قبل أن يموت، فإنها مقطَّعة ممزَّقة، كما أن آثار الضغط والجراح الأربعة كانت تشير إلى أن قاتله لم يكن واحدًا بل جماعة.

وكان البوليس الطواف قد عثر حين طوافه ببادي ملقًى في أحد الأزقة وهو مُضَرَّج بدمه، فعرفه واحد منهم وقال: إني لا أعرف اسم القتيل، ولكني أعرف أين يقيم.

ولذلك أتَوا به بدلًا من أن يرسلوه إلى المحل المعين لعرض القتلى.

وكان الناس قد تجمهروا عليهم حين ذهابهم به، فعرفه كثيرون، ولم تمضِ هنيهة حتى انتشر الخبر في ذلك الشارع، وأقبل الناس من كل صوب إلى المنزل.

وكان رئيس البوليس قد حضر في ذلك الحين وباشَرَ التحقيق.

أما امرأة بادي فقد أصيبت بذهول عظيم حين فُوجِئت بهذه النكبة، فأرادت أن تبكي فحُبِس دمعها، وحاولت أن تعول فانعقد لسانها.

وأخذ رئيس الشرطة يسأل مَن كان حوله من الناس عمَّا يعلمون من أمر ذاك القتل الذريع، فلم يجد بينهم مَن يجيبه.

ولكن امرأة بادي لم تلبث أن سمعت سؤال الرئيس حتى حُلَّتْ عقدة لسانها، فدنت من الرئيس وقالت له بصوت مختنق يتهدج: إن قاتله هو الكاهن، فلم يكن لزوجي أعداء.

فقال لها الرئيس وقد حسب أنه وقف على سر الجناية: أي كاهن تعنين يا سيدتي؟

– الكاهن الكاثوليكي.

– أتظنين أنه قاتل زوجك؟

فاتقدت عيناها من نار، وظهرت على وجهها علائم الانتقام الوحشي، فقالت: إذا لم يكن الكاهن قد قتله، فهو الآمر بالقتل دون ريب، وإن رجاله الذين قتلوا زوجي المسكين.

– أوضحي يا سيدتي كل ما تقولينه بالتفصيل، فإن في بلادنا الحرة لا يسلم مجرم من العقاب مهما ارتفع مقامه وعظم منصبه.

فاختنق صوت المرأة وقالت: إن هذا الكاهن الكاثوليكي الذي أتهمه أرلندي، وقد أحسن إلينا مرات كثيرة، فاضطررنا إلى قبول إحسانه مُكرَهين لشدة فقرنا.

فتعجب الرئيس وقال لها: إذا كان ذاك الكاهن قد أحسن إليكم، كما تقولين، فكيف يسيء بعد ذلك الإحسان؟ وأية فائدة له من قتل زوجك؟

– إن زوجي كان مشتركًا مع اثنين بغية القبض على الرجل العبوس، ونيل الجائزة من الحكومة، وقد علم الكاهن بذلك، ولما كان أرلنديًّا وكان الشخص الذين سيقبضون عليه أرلنديًّا، فقد حقد الكاهن على زوجي وأمر أتباعه بقتله فقتلوه.

وكان يوجد كثير من الناس في البيت يسمعون إقرار المرأة، واتهامها الكاهن الأرلندي بالقتل، فصادفت التهمة هوًى من نفوسهم ووافقوا المرأة على أقوالها.

وكان بين أولئك الناس رجلًا لابسًا ملابس السواد، وكان واقفًا بينهم دون أن ينتبه إليه أحد، فلما سمع التهمة اتقدت عيناه بأشعة الفرح، فانسل من بين الجماعة وبرح المكان مسرعًا وعليه علائم الاهتمام.

أما ذلك الرجل فقد كان السير بترس توين، ألد أعداء الأب صموئيل.

أما رئيس البوليس فإنه لما رأى أن التهمة عظيمة، وإنها لاحقة بأحد رجال الدين، أمر بتفريق الناس وإخراجهم من البيت؛ استيفاءً للتحقيق مع المرأة.

فأُخرِجوا جميعهم ووقفوا جماعات متفرقة في الشارع، وجعلوا يتحدثون بهذه التهمة، ويذكرون الأب صموئيل، فيختلفون فيه بين مصدِّق للتهمة وبين مُنكِر لها؛ لأنه كان مشهورًا بالخير ولا سيما بين الطبقة السفلى، فلم يعدم أنصارًا بين أولئك المتجمهرين.

وإنهم على أحاديثهم تلك إذ امتزج بينهم شخص لم يعرفه أحدٌ من قبلُ، فجعل يسأل الناس عن سبب تجمهرهم حتى وقف على الحقيقة، فذهب إلى منزل بادي وقال للبوليس الواقف على الباب: أَلَا توجد جثة قتيل في المنزل، والرئيس يحقق في أمره؟

– نعم يا سيدي، وما شأنك في ذلك؟

– أرجوك أن تبلِّغ الرئيس بأن لدي تعليمات عن هذه الجناية يجب أن أبلغه إياها.

فدخل البوليس إلى المنزل، وأخبر رئيسه بما سمعه من ذلك الرجل، فأمر بإدخاله على الفور.

ودخل الرجل فسأله الرئيس: مَن أنت يا سيدي؟

– إني طبيب ألماني.

– ماذا تُسمَّى؟

– كونار هوزر.

– تقول إن لديك تعليمات عن الجناية، فقُلْ ما تعلمه.

– إني أستطيع أن أُظهِر لك القاتل.

فارتعشت امرأة بادي وقالت: إنك إذا فعلت هذا تباركك نفسي، وتباركك عظام زوجي تحت الثرى.

وقال له رئيس البوليس: إذن أنت تعرف القاتل، فقُلْ لنا ما اسمه.

– إني لا أعرف اسمه يا سيدي ولا أعرفه أيضًا، ولكن إذا أمر سيدي بإجراء ما أطلبه إليه أظهرت صورة القاتل لجميع الناس.

فاستغرب الرئيس كلامه، وقال: إني لا أفهم ما تقول.

– لقد قلت لك يا سيدي إني طبيب، وأنا أشتغل منذ عشرين عامًا في مسألة طبية خطيرة، توفَّقْتُ لاكتشافها، وهي التي لمحت لك عنها الآن.

وكان يتكلم بسكينة ورزانة، تشف عن اعتقاد متين، وتشير على أنه من العلماء الخبيرين، غير أن الرئيس لم يتمالك عن فحصه؛ إذ خشي أن يكون مجنونًا.

فقال له الطبيب مبتسمًا: لا تُطِلْ فَحْصي يا سيدي، فإن ما قلته لك حقيقة راهنة عندي، وسأكشف لك القاتل، وأمثل رسمه لجميع الناس، وأنا لا أسألك أن توقف سير التحقيق أو تمتنع عن القبض على المتهمين بالجناية.

– إذن ماذا تطلب؟

– أطلب أمرًا بسيطًا، وهو أن ترسل هذه الجثة إلى مستشفى القديس بورتولمايو، أو تبقى هنا، ولكن بشرط أن لا يمسها أحد إلى صباح غد.

– وبعد الصباح؟

– أُظهِر لكم القاتل دون شك.

ثم أخذ من جيبه محفظة وأخرج منها أوراقًا مالية قيمتها خمسون جنيهًا، وقال: إن العادة يا سيدي أن يدفع مَن يريد المداخلة في تحقيق جريمة تأمينًا ماليًّا يدل على سلامة قصده، فتفضَّلْ وخُذْ مني التأمين.

فأبى الرئيس أَخْذَها وقال: لا حاجة إليها، أما الجثة فستبقى هنا مكانها بحراسة اثنين من البوليس، وغدًا تفعل ما قلتَ عنه، وأما الحكومة فإنها بالطبع لا توقف تحقيقها بانتظار نتائج أبحاثك.

فانحنى الرجل شاكرًا وانصرف، فما سار بضع خطوات في ذلك الزقاق حتى لقي شخصًا ينتظره، فتأبَّطَ ذراعه وسار وإياه.

٢٩

أما هذا الشخص الذي كان ينتظره فقد كان شوكنج، وقد عرف القرَّاء دون شك أن ذاك الألماني لم يكن غير الرجل العبوس الذي تجاسر على المثول أمام رئيس البوليس، والبوليس يبحث عنه في كل مكان، وقد عيَّن جائزةً لمَنْ يقبض عليه.

وكان السبب في قدوم العبوس إلى الزقاق، أنه كان يسير مع شوكنج مستطلعًا أخبار بادي للوقوف على خديعته للكاهن.

فلما وصل قرب منزله رأى احتشاد الناس، وسمع لغطهم وترديدهم اسم الأب صموئيل، فأمر شوكنج بانتظاره وامتزج بين الناس، وعلم منهم تلك التهمة الهائلة التي يتهمونه بها.

وقد عرف القراء كيف دخل إلى منزل بادي، وكيف خرج منه مزودًا بإذن رئيس البوليس أن يُجرِي امتحاناته العلمية بالجثة.

فلما مشى مع شوكنج لم يجسر شوكنج على مباحثته، لما رأى عليه من علائم الانشغال، حتى إذا وصلا إلى جسر وستمنستر، قال له شوكنج: أتريد يا سيدي أن تجتاز للضفة الثانية؟

– نعم، إذ يجب أن نذهب إلى سانت جيل، لأرى الأب صموئيل، أَلَمْ تسمع ما كان يقول الناس؟

– نعم سمعتهم يتهمونه بقتل بادي، ولكني مطمئن الخاطر عليه، فإنه ليس من أهل الإثم.

– أما أنا فلستُ مطمئنًا، فاصغِ إليَّ الآن، إنهم قتلوا بادي واتهموا الأب صموئيل بقتله، وهي تهمة تتلقَّاها الحكومة بملء الارتياح؛ لأنها تعلم أن الأب صموئيل زعيم الأرلنديين، وهي تقبض عليه بأضعف من تلك التهمة.

– هو ما تقول، ولكنه يثبت براءته.

– ليس هو الذي يستطيع إثباتها، بل أنا، فإني سأُظهِر لهم القاتل.

– وعندها يطلقون سراحه.

– كلا، فإن الحكومة إذا أرادت التسويف في أمر بلغت منه ما تبتغي، فهي تبقي الأب صموئيل في الحبس إلى أن تقبض على القاتل، ولكن البوليس لا يقبض على القاتل، بل يسهِّل له سُبُل الفرار كي يبقيه في الحبس.

– إذن ماذا نعمل؟

– إن رئيس البوليس لم يصدر أمره بعدُ بإلقاء القبض عليه، فيجب أن ننذره كي لا يخرج من الكنيسة قبل ظهور الحقيقة.

– ولكنهم يقبضون عليه في الكنيسة.

– يسوءني منك يا شوكنج أنك تجهل قوانين بلادك، وإني أحتاج أن أعلمك إياها وأنا غريب عنها.

فاعلم أن البوليس في بلاد الإنكليز يحق له أن يقبض على أي شخص في قارعة الطريق ويذهب به إلى المركز، ولا يحق له القبض عليه في منزله إلا بأمر خاص، وأما الكهنة ولو كانوا من الأرلنديين، فلا يحق له القبض عليهم في كنائسهم، مهما عظمت الجريمة، إلا بأمر خاص من وزير العدلية، ولا يستطيع الوزير إصدار الأمر إلا بعد مصادقة البرلمان، فينبغي لذلك يومين على الأقل.

– وفي هذين اليومين؟

– إذا لم يقبض البوليس على المجرم الحقيقي، قبضت عليه أنا.

– إذن أنت تعرفه.

– كلا.

فقال شوكنج بملء السذاجة: إني رأيتك يا سيدي تفعل أمورًا غريبة، أما ما تقوله الآن فوق حد تصوري.

فابتسم العبوس وقال: سترى أعظم من هذا.

ثم استمرا في سيرهما حتى وصلا إلى سانت جيل، وكانت الساعة الخامسة صباحًا، فلقيا الكاهن مستيقظًا يصلي صلاة الفجر.

فدخل إليه العبوس وبقي حتى أتم صلاته، فقال: يجب يا سيدي أن تنزل إلى الكنيسة فلا تخرج منها أبدًا.

فدهش وقال: لماذا؟

– إنك تعرف المدعو بادي.

– دون شك، فإنه هو الذي أخبرني أنهم كامنون لك قرب كنيسة سانت جورج.

– إذن اعلم أن بادي مات قتلًا، وإنهم يتهمونك بقتله.

فتراجع الكاهن مندهشًا، وقد بدت عليه علامات الأنفة والاشمئزاز وقال: أنا!

وعند ذلك سمعوا وقع أقدام عند باب الكاهن، فارتعب شوكنج وقال: إنهم قدموا للقبض عليه.

أما العبوس فإنه استل خنجره، ووقف بين الكاهن وبين الباب يحاول الدفاع عنه إلى آخِر نسمة من حياته.

٣٠

ثم سمعوا صوت وقوع الأقدام على السلم، فتطلَّعَ العبوس إلى الأب صموئيل فرآه يضطرب، فقال له: إنهم لا يبلغون إليك إلا بعد أن يمشوا على جثتي.

فأجاب: رُدَّ خنجرك إلى غمده يا بني، ومعاذ الله أن أرضى أن تسفك نقطة دم لأجلي.

وعندها طرق الباب، فأسرع الأب وقال: مَن الطارق؟

فأجابه صوت من الخارج باللغة الأرلندية: إننا شخصان محتاجان إلى كاهن.

فقطب الرجل العبوس حاجبيه، وأسرع الأب صموئيل ففتح الباب، ودخل شخصان عرف الأب صموئيل أحدهما فقال له: أهذا أنت؟ وماذا تريد؟

فردَّ الأرلندي باكيًا إن امرأتي ولدت منذ أسبوع فمات المولود، وهي الآن مشرفة على الموت، وليس لي مال لإحضار طبيب ولا أستطيع أن أحضر لها غداء، ولا أحب أن تموت دون اعتراف.

فرَقَّ الأب لشكواه وقال: اصبر فإني أذهب معك.

ثم دخل إلى غرفته وتناول ما كان في خزانته من المال اليسير لإنفاقه عليها حين الاقتضاء، وهَمَّ بالخروج.

فاعترضه العبوس قائلًا: أستحلفك بالله أن تصغي إليَّ.

فدهش الأب وقال: ماذا تريد؟

– أريد أن أذهب مكانك لإغاثة تلك المرأة، وأنت تعلم أن لي إلمامًا بالطب، فإذا رأيتها مشرفة حقيقة على الموت، عُدْتُ إليك وذهبتُ بك إليها غير مكترث بالأخطار.

– كلا، يجب عليَّ الذهاب حيث يدعوني الواجب.

– غير أن قلبي يحدِّثني بأنها مكيدة نُصبت لك، وأن أعداءنا قد رشوا ذينك الرجلين.

– ذاك محال، فإني أعرف أحدهما حق المعرفة، ومهما يكون الأمر يجب عليَّ الذهاب.

ثم أفلت منه، وقال للرجلين: سيرا أمامي، فإني في إثركما.

فقال العبوس: ونحن أيضًا نسير معكم.

ثم أشار إلى شوكنج أن يتبعه، فخرج الأب والرجلان، وسار العبوس وشوكنج في إثرهما على قيد بضع خطوات.

وفيما هما سائران قال العبوس لشوكنج: أظننتني مخطئًا باسترسالي إلى المخاوف، فإن رئيس البوليس لم يتمم تحقيقه بعدُ، ومتى ذهب إلى منزله ينام، فلا يصدر الأمر بإلقاء القبض على الأب صموئيل إلا قرب الظهر.

– أتظنه يستطيع الرجوع إلى الكنيسة قبل صدور الأمر؟

– نعم، وهو بعيد عن الخطر إلا إذا حدث ما ليس في الحسبان.

وفيما هما سائران ضغط الرجل على يد شوكنج، وقال له بصوت منخفض: ما هذا؟ انظر إلى الرصيف.

– إني أرى ثلاثة رجال من أفراد البوليس يتحدَّثون همسًا، ولكن تلك الأمور مألوفة.

– ولكني أرى غير رأيك، فقد رابني اجتماعهم.

وكان الأب صموئيل يسير مستعجلًا والرجلان يتقدمانه، فلما وصلوا إلى حيث كان أفراد البوليس اعترضهم الجنود، ودنا أحدهم من الكاهن فقال له: مَن أنت؟

– أنا الأب صموئيل.

– أأنت كاهن كنيسة سانت جيل؟

– نعم.

– إذن، سأُلقِي القبض عليك باسم الشرع، وبأمر ناظر العدلية، فتفضَّلْ واتبعنا.

وهنا وجف قلب شوكنج وصاح صيحة ذعر، فضغط الرجل العبوس على يده، وقال له: لا تَفُهْ بكلمة؛ إذ يجب علينا إنقاذه، ولا يفيد العنف في هذه الأحوال، بل إن الغنيمة بالفرار.

ثم أخذ بيد شوكنج ودخل به زقاقًا ضيقًا، وتوارَيَا عن الأنظار.

٣١

وقد أشكل على العبوس صدور الأمر إلى البوليس بالقبض على الأب صموئيل، في حين أن التحقيق في مقتل بادي لم يكد يتم، على أننا نوضِّح للقرَّاء كيف كان ذلك، وكيف كان العبوس مصيبًا بمخاوفه على الكاهن فحذَّره من الأرلنديَّيْن اللذين قَدِمَا في طلبه.

يذكر القرَّاء أنه حين كان الناس متجمهرين في منزل بادي يتهم معظمهم الأب صموئيل بقتله، كان بينهم بترس توين، وأنه لم ينتبه إليه أحد منهم على جلالة قدره وعلو مكانته بين الإنكليز.

ويذكر القرَّاء أن مس ألن أخبرت السير بترس توين حليفها بما قاله لها بادي: إن الرجل العبوس مختبئ في كنيسة سانت جورج، وأنه يبيت في قبة جرسها.

ولم يكن ذاك الزعيم القوي ناقمًا على الرجل العبوس بل على الأب صموئيل، فسُرَّ للخبر وقال في نفسه: إن الأب صموئيل لا بد أن يزور الرجل العبوس لما بينهما من العلائق، ولذلك يجب تعيين الرقباء قرب تلك الكنيسة كي أعرف مواعيد زياراته.

فلما عيَّنَ الرقباء ذهب قبل انسدال الظلام إلى وكيل العدلية، فاستقبله الوكيل خير استقبال.

وعند ذلك قال له بترس توين: إني أستطيع أن أسلِّمكم الشخص الذي تبحث عنه الحكومة، ولكني أشترط لذلك أن تعطيني أمرًا بالقبض، وتَدَع فراغًا في محل اسم الشخص الذي يُقبَض عليه.

فاعترضه الوكيل قائلًا: إن الشرائع الإنكليزية لا تُجِيز مثل تلك الأمور.

فقال له بترس: إننا لا نستطيع القبض على الرجل العبوس إلا إذا قبضنا على شريكه.

– مَن هو شريكه؟

– كاهن كاثوليكي يُدعَى الأب صموئيل.

– كيف تُثبِت اشتراكه مع العبوس؟

– إنك تعلم أن مَن كان مثلي لا يستخف بالشرائع، ولا يُقدِم على مثل هذه الأمور إلا بعد التثبت، إذا كنت أسألك أمرًا بالقبض فما ذلك إلا بعد وثوقي من عدالة المطلب، وأنه قانوني لا اعتراض عليه.

فقال الوكيل: ولكن هناك أمرًا لا يمكن مخالفته، وهو أننا لا نستطيع القبض على كاهن في منزله إلا بأمر ناظر العدلية.

– ولكن لا أقبض عليه في منزله ولا في كنيسته، بل في الشارع، وليس في ذلك ما يمنعه القانون.

وما زال الاثنان يتجادلان حتى أفحم الوكيل، فكتب الأمر ووقَّعَ عليه وأعطاه إياه، فأخذه بترس توين وخرج به يحسب أنه ملك الدنيا لفرط حقده على الأب صموئيل.

ثم سار إلى الجهة التي أقام فيها المراقبين لتفقدهم، مَرَّ بجهة منزل بادي ولقي الناس محتشدين وسمع منهم أن بادي قد قُتِل، وأن امرأته تتهم الأب صموئيل فغيَّر كل مشروعاته السابقة، وانسحب من بين الجمع وذهب إلى أحقر شارع يقيم فيه أفقر الأرلنديين، وهناك لقي ذينك الرجلين الأرلنديين فأغواهما بالمال، وأرسلهما إلى الأب صموئيل، وأبلغ البوليس صورة الأمر بالقبض عليه، فامتثل وكمن له كما وصفناه.

أما الأب صموئيل حين رأى البوليس قد تعرض له، أيقن بصدق ظن الرجل العبوس، ولكن بعد فوات الأوان، قال للبوليس القابض عليه: لماذا قبضتم عليَّ؟ وبماذا اتهمتوني؟

– بجناية قتل.

فأطرق برأسه إلى الأرض، وقال: إني بريء مما أنا متَّهَم به، ولكني أتبعكم إلى حيث تريدان، إلى أين تذهبان بي؟

– إلى حبس نوايت.

فنظر الأب إلى حواليه باحثًا عن العبوس وشوكنج، ولكنه لم يرهما، فإنهما توارَيَا عن الأنظار.

٣٢

وسار الجنود بالأب صموئيل إلى الحبس الخاص بالذين يرتكبون الجنايات الكبرى، فدهش مدير الحبس حين رآه؛ لأنه كان يعرفه، لا سيما حين عرف أنهم يتهمونه بالقتل، فأيقن أنه بريء وأن في الأمر خديعة أو سوء ظن، غير أنه فحص الأمر بالقبض عليه، فوجده صريحًا لا يحتمل التأويل، بحيث إنه لم يجد بدًّا من سجنه، فسجنه في خير غرفة من غرف الحبس واعتنى به كل الاعتناء.

أما الأب صموئيل فإنه كان راضخًا لأحكام القدر، وكان يعتقد أن براءته لا بد أن تظهر فيرتاح باله، ثم يتذكر أن له عدوًّا قويًّا قادرًا يُدعَى بترس توين فيخاف.

ولم يكن خوفه على نفسه، بل على أولئك البؤساء الذين كان يعولهم بما يجمعه لهم من أهل البر والإحسان.

وأقام في ذلك الحبس ثلاث ساعات، ثم فتح باب سجنه ودخل إليه المدير وصافحه بيده، وقال له مبتسمًا: لقد أرسلوا إليَّ أوراق التحقيق بأمرك، ووقفت على تفاصيل التهمة، فسرَّني أنك ستخرج بريئًا بإذن الله، فإنهم يتهمونك بقتل إنسان يُدعَى بادي، والذي يتهمك امرأة القتيل دون سواها، وليس لديها شيء من البراهين. لا بد من تبرئتك.

– هذا ما أرجوه، إنْ مَن كان مثلي لا يرتكب جرائم القتل.

– وسيذهبون بك الآن إلى القاضي، ويوقفونك أمام جثة القتيل، والمرجح لديَّ أنهم سيطلبون إليك ضمانة مالية ويطلقون سراحك.

فهزَّ الأب رأسه أسفًا وقال: إن مقدار الضمانة في مثل هذه المواقف يكون عظيمًا، وهيهات أن أظفر به، فلا بد لي في الحالين من البقاء في الحبس.

– المروءة لا يُعدم أبناؤها، فستجد مَن يدفع عنك المال.

ثم أخرجوه من الحبس فوضعوه في مركبة، وساروا به إلى منزل بادي حيث كان رئيس البوليس.

وكانت الجثة لا تزال في موضعها، فإن الرئيس قد وفَّى بما وعد به الرجل العبوس.

وكان كثير من الناس محتشدين عند باب المنزل، فلمَّا أنزل الكاهن من المركبة استقبله بعض الأجلاف بالشتم واللعن، واستقبله آخَرون بالهتاف، فاختلطت الأصوات حتى لم يُعرَف القادح من المادح.

أما الأب فإنه دخل إلى المنزل غير مكترث بما لقيه، فكان ثابت الجأش بادي السكينة، ولما رأته امرأة بادي زأرت زئير الوحوش، وهمَّت بالانقضاض عليه وهي تقول: تبًّا لك من قاتل سفَّاك.

إلا أن البوليس حال بينها وبينه، وأعادها إلى موقفها، فكانت تنظر إليه ولهيب الانتقام يتَّقِد من عينيها.

أما الكاهن فنظر إليها نظرة المؤنب، وقال لها: أتحسبين أني أنا سفكت دم الرجل الذي كنت أساعد امرأته وابنته؟

فأطرقت المرأة رأسها إلى الأرض اتِّقَاءً لنظراته، ثم قالت: إنك إذا لم تكن أنت القاتل فقد قتله أحد رجالك بأمرك.

– إنك منخدعة يا سيدتي.

– إن زوجي لم يكن له أعداء، فمَن يكون قاتله غير أحد الأرلنديين؟

وكان البوليس يحول دون دخول الناس إلى المنزل، غير أنه لما أتى القاضي وكان النظام بأن تكون المحاكمة علنية أمر بإدخال الناس، فدخلوا أفواجًا، وكان بينهم رجل دَنَا من المرأة، وقال لها: اطمئني يا سيدتي، سأُظهِر لكِ القاتلَ في أقرب حين.

وعرف رئيس البوليس هذا الرجل الذي أوهمه أنه طبيب ألماني، وما هو إلا العبوس كما قدَّمناه.

وكان يصحب العبوس شخصان يحملان آلة مغطاة بجوخ أخضر، فقال له الرئيس: ما هذا؟

– هي الآلة التي أخبرتك أني سأكتشف بها القاتل.

ولما سمع الكاهن صوته عرفه فارتعش، أما العبوس فإنه عاد إلى محادثة رئيس البوليس فقال: إنك سترى يا سيدي دون شك من لهجة الكاهن أنه بعيد عن مواقف التهم، وأن هذه التهمة باطلة، أَلَا ترى أن تطلق سراحه بضمانة حسب المعتاد؟

– سنفعل ذلك متى أظهرت لنا القاتل كما وعدت.

وعند ذلك دخل اثنان إلى المنزل، أحدهما فتاة مرتدية ملابس بسيطة يحسبها الناظر إليها لأول وهلة أنها من عوام الناس، والآخَر متَّشِح بملابس سوداء لم يكد الكاهن يراه حتى علم أنه السير بترس توين، فتأكَّدَ أنه هو الذي نصب له هذه المكيدة لما بينهما من الأحقاد.

أما الفتاة فقد عرفتها امرأة بادي، إذ كانت مس ألن نفسها، فانذهلت وحاولت أن تكلمها، ولكنها وضعت سبابتها على فمها بغية إسكاتها، وحوَّلَتْ نظرها عنها إلى ذلك الطبيب الألماني، ولم تَكَدْ تراه حتى بدت على وجهها آثار الاضطراب، وكان الرجل العبوس قد رأى هذا الاضطراب منها، فقال في نفسه إنها عرفتني.

ولكنه لم يكترث لها ودنا من الآلة، فأزاح عنها غطاءها الأخضر، فانكشفت آلة تصوير شمسي، فانذهل الحضور وجعلوا يتساءلون ما عساه أن يصنع بهذه الآلة.

٣٣

ولقد قلنا إن الرجل العبوس لم يكترث لمس ألن حين تأكَّدَ أنها عرفته، والحقيقة أنه تظاهَرَ بعدم الاكتراث، إلا أن قلبه كان يخفق خفوقًا شديدًا، فإن هذه الفتاة كانت تستطيع بعد أن عرفته أن تخطو خطوة إلى القاضي، وتهمس كلمة في أذنه فيقبض عليه.

غير أنها لم تفعل شيئًا من ذلك، حتى إنها لم تكلِّم السير بترس توين بشأنه، ولا ندري إن كان ذلك مروءة منها، أم أنها كانت تريد أن تصبر إلى النهاية كي تعلم ما يريد أن يصنعه بالآلة.

ولم يكن خوف العبوس على نفسه بل على الأب صموئيل، فإنه إذا لم يكشف القاتل وقعت التهمة على الكاهن، وأعيد إلى سجن نوايت.

ولذلك تلبس بلباس الصبر فطرد الخوف من نفسه، وأسرع إلى القاضي فقال له: أرجوك يا سيدي أن تأمر بإيقاف الجثة، وإسنادها إلى الجدار، بحيث يكون وجه القتيل إلى جهة الآلة.

فقال له: ماذا تريد أن تصنع؟

– إني ضعيف التعبير باللغة الإنكليزية يا سيدي، وسيظهر لك من فعلي أكثر ما يظهر من قولي.

فأمر القاضي جنديين أن يفعلا ما سأله الطبيب، ففعلا.

فأخذ الرجل العبوس عند ذلك زجاجة من جيبه تحتوي على سائل لا لون له كالماء.

وسأله القاضي: ما هذا؟

– سائل البيلادونا، وسوف ترى ما أصنع بها.

ثم دنا من بادي ففتح عينيه اللتين أغمضهما الموت، وصبَّ فيهما بضع نقط منها.

وكان السكوت سائدًا بين الناس يكادون يحبسون أنفاسهم، حتى إن امرأة بادي نفسها أوشكت تنسى أحزانها لانذهالها مما كانت تراه.

والتفت العبوس إلى مس ألن فرأى وجهها قد اصفرَّ، ورأى أنها مهتمة أكثر من جميع الحاضرين بما يفعله، فنظر إليها تلك النظرة السحرية، فغضت بصرها ولم تستطع مقاومة نظراته.

وربما كانت هذه النظرات قد أثَّرت عليها في ذلك الحين، فإنها كانت قادرة أن تزج هذا الرجل في أعماق الحبس بكلمة واحدة تصدر من فمها.

وفيما هم على ذلك، دخل رجل ظهرت عليه علائم الاهتمام أكثر من سواه، فقالت امرأة بادي حين رأته: هذا هو جوهان، وقد رأى زوجي في ذات الليلة التي قُتِل فيها.

فتطاولت الأعناق إلى جوهان، وقال: نعم، إني رأيت هذا المنكود ذاهبًا إلى الخمارة، ولو توقَّعْتُ له مثل هذه النكبة لما فارقته لحظة، فقد كان من أخلص إخواني، ثم مسح دمعة سالت فوق خده.

أما الرجل العبوس فإنه بعد أن قطر من ذلك السائل في عيني بادي عادتا إلى الانطباق، فوقف أمام الجثة يراقبها وهو بعيد عنها والناس كلهم ينظرون.

وعند ذلك صاحت امرأة بادي صيحة دهش عجيبة، وقالت: رباه! ماذا أرى؟ ألعل زوجي قد قام من الموت؟

ذلك أن العينين قد فتحتا من تلقاء نفسهما، فذهل جميع الحاضرين نفس ذهول امرأة بادي، وحسبوا ذلك من خوارق العجائب.

وهمت امرأة بادي أن تدنو من الجثة، فاعترضها العبوس قبل أن تصل إليها، وقال لها متلطفًا: إن الأموات لا يحيون يا سيدتي ولا يرد إليهم الحياة غير الله، والذي ظهر من عيني زوجك إنما كان من تأثير البيلادونا فيهما، فإن هذا السائل إذا قطر في العينين اتسعت الحدقة حتى يضيق عنهما الجفن، فأرجوك أن تبقي في مكانك ولا تعرقلي عملي.

فامتثلت المرأة، وأخذ الرجل العبوس الآلة التصويرية ووضعها بإزاء الجثة، وأخرج الرجلان اللذان كان يصحبانه قنانيَّ محتوية على سوائل يستعملها المصوِّرون.

وكان قرب تلك الغرفة التي كانوا فيها غرفة مظلمة، فأمر العبوس الرجلين أن يُدخِلا الصندوق والزجاجات إلى تلك الغرفة، ثم بسط الغطاء فوق الآلة، وصوَّبها إلى وجه بادي وغطى رأسه بالوشاح، وبعد عشر ثوانٍ أزاح الوشاح عن رأسه، وأخرج من الآلة قنينة دخل بها مسرعًا إلى الغرفة المظلمة واحتجب عن أنظار الناس.

وهنا زاد عجب الناس، ولم يكن بينهم مَن يعلم مراده، حتى إن القاضي نفسه كانت تظهر عليه علائم الانذهال.

وبعد حين خرج العبوس فرآه الناس مضطربًا، والعهد به أنه هادئ، فمشى إلى رئيس البوليس وقال: أسألك يا سيدي أن تأمر بإقفال باب المنزل، ولا تَدَع أحدًا من الحضور يخرج منه.

وزاد اضطراب الناس لهذا القول، وأمر الرئيس أن يقفل الباب، فاصفرَّ وجه مس ألن ونظرت نظرة قلق إلى السير بترس توين، وكان عدد الموجودين في المنزل يبلغ ثلاثين بينهم جوهان.

٣٤

وكان البوليس قد أحكم إقفال باب المنزل، فلم يستطع أحد الخروج منه، وقد ظهرت علائم القلق على الجميع ما خلا العبوس، فإن السكينة قد عادت إليه، فالتفت إلى القاضي وقال: إني أسألكم المعذرة يا سيدي فقد أطلتُ انتظارك، ولكني فزت فوزًا بمهمتي أتى أعظم مما كنت أتوقعه، فإنني لم أكتشف القاتل فقط، بل إني أثبتُّ أنه موجود هنا بيننا.

وكان لهذه الكلمات وقع شديد على الجمهور، حتى إن واحدًا بينهم رجع من الصف الذي كان فيه إلى الصف الذي كان وراءه.

وعاد العبوس إلى مخاطبة القاضي، فقال: إن هذا القتيل المنكود كانت آخِر نظراته إلى قاتله، فانطبعت صورته في إنسان عينه، كما انطبعت الحادثة كلها بتفاصيلها الأخيرة.

وقد صوَّرْتُ عينَيْ المغدور فظهرت على الزجاجة صورة المجرم والحادثة والمكان الذي حدَّثَتْ فيه الجناية.

فاندهش القاضي وقال: أهذا من الممكنات؟

– ليتفضل سيدي القاضي، وَلْيأتِ معي إلى هذه الغرفة المظلمة، يجد كل ما قلته له أكيدًا لا ريب فيه.

فوافقه القاضي ودخل الاثنان إلى تلك الغرفة، فساد السكون على الجمهور، وكان حزنهم لا يُوصَف.

أما العبوس فإنه أغلق باب الغرفة، وصبَّ على الزجاجة بعض السوائل وعرضها على القاضي، وحدَّق بها القاضي وهو يوشك أن لا يصدِّق عينيه؛ إذ رأى رسم عيني بادي، وقد طُبِع على العين اليمنى شخص قابض على عنق شخص، وكان المجرم واقفًا مُشهِرًا خنجرًا يقطر من دم ذلك المنكود، وهو ينظر إلى جثته نظر الفائز المنصور.

فقال العبوس للقاضي: كيف رأيت يا سيدي؟

– أرى أنك أفدتنا فائدة جليلة بهذا الاكتشاف.

– إنك رأيت رسم المجرم يا سيدي في هذه الصورة، فإذا أظهرته لك أمام الجمع أتعرفه؟

– دون شك فإن الصورة ظاهرة تمامًا.

وخرج الاثنان من الغرفة المظلمة إلى الغرفة المجتمع فيها الناس، فجلس القاضي في مجلسه.

وأجال العبوس نظره بين الحضور، فرأى مس ألن لا تزال في موقفها، وهي وحدها التي عرفته بين الجمع، فقال في نفسه: إنها لم تفضح أمري بعدُ.

وهو لا يعرف السير بترس توين، ولكنه عرف أنه العدو الألد للأرلنديين، فلم يكترث لهما ومشى خطوة إلى الأمام وهو يقول: إن المجرم بينكم. ثم وثب وقبض على شخص وقال: هذا هو.

وكان هذا الشخص جوهان فصاح صيحة منكرة، وحاول أن يتخلَّص من العبوس، غير أن العبوس انتزعه من بين الجمع ودفعه دفعة شديدة، فانقلب تحت قدمَي القاضي.

أما القاضي فإنه تطلَّعَ تطلُّع المشمئز الآنِف المستنكر، وتأمَّلَ وجهه فوجد أنه ينطبق على الرسم الذي رآه فوق الزجاجة منطبعًا في عيني بادي.

وأما امرأة بادي فإنها اضطربت حين رأته، وقالت: نعم، نعم، لا بد أن يكون هو القاتل.

وهنا ضاع رشاد جوهان؛ لأن غرابة اكتشاف الجريمة ضعضعت صوابه، بحيث لم يقوَ على الإنكار فقال: نعم، أنا هو القاتل … إن بادي قد خاننا فانتقمت منه.

ثم قصَّ على القاضي كل الجريمة بتفاصيلها، وكيف أنه خدعهم حتى اضطر إلى قتله، وكيف سار به إلى زقاق مقفر، وطعنه بخنجره ثم قضى عليه خنقًا.

وكان قد تحمَّس لذكر الانتقام، فأراد أن يزيد الجريمة إثباتًا فجرَّدَ خنجره، وهو لا يزال مصبوغًا بدم بادي وألقاه على الأرض أمام القاضي، وهو يقول: هذا هو الخنجر الذي طعنته به فافعلوا بي ما تشاءون.

فأمر القاضي الجنود بالقبض عليه، والتفت إلى الأب صموئيل فقال: إن براءتك قد ظهرت يا سيدي، فأنت الآن حر.

فشكره وهَمَّ بالخروج، ولكنه قبل أن ينصرف رأى السير بترس توين قد دنا من القاضي وقال: إنك تتجاوز حد سلطتك يا حضرة القاضي.

فاندهش القاضي وقال: كيف ذاك؟

– لأن الأمر بالقبض على هذا الكاهن موقَّع عليه من دار العدلية، ولا يحق لك نقضه.

– لقد أصبت، ولكنني أستطيع إطلاق سراحه بضمانةٍ إلى أن يُحاكَم المجرم، وعندها يحضر إلى المحكمة ويثبت براءته، فإنها جلية واضحة كما رأيت، لا سيما وأن المجرم الحقيقي لا يعرفه كما هو ظاهر، وهذا ما يدل على أن المجرم المعترف لا شريك له بالجريمة.

وقال جوهان مؤيدًا كلام القاضي: كلا، ليس لي شريك في الجريمة، ولا أعرف هذا الكاهن.

– وأنا أيضًا أؤيِّد ما قلته من وجوب إطلاق سراحه بضمانة مالية.

فدنا الأب صموئيل عند ذلك من القاضي، وقال: إني يا سيدي شديد الفقر لا أستطيع أن أدفع لك شيئًا.

فكثر الهرج بين الناس لهذا القول، وعند ذلك خرج من بينهم عبد أسود أبيض الشعر، فدنا من القاضي وقال: إني يا سيدي مستعد لأن أدفع عن هذا المحترم أية ضمانة.

أما هذا العبد فقد كان لابسًا خير الملابس، فحسبه الناس سفيرًا لإحدى الجمهوريات الأميركية.

٣٥

أما هذا العبد فلم يكن إلا شوكنج، فَلْنبسط للقراء الآن كيف وُجِد في منزل بادي مستعدًّا لدفع المال، عائدين إلى الوقت الذي قُبِض فيه على الأب صموئيل، فهرب الرجل العبوس وشوكنج وذهب الاثنان إلى شارع ليستر، ثم عطفا منه على شارع جيرارد وهو شارع يقيم فيه كثير من الفرنسيين.

وكانت الساعة الخامسة صباحًا، ولا يزال الناس نيامًا، فقال العبوس لشوكنج: هلمَّ معي إلى هذا المنزل، فإنه أحد منازلي الكثيرة التي أخبرتك عنها.

ثم أخذ مفتاحًا من جيبه، ففتح باب منزل في الشارع ودخل يتبعه شوكنج، وصعدا إلى الدور الثالث.

ووقف عند باب مكتوب عليه هذه الكتابة «ساجون فرنز مصور شمسي» وقرع الباب.

وبعد هنيهة سمع صوت من الداخل يقول: مَن القادم؟

فأجابه الرجل العبوس من الخارج: إن أشعة الشمس خير مساعد للمصوِّرين.

وكانت هذه الكلمة رمزًا اصطلاحيًّا بين الأرلنديين دون شك، فإن الباب فُتِح في الحال وظهر منه رجل في مقتبل الشباب، وعيناه تدلان على أن النعاس لا يزال متمكنًا فيه.

فقال له العبوس باللغة الفرنسية: إني لم أَزُرْكَ منذ عهد بعيد، وقد زرتك اليوم مبكرًا.

ففرك المصور عينيه، وقال: كل التبكير، كم الساعة الآن؟

– الساعة الخامسة.

– إنك خير قادم في أية ساعة أتيت، ولا سيما في هذه الأيام.

– ألعلك تريد أن تقول إن المال قليل لديك؟

– بل غير موجود.

– لا بأس، فخُذِ الآن هذه الجنيهات العشرة، فيسِّرْ بها أمرك، وإني أطلب منك أن تعيرني آلة التصوير التي عندك لبضع ساعات.

– أَتصوِّر بها قبل أن تشرق الشمس؟

– كلا، فإني محتاج إليها في الساعة العاشرة.

– أين تريد أن أرسلها؟

– إلى خمارة شونت في شارع سوتوارك.

– إذن أذهب بها بنفسي.

– لا حاجة إلى أن تحضر أنت، فأرسل بها اثنين من عمَّالك، والآن عُدْ إلى فراشك فإني منصرف.

ثم تركه وخرج مع شوكنج، فاستوقف مركبة وأمر سائقها أن يذهب بهما إلى همبستاد.

فتنهَّدَ شوكنج وذكر تلك الليلة التي جعله فيها العبوس لوردًا عظيمًا، فمرَّتْ مرور الأحلام.

وأدرك العبوس سرَّ تنهُّده، وقال مبتسمًا: سأرد لك مجدك السابق، وأجعلك أعظم من اللورد.

وما زالت المركبة سائرة بهما حتى وقفت عند منزل في همبستاد، فدخلا إليه وخلا الرجل العبوس بشوكنج في غرفة فخمة، وقال له: أتعلم ما أنا صانع بك الآن؟

– كلا، ولكني لا أبالي فقد تعوَّدْتُ عجائبك.

– إني أريد أن أجعلك عبدًا أسود، وأصبغ وجهك ويديك وكل ما يظهر للعيون من جلدك بلون الأبنوس.

فصرخ شوكنج قائلًا: أأنا أكون من العبيد؟

فلم يحفل به وقام إلى خزانة، فأخرج منها بضعة وسامات تُبهِر الأنظار، وقال: سأضع فوق صدرك أيضًا هذه النياشين.

فخفَّ وِقْرُ السواد على شوكنج، وجعل ينظر إلى هذه النياشين نظرة المتعجب.

فقال العبوس: ولكن أتعلم ماذا يكون اسمك؟

– كلا، ولكني أريد اسمًا ينطبق على هذه الوسامات الكثيرة.

– بل هو أعظم منها، فإنك تُدعَى «دون كريستوفور إيمتدز إيكوردوفا إبسنتافيا إيبوغوتا».

فضحك شوكنج وقال: ما هذا الاسم الطويل، أيمكن أن يكون من أسماء البشر؟

– إنه اسم رجل من نبلاء أهل البرازيل، وأنت الآن من كبار موظفي حكومة الأرجنتين، فاحفظ اسمك واحذر أن تنساه.

فجعل شوكنج يكرِّر هذا الاسم الغريب، وخرج الرجل العبوس هنيهة، ثم عاد بإناء فيه صباغ أسود وإسفنجة، وصبغ بها وجه شوكنج ويديه وعنقه، وألبسه ملابس البرازيليين، وزيَّن صدره بتلك الوسامات اللامعة.

فأخذ ينظر إلى المرآة معجبًا بشكله، وقد تعزَّى بلقبه الجديد عن لقب اللوردية القديم.

أما العبوس فإنه تركه أمام مرآته وذهب إلى الخزانة، فأخذ منها محفظة تكدَّسَتْ فيها الأوراق المالية ودفعها إليه.

فبهت وقال له: ما هذا؟

– هي أوراق مالية، تبلغ قيمتها ألفَيْ جنيه، أريد أن تضعها في جيبك.

– لأية غاية؟

– سأخبرك بغايتي، فاجلس الآن وأصغِ إليَّ.

فجلس ممتثلًا، ولكنه احتال كي يكون مجلسه أمام المرآة، فلا يُحرَم التطلُّع إلى تلك النياشين التي يزدان بها صدره.

٣٦

فلم يتمالك العبوس عن الضحك لما رآه من غرور شوكنج وخيلائه، فقال له: لا بد أن تكون علمت يقينًا أني لم ألبسك هذه النياشين، ولم أمنحك اللقب الرنان كي تُعجَب بمشاهدتها في مرآتك.

فخجل وقال: دون شك، وأنا أنتظر أوامرك.

– لقد قلت لك إني سأكتشف قاتل بادي، ولكن تذكر ما قلته لك منذ ساعتين، وهو أنهم إذا قبضوا على الأب صموئيل، فإنهم قد يبقونه في الحبس، ولو تأكدوا من براءته، وقد رأيت كيف أنه لم يكترث للأخطار، وخاطَرَ بما نبَّهْتُه منه في سبيل الواجب، فسقط في الفخ الذي نُصِب له؛ ولذلك فقد وجب علينا إنقاذه.

– وهو ما أرجوه، وفي اعتقادي أنك قادر على كل شيء.

– إذن، خُذْ هذه المحفظة المالية واتبعني، فقد يتفق أنهم يبرِّئون ساحة الكاهن في الموضع الذي نحن ذاهبون إليه، غير أنه قد يصعب إيجاد المجرم في الحال؛ ولذلك إما يرجعونه إلى الحبس، وإما يُطلِقون سراحه وقتيًّا بضمانة.

وهنا يبدأ دورك؛ لأن الكاهن لا يستطيع دفع الضمانة، فمتى سمعته يتكلم عن الضمانة تلبث صامتًا مختلطًا بالجمع دون أن تفوه بكلمة إلى أن يتكلم الكاهن، ويُظهِر عجزه عن دفع الضمانة.

– وعند ذلك أَدْفَعُ المال؟

– دون شك، وسأخبرك في المركبة كيف تتصرف لضيق المقام الآن، فهلم بنا.

ثم خرج العبوس وشوكنج إلى المركبة التي كانت تنتظرهما، فسارت بهما إلى الخمارة التي كان ينتظر فيها آلة التصوير، فأخذها وسار بها مع شوكنج إلى منزل بادي.

وقد عرف القراء كيف أن شوكنج دنا من القاضي، وعرض عليه دفع الضمانة عن الكاهن، وكيف أن الناس قد انذهلوا من منظر هذا العبد، وعجبوا لما أبداه من المروءة.

أما القاضي فإنه تفحَّصَه بنظره، وقال: مَن أنت؟

فأجابه: إني أُدعَى كريستوفور إيكوذوفا ذيمندس إبسنتافيا إيبوغوتا.

وقد قال ذلك بلهجة إسبانية على ريق لم يبلعه، ونفس لم يقطعه، ثم ظهرت عليه علائم كأنه يعتز بهذا النسب الطويل، وقال: إني كاثوليكي المذهب، وإن ديني يقضي عليَّ أن أساعد الكاهن الكاثوليكي، وأفرج كربته.

ثم أخذ من جيبه محفظة الأوراق المالية، وأفرغ ما فيها أمام القاضي دون اكتراث، وهو يقول: قُلْ يا سيدي مقدار الضمانة التي تريدها.

– ألفا جنيه.

– هي أمامك فخُذْها.

فاصفرَّ وجه السير بترس توين، ونظر القاضي إلى الأب صموئيل، وقال: إنك يا حضرة الكاهن مطلق السراح، بشرط أن تحضر إلى المحكمة يوم محاكمة هذا المجرم.

فشكره الأب صموئيل، وخرج من بين الجمهور، وكان الناس يحنون له الرءوس احترامًا.

أما العبوس فإنه كان قد دنا في ذلك الحين من مس ألن، فنظر إليها تلك النظرة الجاذبة، وقال لها: إنك عرفتني أليس كذلك؟

فأجابته بصوت مضطرب: نعم.

– ولماذا لم تسلِّميني إلى البوليس؟

فارتعشت الفتاة وقالت له: اخرج معي أخبرك عن السبب.

وعند ذلك أمر القاضي بفض الجلسة، فشكره العبوس لخدمته الجليلة، وبرح المنزل.

فخرج الناس، وكان أول المنصرفين الرجل العبوس، فتبعته مس ألن على الأثر وتأبطت ذراعه دون كلفة، حتى لقد توهَّمَ الناس أنها من أهله، وأنها جاءت معه.

فلما ابتعدا قليلًا من المنزل قال لها: إني معجب لأمرك، فإن كلمة واحدة منك كانت كافية لزجِّي في الحبس.

– ولكني لم أقل هذه الكلمة.

– لماذا؟

– هذا سري.

– ولكني عرفت هذا السر.

– ما هو؟

– هو أن ساعة حبك قد دنت.

فنزعت يدها منه، وقالت له: لقد تسرَّعَتْ بالحكم عليَّ.

فأجابها ضاحكًا ضحك الواثق المطمئن.

وذهب هو مواصلًا سيره، وبقيت هي واقفة تنظر إليه إلى أن توارى عن أنظارها، فعضت شفتها من الغيظ، وقالت: نعم، نعم، لقد دنت الساعة، ولكنها ليست الساعة التي أتدَانَى فيها إلى حبك، بل الساعة التي أسحقك فيها تحت قدمي سحق الزجاج.

وهنا ذكرت السير بترس توين، فرأت أن تعود إليه.

٣٧

وعادت لفورها إلى منزل بادي، فوجدت الناس يتفرقون، والبوليس قبض على جوهان، وساروا به إلى الحبس، ولم يَبْقَ هناك أثر يدل على الجريمة.

وقد ذهب الناس وكلهم راضون عن حكم القاضي وإطلاق سراح الكاهن، ما خلا السير بترس توين، فإنه كان لا يزال واقفًا في الزقاق يسير ذهابًا وإيابًا، وهو يُرغِي ويُزبِد من الغيظ ويقول في نفسه: لقد أساء إليَّ هذا القاضي إساءةً لا تُغتفَر، وسيكون لي معه شأن، فإني أخبرته همسًا مَن أنا وقلت له أن ناظر العدلية يريد أن يبقى الأب صموئيل في الحبس، ولكنه تظاهَرَ أنه لم يفهم ما قلته ولا بد لي من عزله.

وفيما هو يناجي نفسه في هذه الشرور، ويمهِّد سُبُل الانتقام من القاضي النزيه، شعَرَ بيدٍ وُضِعت على كتفه، فالتفت فرأى مس ألن، فقال لها: أين كنتِ، فإني بحثت عنك كثيرًا؟

– إني رافقت الطبيب الألماني إلى آخِر الزقاق لشدة إعجابي بما فعله.

فقال لها متهكمًا: ألعلك استحسنتِ عمله؟

– دون شك، فإن اكتشافه لم يسبقه إليه أحدٌ.

فعاد إلى تهكُّمه، وقال: إذن لماذا لا توصي أباك اللورد ليعرض مكافآته على البرلمان.

فابتسمت مس ألن وقالت: الحق إنه كان يستحق المكافأة، فإنه كان السبب في إطلاق سراح كاهن أرلندي.

– وهذا العبد الذي تبرَّع بتقديم الضمانة؟

فابتسمت ابتسامًا مما يدل أنها تعرفه أيضًا.

فغضب السير، وقال: أرى أنك كنت تعرفين هذا الطبيب من قبلُ، فصحبته حين خروجه.

– دون شك، فإني أعرفه وأعرف العبد أيضًا، فإنه شريكه.

فاشتدَّ غضبه حتى كاد يتميز من الغيظ، وقال: إن هؤلاء الأشرار قد اتفقوا على إنقاذ الكاهن.

فابتسمت مس ألن وقالت: إني أريد أن أخبرك بأمور خطيرة، ولكن يجب من أجل ذلك أن تكون رابط الجأش، وقبل كل شيء أن تبرح هذا الزقاق، فقد استلفَتَ وقوفُنا فيه أنظارَ الناس.

– إلى أين تريدين أن نذهب؟

– نركب مركَبَة ونذهب بها إلى منزلك.

– ليكن ما تريدين، فَلْنذهب.

ولما سارت بهما المركَبَة قالت له المس ألن: لقد قلت لك إني أعرف الطبيب والعبد، والآن أقول إنهما والأب صموئيل من الأرلنديين المعادين للإنكليز.

– إن الأب صموئيل مشهور أمره، فهل الطبيب والعبد من جمعيته السرية؟

– إني لا أؤكد ذلك كل التأكيد، ولكني رأيت حين التحقيق أن الطبيب قد تبادَلَ مع العبد نظرةً سريةً، فأيقنت أنهما شريكان.

– ولكن مَن هو هذا الطبيب الألماني؟

– إن هذا الرجل ليس ألمانيًّا، ولا طبيبًا، ولا أظنه إنكليزيًّا أيضًا، بل ربما كان من الفرنسيين، ولكني لا برهان لي على ذلك.

– كيف ذلك؟ ألَمْ تقولي إنك تعرفينه؟

– دون شك، ولكني أعجب بك كيف لم تدرك هذا السر على ما عُرِفت به من الحذق والذكاء، فإن هذا الرجل الذي يتلبس كل يوم بألف وجه، ويتخلَّق بألف خلق، وعجز بوليس لندرا عن القبض عليه، إن هذا الطبيب الألماني يا سيدي هو الرجل العبوس.

فاختبل السير توين وقال لها: ماذا تقولين؟ أهذا هو الرجل العبوس؟

– هو بعينه.

– وقد عرفتيه حين انعقاد الجلسة.

– بل عرفته حين دخل.

فضحك ضحكًا عصبيًّا وقال: لا شك أنك مجنونة يا مس ألن.

– لماذا؟

– لأنك كنتِ تستطيعين إيقافه بكلمة واحدة تقولينها للقاضي.

فقالت له ببرود: هو الحق ما تقول، ولكن لم أكن أريد أن يُقبَض عليه في ذلك الوقت.

وكانت المركَبَة قد وصلت إلى منزل السير بترس توين، فلم ينتبه إلى وقوفها لفرط اضطرابه، فنزلت مس ألن وقالت له: هلم معي الآن، فسأوضح لك كل شيء في غرفتك.

ثم دخلا إلى المنزل.

٣٨

وكان في غرفة السير بترس توين قسيس شاب ينتظر عودة رئيسه، فلما رآه داخلًا مع مس ألن حاول الخروج، فاستوقفته الفتاة وقالت: إنك تستطيع البقاء معنا، فإني أعلم أنك مساعد رئيسك الأيمن، فلا أخشى أن أتكلم أمامك.

وكانت هيئة بترس توين قد خرجت عن حد الإنسانية لفرط غضبه واضطرابه؛ فقد احمرَّ وجهه حتى كاد الدم يخرج منه، وظهر الزبد على شفتيه كالجِمَال الهائجة، واحمرَّتْ حدقتاه حتى بات كالحيوان المفترس بعد معركة، خلافًا لمس ألن فإنها كانت ساكنة هادئة مبتسمة، فتطلعت إلى ذلك الزعيم الهائج وقالت: اجلس يا سيدي، وأصغِ لما أقول.

فامتثل وهو لا يعي، وبدأت الفتاة حديثها وقالت: أتذكر يا سيدي حين زرتك أول مرة ماذا قلت لك؟ قلت لك يوجد رجل أكرهه كرهًا لا تصفه الأقلام لأنه قد أهانني، أتريد أن تشترك معي بالانتقام منه، فأجبتني بالرضى، أليس كذلك يا سيدي؟

– دون شك.

– إذن فاعلم أني إذا كنت لم أقبض على هذا الرجل اليوم، وإذا كنت قد خرجت معه دون كلفة، فما ذلك إلا لأن ثمرة انتقامي لم تنضج بعدُ، وإنه لدينا مهمة خطيرة يجب علينا أن نهتم بها قبل القبض على هذا الرجل.

– إني لا أفهم ما تقولين.

– إني موضِّحة لك الأمر، فأصغِ إليَّ؛ إنك تعلم أن للأرلنديين زعيمًا أكبر وهو غلام لا يتجاوز عمره عشرة أعوام، وأن الأرلنديين بجملتهم ينتظرون بفارغ الصبر أن يبلغ أشده كي ينضموا تحت لوائه.

وقد كنَّا استولينا على ذاك الغلام أنا وأبي، ووضعناه في منزلنا، ولكنهم اختطفوه منا.

– وهل فقدتم أثره؟

– كلا، فإني أعلم أين هو الآن، فإنهم قد خطفوه أيضًا من حبس الطاحونة، وكان خاطفه الرجل العبوس.

– إني أعلم تلك التفاصيل، ولكني لا أعلم ما حدث بعد ذلك للغلام.

– إنهم أدخلوه مدرسة أبناء المسيح.

فاضطرب وقال: إن ذاك محال.

– قد يكون مستحيلًا، ولكني واثقة من صحته، وأنا أجهل كيف أدخلوه إلى تلك المدرسة، ولكنه مقيم فيها وهو بحماية اللورد المحافظ، كما أن المدرسة لا تسري عليها القوانين.

– إذن لا بد أن يكون قد انتحلوا له اسمًا آخَر، ولا بد لنا من إظهار اسمه الأصلي.

فابتسمت مس ألن وقالت: أرأيت كيف يجب أن نضع العبوس في المقام الثاني، فإنك تعلم ضرورة القبض على الغلام.

– دون شك.

– هذه هي المرة الخطيرة التي يجب أن تفرغ جهدك في إتمامها.

– ولكنها مهمة صعبة، فإن هذه المدرسة لا تسري عليها القوانين، ولا يؤثر فيها النظام.

– ولكن الحيلة أبلغ من النفوذ في قضاء الحاجات، وإن لنا مساعِدًا عظيمًا يدعونه مسز فانوش، وهي التي حُبِس عندها الغلام أول مرة وسأجد تلك المرأة.

ثم نهضت تهم بالذهاب، فقال لها السير بترس توين: أراك ذاهبة يا سيدتي، ألعلك نسيت ما وعدتني به من الإيضاح.

– لقد أصبت، فإنك تريد أن تعرف كيف أني اكتشفت أمر الرجل العبوس، فاعلم أن هذا الرجل قد خطر له خاطر غريب، جعله نصب عينيه، وهو أن كرهي له سيستحيل إلى حب.

ثم قالت وقد ابتسمت ابتسامة هائلة: وأنا أيضًا قد خطر لي نفس ما خطر له.

– كيف ذلك؟ ألعلك تريدين أن تحمليه على حبك؟ وما هو قصدك؟

– نعم، إني أريد أن يهواني، وعند ذلك يبدأ انتقامي، إنك قد لا تفهم كلامي، ولكن لا بأس، فستصلك أخباري غدًا، والآن أستودعك الله.

ثم تركته وانصرفت، فلبث الكاهنان ساكتين إلى أن سمعا إقفال الباب الخارجي من ورائها.

ثم قال السير بترس توين للكاهن الشاب: لقد بدأت أخاف من هذه الفتاة، إذ لا بد لها أن تخوننا.

فدهش الفتى وقال: لماذا؟

– إذ لا يوجد بين البغض والحب غير خطوة، ولكني سأراقبها فلا يفوز علينا هؤلاء الأرلنديون.

٣٩

يوجد في لندرا مكان أُطلِق عليه اسم جهنم، تديره امرأة تُدعَى مسز بيرتون.

وليس في هذا المحل ما ينطبق على مسماه من نارٍ حرها لا يُطفَأ، وأبالسة سلاحهم الفئوس، بل إن فيه ما ينطبق على معنى هذا المسمى كما ستراه.

إن الداخل إلى هذا المحل يجد على يساره محلًا لبيع التبغ، وعلى يمينه فندقًا فرنسيًّا يتولَّى إدارته الألمان.

وكانت صاحبة محل التبغ امرأة لا هي عجوز ولا فتاة، لا هي قبيحة ولا حسناء، وكانت تتقن اللغة الفرنسية، ولمحلها كثير من الزبائن.

ولم يكن يظهر في هذا المحل الملقَّب بجهنم نور ولا نار، ولا يُسمَع له حس من الخارج، في حين أن بابه كان يُفتَح ويُغلَق كل حين.

وكانت المركَبَات تصل إليه وتقف، فيخرج منها تارة رجل نبيل، وتارة امرأة متأنقة، فيُفتَح الباب لهؤلاء الزائرين ثم يُقفَل، فتعود المركَبَات مسرعةً من حيث أتت.

وحيث لو كان الدخول إلى هذا الجحيم ممنوعًا لما تمكَّنَ البوليس من رؤية الداخلين لإسراعهم في الدخول، على أن مسز بيرتون كانت تدفع رسمًا فلا يعارضها البوليس.

ففي الليلة التي نقصُّ فيها هذا الحديث، كان رجلان عليهما مظاهر النبل يسيران مشيًا على الأقدام إلى هذا المنزل السري.

وكانت الساعة الأولى بعد نصف الليل، فتنهَّدَ أحدهما وقال لرفيقه: إن لندرا قد تغيَّرَتْ تغيُّرًا عظيمًا منذ سبعة أعوام.

فأجابه رفيقه: هو ما تقول، ولكنها على تغيُّرها لا تزال عاصمة العالم، ولا يزال الذهب الحاكم المطلَق فيها، وهو رسولٌ إلى الملذات.

– إني كنتُ أتوقع منك هذا الجواب أيها البارون، فإني حين برحت إنكلترا إلى الهند كان لي ما لك من العمر، ولكن قلبي لم يكن يتسع إلا لغرامي السري.

– إني أعلم غرامك القديم بالمس إميلي، ولكني علمت أن هذا الغرام أسفر عن الزواج، وأنك من أسعد الأزواج.

فتنهَّدَ الرجل وقال: وا أسفاه!

إن هذا الرجل كان الماجور واترلي، وهو الرجل الذي دفع ولده إلى مسز فانوش، كما تقدَّمَ في الجزء السابق، وقد أوهموه أن ابن أرلندا ولده، ووافَقَ على إدخاله بمدرسة أبناء المسيح، على أن يكون وريثًا للورد ويلموت أي شوكنج.

فأجابه رفيقه: إني أعجب لتنهُّدِك حين ذكر سعادتك، وهل يتنهد السعداء؟

– نعم أيها البارون، متى كانت سعادتهم لم تتم.

– ألعلك سلوت مس إميلي؟

– بل لا أزال أعبدها.

– إذن ماذا ينقصك بعد ذلك؟

– إني وَلِعتُ بعادة صعبة المراس حين كنتُ في الهند، ومن أجل هذا رجوتك أن تعرفني بالمسز بيرتون.

– ولكني ما فهمت شيئًا بعدُ مما تعنيه.

– إذن فاعلم أني مولع بشرب الأفيون، ولا يوجد في جميع لندرا محل صالح لدخول الأشراف إليه، فإن جميع المحلات التي يشربون فيها الأفيون يكثر تردُّد العامة إليها، ولا يليق بأمثالنا انتيابها.

فابتسم رفيقه، وكان يُدعَى البارون متشل، وقال: إذن اطمئن.

– أيشربون الأفيون عند مسز بيرتون؟

– نعم، ولكنهم يتعاطونه بالسر، ولا يقبلون في هذا المكان إلا مَن كان مشهودًا له بالظرف والرزانة والكتمان، وموصًى به خير توصية.

– أتظن أن مسز بيرتون تقبلني في عداد زبائنها؟

– دون شك ما زلتُ أنا الموصي بك، فإنها لا ترفض لي طلبًا، ولكن محل شرب الأفيون منفصل في ذلك المكان عن محل اللعب، وأنا أُدخِلك إليه بشرط أن لا تحكم عليَّ بمرافقتك.

– ليكن ما تريد.

وعندها وصلا إلى باب جهنم، فطرق البارون متشل الباب، ففُتِح على الفور ودخل الاثنان.

٤٠

وقد دخل الاثنان فأُقفِل الباب وراءهما، ومشيا في رواق يكاد يكون مظلمًا لضعف النور فيه؛ إذ لم يكن فيه غير مصباح صغير معلَّق في قبة الرواق.

فدهش الماجور وقال: إذا كان مدخل هذا المكان دليلًا عليه، فقد أخطأنا في المجيء إليه.

– سوف ترى.

ثم سارا في ذلك الرواق حتى انتهيا إلى آخَر، فوجدا بابًا مُقفَلًا فطرقه البارون متشل طرقتين خفيفتين، وصبر هنيهة فطرقه طرقة ثالثة قوية، كأنما هذا النوع من الطرق مصطلح عليه.

ففُتِح الباب ودخل الزائران إلى قاعة فسيحة كثرت فيها الأنوار، ولكن لم يكن فيها شيء من أدوات الزينة والبهرجة.

وكان يوجد فيها مستوقد ومحل الشاي، وفي وسط القاعة طاولة بسيطة كانت جالسةً أمامها امرأةٌ بيضاء الشعر، وعليها كثير من الحلى وفي أصابعها كثير من الخواتم الثمينة.

على أنها على بياض شعرها كانت حادة البصر، وعليها مسحة من جمال قديم.

فحيَّاها البارون متشل تحيةً تدل على الصداقة، فردَّتْ تحيته بمثلها ونظرت إلى الماجور واترلي، فأخذ البارون بيده ودنا منا، وقال: أقدِّم لك يا سيدتي الماجور واترلي، فإنه من النبلاء وهو خير أصدقائي.

فانحنت العجوز أمامهما، وقالت لهما: لا مانع من دخولكما يا ولديَّ، فادخلا.

فاندهش الماجور واترلي من قولها؛ لأنه لم يجد في تلك القاعة غير الباب الذي دخل منه.

ولكن متشل أخذ بيده وسار به إلى الجدار، فأدار لولبًا ففُتِح باب على الفور ودخل منه الزائران.

وقد رأى الماجور أنه بات في رواق آخَر يشبه الرواق الأول، ولكنه أعرض من الأول وأكثر نورًا، ورأى في الأرض بسطًا ممددة، وعلى الجدران رسومًا تمثِّل الطيور والأزهار.

وكان كلما سار خطوة يجد مصابيح متلألئة، موضوعة فوق أعمدة من الرخام.

فلم يسيرا بضع خطوات حتى سمعا أصوات من الداخل، فقال متشل: إنهم يرقصون، ولا شك أن المدموازيل أولمب تعزف على البيانو.

– مَن هي المدموازيل أولمب؟

– إنها فتاة فرنسية بارعة الجمال، جاءت إلى لندرا فلقيت نجاحًا باهرًا، وهي تتردد دائمًا على محل مسز بيرتون.

فقاطعه الماجور قائلًا: إني أيها الصديق جندي قدمت حديثًا من الهند، فلا أعلم عوائد النبلاء ومصطلحاتهم، فهل تأذن لي أن ألقي عليك سؤالًا؟

– اسأل ما تشاء أيها الصديق.

– إننا دخلنا إلى منزل يقامرون فيه ويرقصون ويشربون الأفيون، فإذا كان ذلك كما رأيت، فلماذا جعلوا له هذا المدخل؟ ولماذا هذا التكتم والتحفُّظ؟ ألعله من البيوت الممنوع الدخول إليها؟

– كلا.

– إذن ما هذه الألغاز؟

– يدهشني منك أيها الصديق أنك تتكلم ببساطة أولئك الأقوام الذين يعيشون تحت سماء خط الاستواء، فإنك تجهل الشرائع الإنكليزية على كونك من الإنكليز.

أَلَا تعلم أن شرائعنا تبيح لكل إنسان أن يفعل كل ما يشاء، على أن لا يضر سواه.

وهذا منزل مسز بيرتون مُعَدٌّ للقمار والرقص والسكر بالأفيون كل الليل، فلو كان على قارعة الطريق وكانت نوافذه مشرفة على الشارع، أَلَا يؤذي ضجيج الرقص وعربدة السكارى مَن يجاور هذا المنزل من الناس ويؤرقهم عند نومهم؟

– لقد علمت الآن، ولكن هذه المرأة التي استقبلتنا في القاعة، أهي مسز بيرتون أم هي جدتها أم أمها؟

– لا هذا ولا ذاك، بل هي مراقبة المنزل، فلا يدخل أحد إليه إلا إذا عرفته، ولا يمكن أن يدخله أحد إلا إذا كان من الأشراف، والآن سيخبرونها بقدومنا وسأقدمك لصاحبة المنزل.

وكانا قد وصلا عند ذلك إلى آخِر الرواق، فوجدا حارسَيْن لابسَيْن ملابس حريرية مزركشة بخطوط الذهب، وفتح أحدهما مصراعي الباب، فانفتح عن قاعة عظيمة كان فيها كثير من الأعيان، وكثيرات من الحسان، وحفلة الرقص دائرة.

ودخل الزائران وقال البارون لرفيقه الماجور: اصبر إلى أن ينتهي الرقص فأقدِّمك لصاحبة المنزل.

٤١

ثم انتهى الرقص، وذهب الرجال بالنساء إلى مجالسهن، فأخذ البارون متشل بيد الماجور واترلي وذهب به إلى امرأة بين العمرين، ولكنها أقرب إلى الكهولة، وهي متأنِّقة وفي عنقها عقد من اللؤلؤ الثمين.

وكانت على كهولتها لا تزال حسناء، وهي المسز بيرتون صاحبة المنزل.

فدنا منها البارون متشل فلثم يدها، وقدَّم لها صديقه الماجور، فصافحته بيدها وقالت: إن هذا المنزل منزلك منذ الليلة يا سيدي.

وجرت بينهما المجاملات المألوفة ثم افترقا، فذهبت إلى باب المنزل لاستقبال زائر جديد، وبقي الماجور مع رفيقه البارون، وقال له البارون: أرأيت كيف أن هذا المنزل يشبه منازل النبلاء في كل شيء؟

– هو ما تقول، ولكني لم أعلم إلى الآن أين يشربون الأفيون فيه؟

فابتسم البارون وقال: إنك كثير التسرع أيها الصديق، وما بعد العجلة إلا الندامة.

فانقطع الماجور عن سؤاله، وهو يجيل نظرًا حائرًا بين الراقصين والراقصات، فلا يقع بصره إلا على فتاة حسناء وفتًى نبيل.

ثم قال له البارون: هلمَّ بنا الآن إلى قاعة المقامرة.

فامتثل الماجور منقادًا له انقياد الأعمى، وذهَبَا إلى منضدة كان عليها بعض اللاعبين، وبينهم أحد النبلاء ويُدعَى السير روبرت هاتون، فعرَّفه البارون بالماجور، وابتسم ابتسامةً معنويةً.

وأدرك السير روبرت معنى ابتسامته، وقال للماجور: يبدو يا سيدي أنك مثلنا من شُرَّاب الأفيون، فصبرًا إننا ذاهبون إلى قاعة التدخين متى دنت الساعة.

فدهش الماجور وقال: ألعل الأفيون له ساعة معينة؟

– نعم، وهي الساعة الرابعة بعد نصف الليل، أي حين ينصرف اللاعبون والراقصون ولا يبقى في تلك القاعات غير أولئك الأذكياء، الذين يؤثرون ملاذ الروح على ملاذ الجسد.

فصادق البارون متشل على هذا القول من قبيل المجاملة، وشكر السير روبرت ضاحكًا، فأجابه السير معتذرًا وقال: لقد نسيت أنك لا تشرب الأفيون، على إني لا أزال أنتقد عليك أنك تجهل ملذات شُرْبه التي لا حدَّ لها.

هزَّ البارون كتفيه دون أن يجيب.

غير أن السير روبرت أبى إلا أن ينتصر للأفيون وأحزابه، فقال: إنكم أيها المجانين لا تكرهون الأفيون إلا لجهلكم ملاذه، على أنكم لو اندمجتم في سلك شرابه لعلمتم أنكم في ضلال، وإني أقول لك ذلك بشكل خاص، إنك من أهل الخيال، ولا أرى إلا أن تصحبنا ليلةً فتصبح بعدها من أشد أنصارنا.

– أما أن تكون هذه الملذة الروحية على ما وصفته لي، فإن ذلك من الممكنات، وأما أن تغويني على الاقتداء بك فلا، ولكني أرجوك أن تصف لي القاعة التي تدخنون فيها.

– هي قاعة صغيرة غطيت جدرانها بالأقمشة الشرقية، ويوجد فيها مقعد طويل يمتد من أول القاعة إلى آخِرها، فيتربع فوقه المدخنون وفي يد كلٍّ منهم غليون يضع فيه التبغ وحبةً من الأفيون، فيولعه ويدخن.

حتى إذا انتهى من تدخين الحبة الأولى امَّحَتْ مظاهر تلك القاعة كلها وزالت جدرانها، وانكشفت لعينيه السماء الزرقاء، وتألقت منها الشمس الساطعة، وبرزت الجواري الحسان ففتنت عقله بابتسامتها.

فضحك البارون متشل وقال: أهذا الذي تدعوه ملذة لا حدَّ لها؟ إني أؤثر ألف مرة أن ألثم أنامل مدموازيل أولمب، تلك الفتاة الحسناء الجالسة هناك قرب المستوقد، على تلك الملذة الروحية التي لا حدَّ لها كما تقول، وأؤثر ابتسامتها الحلوة الصحيحة على ابتسامة الحورية الوهمية التي يمثِّلها لكم الأفيون، فينتهي بكم إلى الخمول.

نظر السير روبرت إلى الماجور واترلي، وقال له وهو يبتسم ابتسام المشفق عليه لهذا الاعتقاد: لا سبيل إلى جداله.

– دون شك ولا سبيل إلى مجادلته في الأفيون، إنه لن يدرك شيئًا من أسراره إلا بالسماع.

فقال البارون متشل: قد تكون مصيبًا، إن الجدال في هذا الشأن محال، ولكن عاقبة الحشيش والأفيون لا يجهلها أحد، وكفى بذلك برهانًا أن أوله خوف وآخِره ضعف.

فتنهَّد الماجور وقال: هي الحقيقة بعينها، ولكن بينهما ساعة لا تباع بالملك. وقد ظهرت عليه علائم الشوق الشديد، فقال للسير روبرت: ألَمْ يَحِنْ بعدُ الزمنُ؟

فضحك السير روبرت وقال: لا يزال أمامنا ساعة، وسأعرفك الآن بهذه الفتاة الآشورية.

أجابه الماجور دون اكتراث: مَن هي هذه الفتاة؟

– إنها فتاة حسناء يكسف أشعة حسنها جمال الحوريات التي يمثِّلها لكم الأفيون.

تبودلت بين السير روبرت والماجور نظرة إشفاق على البارون متشل، وقال له البارون: احكم عليَّ بما تشاء على أن تأذن لي بأن أعرفك بالآشورية، فقد وعدتها بذلك فأوشكت أن تجن من سرورها، لا سيما حين علمت أنك قادم من الهند.

– سأمتثل لك فيما تريد، ولكنك تعلم أني أعبد امرأتي عبادة، لا يؤثِّر عليَّ جمال النساء.

– سوف ترى، فيا طالما قال الأزواج قبلك هذه الأقوال.

وبعد أن انتهى من اللعب ذهب البارون متشل بالماجور واترلي إلى قاعة كان فيها كثير من النساء، وهناك فتاة طلعت بينهن مطلع القمر بين النجوم، وهي بسامة الثغر، سوداء الشعر، براقة العينين، فلم يكد يراها الماجور حتى ارتعش، ونسي أنه قادم إلى منزل مسز بيرتون لشرب الأفيون.

٤٢

كان لهذه الفتاة التي يلقبونها بالآشورية اسم آخَر دون شك، ولكن هذا اللقب تغلَّب على اسمها حين قدمت إلى لندرا ونالت فيها شهرتها البعيدة.

وكانت بارعة في جمالها، وقد اشتهرت أيضًا في باريس وفينا وفلورنسا، إلا أن شهرتها في لندرا كانت أعظم؛ إذ راقت في عيون الإنكليز لسواد شعرها، وندور سواد الشعر بين الإيكوسيات، والأرلنديات.

ولم يكن أحد يعلم من أين أتت، بل لا أحد يعلم حقيقة أصلها، فإنها كانت تتكلم أكثر اللغات الشائعة كأبنائها، وقد عثرت بها مسز بيرتون، فجعلتها زينة منزلها، وازدحم الناس في ذاك المنزل بعد قدومها، وكان ذلك منذ شهرين.

ثم امتدت شهرتها وانتشرت في جميع لندرا، لا سيما بعد تزاحُم العشَّاق عليها واقتتالهم في سبيل هواها، فقد حدَّثوا عنها أن اللورد ﻫ. هام في هواها وهو في مقتبل الشباب، ولما لم يَرُقْ في عينها انتحر عند باب منزلها، ورووا كثيرًا من هذه الحوادث المفجعة حدثت في سبيل هواها، فكانت من أدعى أسباب شهرتها.

أما الماجور واترلي الذي كان يدَّعِي أنه يعبد امرأته، فإنه لم يكد يراها حتى اختلج وارتعش، وأحس أن لهذه الحسناء سلطانًا خفيًّا عليه.

أما الفتاة فإنها أشارت إلى كرسي بقربها، وسألته أن يجلس بجانبها، فامتثل ونسي منذ تلك الساعة الغاية التي أتى من أجلها إلى منزل مسز بيرتون، وهي شرب الأفيون؛ ذلك أنه لقي من سكر عينيها ما لا يذكر معه سكر الأفيون بشيء.

وأما البارون متشل الذي كان واسطة التعارف بين صديقه الماجور وبين الآشورية، فإنه بعد أن قضى هذه المهمة ترك صديقه وشأنه، وجال في القاعة بين الحاضرين باحثًا كأنه يفتش على شخص واعده على الملتقى، فلم يجد ضالته وقال: أظن أن صديقي أرثير يهزأ بي.

ولكنه لم يتم جملته حتى فُتِح باب القاعة ودخل منه رجل في مقتبل الشباب، فأسرع إليه البارون متشل وقال: لقد طال انتظاري حتى كدت أقنط من حضورك.

وكان هذا الرجل نفس ذلك المركيز الشاب الذي تبع مس ألن في هايد بارك، حين كان رفاقه يتراهنون على الرجل العبوس، وقد حسبوه الكونت الروسي، فقال له المركيز: ها قد أتيتُ فماذا حدث؟

وقال له البارون: حدث كل ما أردته، فإن الماجور قد حضر.

– أهو هنا؟

– نعم، وهو يُحادِث الآن الآشورية.

– إذن إن الأمور سائرة على محور النجاح.

– سيذهبون به قريبًا إلى قاعة تدخين الأفيون إذا اقتضى الأمر، ولكني أظن أن عيني الآشورية تقضيان الحاجة، وتفعلان به أكثر من الأفيون، انظر إليه أيها الصديق تَرَ أن روحه باتت بين شفتي هذه الفتانة.

ونظر المركيز إلى الماجور، ورأى أن الآشورية قد فتنته بدلالها، وأنه شاخص الطرف لا ينظر إلا جمالها، ولا يسمع غير أقوالها.

وهنا انقطع الصديقان هنيهة عن الحديث، ثم أخذ البارون متشل بيد الماجور وسار به إلى مكان خالٍ من الناس في القاعة، وقال له: أتريد أن نتحدث قليلًا أيها الصديق؟

– ليكن ما تريد.

– لقد أدهشتني بأعمالك حتى بت في حاجة إلى طلب الإيضاح منك.

فابتسم المركيز، وقال: إني لا أنكر عليك انذهالك من إهمالي، فأنا نفسي مندهش منها أكثر منك.

– إني لا أفهم شيئًا مما تقوله إلا إذا كنت تريد الهزء بي.

– معاذ الله أن أهزأ بأصدقائي.

– إذن أوضح لي ما أسألك عنه.

– سَلْ ما تشاء.

– اجتمعنا أول أمس في النادي فاقترحت عليَّ أن ألاعبك بالورق، ووضعت شرطًا غريبًا في بابه، وهو أني إذا كنت أنا الرابح تدفع لي ألف جنيه، وإذا كنت أنت الرابح أصْنَعُ مدة ثلاثة أيام كل ما تطلبه إليَّ، على شرط أن لا تسألني إجراء ما يمس بالشرف.

واصبر فإني لم أنتهِ بعدُ، فإنك حين غلبتني سألتني إذا كنت أعرف الماجور واترلي؟ فأجبتك بالإيجاب، وقلتَ لي إني أريد أن تدخله إلى منزل مسز بيرتون، ثم قلت لي يجب أن تعرفه بالآشورية وتسكره بغرامها، وإذا لم يؤثر عليه جمالها يجب أن يسكر بالأفيون.

– نعم، فقد قلت لك كل هذا.

وقال البارون: وأنا قد فعلت كل ما طلبته إليَّ، وجئت به كي يشرب الأفيون، ففعلت به عينا الآشورية ما لا يفعله ذاك السم.

– حسنًا فعلت، لقد وفيت بعهودك.

– نعم، ولكني أريد أن أعلم غايتك من سكر الماجور أو غرامه.

– ليس لي غاية.

وأظهر البارون عجبه وقال: كيف يكون هذا ممكنًا؟

– هي الحقيقة بعينها أيها الصديق، وأنا أمتثل لسواك كما أنت تمتثل لي.

– ألعلك لعبت مثلي على مثل هذا الشرط وخسرت؟

– كلا، ولكني أنا أيضًا قد فُتِنْتُ بآشورية كما فُتِن الماجور، ولكن الآشورية التي فُتِنْتُ بها لا تدخل إلى مثل هذه المنازل، وهي التي أمرتني لسبب لا أعلمه أن أجمع بين الآشورية والماجور واترلي.

– أيمكن أن تذكر لي اسم الفتاة التي تهواها.

– نعم، فإنها تُدعَى مس ألن بالمير.

ودهش البارون وقال: ما هذه الألغاز إني لا أفهم شيئًا منها.

– لا يروعك ذلك، فإني أنا أيضًا لا أفهم شيئًا منها.

وكان الناس قد بدءوا في ذاك الحين ينصرفون؛ لأن ساعة شرب الأفيون قد حانت.

٤٣

في الليلة نفسها في الساعة الخامسة صباحًا كانت مركَبَة واقفة في زاوية من شارع بالتين.

وكان وقوفها منذ ساعة كأنما السائق كان ينتظر خروج أسياده من أحد منازل الشارع، حتى كان يحسب الناظر أنها خالية لا أحد فيها، لو لم يكن يرتفع سَجْفها من حين إلى حين ويبرز منه رأس امرأة كانت تطل وتنظر نظر الفاحص.

وكانت واقفة قرب باب جهنم، أمام منزل مسز بيرتون، وكان باب المنزل يُفتَح كل ربع ساعة، ويخرج منه أحد الزائرين.

وكانت السيدة المقيمة في المركبة تراقب كل خارج من المنزل، حتى إذا رأته أرخت السَّجْف، إلى أن خرج المركيز الذي تقدَّمَ لنا وصفه، وأبقت السجف مرفوعًا حتى دنا منها فقالت له: ادخل.

ودخل المركيز إلى المركبة، وأقفل بابها ثم حيَّا تلك السيدة تحية الهائمين؛ لأنها كانت مس ألن.

وسارت بهما المركبة فسألته مس ألن: أخبرني الآن ماذا حدث؟

– حدث كل ما أردْتِه، فإنه أشبه بالمجانين.

– ألعله شرب الأفيون؟

– كلا، إذ لا حاجة إليه، ومع ذلك فإنه أتى خصيصًا لشربه؛ لأن له به ولعًا غريبًا، كما يظهر، غير أن نظرات الآشورية أَنْسَتْه الأفيون، حتى إنهم جاءوا يخبرونه بافتتاح قاعة التدخين لم يُجِبْهم لانصرافه إلى الآشورية.

– ألعله باقٍ معها؟

– نعم، ولكنه سينصرف قريبًا؛ لأن مسز بيرتون أرسلت أحد خدَّامها لإحضار مركبة لهما. انظري فهذه مركبة قد وقفت عند باب جهنم.

– أتظنه يسير معها؟

– بل أؤكد، فإنه كان ينظر إليها نظرات المفتون.

وأمرت مس ألن سائقها أن يتقدَّمَ إلى باب جهنم، وأن يقف أمام المركبة المنتظرة، ثم قالت للمركيز: إني أريد أن أتحقق الأمر بنفسي.

وبعد هنيهة فُتِح باب جهنم الخارجي، ورأت مس ألن امرأة خرجت منه، وهي متشحة بشال من الكشمير فعلمت أنها الآشورية.

وكانت متوكئة على ذراع رجل رآه المركيز همسًا لمس ألن: هذا هو الماجور واترلي.

ثم رأت مس ألن أن الآشورية صعدت إلى المركبة، وسمعتها تقول للماجور: اصعد بجانبي.

فصعد ممتثلًا وسارت بهما المركبة.

وعند ذلك قالت مس ألن للمركيز: لقد اطمأن بالي الآن فأشكرك لإخلاصك.

وقال لها المركيز: أتعلمين يا سيدتي أني لم أفهم شيئًا إلى الآن من كل ما يجري.

– ذلك لأني لا أريد أن تفهم، أنسيت شروطنا يا حضرة المركيز، ألَمْ تسألني أن أأذن لك بمرافقتي مرتين في الأسبوع في هايد بارك، واشترطت عليك أن تخدمني مقابل ذلك دون أن تحاول الاطلاع على أسراري، وقد وفيت بوعدي فوجب عليك أن تفي بوعدك.

– وهذه الأسرار أتبقى غامضة عليَّ إلى الأبد؟

وضحكت مس ألن قائلةً: إني لا أقول هذا القول، فإذا كنتَ كتومًا طائعًا فقد أُطْلِعك على بعض الأسرار، وإني مستعجلة فأستودعك الله.

– كيف ذلك أتتركينني وحدي؟

– أتريد أن أوصلك إلى منزلك؟

– حبذا يا سيدتي.

وأمرت السائق أن يذهب إلى نمرة ٢٤ في شارع بال مال، حتى إذا وصل بهما إلى ذلك المنزل لثم المركيز يدها، وقال لها: أين أنت ذاهبة الآن يا سيدتي؟

– هذا أيضًا سر لا يجب أن تعلمه الآن.

وخرج المركيز من المركبة وهو يعجب لأمر هذه الفتاة، أما مس ألن فإنها أمرت السائق أن يسير بها إلى همبستاد نمرة ١٨.

فامتثل السائق، واتكأت مس ألن في مركبتها.

وبعد نصف ساعة وقفت المركبة عند باب منزل مسز فانوش، تلك المرأة التي اختطفت ابن أرلندا، والتي وُجِد اللورد بالمير في حديقتها مكبَّلًا مكمومًا.

٤٤

ولندخل الآن إلى منزل مسز فانوش التي عرف القراء أمرها مع ابن أرلندا، فنقول إنها رجعت عن مهنتها السابقة وهي تربية الأطفال، وتخلَّصَتْ من تلك العجوز التي كانت تضرب الأطفال ذلك الضرب الموجع بعد أن خانتها كما تقدَّم.

ويذكر القرَّاء ما حدث بينها وبين الرجل العبوس، فإنها بعد أن هرب رالف ابن أرلندا من منزلها في همبستاد عادت إلى لندرا، فرأت منزلها خاويًا خاليًا لا عجوز فيه ولا أطفال.

أما العجوز فقد كانت سافرت إلى حيث أرسلها اللورد بالمير بعد أن أرشدته إلى منزل مسز فانوش، وأما الأطفال فقد كان الرجل العبوس نقلهم إلى محل أمين يتربون فيه.

ولم تأسف مسز فانوش لفراق الأطفال والعجوز، وعادت إلى همبستاد، وباتت في منزلها مطمئنة إلى أن جاءها الرجل العبوس، فخافت خوفًا عظيمًا؛ لاعتقادها أنه سينتقم منها ويعذبها شر عذاب، غير أنها اطمأنت حين علمت أنه يريد استخدامها في إيهام الماجور واترلي أن ابن أرلندا ولده بغية إدخاله مدرسة أبناء المسيح.

وكان العبوس قد دفع لها مقابل ذلك مبلغًا عظيمًا من المال، فعاشت به عيشة السكينة، ولم تَعُدْ تخاف غير العبوس الذي تجاسَرَ على أن يعبث بلورد نبيل من أعظم رجال البرلمان نفوذًا.

وكانت لا تزال محتفظة بخادمتها الإيكوسية، وكانت ترسلها لاستطلاع الأخبار؛ إذ لم تكن تجسر على الخروج من منزلها، وعلمت أن الحكومة تتهم الرجل العبوس بجريمة تستوجب الإعدام، وأنه لم يَعُدْ إلى منزل شوكنج منذ عهد بعيد، واطمأن بالها لاعتقادها أنه سجين، وأن العقاب لا بد أن ينفذ فيه.

وفيما هي جالسة ذات ليلة تشرب الشاي سمعت طرق باب منزلها الخارجي، وأرسلت خادمتها كي ترى مَن الطارق، وعادت إليها برسالة لم يَجِئ بها عامل البريد، بل رجل لم تتبيَّن وجهه؛ لأنه كان ملثَّمًا.

واضطربت مسز فانوش كأنما قلبها قد أنذرها بمصاب، وفتحت الرسالة بيد ترتجف، وأسرعت بنظرها إلى موضع التوقيع فلم تجد توقيعًا، أما الرسالة فكانت كما يأتي:

يُطلَب إلى مسز فانوش أن تنتظر في هذه الليلة زيارة شخص يريد أن يحادثها بأمور خطيرة.

فإذا لم تفتح لهذا الزائر عرَّضت نفسها لأخطار لا تستطيع تفاديها.

وإذا خطر لها أن تلتجئ إلى البوليس وتعرض عليه هذه الرسالة، أو ائتمنت سواها على هذا السر، عرَّضَتْ نفسها لغضب شخص قوي قادر.

وسقطت الرسالة من يدها لما أصابها من الرعب، ونادت خادمتها، وقالت لها بصوت يتلجلج: لقد خدعوك؛ لأن الرجل العبوس ليس في السجن.

ولبثت مسز فانوش منذ ذاك الحين على أشد حالة من الرعب والجنون، ولكنها امتثلت لما ورد في الرسالة فلم تُطلِع عليها البوليس، ولم تَبُحْ بسرها لخادمتها، بل أمرتها أن تذهب إلى مضجعها، وذهبت هي إلى تلك الغرفة المطلة على الحديقة، وهي الغرفة التي دخل منها قبلًا الرجل العبوس وشوكنج فجأةً كما تقدَّم، فجعلت تراقب باب الحديقة وتنتظر زيارة الشخص السري وهي ترتعش رعبًا لأقل حركة تسمعها.

ومرت الساعة الثانية والثالثة والرابعة بعد انتصاف الليل دون أن يحضر أحد، وحسبت أن الرسالة مزوَّرَة.

وارتاحت بعض الارتياح، غير أن اطمئنانها لم يَطُلْ؛ فإنه لم تحن الساعة الخامسة حتى سمعت طرق الباب، فانتفض جسمها واضطرب قلبها حتى شعرت أنها لا تستطيع القيام.

ولكنها تجلدت وخرجت من الغرفة إلى الحديقة، فمشت بأقدام مضطربة إلى الباب، ولما فتحت الباب تنهَّدَت تنهُّد المنفرج بعد ضيق؛ إذ رأت امرأة قصدت لها قائلة: أأنت هي مسز فانوش؟

– نعم يا سيدتي.

– أنا هو الشخص الذي تنتظرينه، وأنا أُدعَى مس ألن ابنة اللورد بالمير، فسيري أمامي إلى منزلك.

٤٥

وامتثلت مسز فانوش، وتبعتها مس ألن إلى الغرفة التي كانت تنتظر فيها منذ حين.

وقد اطمأنت فانوش أنها لقيت امرأة مثلها، وأنها حلوة رقيقة الحديث، وقالت في نفسها: لا بد أن تكون رقيقة الطباع لا سيما وهي ابنة لورد نبيل.

ولكنها حين وصلت إلى الغرفة، ورأت مس ألن أزاحت النقاب، ونظرت إليها بعينيها البراقتين لم يسعها إلا الارتعاش.

وقالت لها مس ألن: إن الوقت أضيق من أن ننفقه بالإسهاب الممل، وسأوضح لك سبب زيارتي بأوجز كلام، فقولي ألم تكوني مربية أطفال؟

– نعم.

– ألَمْ تتعودي خنق أولئك الأطفال حين لا تجدين فائدة من أهلهم؟

فاصفرَّ وجه مسز فانوش، وقالت: إنها أراجيف يا سيدتي أشاعها عني بعض أهل الشر.

– بل رواها رجل يُدعَى ويلتون، وهو الآن في السجن.

واضطربت فانوش حتى لم تَعُدْ تعلم بما تجيب، فهزت مس ألن كتفيها، وقالت لها: لقد قلتُ لك أيتها السيدة إن ضيق الوقت يمنعني عن الإسهاب، فاعلمي الآن أني أتيت لأخيِّرك بين أمرين، وهما إما السجن والحكم بالإعدام، وإما التبرئة ومكافأتك بأربعة آلاف جنيه، وهي ثروة تعيشين من ريعها مدى الحياة.

وحاولت فانوش أن تتكلم فقاطعتها مس ألن بجفاء، وقالت: اصغي إليَّ، تعلمي أني عالمة بكل شيء، فإنه منذ بضعة أشهر كتب إليك ضابط عائد من الهند يُدعَى الماجور واترلي، يطلب إليك إرجاع ولده الذي ائتمنك عليه.

وصاحت مسز فانوش قائلة: هو ذا يا سيدتي برهان على براءتي مما يتهمونني به، فإني أرجعت هذا الغلام إلى أبيه الماجور، والبرهان أنه اليوم في مدرسة أبناء المسيح.

فابتسمت مس ألن وقالت: إني أعرف كل ما تقولينه، وأعرف أيضًا أن هذا الغلام ليس هو ابن الماجور، بل هو غلام أرلندي يُدعَى رالف وأنت التي سرقته.

وأطرقت فانوش برأسها إلى الأرض حين رأت مس ألن واقفة على حقيقة أمرها.

وعادت مس ألن إلى الحديث فقالت: إن الغلام قد هرب وسقط بأيدي عصابة من اللصوص أدت به إلى السجن في سجن الطاحون، فأنقذه رجل يدعونه الرجل العبوس كي تقدِّميه للماجور واترلي بصفته ولدًا له.

واصفرَّ وجه فانوش عند ذكر الرجل العبوس، وقالت: إن هذا الرجل قوي شديد، وقد أمرني ولم أجد بُدًّا من الامتثال.

وأجابتها مس ألن ببرود: إذن اعلمي أني أنا عدوة هذا الرجل الشديد، والحرب ناشبة بيني وبينه.

– أأنت تجسرين على معاداة الرجل العبوس؟

وقالت الفتاة بلهجة الواثق مما يقول: إني على وشك الظفر به الآن، وسأسحقه قريبًا سحق الزجاج، غير أني محتاجة إلى مساعد لأضربه الضربة القاضية، وهذا المساعد هو أنت.

فارتعشت فانوش من الخوف وقالت: كلا يا سيدتي، لا أجسر على معاداته.

فمدت مس ألن يدها إلى جيبها، وأخرجت منها ورقة عرضتها عليها.

ووجف قلب فانوش وقالت: إن هذا أمرٌ بالقبض عليَّ؟

– نعم، وهو موقَّع عليه من ناظر الحقانية.

– رباه، إذن هلكت.

– هو ما تقولين، فإني أستطيع — حين أريد — إعطاء هذا الأمر إلى اثنين من رجال البوليس فيذهبان بك إلى السجن، ولا يكون جزاؤك غير الشنق بعد أسبوع، ولكني أؤثر أن أجازيك بما وعدتك به من المال إذا كنتِ تخدمينني.

– ولكن إذا خدمتك يقتلني الرجل العبوس.

– وإذا لم تخدميني تُشنَقين، فاختاري أهون الوبائين.

– ويلاه! وأية فائدة من الاختيار بين الشرَّيْنِ إذا كان الموت يجول بينهما؟

– لا تقنطي واصغي إليَّ، ترين أن هذه الأخطار يمكن اتِّقَاؤها، فإني حين أستخدمك للقضاء قضاء مبرمًا على الرجل العبوس يُشنَق هذا الرجل في اليوم نفسه، ولا يستطيع الانتقام منك.

– ماذا يجب أن أصنع؟

– يجب أن تبادري بالكتابة لناظر الحقانية أن الولد الذي رُدَّ إلى الماجور واترلي ليس ولده، وأنه أرلندي اسمه رالف، وأنه نفس الغلام الذي هرب من سجن الطاحونة.

– ولكني إذا كتبت هذه الكتابة أكون قد اعترفتُ بجنايتي.

– دون شك، ويجب أن تعترفي أيضًا أنك دفعت ولد الماجور واترلي الحقيقي إلى حليف لك يُدعَى ويلتون فأغرقه في النهر.

– أذن يحكمون عليَّ بالشنق.

– هو ما تقولين، ولكنك تنالين عفو الملكة.

– مَن يضمن لي نيل هذا العفو؟

وقالت لها مس ألن ببرود وبلهجة دلَّتْ على الإخلاص الأكيد: يضمنه لك ابنة اللورد بالمير واللورد بالمير نفسه.

٤٦

طلع النهار كما يطلع عادة في لندرا، أي إن الضباب يحمر ويرق حتى ترى الأشجار من خلاله.

وقد نفذت أشعته إلى الغرفة التي كانت فيها ابنة اللورد، فقالت لمسز فانوش: هو ذا الصباح قد بزغ ولم أَعُدْ أستطيع البقاء، فإذا كنتِ لا تزالين خائفة من العبوس، هلمي معي أذهب بك إلى موضع أمين لا يصلك فيه شر المعتدين.

– إلى أين تذهبين بي؟

– إلى منزل الأسقف بترس توين أعظم رجال لندرا نفوذًا.

– إني لم أسمع أبدًا بهذا الاسم.

فابتسمت مس ألن وقالت: ولكنك سمعت بأسقف كنتربوري دون شك، فاعلمي أن هذا الأسقف العظيم يتلقَّى من السير بترس توين أوامر سرية.

وعلمت فانوش أنه لم يَعُدْ بد لها من الانقياد إلى ابنة اللورد؛ لأنها كانت تحمل الأمر بإلقاء القبض عليها، فقالت لها: إني مستعدة للذهاب معك إلى حيث تشائين.

واتشحت مس ألن بردائها، وأرخت النقاب على وجهها، وخرجت بفانوش من ذلك المنزل إلى مركبتها، وأمرت السائق أن يذهب بها إلى منزل الأسقف بترس توين.

وكأنما هذا الأسقف كان ينتظر زيارة مس ألن، فإنه بقي ساهرًا إلى هذه الساعة، ولما وصلت المركبة إلى منزله دخلت مس ألن إليه مع فانوش وعرَّفته بها قائلة: هذه هي المرأة التي حدَّثْتُك عنها.

فأدخل الأسقف الاثنين إلى قاعة الاستقبال، وأخذ ينظر إلى فانوش نظرات الفاحص، فأشارت له مس ألن إشارة سرية أدرك قصدها، وذهب إلى غرفة أخرى فتبعته مس ألن تاركةً فانوش وحدها في القاعة.

ولما خلا الاثنان قال لها الأسقف: أرضِيَتْ بما اتفقنا عليه؟

– إنها رضِيَتْ بكل شيء، فهل أبلغت ناظر الحقَّانية؟

– دون شك، ألَمْ أرسل لك الأمر بالقبض عليها، ولكني أرى صعوبة جديدة لم نكن نتوقَّعها؛ فإن هذه المرأة ستكتب حكايتها بيدها، ثم تؤيد باعترافها الشفاهي أمام البوليس ما كتبته بيدها.

– ولكني وعدتها بالعفو.

– ذلك صعب، لأنها ستُحاكَم علنًا وتنشر الجرائد أخبارها، وتحول دون العفو.

– ولكن لا سبيل إلى محاكمتها، إذ يمكن إطلاق سراحها بضمانة، فتبرح إنكلترا قبل المحاكمة.

– ولكنك ربما تجهلين نظام مدرسة أبناء المسيح، وما تتمتع به من الامتيازات منذ عهد إدورد السادس مُنشِئها.

– سوف ترى أني لا أجهل شيئًا، فإن كل تلميذ من تلامذة هذه المدرسة، يلبس الوشاح الأزرق والجرابات الصفر لا يمكن القبض عليه، إلا إذا ارتكب جريمةً في الطريق خارج المدرسة.

وأنا أعلم أنه لو قيل للبوليس إن هذا الغلام متنكر باسم سواه، وأنه من المجرمين المحكوم عليهم، فإما يصدِّق أو ينكر، وفي الحالين لا يجسر أن يقبض عليه.

وحتى لو تمكَّنَّا من إغراء أحد رجال الشرطة، وقبض عليه وذهب به إلى سجن الطاحون وعرفه جميع الحرَّاس، فإن اللورد المحافظ يسرع في الحال إلى طلبه وإخراجه.

فقال لها الأسقف: أرأيتِ إذن كيف أن مساعينا تُحبَط أمام الامتيازات الممنوحة لهذه المدرسة؟

– ولكن الحيلة تعيننا على هذه الامتيازات، فإن الشرطة ستقبض على الغلام بغير زيِّه المدرسي.

ألَمْ أَقُلْ لكَ إني اتفقت مع امرأة تُدعَى الآشورية على أن تغري الماجور واترلي؟ إذن فاعلم أن دور الغواية قد بدأ، وأنه لا تمضي ثمانية أيام حتى يصبح هذا الماجور آلة بيد تلك الحسناء تعبث به كما تشاء، ولا تعود تخطر امرأته له في بال، ثم إني احتلتُ أيضًا على إبعاد امرأته كي يخلو الجو للآشورية، فإنها الآن خارج لندرا.

– ماذا فعلتِ؟

– إني احتلتُ حيلة بسيطة، وهي أنه بعد أن خرج زوجها من منزله ذاهبًا إلى قاعة جهنم كي يشرب الأفيون، وامرأته تحسب أنه ذهب إلى النادي حسب العادة، زوَّرْتُ تلغرافًا وأرسلته إليها، وخلاصة هذا التلغراف أن أخاها في إيكوسيا، أُصِيب فجأةً بمرض شديد، وأنه لا بد من حضورها.

فلما وصلها هذا التلغراف الملفَّق، بحثت عن زوجها في كل مكان فلم تجده؛ لأنه كان عند مسز بيرتون، فتركت له كتابًا في المنزل وفي النادي، وسافرت في الحال إلى إيكوسيا، وهي ستجد أخاها معافًى عند وصولها، فتعلم أن التلغراف مزوَّر.

ولو افترضنا أنها عادت توًّا يقتضي لذلك أسبوع، وهو كافٍ لإتمام مهمتنا، وذلك أن الماجور واترلي سيصير في خلاله عبدًا للآشورية، كما هو عبدٌ للأفيون، ومن عادته أن يحضر ابنه مرةً في الأسبوع من مدرسة أبناء المسيح، ويجيء به إلى المنزل، ولكنه سيجيء به هذه المرة إلى منزل الآشورية لغياب امرأته.

– ولكننا لا نزال حيث كنَّا من الصعوبة، فإن كل أب ينقل ولده إلى هذه المدرسة، يتعهَّد أن لا ينزع ملابسه، إلا بعد أن تنتهي مدة تعليمه.

– إني أعرف كل ذلك، ولكن الماجور لا يخل بتعهده، بل إن الآشورية تسكره بالأفيون حتى يضيع رشاده، وعند ذلك تغوي الغلام وتلبسه ملابس أجمل من ملابسه وأكثر لمعانًا.

– وعند ذلك تحضر الشرطة؟

– هنا ينتهي عملي، ويبدأ عملك.

– ولكنك تعلمين أن القبض على الناس في المنازل يحرِّمه الشرع.

– ولكنه غير محرَّم في هايد بارك، فإن الآشورية تغتنم فرصة انشغال الماجور بسكره الأفيوني، وتذهب بالغلام بغية التنزه بالحدائق.

وبينما كان الأسقف ينظر إلى مس ألن نظر المعجب بذكائها وتوقُّد ذهنها، سمع قرع الباب الخارجي ثم رأى أن باب الغرفة قد فُتِح ودخل منه سكرتيره، وقال: إن رئيس البوليس قد حضر يا سيدي.

– أَدْخِلْه إلى قاعة الاستقبال.

ثم ذهب بنفسه إلى تلك القاعة التي كانت تنتظر فيها فانوش على أحر من الجمر، وهي لا تعلم ما يكون مصيرها، فقال لها: لقد حان وقت اعترافك يا سيدتي بكل شيء.

وعند ذلك فُتِح الباب ودخل رئيس البوليس، فجعل العرق البارد ينصب من جبينها، وقد اشتدَّ رعبها لمنظر البوليس، حتى خُيِّلَ لها أن المشنقة قد نُصبت أمامها، وأن الجلاد يقول لها لقد جاء دورك الآن فاصعدي.

٤٧

وَلْندخل الآن إلى منزل الآشورية، فإن هذه الحسناء التي كان الناس يقتتلون عليها، والتي كانت عيناها تفعل فعل السحر بألباب الرجال، كان لها منزل عظيم في بورتلاند بالاس يشبه القصور الفخمة.

وذلك أن السير أرثر، ذلك النبيل المنكود الذي انتحر في سبيل هواها، بنى لها القصر وأهداها إياه من خلال ضريحه، فإنه كان قد شيَّد هذا القصر من أجلها، فاستعان على بنائه ونقوشه بخير المهندسين والمصوِّرين والنقَّاشين، وأنشأ فيه حديقةً غنَّاء، وضع فيها التماثيل الجميلة، فبات أشبه بهيكل بناه لمعبوده.

غير أن معبوده أبى أن يقيم فيه ذلك العهد، فلما قنط السير أرثر من حبها انتحر، فوجدوا في وصيته أنه يهب هذا القصر بما فيه من الرِّيَاش للآشورية، فاستولت عليه غنيمة باردة وأقامت فيه دون أن يزجرها ضميرها كأنها اشترته بمالها.

وفي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم الذي جاءت فيه مس ألن بفانوش إلى منزل الأسقف، كانت الآشورية جالسةً عند نافذة غرفتها المطلة على الحديقة، تستنشق نسيم الصباح، وتتدفأ بأشعة الشمس التي فازت على الضباب وبدَّدته.

وكانت تنظر من حين إلى حين إلى رجل كان نائمًا في غرفتها على مقعد طويل وهو الماجور واترلي نفسه.

وكان نائمًا بملابسه — وهي مختلة النظام، وهو منفوش الشعر — نومًا عميقًا يدل على أنه أفرط في شرب الخمر والأفيون.

وكان في زاوية الغرفة مائدة عليها بقايا الطعام والشراب، وفي قربها نارجيلة ذات أنبوب طويل.

وكانت الآشورية تنظر إليه من حين إلى حين نظرات الفاحص، ثم تعود إلى الحديقة وتنظر إلى بابها نظرات الجزع، كأنها كانت تنتظر قدوم زائر.

ثم سمعت صوت مركبة وقفت عند بابها، فقالت في نفسها: سوف تراه نائمًا، وتعلم أني وفَّيْتُ بوعدي.

وعند ذلك خرجت امرأة من تلك المركبة، كانت تدل خطواتها أنها في عهد الصبى، وكانت مقَنَّعة بقناع كثيف يستحيل معرفة وجهها من خلاله، ولكن الرجل العبوس لو لقيها وأرسل نظراته من النافذة إلى ذلك القناع لاخترقه، وعلم أنها مس ألن، فإنها هي نفسها كانت تلك الزائرة التي تتوقعها الآشورية.

وكانت عائدة من منزل الأسقف بترس توين، حيث جرى كل شيء فيه طِبْق رغائبها، فإن مسز فانوش غرَّها المال وأخافها العقاب، فاعترفت لرئيس الشرطة بأن ابن الماجور واترلي قد أماته خادمها غرقًا، وأنها قدَّمَتْ له بدلًا منه الغلام الأرلندي وأوهمته أنه ولدها.

وبعد أن كتبت اعترافها اتفق الأسقف مع رئيس الشرطة على إطلاق سراحها بضمانة قَدْرها ألف جنيه، فدفعت مس ألن المال، وأقامت فانوش في منزل الأسقف آمنةً انتقامَ الرجل العبوس.

أما مس ألن فقد كان ظمؤها إلى الانتقام من العبوس شديدًا، فأرادت قبل أن تُرسِله إلى المشنقة أن تنزع من نفسه كل رجاء، فتقضي على حليفته فانوش، وتعيد ابن أرلندا إلى سجن الطاحونة، وتضرب الأرلنديين الضربة القاضية.

وبعد أن ذهب رئيس البوليس، قالت لبترس توين: يجب الآن أن تهتم بإيجاد رجل ثقة خبير من خير رجال الشرطة، فإن مثل هذه المهمة لا يجب أن تُعهد لغير الأكفاء.

وعند ذلك افترق الاثنان، فذهب الأسقف إلى إدارة الشرطة العمومية، وذهبت مس ألن إلى منزل الآشورية.

فلما وصلت ورأت الماجور واترلي نائمًا، وقربه نارجيلة الأفيون، ظهرت عليها علائم السرور، ونزعت برقعها وظهرت للآشورية بجمالها وعلائم كبريائها، فغَضَّتْ بصرها وشعرت أنها لا تستطيع إلا أن تكون خاضعة لهذه الفتاة.

أما مس ألن فإنها جلست، وقالت لها: ماذا حدث؟

وبقيت الآشورية واقفةً احترامًا، وقالت: لقد أتيت به منذ الساعة الرابعة بعد أن كاد يفتتن بي، وأقسم لي أنه يتبعني إلى حيث أريد، فتعشينا وشرب مقدارًا كبيرًا من الخمر، وكثيرًا من الأفيون حتى غاب عن الصواب، ولكنه استيقظ من الصباح، وعاد إليه شيء من صوابه، فذكر امرأته وقال: مسكينة إنها الآن على أسوأ حال لغيابي.

فأطلعته على كتابها إليه، وهو الكتاب الذي تخبره به عن أخيها ومرضه الفجائي واضطرارها إلى السفر إلى إيكوسيا، ثم أخبرته أن امرأته أرسلت هذا الكتاب إليه في النادي، فأرسلوه من النادي إليَّ.

فقرأ الكتاب وتأثَّر تأثيرًا أطار سكرته، فأخذتُ يده بين يدي، وقلتُ له: إذا كانت امرأتك قد سافرت، فمِمَّ تخاف؟

فرأيت أن جسمه قد تكهرب لنظراتي، فناديت خادمتي وأمرتها أن تعد النارجيلة، وأخرجت من درجٍ حبةً من الأفيون، فلما رآها أشرق وجهه ونسي كل ما فيه، وأقبل على أنبوب النارجيلة، فما تركه حتى نام وبات كما ترينه الآن.

فقالت مس ألن: لقد أحسنت، ولكن يجب إيقاظه بعد ساعة أو ساعتين، فَلْيُدْعَك صدغاه وأعصابه بهذا الماء.

ثم أعطت الآشورية قنينة فيها سائل أحمر، وقالت لها: إنك إذا فركت صدغيه بهذا السائل استفاق، ويبقى خامل الذهن، ولكنه يفهم ما تقولين له.

– ماذا تريدين أن أقول له؟

وقالت لها مس ألن بلهجة السيدة الآمِرة التي تعوَّدَتْ أن تُطَاع: اصغي إليَّ، تعلمي ما أريد.

٤٨

قد يعجب القراء من خضوع الآشورية لمس ألن على ما مثلت به هذه المرأة من الشهرة والدلال على عشاقها، وتألق أهل الشبيبة من حولها، ومَن كان في منزلتها لا يخضع التماسًا للمال ولا يرهب علو المقام.

غير أن هذه الحسناء، على وفرة جمالها وسلطان دلالها، كانت مقيَّدَة بماضيها الذي يجهله جميع سكان لندرا، ما خلا السير بترس توين، ومس ألن.

وقد اتفق أن مس ألن كانت محتاجة، لتنفيذ أغراضها الخفية، إلى امرأة جميلة مدنية تستطيع أن تقودها بلجام ذنوبها الماضية، وتعهد إليها إغواء رجل فتطيع، فكاشفت بأمرها السير بترس توين، فأرشدها إلى الآشورية.

وقد كان هذا الأسقف معروفًا بنفوذه، وانتشار بوليسه السري في سائر أنحاء لندرا، فلم تكن تخفاه خافية من كل ما يجري فيها، وإذا أراد نكاية أحد من كبار القوم عمد إلى الدسائس مستعينًا عليها بما لديه من الأسرار، فأنزله إلى الحضيض.

وحكاية هذه الآشورية أنها كانت إنكليزية، وقد سرقت سرقات كثيرة وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وكانت تُدعَى في ذلك العهد إينا بيتلام وهي إسرائيلية.

وقد حُكِم عليها بالسجن عشرة أعوام؛ عقابًا على جرائمها العديدة، فساعدها أحد عشَّاقها على الفرار من السجن.

وبرحت إنكلترا، وذهبت إلى فرنسا، ثم إلى إيطاليا، فشفع جمالها بغموض ماضيها، وأقامت في دار الغربة عشرة أعوام إلى أن وثقت من نسيان أمرها في لندرا، فحنَّتْ إلى الوطن وعادت إلى لندرا منذ عام، فلقيت من احتفاء الشباب بها ما جعلها في مقام الأميرات.

وبقيت وهذا دأبها إلى أن اكتشف بوليس هذا الأسقف أمرها، فلما طلبت إليه مس ألن امرأة حسناء مجرمة أرشدها إلى الآشورية، وحكى لها كل ما عرفه عن ماضيها.

ففي الليلة نفسها تنكَّرَتْ مس ألن وذهبت إلى منزل الآشورية، وكان أول ما فاجأتها به أنها حيَّتْها باسمها القديم أي إينا بيتلام، فاصفرَّ وجهها وعلمت أن أمرها قد انفضح، ولم تكن إلا في غرور.

فاغتنمت مس ألن فرصة اضطرابها، وقالت لها: إنك الآن مهدَّدة بالعودة إلى السجن إلا إذا خدمتني خدمةً صادقةً في ما أريد، وأنا لا أطلب إليك ما يستحيل إجراؤه، بل أسألك قضاء أمر تفعلين مثله في كل ليلة، وفوق ذلك أكافئك خير مكافأة.

فرضخت الآشورية لمطالبها، وباتت عبدةً لها منذ ذلك الحين، ففعلت كل ما طلبته إليها.

فلما فاجأتها أخيرًا، ورأت الماجور نائمًا كما قدَّمْناه، قالت لها: اصغي إليَّ الآن، فإنك تعلمين الدور الذي يجب أن تمثليه حين يصبح الغلام في منزلك.

وقد كنتُ أمسِ متردِّدةً في تعيين اليوم الذي يجب فيه الإجراء؛ لأني كنتُ أجهل تأثيرك بالماجور، أما وقد وثقت من حسن هذا التأثير، فقد حان وقت العمل.

اعلمي الآن أن هذا الماجور حين يستفيق من سكره قد يخطر على باله عزيزان، وهما امرأته وولده، فإذا صحا تأمري خادمك أن يذهب إلى منزل الماجور فيعود منه بهذه الرسالة البرقية المزوَّرة المختومة، وهذه الرسالة من امرأته إليه وهي تحتوي على ما يأتي:

زوجي العزيز

إن أخي بات آمِنًا من الخطر، وأنا سأقيم بين العائلة أربعة أيام، وفي اليوم الخامس أكون في لندرا.

ثم أعطتها الرسالة قائلةً: إن الماجور حين يطمئن على امرأته، ويعلم أنها ستغيب خمسة أيام، يعدُّ نفسه سعيدًا بالإقامة عندك في هذه المدة.

غير أنه يذكر أن هذا اليوم يوم الخميس، أي يوم الإجازة في مدرسة أبناء المسيح، وأنه تعوَّدَ أن يذهب بولده إلى النزهة في مثل هذا اليوم من كل أسبوع، فإذا كان ذكر أمامك، وهو لا بد أن يذكره، فأَظْهِرِي شوقك إلى رؤية ابنه، وعليَّ الباقي. أعلمتِ ما أريد منكِ؟

– نعم.

– إن الغلام يتغدَّى عندك، وفي خلال الغداء اسقي الماجور من قناني الخمر التي جئتُ بها إليكِ، فإن فيها مخدِّرًا إذا شربه نام على الأثر، وعند ذلك تُظهِرين للغلام هذه الملابس الجميلة التي أحضرتُها لكِ أيضًا، وتُلبِسيه إياها بدلًا من ملابسه.

– وفي أية ساعة تريدين أن أذهب؟

– في الساعة الثامنة بعد الظهر، فتدخلين به من باب بال مال، وتذهبين به ماشيةً إلى ضفاف الغدير، فأمُرُّ بك ممتطية جوادًا وأشير إليك إشارةً خفيةً أعيِّن لكِ فيها المكان المقيم فيه البوليس السري.

فوعدتها الآشورية بالامتثال لرغائبها، فأرْخَتْ مس ألن نقابها الكثيف على وجهها، وذهبت إلى مركَبَتها، فعادَتْ توًّا إلى المنزل.

وكان أبوها قد عاد من النادي، فنام وهو يحسب أن ابنته نائمة حسب عادتها، فلما وصلت مس ألن إلى المنزل رأت عند الباب رجلًا ينتظرها، وهو رجل نحيف الجسم واضعًا على عينيه نظارات زرقاء، فأعطاها رسالةً وقال لها: إنها من السير بترس توين.

ففَضَّتْها وقرأت فيها ما يأتي:

إني مرسِل إليك رجلًا من رجال البوليس السري، وهو ثابتُ الإرادةِ شديدُ العزيمةِ، فسيقبض على الغلام بمهارة، بحيث لا يستلفت إليه الأبصار، غير أنه لما كنَّا نخشى تيقُّظ الأرلنديين ومراقبتهم لهذا الغلام الذي يعتبرونه سيدهم الأعلى، أعطتني إدارة البوليس كثيرًا من الجنود السرية يخفرون البوليس الذي سيقبض على الغلام، ويحولون دون هجوم الأرلنديين.

فلما أتمَّتْ مس ألن تلاوة الرسالة، نظرت إلى هذا الرجل، فأعجبَتْها سكينته الواضحة وقالت: أتعلم أني قد عيَّنْتُ جائزةً قَدْرها ألف جنيه لمَن يقبض على الغلام.

– أشكرك يا سيدتي، ولكني لا أعرفه.

– اذهب في الساعة الثامنة بعد الظهر إلى الحدائق، وقِفْ عند مدخلها من جهة بال مال أُظهِرْه لك.

فانحنى الرجل مسلِّمًا عليها بملء الاحترام وانصرف.

٤٩

في هذا اليوم نفسه قبل أن تشرق الشمس، وقبل أن يتبدَّد الضباب المخيم على لندرا، كان نور ينبعث من نافذة غرفة في مدرسة أبناء المسيح، وأشعته تضطرب من وراء الستائر.

وكانت هذه الغرفة غرفة امرأة صبية، هي إحدى الغاسلات في تلك المدرسة.

وكانت المرأة تنقطع عن العمل من حين إلى حين، وتطل من النافذة فتزيح الستارة وتتطلع إلى الشارع.

على أنها لم تكن تتوقع دخول أحد إليها من الخارج، فإن هذه المدرسة لا يدخل إليها غريب عنها، ولكنها كانت تطل كي تراقب الفجر، وتعلم الساعة التي هي فيها، فإنها كانت تنظر دنو الساعة السابعة بفارغ الصبر، فلما دقَّتِ الساعة دق الجرس، فبدت على وجه المرأة علائم السرور.

وكان هذا الجرس جرس المدرسة المؤذن باستيقاظ التلامذة، وهذه المرأة والدة ابن أرلندا التي أدخلها العبوس إلى المدرسة بصفة عاملة كي ترى ابنها كل يوم؛ إذ لم تكن تطيق فراقه.

فبعد أن دق الجرس بعشر دقائق قُرِع باب غرفة الأرلندية، ودخل ولدها رالف فأكَبَّ على عنقها يقطعه تقبيلًا ويقول: ما أطول الليل يا أماه! فإني لم أرك منذ أمس.

– اسكت ولا تناديني بأمك، فأنت تعلم أني في عيونهم مربيتك، وإذا عرفوا حقيقة أمرنا كان جزاؤنا الشنق.

فرعب رالف وقال: إنهم يرجعونني إلى سجن الطاحونة، أليس كذلك؟

– نعم يا بني وا أسفاه، وكفى أنهم أذنوا لي أن أراك في صباح كل يوم، ثم ضمته إلى صدرها وجعلت تقبِّله قبلات حنو لا يدرك حقائق أسرارها غير الأمهات، وقالت له: أتعلم أن هذا اليوم يوم خميس، أي يوم الإجازة المدرسية؟

– نعم، وسيأتي هذا الرجل الذي أدعوه بأبي فيذهب بي إلى النزهة، وإنه كثير الرأفة بي، وهذه المرأة التي أغضب حين اضطر إلى أن أدعوها بأمي تقبِّلني حين تراني، وتذرف الدمع السخين فلا يسعني عند ذلك إلا البكاء؛ لأني أفتكر بك.

– كلا يا رالف، إني لا أريد أن تبكي، بل أريد أن تحب هذه المرأة، والآن افتكر يا بني أنك ستراني اليوم مرتين.

فصفق الغلام بيديه سرورًا وقال: كيف ذلك؟

– ذلك لأني أنا أيضًا سأخرج اليوم من المدرسة، فإن هذا اليوم من الأعياد، ومدير المدرسة يعلم أني كاثوليكية، فأَذِن لي بالذهاب إلى كنيسة سانت جيل مرتين في الأسبوع، والآن قُلْ لي متى يأتي الماجور واترلي عادةً للذهاب بك إلى النزهة؟

– في الساعة العاشرة صباحًا.

– إذن سأذهب إلى الكنيسة قبل هذه الساعة، ثم لا بد من أن أعود إلى المدرسة توًّا، فأقف عند الباب وأنتظر خروجك، فأراك مرتين.

وهنا دق جرس المدرسة مرةً ثانيةً مؤذنًا بدخول التلامذة إلى قاعات التدريس، فودَّع رالف أمه باكيًا وانضم إلى التلامذة.

وبعد ذلك بساعة كانت الأرلندية داخلة إلى كنيسة سانت جيل، وكان رجل واقف عند الباب وهو خادم الكنيسة، فلما رآها دنا منها وقال لها: إن الأب صموئيل أمرني أن أنتظرك هنا لأخبرك أنه يجب أن يراك.

فقلقت الأرلندية لهذه الدعوة، وافتكرت بابنها وحسبت ألف حساب، وجعلت تقول في نفسها: ما عسى أن يريد مني الكاهن، لا شك أنه يوجد خطر جديد.

ولما انتهت الصلاة أسرعت إلى الكاهن وقالت له: ماذا حدث؟ وأي خطر ينذر ولدي؟

– إنهم يريدون اختطافه من مدرسة أبناء المسيح.

فاصفرَّ وجه الأرلندية اصفرارًا شديدًا، وعُقِد لسانها فلم تستطع أن تنطق بحرف.

فقال لها الكاهن: لقد وردني أمس من الرجل العبوس هذه الرسالة، وهذه هي فاقرئيها.

فتناولتها تلك الأم المنكودة بيد تضطرب، وقرأت ما يأتي:

يوجد خطر جديد يتهدَّد الغلام، ولم أعرف حقيقة أمره بعدُ، ولكني سأعرفه قريبًا، وأما الذي علمته الآن فهو أنهم يحاولون اختطاف الغلام من مدرسة أبناء المسيح، ولذلك يجب الحذر الشديد، فإذا رأيت أم الغلام قُلْ لها أن تقف في مواقف الحذر.

فصاحت الأرلندية: رباه ما عساهم يفعلون بولدي بعد كل ما فعلوه؟

فطيب الكاهن خاطرها، وقال لها: لا تخشي أمرًا فإن الله يحمينا، لكن عودي الآن في الحال إلى مدرسة أبناء المسيح، فراقبي ولدك كل المراقبة.

– لكن اليوم يوم الإجازة المدرسية، وسيحضر الماجور واترلي فيذهب به إلى النزهة حسب عادته كل يوم خميس.

– إذن اجتهدي أن تريه قبل ذهابه، وقولي له أن لا يخلع وشاحه الأحمر، ولا جراباته الصفراء مهما حدث له، فإنه ما زال متَّشِحًا بهذه الملابس لا يستطيع أحد أن يقبض عليه.

وغادرته الأرلندية، وذهبت وهي تفتكر كيف تستطيع أن ترى ولدها قبل ذهابه إلا إذا انتظرته في الطريق.

ولما استقرت على هذا الرأي قرَّرت أن تنتظره عند باب المدرسة.

وكان يوجد قرب هذا الباب دكان بائع حلوى، فدخلت وجلست في مكان مشرف على الطريق، وطلبت شرابًا وحلوى كي يحق لها الإقامة والانتظار.

ولم يَطُل انتظارها، فإنها رأت بعد حين مركَبَة وقفت عند باب المدرسة، وخرج منها الماجور واترلي، فأسرعت إليه قبل أن يقرع الباب؛ لأنها لا تستطيع محادثة ولدها إلا بواسطة الماجور، وكان الماجور غائر العينين، أصفر الوجه، مستدلي الشفة، كما يكون عادةً شرَّابُ الحشيش والأفيون حين يستيقظون.

وقد حدث كل شيء وفقًا لرغائب مس ألن، فإن الماجور واترلي حين استفاق من سكره، ورأى الآشورية أمامه لم يذكر شيئًا مما مضى وقال: أين أنا؟

ثم عادت إليه الذكرى وصاح صيحة الوجل، وذكر اسم امرأته، فأعطته الآشورية ذلك التلغراف المزوَّر، وعلم منه أن امرأته في إيكوسيا، وأنها لا تعود إلا بعد أسبوع، واطمأن باله ونظر نظرة المفتون إلى الآشورية، وذكر انطلاق حريته بغياب امرأته، ولم يَعُدْ يذكر غير تلك الحسناء، حتى أنه نسي ولده.

غير أن الآشورية لم يَرُقْ لديها هذا النسيان، وقالت له: ألعلك نسيت أيها الحبيب أن اليوم يوم خميس، أم أنك لا تحب أن تذهب بابنك إلى الحدائق؟

– كلا، ولكن جمالك أنساني كل شيء حتى هذا اليوم.

– أما انا فلا أنساه؛ لأني أحب أن أرى ولدك، لقد أحببته لأنه ابنك. ثم طوقت عنقه بذراعيها، وقالت له: أَلَا تأذن لي بأن أراه أيها الحبيب، وأن يتغدى معنا اليوم على مائدتي؟

– دون شك، وها أنا ذاهب الآن لفوري.

ثم قام وهو يتعثر من سكره، وأصلح ثيابه وخرج من عند الآشورية إلى مدرسة أبناء المسيح، وهو لا يزال خامد الذهن لإفراطه في شرب الأفيون، حتى إنه حين دنت منه الأرلندية عند باب المدرسة وحيَّته، نظر إليها منذهلًا ولم يعرفها فقال لها: مَن أنت؟ وماذا تريدين؟

أما الأرلندية فإنها اضطربت، وقالت له بصوت يتلجلج: إني مرضع ولدك، وأحب أن أراه.

وتذكرها الماجور عند ذلك وقال: حسنًا، سترينه حين أخرج به من المدرسة.

فتركها ودخل.

وكانت الأرلندية قد رأت هذا الماجور مرارًا ولم تعهد به غير الدعة وحلاوة اللسان، وراعها ما رأته من الانقلاب، وخشيت أن يكون ذلك من صنع الذين يريدون اختطاف ولدها.

وبعد نصف ساعة خرج الماجور بالغلام، ولما رأى أمه أسرع إليها وأخذ يقبِّلها، وكان الماجور ينظر إليها نظرات خامدة ساهية كنظرات شرَّاب الحشيش.

أما الأرلندية فإنها أوهمت الماجور أنها تقبِّل ولدها، وهمست في أذنه قائلةً باللغة الأرلندية: أوصيك يا ولدي أن لا تخلع هذه الملابس عنك مهما اختلقوا لك من الحجج، أتعدني بذلك يا بني؟

– دون شك، إني لا أخالف لك أمرًا.

وعند ذلك أخذ الماجور رالف من يديه وصعد به إلى المركَبَة، وأمر السائق أن يسير.

وسارت المركبة، ووقفت الأرلندية تشيعها باكية حتى توارت عن الأنظار.

وعند ذلك همت بالدخول إلى المدرسة، ففاجأها عبد أسود لم تكن تراه وناداها، وأجفلت لمنظره، وقالت له: مَن أنت؟ وكيف تعرفني؟

– أنا شوكنج يا سيدتي، لا تدخلي المدرسة بل اتبعيني ولا تخافي؛ لأن الرجل العبوس ساهر على ولدك، وأنا آتٍ إليك من قِبَله.

وعرفته الأرلندية من صوته، وسارت معه وهي تنظر إلى سواد لونه، منذهلةً لهذه الاستحالة.

٥٠

أما الماجور واترلي، فإنه سار برالف إلى منزل الآشورية، ولم يكن الغلام قد أدرك القصد من تحذير أمه أن لا يخلع ملابسه، غير أنه قرَّر أن يطيعها، لقد كان على حداثته وافر العقل، وعلم أن أمه لم تحذِّره هذا التحذير عبثًا.

وكان الماجور واترلي قد عوَّده أن يذهب به كل يوم خميس إلى منزله، ولما رأى المركَبَة وقفت عند باب منزل لا يعرفه أنكر ذلك، وسأله: لماذا أتيت بي إلى هذا المنزل؟

فانتبه من خموله وقال له: إن أمك سافرت إلى إيكوسيا لبعض الشئون، وهذا المنزل لقريبة لي تريد أن تراك.

وكانت الآشورية تتنزه عند ذلك في الحديقة، وقد أعياها الانتظار، ولما رأت الماجور داخلًا برالف أسرعت إلى الفتى، وأخذت تقبِّله قبلات تدل على الحنو، وتكلمه ألطف كلام، ثم صعدت به إلى المنزل وتبعها الماجور، فجلسوا جميعهم على مائدةٍ وُضِع عليها أفخر أنواع الطعام، فأكلوا وصُبَّتِ المُدَام في الكئوس، وهي المُدَام التي أرسلتها مس ألن فسكر الماجور وتخدَّر جسمه بما وُضِع في الخمر من المواد.

أما رالف فإن الآشورية كانت لا تسقيه من الخمر لاعتقادها أنه لا يمانع في تغيير ملابسه، فلا فائدة من تخديره.

وكان الغلام قد تعوَّد هذه النزهة الأسبوعية في الحدائق، وكان ينتظرها بفارغ الصبر كل يوم خميس، ولما رأى أن الماجور قد تخدَّر ونام، نظر إليه نظرة الحزين وقال: لم يَبْقَ سبيل لذهابنا اليوم إلى الحدائق.

فضمته الآشورية إلى صدرها بملء الحنو، وقالت: سأذهب بك أنا يا بني.

– أنتِ يا سيدتي!

– نعم أنا، انظر يا بني من النافذة أَلَا ترى المركَبَة مُعَدَّة؟

فأطلَّ رالف من النافذة، ورأى مركبة جميلة يدهش رواؤها الأبصار، فقال: أنسير في هذه المركَبَة؟

– دون شك.

وعند ذلك قرعت الآشورية جرسًا أمامها، فأقبلت خادمة ووضعت على المقعد قبعة حمراء وضع عليها ريش أخضر ولباس أزرق وسترة مخملية بلون العناب عليها شرائط جميلة، وسُرَّ الغلام بهذه الملابس، وقال لها: ما هذا يا سيدتي؟

– هذه ملابسك الجديدة أعَدَّها لك أبوك كي تخرج بها إلى النزهة، فتصبح بها أجمل أقرانك، أما هي جميلة يا رالف؟

وتنهَّدَ الغلام وقال: لا أنكر أنها جميلة يا سيدتي، غير أني لا أستطيع أن أخلع ملابسي، فإن أمي منعتني.

– ولكن أمك مسافرة، فكيف رأيتها؟

واضطرب رالف وقال: لا أريد بها أمي تلك، بل أريد بها مرضعتي لأني أسميها أمي.

– إذن أَلَا تريد أن تلبس هذه الملابس؟

– كلا يا سيدتي.

ورأت الآشورية من تصميمه أنه ثابت الإرادة، وأنه يستحيل إغواؤه إلا بالحيلة، وعزمت على استخدام الشراب الذي أحضرته مس ألن، فصبت في كأسه قليلًا من الخمر من زجاجة كان ينظر إليها رالف وهما على المائدة، فلا يجسر أن يطلب الشرب منها.

وشرب الغلام دون احتراس، وجعلت الآشورية تلاعبه وتداعبه وهو فرح بها، معجب بلطفها، ولم يَمْضِ على ذلك بضع دقائق حتى أثَّر الشراب فيه تأثيره العجيب، فإنه لم يشعر بدوار ولم يَنَمْ ولم يحدث له شيء من أعراض التخدُّر، ولكنه استحال بعد انقباضه وتحرسه إلى سرور غريب، وصار ينظر إلى الماجور واترلي وهو نائم على المقعد، فيضحك ضحكًا شديدًا حتى تسيل دموعه.

وكان النبيذ الذي شربه ممزوجًا بمخدر هندي يستخلصه الهنديون من نباتٍ، إذا شرب المرء عصيره يفقد الذاكرة إلى حين، وقد أحضرته مس ألن للآشورية كي تسقيه للغلام إذا عاند وأصَرَّ على عدم تغيير ملابسه، ففقد رالف ذاكرته فجأةً حين شربه، ونظر إلى الماجور وضحك عليه ولم يعرفه، ثم نظر إلى المرآة فأنكر وشاحه وقال: ما أقبح هذه الملابس!

فقالت له الآشورية: ولكنك لا تريد أن تغيِّرها.

– بل أريد، فإني لا أطيق النظر إليها.

– ولكن أَلَمْ تقُلْ لي أن أمك حذرتك من تغيير ملابسك.

وأمعن رالف الفكرة هنيهة عند ذكر أمه، فلم يخطر في باله شيء، ودنا من الآشورية وجعل يقبِّلها ويقول: أنت هي أمي.

وباتت الآشورية منذ ذلك الحين الحاكمة على الغلام، ونادت الخادمة فأسرعت إليها بتلك الملابس الجديدة التي أعدتها لرالف، ثم جرَّدَتْه من ثيابه القديمة وألبسته الجديدة، فسُرَّ بها سرورًا لا يُوصَف، وكان سرور الآشورية أشد من سروره، فأخذت بيده وقالت: هلم بنا الآن إلى النزهة.

وبعد حين كانت الآشورية والغلام داخلين إلى حدائق هايد بارك من بال مال، حيث كانت مس ألن قد واعدت البوليس الذي تعهَّدَ بالقبض على رالف أن يوافيها إلى هذا المكان.

وقد كان البوليس ومس ألن واقفين في المكان المعيَّن ينتظران، وكانت مس ألن ممتطية جوادًا، وكان البوليس متنكرًا بملابس الأشراف، وهي بعيدة عنه قدر عشر خطوات، وكان كلما مرت مركبة فيها غلام نظر إليها نظر السائل، فتشير له إشارة سلبية برأسها، إلى أن مرت مركبة الآشورية، ودخلت إلى الحدائق وحَيَّتْ مس ألن، وأسرعت مس ألن إلى البوليس وقالت: هذا هو الغلام.

– حسنًا لقد عرفته، وسأجمع رجالي فإنهم متفرقون.

لا أظن أنك تحتاج إليهم فإن الغلام قد شرب مخدِّرًا يحول دون مقاومته، وأما الأرلنديون فلا أظنهم عالمون بأمرنا ولا خطَرَ علينا منهم.

ثم تركته وأدركت بجوادها مركَبَة الآشورية، وأشارت لها إشارة أوقفت بعدها المركَبَة، ونزلت مع الغلام وأخذت بيده وسارت تتنزه به عند ضفة الغدير ووقفت في مكان معين، بينما كانت مس ألن واقفة على بُعْد منها تراقب ما يجري.

وعند ذلك دنا البوليس من الآشورية فقالت له الفتاة: ماذا تريد؟

– أنا هو الذي تنتظرينه فاتبعيني، فأني سأركب معك في مركبتك، ونخرج من الحدائق فلا نستلفت إلينا الأنظار.

وامتثلت الآشورية وعادت بالغلام إلى المركَبَة، وصعد البوليس السري، فجلس بجانبها وأمر السائق أن يسير إلى حديقة ترافلغار، وانطلقت المركَبَة وتبعتها مس ألن، حتى إذا وصلت إلى تلك الحديقة، أوقفها ذلك البوليس السري ذو الشعور البيضاء عند تمثال شارل الأول.

وكان هناك مركَبَة تنتظر أمام منزل البوليس، فحمل الغلام بيده ونقله بعنف إلى المركبة الأخرى، وأمر السائق أن يذهب به إلى سجن الطاحونة.

فلما ابتعدت عن الأبصار دنت مس ألن من الآشورية، فقالت: لقد أحسنت الطاعة فستكونين مطمئنة بعد الآن وستنالين الجزاء.

فشكرتها الآشورية وعادت إلى الحدائق، أما مس ألن فقد كانت علائم الفرح بادية بين عينيها فقالت: لقد انتصرت الانتصار الأول على الرجل العبوس، ولكنه نصر مبين.

٥١

عرف القرَّاء أنه ليست مس ألن وحدها التي قبضت على الغلام، فقد اشترك معها في ذلك السير بترس توين، وكانت له اليد الطولى، فهو الذي تحصل على الأمر بالقبض عليه، وهو الذي أرسل ذلك البوليس الحازم الذي قبض على الغلام، وهو الذي أرشد مس ألن إلى الآشورية، وعلى الجملة، فقد كانت ابنة اللورد أشبه بالقائد الذي يضع خطة القتال، وكان الأسقف أشبه بقلم الاستعلامات.

وكان الأسقف قد ذهب أيضًا إلى الحدائق في الموعد المعين للقبض على الغلام، فإنه كان شديد القلق، وكان يخشى أن يعترض الأرلنديون البوليس، فإما يختطفون الغلام أو تهرق الدماء بين الفريقين.

غير أن الأمور جرت على غير ما توقَّع، فلما وثقت مس ألن من القبض على ابن عمها وسمعت البوليس يأمر السائق أن يذهب به إلى سجن الطاحونة، عادت يتبعها خادمها إلى الحدائق حيث لقيت فيها السير بترس توين جالسًا في مركبته ينتظر معرفة النتيجة على أحر من الجمر.

ونزلت عن الجواد وأعطته للخادم، وصعدت إلى مركبة الأسقف، فقالت له بلهجة الفائز: كيف ترى؟

– أظن أن الأمر قد انقضى، وقد أرسلت كاتم سري إلى سجن الطاحونة كي يرى بعينه دخول الفتى إلى السجن.

فابتسمت الفتاة ابتسام الساخر، وقالت: ألعلك نسيت يا سيدي الأسقف أن هذا الفتى الذي تشمت به هذه الشماتة هو ابن عمي؟

فنظر إليها الأسقف نظر الحذر وقال: لا أظن أنك تريدين حمايته بعد ذلك.

– بل سأحميه، فإن لي مآرب لا تعلمها.

ثم نظرت في ساعتها وقالت: لقد وعَدْنا البوليس بجائزة ألف جنيه، فهل يقبضها من منزلك أو من منزلي؟

– من منزلك.

– ولكنه لا يأتي قبل ساعة إلى أن تتم إجراءات إدخال الغلام إلى السجن، فقُلْ لسائق مركبتك أن يذهب بطريق سانت جمس إلى منزلي؛ إطالةً للزمن فأحدِّثك بشأن هذا الغلام.

وأمر الأسقف السائق بما أرادت، وعاد إلى الإصغاء إليها فقالت: إن أبي أراد التنكيل مرارًا بأولئك الأرلنديين فما فاز مرةً بشيء من مشروعاته، وإن هذا الغلام الذي جعله الأرلنديون رئيسهم الأعظم هو ابن عمي، أي ابن السير أدمون الذي مات شنقًا في دبلين وضبطت إنكلترا ثروته، أما غاية أبي فهي أن يضع عنده والدة الفتى ويربي ولدها على كره أرلندا، حتى إذا بلغ سن الشباب زوَّجني به واسترد ثروة أبيه المضبوطة.

فقال لها الأسقف: ولكن ذلك محال، فإن الغلام محكوم عليه ولا يمكن إطلاق سراحه.

– ولكنك نسيت أن أبي من أشد أعضاء البرلمان نفوذًا، وأنه لا يصعب عليه أن ينال عفو الملكة عن الغلام متى طلب أن يُرَدَّ إليه.

– لقد أصبتِ، ولكن أتعتقدين أنه قد تأسَّس على حب بلاده؟

– إننا حين نفرِّقه عن أمه، وحين يُشنَق الرجل العبوس ونأمن شر أولئك الزعانف، نربيه على ما نشاء.

فلم يعترضها الأسقف وقال لها: يجب أن نسرح إلى منزلك، فقد واعدت كاتم سري على أن يوافيني إليه ليخبرني بما جرى للغلام.

– إذن مُرِ السائق بالإسراع.

وبعد حين كان الاثنان في غرفة مس ألن المشرفة على الحديقة، فمَرَّتْ بهما ساعتان، ثم ثلاث دون أن يعود كاتم سر الأسقف، فشغل بال الأسقف وكذلك مس ألن، فإنها أنكرت بطء البوليس في العودة لقبض الجائزة.

وفيما هما على هذا الاضطراب، قُرِع باب الحديقة فقام الأسقف لفتحه وتبعته مس ألن، فوجد الأسقف أن الطارق كان كاتم سره فقال له: ماذا حدث؟

– إن مدير السجن ينتظر قدوم الغلام منذ ثلاث ساعات، ولكنه لم يحضر إلى الآن، وعنده أن الغلام لم يُقبَض عليه بعدُ.

فالتفت الأسقف إلى مس ألن وقال: أيمكن ذلك؟

– ذلك محال فقد حضرتُ ساعةَ القبض عليه.

– لعل البوليس ذهب به إلى سجن نوايت.

– وذلك محال أيضًا، فقد سمعته بأذني يأمر السائق أن يسير به إلى سجن الطاحونة.

فقال كاتم السر: إذن لا بد أن يكون الأرلنديون ظفروا به واختطفوه.

فاتقدت عينا الأسقف ببارق الغضب، وخرج من باب الحديقة مهرولًا، فقالت له مس ألن: إلى أين أنت ذاهب؟

– إلى السجن لأرى ماذا حدث.

ثم ذهب فتبعه كاتم سره، وبقيت مس ألن وحدها خائفةً وجلةً، وهي تقول: إذا كانوا قد أنقذوه، فما أنقذه غير هذا الشيطان المريد الملقَّب بالرجل العبوس.

٥٢

وقد اضطربت حواس مس ألن في البدء، فجعلت تمشي تحت الأشجار بخطوات غير موزونة، وعيناها متقدتان بلهب من النار كاللبؤة تدور في محبسها فلا تَجِد مخرجًا.

وفيما هي على ذلك قُرِع باب الحديقة أيضًا، فأسرعت إليه وفتحته، فوجدت أمامها ذلك البوليس الذي قبض على الغلام في الحدائق، فحيَّاها مبتسمًا بملء الاحترام، وقال لها: أسألك عفوًا يا سيدتي عن تأخري، فقد اضطررت إليه مُكرَهًا.

وكانت سكينة هذا الرجل ولهجته الدالة على الفوز، قد اطمأنت إليه وقالت له: إذن لم يحدث لك حادث؟

فتظاهر الرجل بالانذهال وقال: لم أفهم ما تريدين.

– إني أكلِّمك عن الغلام.

لقد قبضت عليه وكنتِ أنتِ معي في هايد بارك، ورأيتني ذهبت به وبالآشورية، وقد اقتفيت أثرنا إلى ترافلغار كما أظن، ورأيتني أخذت الغلام إلى مركبة أخرى.

– نعم، وسمعتك تأمر السائق أن يذهب بكما إلى سجن الطاحونة، غير أن كاتم أسرار الأسقف بترس توين كان في ذلك السجن، فلم يَرَك ولم يَرَ الغلام.

– لأني لم أذهب بالغلام إلى السجن.

– كيف؟ ألعل الأرلنديين اختطفوه؟

– كلا، وهو لا يزال في قبضة يدي.

– إذن لماذا لم تذهب به إلى السجن على الأثر؟

فابتسم الرجل وقال لها: يوجد لذلك سببان يا سيدتي، لا يُقَالَان في هذا المكان.

– هلم معي إلى المنزل، وتقدَّمَتْه إلى غرفتها المشرفة على الحديقة، حتى إذا جلسا فيها أقفلت الباب، وقالت له: قُلْ لي الآن ماذا دعاك إلى عدم الذهاب به إلى السجن؟

– لأني خشيت أن أمُرَّ بشارع الأرلنديين فغيَّرْتُ الطريق، وذهبت إلى التيمس فوضعت الغلام في سفينة.

– أتريد أنك وضعته في إحدى تلك السجون التي يستخدمها البوليس لتكون سجونًا مؤقتة؟

– بل وضعته في سفينة سترفع مراسيها هذه الليلة وتسافر إلى فرنسا.

فذعرت مس ألن ذعرًا شديدًا، ونظرت إلى هذا الرجل نظر الحيرة دون أن تجيب، فلبث الرجل يبتسم وقال لها ببرود: هذا هو السبب الأول يا سيدتي، أتريدين معرفة السبب الثاني؟

فضربت الأرض برجلها وقالت: كيف لا أريد؟ تكلَّمْ.

– إن السبب الثاني يا سيدتي هو أنه يجب أن يكون الغلام في أمان.

– ألعلك اخترت سفينةً تبرح إنكلترا بعد بضع ساعات.

– لقد خدعتك يا سيدتي بما قُلْتُه لكِ، فإن السفينة قد سافرت بالغلام وأمه.

فصاحت صيحة منكرة وحدث عند ذلك ما يشبه العجائب، فإن هذا الرجل ذا الشعر الأبيض سقط شعره فجأةً عن رأسه، وسقطت أيضًا نظاراته الزرقاء التي كانت تحجب عينيه، فوقف أمامها وجعل يضحك ويقول: أما عرفتيني يا مس ألن؟

فرجعت منذعرة إلى الوراء، وقالت بصوت يتلجلج: مَن أنت؟ ماذا أرى؟ الرجل العبوس؟!

– كان يجب أن تعرفيني من قبلُ، فاعترفي أنك خسرت هذه المعركة أيضًا، واستعدي للمعارك القادمة إن كان لديك سلاح.

فنظرت إليه نظرة تشف عما داخل فؤادها من العجز والحقد، وقالت: أنت … أنت …

نعم أنا هو … وسوف ترينني في كل حين يا مس ألن إلى أن تحبيني، ثم تجاسَرَ على الركوع أمامها، وأخذ يدها ولثمها، وهي ترتجف ارتجاف الحمامة أدركها البازي.

غير أن براكين الانتقام هاجت في صدرها، فأفلتت منه ووثبت إلى المستوقد فأخذت خنجرًا كان عليه، وهجمت به على الرجل العبوس وهي تقول: إني أكرهك كرهًا لا حدَّ له. فحاوَلَ العبوس أن يخلو من خنجرها، ولكنه أصابه في ساعده فجرحه، وأسال دماءه، وعندها هجم عليها فقبض على يدها الجميلة المسلحة، وقال لها: إن سلاح عينيك أمضى من سلاح يدك. ثم ضحك وقال: ليس بعد هذا البغض الشديد غير الحب الأكيد.

وعند ذلك جردها بلطف من خنجرها، وقال لها: إلى اللقاء يا سيدتي. ثم وثب من النافذة إلى الحديقة، وسقطت مس ألن على مقعدٍ واهية القوى، وقد اصفرَّ وجهها حتى خُشِي عليها من الموت.

٥٣

وإيضاحًا لهذه الحادثة العجيبة التي لم تدرك مس ألن غير نتيجتها، لا بد لنا أن نعود إلى حيث تركنا شوكنج قد لقي الأرلندية والدة رالف عند باب المدرسة فعرَّفها بنفسه، وسألها أن تتبعه.

ولم تجد بُدًّا من الامتثال وتبعته فاستوقف مركَبَة، وصعد بها إليها وأمر السائق أن يذهب إلى شارع عيَّنَه له، فوجف قلب تلك الوالدة المنكودة وقالت له: لقد بِتُّ خائفة على ولدي.

– يحق لك أن تخافي يا سيدتي فإنك أم، أما أنا فإني مطمئن؛ فإن الرجل العبوس وعد بإنقاذه من الخطر، ومتى وعد وفَّى لا محالة.

– ربَّاه ما هذا الخطر الذي ينذره. ثم قالت له ببساطة: وما هذا السواد الذي صبغت به؟ ومَن صبغك؟

– لقد صبغني الرجل العبوس وقايةً لي من أعدائي، وإني أخشى أن يبقيني بهذا اللون إلى آخِر العمر، ولكن أتعلمين ماذا أُدعَى الآن؟

– شوكنج أو اللورد ويلموت.

– لا هذا ولا ذاك، لقد استبدلت اللوردية بالمركيزية، وأنا أُدعَى الآن دونكر بستوفورو إيكوردوفا إيميندس ريستتاقي إيبورغورا، وأحمل من الأوسمة وسام الليل الأبيض، والنسر الأصفر، والأفعى الزرقاء، أَلَا ترين علائم الشرف على صدري، إن في هذه الأوسمة والألقاب خير تعزية يا سيدتي عن لون بياضي.

ولم تتمالك الأرلندية عن الابتسام بالرغم عمَّا هي فيه من الاضطراب.

وبعد حين وصلت المركبة إلى الشارع الذي عيَّنَه، فأطلق شوكنج سراحها وذهب بالأرلندية إلى النهر، فأراها سفينة بخارية راسية فيه وقال لها: إني ذاهب بك إلى هذه السفينة.

فاضطربت الأرلندية وقالت: أتريد أن أبرح إنكلترا دون ولدي.

– كلا، بل إن ولدك سيحضر إليها أيضًا فنسافر كلنا، إن الرجل العبوس قد وعد، وهو سيفي دون شك بما وعد.

وضمَّتِ الأرلندية يديها وقالت: سيان عندي إذا برحت إنكلترا وبرحت وطني ما دام ولدي معي.

ثم ركبت قاربًا صغيرًا مع شوكنج، وذهب الاثنان إلى الباخرة، فاستقبل ربَّانُ السفينة شوكنج بملء الإجلال والاحترام، وسألت الأرلندية شوكنج: إلى أين تسافر الباخرة؟

– لا أعلم، فإن لدي أوامر مختومة لا يحق لي أن أفتحها إلا في عرض البحر، أما الربَّان فإن لديه أوامر بمغادرة التاميز، وأن يسير في جهة هولندا.

وأقامت الأرلندية في تلك الباخرة عرضة للقلق والاضطراب مدة أربع ساعات؛ لشدة إشفاقها على ولدها، إلى أن رأوا قاربًا يدنو من الباخرة، ولم يكد يبلغ إليها حتى صاحت الأرلندية صيحة فرح، فإنها رأت رجلًا صعد من القارب إلى السفينة يحمل غلامًا، وعرفت أن الفتى ولدها، ولكنها لم تعرف ذلك الرجل، فهمس شوكنج في أذنها قائلًا: هذا هو الرجل العبوس.

وكان العبوس قد سقى رالف شرابًا أزال تأثير الشراب الذي سقته إياه الآشورية، فعادت إليه ذاكرته ودهش حين رأى نفسه مع رجل لا يعرفه.

فقال له العبوس: أَلَمْ تعرفني يا رالف؟

– إن لك يا سيدي صوت الرجل العبوس، ولكن …

– تريد أنه ليس لي وجهه، فهل أنت خائف مني؟

– كلا، فإن هيئتك تحمل على الاحترام.

– إذن اصغ إليَّ يا بني. ثم قصَّ عليه جميع ما جرى له عند الآشورية، وأخبره بالخطر الذي كان محدقًا به.

– ولكن إلى أين أنت ذاهب بي الآن؟

– إلى باخرة تلقى فيها أمك.

فاطمأن خاطر رالف، وكان لقاؤه مع أمه مؤثرًا عليه أشد تأثير، فتركهما الرجل العبوس يتعانقان، ونادى الربان وشوكنج وأحد الأرلنديين، فقال لهم مشيرًا بيده إلى جهة الجنوب الغربي: إنكم ستبيتون بعد بضع ساعات بعيدين في عرض البحر عن مرامي المدينة الإنكليزية، وستجدون بين زبد الأمواج صخرًا يتعاظم كلما دنوتم منه حتى تروه مدينة عظيمة، وهي مدينة كاليس أي بدء البلاد الفرنسية، حيث يجد ابن أرلندا إخوانًا في البلاد التي يستطيع الكاثوليكيون أن يدخلوا فيها آمنين إلى كنائسهم، إنكم ذاهبون إلى هذه البلاد.

فصاح شوكنج قائلًا: لتحيَ فرنسا.

ووجَّه الرجل العبوس عند ذلك كلامه إلى شوكنج، فقال له: أما أنت فإنك لا تذهب الآن إلى كاليس، بل تسير مع ركب الباخرة إلى أن تجتاز قصر دوفر، وهناك تلقى دون شك باخرة البريد فتستوقفها وتعود بها، فإني محتاج إليك.

وقالت الأرلندية: ونحن، أَلَا نعود أبدًا إلى بلادنا؟

– إنكم تعودون متى أزفت ساعة النصر، ومتى أصبح ولدك رجلًا قادرًا أن يقود إخوانه إلى ساحة الحرب.

ثم ودَّع الأرلندية وعانق الغلام، وقال لشوكنج وهو نازل من الباخرة: أعطِ الربَّان تلك الأوامر المختومة التي أعطيتك إياها متى سرتم في عرض البحر، فيعلم منها ماذا يجب أن يصنع بالغلام وأمه، أما أنت فارجع إليَّ حتى أرجع لك لونك القديم.

فبهت شوكنج وقال: لكن أعدائي يعرفونني، فكيف تريد لي القتل.

– ليس لك أعداء غير جوهان وهو سيُشنَق قريبًا، ولا يبقى إلا أسفك لخسارة لقب المركيز، ولكني أعيد إليك لقبك القديم وهو اللورد ويلموت، فاطمئن في الحالين.

– ليكن ما تريد يا سيدي، والآن أية مهمة بقيت علينا؟

– بقي علينا مهمات أخبرك بواحدة منها، وهي أنه يجب أن نشنق مسز فانوش، فإنها تستحق الشنق.

ثم ودَّعَه ونزل إلى قارب سار به إلى الشاطئ.

وعند ذلك صفَّرَتِ السفينة وأقلعت تشق أمواج التيمس السوداء.

ولبث الرجل العبوس واقفًا ينظر إليها حتى اختفت وراء الأحواض.

فابتسم وقال: لقد بات ابن أرلندا الآن في أمان يا مس ألن، وقد كان كرهك لي عظيمًا وسيكون حبك أعظم.

٥٤

كان الرجل العبوس قد أتى إلى منزل مس ألن بعد سفر الباخرة بالغلام وأمه، ويذكر القراء ما جرى بينه وبين تلك الفتاة، وكيف أنه وثب من نافذة غرفتها إلى الحديقة.

وقد خرج من باب تلك الحديقة فألفى الجو مقتمًا، وقد بدأت عجائب الضباب تظهر في سماء لندرا.

ولهذا الضباب تأثير في تلك العاصمة، فإنه يبدأ من الفجر إلى الساعة العاشرة، فتبدِّده الشمس، حتى إذا حانت الساعة الرابعة بعد الظهر عاد إلى ما كان عليه، وذلك في أغلب أيام الشتاء، فيسود وجه السماء، وتظلم تلك العاصمة حتى لا يهتدي المارة إلى سبيلهم، وتنار المنازل والمخازن والطرق، ويقف البوليس وبأيديه المشاعل كي يهدي مَن يضل سبيله من المارة، وحتى لا يتعطل سير المركبات، فتدخل جيادها إلى الإصطبلات إلى أن ينقشع الضباب.

وقد كان الضباب في بدئه حين خرج الرجل العبوس هاربًا من منزل مس ألن، فلقي مركبة واقفة فصعد إليها، وسار به السائق شوطًا بعيدًا، حتى إذا استفحل أمر الضباب واشتد حلك الظلام أوقف السائق مركبته وقال للرجل العبوس: أسألك العفو يا سيدي؛ فإني لا أستطيع السير.

– لا بأس فإني أسير ماشيًا.

ثم نقده أجرته وتطَلَّع إلى ما حوله، وعلم أنه بات في شارع بعيد عن منزل مس ألن، بحيث لم يَعُدْ يخشى أن يدركه لاحقوه.

وعند ذلك ذهب وهو يخترق الضباب دون تردُّد إلى شارع سانت جيل، وتطَّلَع إلى منزل هناك فرأى في إحدى نوافذه مصباحًا، وهي علامة متَّفَق عليها دون شك، فوضع إصبعه في فمه وصفَّرَ، فأُزِيل النور من موضعه في الحال، ونزل رجل إلى الباب الخارجي فقال: مَن الطارق؟

– هو الذي تنتظره.

ففتح الباب ودخل العبوس.

وكان هذا الرجل باردل، رئيس حرَّاس سجن الطاحونة، الذي كانت له اليد الطولى في إنقاذ رالف كما تقدَّمَ في الرواية السابقة.

فقال له الرجل العبوس: أنت هنا منذ عهد طويل؟

– كلا، فقد برحت السجن منذ ربع ساعة.

– ماذا حدث؟

– حدث ما كنَّا نتوقَّعَه، فإن حاكم السجن مَلَّ الانتظار، ولكن ثقته كانت قوية بالبوليس سيمونز الذي أرسله للقبض على الغلام.

فضحك الرجل العبوس وقال: أنا هو سيمونز.

فعجب باردل وقال: كيف ذلك؟

– إن سيمونز من جمعيتنا، وهو في خدمة البوليس الإنكليزي منذ عهد طويل، فلما عهد إليه مدير البوليس الأكبر القبض على الغلام أخبرني بما جرى، وتوليت عنه قضاء هذه المهمة، والغريب أنهم عهدوا إليه أيضًا القبض على الرجل العبوس.

فقهقه باردل ضاحكًا وقال: ماذا يكون مصيره بعد هذه الخدعة؟

– لا خوف عليه، فقد دبَّرْتُ أمره خير تدبير، والآن أخبرني عما رأيته من حاكم السجن.

– لقد قلتُ لك إنه سئم الانتظار، ولكنه لم يقنط، خلافًا للكاهن الذي أرسله الأسقف بترس توين، فإنه أيقن أن في الأمر سرًّا فأسرع إلى إخبار سيده.

– وماذا فعل الأسقف؟

– إنه أسرع إلى السجن وهو يرغي ويزبد، فطمأنه الحاكم بقوله إن ثقته شديدة بالبوليس سيمونز، وأنه إذا لم يَعُدْ بالغلام توًّا إلى السجن، فما ذلك إلا لأنه يخشى هجوم الأرلنديين عليه، فهو يترقب فرصةً موافقةً للحضور به.

– هو قال ذلك؟ وماذا أجاب الأسقف؟

– إنه عول على الانتظار، وهو الآن في سجن الطاحونة.

– إذن هلموا بنا إلى ناحية السجن، وقد خطر لي خاطر جميل سأنفذه بفضل الضباب.

– ماذا عزمت أن تفعل؟

– سوف ترى.

ثم تأبَّطَ ذراعه وخرج به يخترق ظلمة الضباب حتى وصلا إلى الخمارة المجاورة للسجن، فدخل العبوس به إليها وقال: إني أريد أن أكتب رسالة أعهد إليك بإيصالها إلى السجن، ثم نزع ورقةً من دفتر وكتب عليها ما يأتي:

إن الغلام في قبضتي فلا خوف عليه، ولكن يستحيل إحضاره إلى السجن، فإن الأرلنديين يرودون حوله وهم على أتم التأهُّب.

سيمونز

وبعد أن أتم كتابتها دفعها إلى باردل، وقال له: اذهب بها إلى مدير السجن، وقُلْ له إن أحد الشيالين جاء بها.

فامتثل باردل وانصرف، فناداه الرجل العبوس قبل أن يبتعد، وقال له: إذا اتفق أن الأسقف خرج من السجن وهو محال، فاختلق حجةً للخروج من السجن، وأسرع إليَّ وأخبرني.

وعاد العبوس إلى الخمارة، وطلب كأسًا من الشراب، وكانت الخمارة خالية لا يوجد فيها غير شخص واحد من ساقة المركَبَات، كان واقفًا يشرب فيحدِّث صاحب الخمارة ويشكو له شقاءه في مهنته، ولا سيما في أيام الشتاء، فيقول: إن هذا الضباب قد ضيَّقَ علينا سُبُل الرزق، فإني أضطر إلى دفع أجرة المركَبَة ١٠ شلنات لصاحبها، وأضطر إلى نفقات علف الجواد، ثم أُكرَه على الإقامة في الخمارة بسبب هذا الضباب الثقيل.

وكان صاحب الخمارة يعزيه فيقول: إن هذا الضباب سوف ينقشع.

فأجابه السائق متأوِّهًا: ولكنه ينقشع بعد انقشاع الزبائن.

وكان العبوس مصغيًا إلى الحديث، فنادى السائق وسأله أن يشرب معه كأسًا، فعَدَّ السائق ذلك نعمة وتنازل؛ لأن ملابس العبوس كانت تدل على أنه من الأعيان.

ولما جلس على مائدته قال له العبوس: يبدو أنك غير مسرور.

– كيف يأتيني السرور وأنا مضطر أن أدفع غدًا ثمانية عشر شلنًا لصاحب العربة، ولم أشتغل كل يومي إلا بشلنين.

– إني عارض عليك أمرًا يكون فيه إصلاح حالك، فخُذْ أولًا هذا الجنيه كي تطمئن نفسك، ثم اعلم أني قد عقدت رهانًا غريبًا، وهو أن أتنكر بزي سائق مركبة، وأقودها في هذا الضباب الكثيف إلى همبستاد دون أن أضل الطريق مرة.

فقال له السائق: إن هذا محال يا سيدي، فإن السُوَّاق أنفسهم لا يهتدون.

فأجابه ببرود عُرِف به الإنكليز: إذن أخسر الرهان، ولكن اسمع الآن ما أقترحه عليك، إني سأدفع إلى صاحب هذه الحانة مائة جنيه رهنًا على مركبتك وجوادك، فأين هما الآن؟

– بجوار الخمارة.

– حسنًا، وسأعطيك أنت عشرة جنيهات مقابل ثوبك وقبعتك.

– هذا فوق الزيادة، وقد رضيت بهذا الاقتراح.

وعند ذاك فُتِح باب الخمارة ودخل باردل، فدنا من الرجل العبوس وقال له باللغة الأرلندية الاصطلاحية: إن الأسقف لا يزال في السجن، وقد سُرَّ من تلاوة الرسالة، ولكنه سيبرح السجن الآن، فقد قال للحاكم إنه غادَرَ في منزله امرأة مقيمة وحدها، ووعده أن يعود في الغد.

فقال له الرجل العبوس: أَلَمْ يطلب مركَبَة يعود بها إلى المنزل؟

– نعم، وقد أرسلني لهذا الغرض، ولكني غير واثق من إيجاد مركبة، فإن الضباب شديد.

– انتظرني خارج السجن ولا تبحث عن المركَبَة، فسأتولى أنا البحث عنها.

فامتثل باردل وأخرج الرجل العبوس محفظة من جيبه، وأخذ منها أوراقًا قيمتها مائة جنيه دفعها لصاحب الحانة، وقال له: إذا لم أُرْجِع ظُهْرَ غدٍ المركَبَةَ والجوادَ لهذا السائق، تدفع له هذا المال.

ثم دفع عشرة جنيهات للسائق وقال: هات الآن ثوبك وقبعتك.

فخلع السائق ثوبه وقبعته، وهو يعجب لغرابة أطوار هذا الرجل، فلبسهما العبوس وذهب مع السائق حيث كانت المركبة، فاستلمها منه وعاد إلى باردل، فقال له: اذهب الآن إلى السجن وقُلْ للأسقف إنك أحضرت له المركبة، وإنها واقفة عند الباب.

٥٥

وكان الأسقف قد اطمأن قلبه لرسالة البوليس، فإن السبب الذي اختلقه الرجل العبوس فيها، وهو خوفه من الأرلنديين، كان سببًا معقولًا لم يَدَعْ للأسقف أقل مجال للشك.

وكان ذلك رأي حاكم السجن أيضًا، فلما أنس الأسقف بموافقة الحاكم قال: لم يَبْقَ لدي الآن عمل هنا.

فقال له الحاكم: ولكن كيف تذهب يا سيدي؟

فعجب الأسقف لقوله؛ لأنه أتى إلى السجن قبل انتشار الضباب، أيْ قبل أن ينقطع سير المركبات، وكان باردل يسمع الحديث فأخبره بالضباب وبتعذُّر إيجاد المركبات، فأمره أن يبحث عن مركبة، فخرج باردل مسرورًا لأنه وجد فرصةً لمقابلة الرجل العبوس.

وقد عرف القراء ما جرى في الخمارة، وبعد عشر دقائق خرج الأسقف من السجن وركب تلك المركبة التي كان يقودها الرجل العبوس، وأمره أن يذهب به إلى منزل في شارع كرسنت، فدفع العبوس الجياد وانطلقت العربة تسير في ذلك الظلام الدامس، وكان سرور الأسقف عظيمًا بفوزه، فلم ينتبه للطريق التي كانت تسير فيها العربة، لا سيما وأن الظلام كان حالكًا وشوارع لندرا كلها متشابهة، غير أنه انتبه بعد ربع ساعة حين وصلت العربة إلى ساحة كثرت فيها الأنوار، فنادى السائق وقال له: أَلَا ترى أنك مخطئ، فإني أظن أننا في ليستر، وهي الجهة المناقضة لجهة منزلي؟

فقال العبوس: كلا يا سيدي، فإني لم أخطئ فإننا في سيسكس.

– إذا كان ذلك فواصِل السير.

واجتازت العربة تلك الساحة المنورة وعادت إلى الظلام، وجعل الرجل العبوس يسير بها في الشوارع الضيقة إلى أن أوقفها عند خمارة، فأنكر الأسقف وقوفه وسأله عن السبب، فقال: إني أريد شراء شمعتين.

ثم نزل من العربة ودخل إلى تلك الخمارة.

وبعد هنيهة عاد منها إلى كرسيه، فلم ينتبه الأسقف إلى أن رجلين قد خرجا معه وتعلَّقَا بين دواليب العربة.

ثم استأنفت العربة السير إلى أن وقفت أيضًا، فأطل منها الأسقف ورأى أنها وسط سهل، فأنكر وقوفها في هذا المكان ونادى السائق مغضبًا، وقال: إلى أين أنت ذاهب بي؟

– لقد وصلنا يا سيدي.

– ويحك كيف وصلنا؟

ثم فتح باب العربة ووثب منها إلى الأرض، فاشتدَّ خوفه إذ رأى بقربه رجلين، ونظر إلى ما حواليه فلم يجد أثرًا للمنازل، وسمع صوت اضطرابات الأمواج، فأيقن أنه عند جسر من جسور لندرا، وقال للسائق: ألَمْ أقل لك أيها الرجل إنك ضللت الطريق؟

فقهقه العبوس ضاحكًا ثم قال: كلا يا سيدي، وسوف ترى أني لم أخطئ.

ثم وضع أصبعه في فمه وصفَّرَ، فأسرع في الحال قارِبٌ في النهر إلى الدنو من الشاطئ.

وعند ذلك دنا العبوس من الأسقف وقال: إني أعترف يا سيدي بأني حدت بك عن الطريق، ولكني لم أفعل ذلك إلا في سبيل خدمتك، فقد علمت أنك تريد أن ترى رجلًا طالما تحدَّثَ الناس به، وقالوا إنك تريد أن تشنقه.

فاضطرب الأسقف لهذه الكلمات وتراجَعَ منذعرًا، أما العبوس فإنه قال ضاحكًا: أتشرف يا سيدي بأن أقدِّم لك الرجل العبوس الذي طالما بحثت عنه، وها هو في حضرتك بزي سوَّاق المركبات.

فأَنَّ الأسقف أنين الموجع، وحاول أن يرجع ويهرب، لكن الرجلين حالا دون فراره ووضعا أيديهما على كتفه، فقال له الرجل العبوس: إنك الآن أسيرنا يا حضرة الأسقف.

وكان القارب قد وصل في هذا الحين إلى الشاطئ، فعلم هذا الأسقف أنه بات في قبضة العبوس، ونظر نظرًا تائهًا إلى ما حوله، فلم يَرَ غير أعدائه، فقال في نفسه: إني لو قبضت على هذا الرجل لعامَلْتُه دون إشفاق، وهو سيعاملني دون شك بما أضمرته له من الشر، فكان رعبه شديدًا.

أما الرجل العبوس فإنه قال بلهجة المتهكم: أسأل يا مولاي المعذرة؛ فإني مضطر أن أتَّخِذ معك بعض الوسائل. ثم أخذ حبلًا من الحرير فعقده على عنقه وقيَّد يديه، فما شكَّك أنهم سيخنقونه، ثم قيدوا أيضًا رجليه وأنزلوه إلى القارب، فقال الأسقف في نفسه: إنهم لو أرادوا قتلي لخنقوني وألقوني في النهر، ولكنهم يريدون سجني لا محالة لغرض خفي.

وعند ذلك أمر العبوس أحد الرجلين أن يعود بالعربة إلى صاحبها، ثم أمر أحد النوتية أن يسير بالقارب، وقال للأسقف: إنه لا بد أن يكون في جيبك يا سيدي أوامر خطيرة قد ينفعني الاستيلاء عليها.

ثم أمر أحد النوتية أن يفتش جيوبه، وجرَّد خنجره، وتهدد به الأسقف بالقتل إذا استغاث، وبعد حين أخرج النوتي محفظة من جيب الأسقف ودفعها للرجل العبوس، فأخذها وقال: سنفحصها متى وصلنا.

٥٦

وكان النوتية أنفسهم لا يعلمون إلى أين يسيرون بالأسير، إلى أن همس الرجل العبوس في أذن أحدهم فأرشده إلى الطريق.

ولا بد أن يكون قد أشكل على القراء كيف أن الرجل العبوس قد ظفر بهؤلاء الأعوان، ولم يكن متأهِّبًا من قبلُ للقبض على الأسقف، وبيانًا لذلك نقول: إن العبوس كان مقتصرًا منذ عرف الأب صموئيل على مساعدة بعض الأعوان كشوكنج وغيره من الأرلنديين، ولكنه كان يعلم أنه يوجد في لندرا مائتا ألف من الأرلنديين موزَّعين في كل أنحائها، وأنهم جميعهم يخضعون لمَن يُظهِر لهم الأشائر الأرلندية السرية.

فلما كان سائرًا بالأسقف في العربة ووصل إلى الخمارة، أوقفها بحجة حاجته إلى شراء شمع، وكان يعلم أنه لا بد من وجود أرلنديين في تلك الخمارة، فدخل إليها ولم ينتبه إليه أحد حين دخوله، غير أنه طلب كأس شراب بلهجة أرلندية محضة، ورأى أن بعض الأنظار قد تحوَّلَتْ إليه، فرسم علامة الصليب بالرمز الاصطلاحي، فأجابه بعض الحضور برسم مثلها، فأظهر الإشارة الدالة على رئاسته، فدنا عند ذلك اثنان منه وقالا له: مُرْ أيها السيد بما تريد. فقال لهما باللهجة الأرلندية الاصطلاحية: إني محتاج إلى رجلين شديدين، فماذا تُدعَى أنت؟

فأجابه المسئول: هاريس.

– وأنت؟ مشيرًا إلى الآخَر.

– مشيل.

– إذن اخرجا معي تجدا مركبة أنا أسوقها فاختبئا بين دواليبها من الوراء، واعلما أن في هذه المركبة ألد أعداء أرلندا.

أما وجود القارب في النهر وإسراعه إلى إجابة الرجل العبوس حين صفَّرَ؛ أن العبوس كان يقيم في هذا القارب كل ليلة مع اثنين من الأرلنديين منذ جعل يسير إلى منزل مس ألن من ذلك النفق السري الذي تقدَّمَ لنا وصفه، فكان هذان الرجلان ينتظران قدوم الرجل العبوس كل ليلة تحت الجسر ولا يبرحان موقفهما.

وكان القبض على الأسقف قد جال فجأةً في خاطره، فلم يعيِّن المكان الذي يجب أن يسجنه فيه، ولكنه خطر له والقارب يسير أن يسجنه مؤقتًا في عنبر إحدى تلك السفن الضخمة التي ينقلون عليها الخيول من التيمس إلى الخارج.

ولما وصل القارب إليها التفت إلى هاريس، وقال له: إني معهد إليك الآن بمهمة خطيرة، وهي حراسة هذا الرجل، فإنه أشد إيذاءً للأرلنديين من البرلمان نفسه، فاصعد الآن به إلى السفينة.

فصعد به، وأمر العبوس أن ينزل به إلى العنبر ففعل، وكان الظلام حالكًا فأنار العبوس شمعته فاستنار المكان، ونظر الأسقف ذلك الرجل فانطبع رسمه في ذهنه، وقال في نفسه: إني سأنتقم إذا قُدِّرتْ لي النجاة انتقامًا هائلًا، وأعذبه عذابًا لا تُذكَر معه فظاعة الأقدمين.

وعند ذلك طاف العبوس بشمعته فاستوثق من أنه لا يوجد منفذ في عنبر السفينة، فألقى الأسقف على قفاه وربط منديلًا على فمه كي يمنعه من الاستغاثة، ثم صعد مع الأرلندي إلى ظهر السفينة بعد أن أقفل باب العنبر وقال له: يجب أن تبقى هنا لحراسة هذا الرجل إلى أن أعود، وسأرسل إليك الطعام بعد ساعة فاحذر أن تغادر السفينة، وأنا أوصيك بالحرص على الأسير باسم أرلندا، ثم يجب الاحتياط لكل أمر، فإن من عادة بعض المتشردين أن يناموا في أمثال هذه السفن، فاحذر أن تدع أحدًا منهم يدخل.

فقال هاريس: ولكن قد يتَّفِق أيضًا أن يمر البوليس البحري لمراقبة أولئك اللصوص المتشردين في تلك السفن، فإذا أرادوا الصعود إلى هذه السفينة فماذا أصنع؟

– إذا رأيت البوليس دنا من السفينة بغية الصعود إليها، فاخنق الرجل المسجون بالعنبر.

– حسنًا، سأفعل كل ما قلته.

فتركه الرجل العبوس وعاد إلى البر مع أحد الأرلنديين، فنظر في ساعته فإذا الساعة العاشرة، فقال في نفسه: إن الباخرة التي سافرت بالغلام وأمه وشوكنج أقلعت من التيمس في الساعة الثالثة بعد الظهر، فيقتضي لها أربع ساعات كي تخرج من التيمس فتلاقي بعد ساعة باخرة البريد، فيوقفها شوكنج ويبلغ بها الشاطئ في الساعة التاسعة.

ويركب القطار القادم إلى لندرا ويعود إليها في فالافيه في هذه الليلة في الساعة الحادية عشرة.

وعند ذلك ذهب مع الأرلندي فاشترى طعامًا، وأرسله معه إلى هاريس، وذهب توًّا إلى المحطة كي ينتظر شوكنج.

فلما وصل القطار كان شوكنج أول النازلين منه، فاستقبله العبوس وقال له: أأعطيت تعليماتي للربَّان؟

– نعم.

– لقد اطمأن بالي الآن على الغلام وأمه، فَلْننظر الآن في شأن مسز فانوش.

– ماذا يجب أن نصنع بها؟

– نقبض عليها بموجب أمر يقضي بالقبض على هذه المرأة موقَّع عليه من ناظر العدلية، غير أني مضطر إلى تغيير زيِّي، وأنت جائع دون شك، فادخل إلى هذا المطعم وانتظرني فيه، وحذار أن تفرط بالشراب.

– وأنت إلى أين ذاهب يا سيدي؟

– إن لي غرفة في كل شارع، وغرفتي في هذا الشارع على قيد خطوتين من المطعم.

ثم افترقا فدخل شوكنج إلى المطعم، وبعد ربع ساعة عاد إليه العبوس وهو بثياب الشرطة، فخرج به إلى عربة، وأمر السائق أن يذهب به إلى منزل السير بترس توين، فاضطرب شوكنج وقال: كيف نذهب إلى هذا الرجل؟

فابتسم العبوس قائلًا: ذلك لأنه ليس في منزله.

٥٧

يذكر القرَّاء أن مسز فانوش اعترفت بجميع جرائمها لرئيس الشرطة، وأن مس ألن دفعت ضمانة مالية فبقيت في منزل الأسقف.

ولما انصرف رئيس الشرطة قال لها بترس توين: إن تهمتك خطيرة جدًّا، ولا بد من محاكمتك بعد أسبوع، وليس بعد المحاكمة غير الحكم بالإعدام، ولكني سأسهل لك سُبُل الفرار إلى البلاد الأميركية قبل محاكمتك، فابقي في منزلي مع خادم غرفتي إلى أن أعود.

ثم تركها وذهب إلى الحدائق، فمنزل اللورد بالمير، فسجن الطاحون، إلى أن وقع أسيرًا في قبضة العبوس، فسجنه في عنبر السفينة كما قدَّمناه.

أما العبوس فإنه ذهب مع شوكنج إلى منزل الأسقف، وكان متنكِّرًا بثياب الشرطة، ولديه محفظة أوراق الأسقف، وهي تحتوي على أموال كثيرة، وبينها الأمر بالقبض على فانوش، فلما وصل إليه استقبله الخادم فأخبره أنه آتٍ من قِبَل الأسقف للقبض على المرأة باسم الشرع.

فسأله الخادم إذا كان يحمل رسالة من الأسقف.

فقال له: بل أتيتك بخير من الرسالة، فإنه أعطاني محفظة أوراقه المالية، وفيها نحو خمسة آلاف جنيه، وأمرني أن أدفعها إليك فتكون خير علامة.

فأخذ الخادم المحفظة فعلم أنها لسيده، وعَدَّ ما فيها من الأوراق فوثق أن القبض على فانوش كان برضى مولاه، فلم يعترض وأدخل الرجل العبوس وشوكنج إلى غرفة فانوش.

أما فانوش فإنها حين علمت حقيقة مصيرها تمكَّنَ منها اليأس فسقطت مغميًّا عليها، فأمر الرجل العبوس شوكنج أن يحملها وخرجا بها إلى مركبة، فسارت بهما إلى منزل قاضي التحقيق، وهناك خرج العبوس من المركبة ودخل إلى منزل القاضي، فسأله باسم الأسقف أن يعيد إليه أوراق التحقيق في قضية مسز فانوش، كي يرسلها إلى سجن نوايت حذرًا من فرارها، فدفعها إليه، وعاد بها إلى المركبة، وأمر سائقها أن يذهب إلى سجن نوايت.

وكانت فانوش لا تزال مغميًّا عليها، ولكنها استفاقت في الطريق وذعرت، وقالت: أين أنا؟

فضحك الرجل العبوس وقال: إنك أيتها العزيزة، بين بوليسين يذهبان بك إلى سجن نوايت، ولا تخرجين منه إلا يوم تنفيذ الإعدام.

فارتعشت فانوش وقالت: رباه! إني سمعت هذا الصوت من قبلُ.

فعاد العبوس إلى الضحك، وقال لها: إن هذا المصير يعلِّمك عاقبة خيانة الرجل العبوس.

فصاحت فانوش صيحة منكرة حين علمت أنها باتت في قبضة هذا الداهية، وعادت إلى الإغماء.

وبعد هنيهة أُقفِلت أبواب ذلك السجن الرهيب على تلك المرأة التي لم ترحم الأطفال، فلم يرحمها القضاء.

وعاد الرجل العبوس إلى المركبة، فقال له شوكنج: إلى أين نذهب الآن؟

– إلى همبستاد، فقد حان لي أن أفي بما وعدتك به الآن، وأن أردَّ لك لونك القديم.

فسُرَّ شوكنج وسارت بهما المركبة، فقال له شوكنج وهما على الطريق: إنك يا سيدي قد أنقذت الغلام وأمه وأرسلتهما إلى باريس، فبت في مأمن عليهما، ولكن أنت؟

فابتسم العبوس وقال: أما أنا فإن مهمتي لم تنتهِ بعدُ، ولا يحق لي أن أبرح أرلندا، فإن الأرلنديين ينتظرون أن يبلغ زعيمهم الأكبر مبلغ الشباب، فيقودهم إلى النصر، ولكن هذا الجيش السري يحتاج الآن إلى قائد حازم نشيط ورجل نبيل يدبِّر هذه المؤامرة التي اكتنفت إنكلترا بأسرها، وإن الأب صموئيل يحتاج إلى شخص مثلي.

فهز شوكنج رأسه وقال: كل ذلك رائع، ولكن يوجد عدوان شديدان عولا على إهلاكك، وهما السير بترس توين، ومس ألن.

– أما الأول فلا أخشاه، وأما الثانية فسأخافها إلى أن تحبني.

– أَلَا تزال طامعًا بقلب الفتاة؟

– نعم.

وقد قال هذا القول بلهجة الواثق، غير أن شوكنج لم يثق بفوزه، وقال له بعد سكوت قصير: إني أعجب كيف تميل إلى غرام هذه الفتاة، وهي ليس لها من الإنسانية غير ظواهرها!

– ولكنها تصبح يوم تحبني عبدة لي، فأستخدمها كما أشاء لخدمة الأرلنديين.

فهز شوكنج رأسه أيضًا وقال: لا أنكر عليك عنادك، فإنك من النوابغ، ولكل نابغة هوس.

ووصل الاثنان إلى همبستاد، وكان الفجر أوشك أن ينبثق، فركَّب العبوس مزيجًا ودفعه لشوكنج وقال له: اطْلِ بهذا المزيج ما اسودَّ من جسمك، وادْخُلْ إلى الحمام واغتسل يذهب عنك السواد.

وبينما كان شوكنج في الحمام كان العبوس في غرفة يغيِّر زيَّه، وقد خلع عنه لباس البوليس وانتزع شعوره البيضاء وأزال آثار الغضون والتجعيد عن وجهه، فأصبح شابًّا جميلًا تشوق رؤيته الأبصار، ثم ودَّعَ شوكنج وقال: إني ذاهب لأعد سجنًا موافِقًا لحضرة الأسقف يليق بمقامه.

وخرج من المنزل وعاد إلى لندرا، وأعَدَّ ذلك السجن، ثم ذهب إلى شاطئ التميس وصفَّرَ فأسرع قارب إلى الشاطئ وفيه ذلك الأرلندي.

فقال له العبوس: ألعلك فعلت ما أوصيتك به؟

– نعم، إني أخذت الزاد إلى هاريس.

– ووكيف حال الأسير؟

– إنه لا يزال مسجونًا في العنبر.

– إذن سِرْ بي إليه، إني أحب أن أراه.

فدفع الأرلندي إلى المكان التي كانت السفينة راسية فيه، حتى إذا وصل إليه صاح العبوس صيحة دهش وحذر؛ لأنه لم يجد أثرًا للسفينة، وقد اختفت فاختفى معها الأسقف دون شك.

٥٨

ولا بد لنا لمعرفة السبب في اختفاء السفينة مع الأسقف، أن نرجع بضع ساعات قبل وصول الرجل العبوس إلى خمارة قرب الشاطئ التي كانت راسية عنده السفينة.

كان في هذه الخمارة طائفة من الطبقة السفلى يعاقرون المُدَام، وقد انتصف الليل، فخفَّتْ منهم العقول وتثاقلت الأجسام، وإن بينهم ثلاثة يشربون على مهل وحذر، خلافًا لسائر الحضور، وقد انفردوا حول المائدة وجعلوا يشربون ويتباحثون.

وبينما هم كذلك دخل عليهم رجل دلَّتْ ملابسه على الفقر المدقع، وهو نيقولا الذي عرف القرَّاء عنه أنه كان شريك جوهان في التربُّص للرجل العبوس بغية القبض عليه ونيل الجائزة، فجلس بينهم وسألهم أن يطلبوا له كأس شراب لحسابهم.

فقال له أحدهم: أرى أنك أصبحت فارغ الوِطاب بادي الأنقاض.

– بل إني بت ليلة أمس على الطوى، ولم يتيسر لي الاحتيال على الطعام، فأنا أحتال على الشراب.

– كيف ذلك؟ ألعلك تركت العمل في الأحواض؟

– لقد مللت هذه المهنة الشاقة، ويئست من رزقها الضيق فما ضيَّقت إلا على نفسي.

– أتريد أن تشترك معنا في مهمة، يضمن لك فيها الطعام والشراب أسبوعًا، ثم يكون لك بعد ذلك خمسون شلنًا، تنفقها على ما تريد من أغراضك.

– ما هي هذه المهمة؟

– هي أن المستر مانتاج تاجر الخيل الشهير عهد إلينا بإرسال بعض جياد إلى بولونيا بطريق التيمس، ونحن في حاجة إلى رابع.

– إذن سأكون رابعكم، فقد تعوَّدْتُ خوض البحار.

وأقام الأربعة في تلك الخمارة إلى الساعة الأولى بعد نصف الليل، ثم ذهبوا جميعهم إلى تلك السفينة التي كان الأسقف سجينًا فيها.

وكان هاريس لا يزال فيها يحرس الأسقف، فلما تقادم الليل اضطجع وهو بملابسه فوق باب العنبر.

واستيقظ حين سمع أصوات الأربعة، وصعد إلى ظهر السفينة، فأدرك لفوره أنه لا يستطيع لقاء أربعة، وأنه لا سبيل معهم إلا بالحيلة، فقال لهم بلهجة مستاء: ماذا تريدون؟

فأجابه زعيمهم: إننا نريد أن نستخدمك، ولا إخالك ترفض خمسين شلنًا.

– إن ذلك يتعلَّق بالمهمة التي تعهدون بها إليَّ.

فقال له الزعيم: ماذا تعمل في هذه السفينة؟

– وأنتم ما تريدون بالقدوم إليها؟

قال الزعيم: أتشرف بإخبارك أني ربَّان هذه السفينة التي شرفتها الليلة بزيارتك.

– إذن، أسألك المعذرة يا سيدي، فإني لم أجد محلًّا أبيت فيه، فأويت إليها.

– لا بأس، ولكني أخيرك الآن بين أمرين، وهما إما أن تغادر السفينة فتقيم بقية ليلتك في غير هذا المكان، أو تسافر معنا إلى حيث نحن مسافرون إنْ كنتَ تعرف مهنة البحرية.

– أما هذه المهنة فإني من أكفائها، فقد اشتغلت فيها عشرة أعوام بوظيفة مرشد للسفن.

– إذن نعهد إليك بالدفة.

فسُرَّ هاريس لذلك؛ إذ خطر له خاطر سريع، وذلك أن الأسقف لا يفوه بحرف حين يشعر بسفر السفينة؛ لاعتقاده أن جميع مَن فيها من الأرلنديين، فإذا سارت السفينة وكانت دفعها بيدي، دفعت بها إلى الصخور فتحطمت وغرق الأسقف؛ لأنه مقيَّد اليدين والرجلين، أما أنا فأسلم لأني أجيد السباحة، وأما غرق الأسقف فهو جل ما يتمناه رئيسنا، فأكون قد أقمت بما تعهدت به؛ لأني لا أستطيع لقاء أربعة.

ولما خطر له هذا الخاطر رضي أن يسافر مع الجماعة، فصعدوا جميعهم إلى السفينة ورفعوا الصواري وأعدوا القلوع، وأقاموا ينتظرون ورود الجياد إلى أن وردت الساعة الخامسة، فأصعدوها إلى السفينة وأقلعت من مرساها تشق عباب التميس.

ولما سارت السفينة وفرغ نيقولا من مهمته وهي نقل الجياد، وحاول أن ينام، وخطر له النوم في العنبر اتِّقَاءً للبرد، ففتح بابه ونزل إليه وهو في ظلام دامس.

ولم يكد يستقر فيه حتى سمع أنينًا ضعيفًا، فأخذ علبة كبريت من جيبه، وأنار أحد عيدانها ونظر إلى مصدر الأنين، فرأى رجلًا ممددًا على الأرض مقيَّد اليدين والرجلين مكموم الفم، فأسرع إليه ونزع الكمامة عن فمه.

فقال له: مَن أنت؟

فأيقن الأسقف أن هذا الرجل لم يكن عارفًا بأمره.

فقال له: إني رجل غني إذا أنقذتني مما أنا فيه كافأتك بمائتي جنيه، فقُلْ لي أنت مَن أنت؟

– إني رجل من فقراء الإنكليز أتيت هذه السفينة عاملًا فيها، وهي تشحن جيادًا إلى بولونيا.

– إذن أنت لستَ من الأرلنديين؟

– كلا.

– وماذا جرى للرجل الذي كان في السفينة؟

– إنه لا يزال فيها وهو يدير دفتها.

– أتستطيع إنقاذي؟

– دون شك يا سيدي، فإني أخبر الربَّان بأمرك فيعود بالسفينة إلى البر وتخرج منها حرًّا آمنًا.

– كلا، فإني لا أحب أن يعلم أحد بأمري.

– إذن يوجد طريقة أخرى لإنقاذك، وهي أن أفتح إحدى النوافذ وألقيك منها إلى النهر، فلا يشعر بسقوطك أحد.

– إنها طريقة صالحة، ولكني لا أعرف السباحة.

– أما أنا فإني أجيدها، وسألقي نفسي إلى المياه في إثرك، ونحن على مسافة قريبة من البر فأبلغ بك إليه سالمًا بإذن الله.

– بل تلقي نفسك قبلي، فإني أخاف الغرق.

– كما تشاء.

– إذن ابدأ بفك قيودي، فقد وافقت على هذه الطريقة.

ففك نيقولا قيده، ثم فتح إحدى نوافذ السفينة، وتدلَّى منها إلى المياه، فاقتدى به الأسقف، واستمرت السفينة في سيرها دون أن يشعر أحد بفرار الاثنين.

٥٩

مضى على ذلك أسبوعان جرى في خلالهما كثير من الحوادث، فإن شوكنج عاد إلى لون البياض، وصدر الحكم بالإعدام على قاتل بادي فأُعدِم شنقًا، وصدر الحكم أيضًا على فانوش بالإعدام فتعيَّنَ موعد تنفيذه هذا اليوم الذي سنجد فيه الرجل العبوس وشوكنج.

في الساعة السادسة من صباح ذلك اليوم، أي قبل أن تشرق الشمس، كان الناس يتقاطرون أفواجًا إلى جهة سجن نوايت ليشاهدوا شنق مسز فانوش، تلك المرأة العاتية التي قتلت كثيرًا من الأطفال، فصحَّ فيها قول الكتاب: أنذر القاتل بالقتل ولو بعد حين.

وكانت جميع المحلات العمومية المشرفة على السجن قد أجَّرَتْ نوافذها للراغبين بمشاهدة قضاء الإنسان على الإنسان، وارتكاب القضاء تلك الجريمة نفسها التي يُعاقَب الناس عليها، أي جريمة القتل.

والعادة في بلاد الإنكليز أن الناس يُقبِلون على هذه المشاهد إقبال الفرنسيين في بلادهم على ملاعب الروايات؛ ولذلك لم تَبْقَ نافذة في تلك المحلات دون تأجير.

وكان بين أولئك المتفرجين، ومعظمهم من أهل المقامات، فتاة مبرقعة بنقاب كثيف ومعها وصيفة لها، وقد استأجرتا نافذتين وجاءتا قبل جميع الناس لشوقهما إلى مشاهدة هذا المنظر الكريه.

وكان جميع المستأجرين حضروا وجلسوا في نوافذهم المعينة، ما خلا نافذة واحدة لم يكن فيها أحد، ولكن كان عليها كتابة تدل على أنها مأجورة كي لا يقيم فيها غير صاحبها.

وكانت هذه الفتاة تنظر من نافذتها إلى ساحة الإعدام، فترى أعوان الجلاد ينصبون المشنقة، ثم تعود إلى تلك النافذة الخالية فتنظر إليها لتعلم إذا كان قد أتى صاحبها ولتعرف مَن هو.

وبعد حين أقبل رجلان وهما بملابس تدل على الفقر، فجلس أحدهما في تلك النافذة، فعجب الناس لظواهر فقره واستئجاره هذه النافذة بالمال الكثير، ولكنهم قالوا إنه قد تنكَّرَ بهذا الزي لغرض من الأغراض، أو ليكون حرًّا بالفرجة كما يشاء دون أن يتقيَّد بعادات الأغنياء وآدابهم المألوفة، وكان هذان القادمان العبوس وشوكنج.

أما الرجل العبوس فإنه أطلق نظره بين الحاضرين، حتى أصاب تلك الفتاة ذات النقاب، فارتعش وتمتم قائلًا: لقد قُدِّرَ لي أن أراك هنا وهذا ما كنتُ أتوقعه.

ثم ترك شوكنج ومشى إليها بين ازدحام الناس، فوقف أمامها وقفة الاحتشام وقال لها: ألستِ يا سيدتي بحضرة مس ألن بالمير؟

فاضطربت الفتاة وقد عرفته وقالت له بصوت يتهدج: ادْنُ مني نتحدث، فإني لم أرك منذ عهد طويل.

فدنا العبوس وكان الجلاد قد أعَدَّ المشنقة، فانشغل الناس عنهما بتلك المناظر، وبدأ الرجل العبوس الحديث، فقال: لقد كنتُ واثقًا يا مس ألن أني سأجدك في هذا المكان.

– ألعلك تشكِّك يا سيدي بأني أحب أن أرى نتيجة انتصارك، فإنك أنت سبب إعدام هذه المنكودة.

فابتسم العبوس وقال: إذا كان الله قد ولاني الانتصار للمظلومين، أَلَا يجب عليَّ الانتصار للحق والقضاء على الظالمين؟

ألَمْ تستحق هذه المرأة ما تلاقيه من عقاب القتل، بعد أن قتلت كثيرًا من الأطفال الضعفاء؟

ثم غيَّر مجرى الحديث وعاد إلى الابتسام، وقال: إني منذ أسبوعين لم أتشرف بلقائك يا مس ألن، فهل لا تزالين على كرهي؟

– بل إن هذا الكره قد زاد حتى لم يَعُدْ له حدٌّ.

فأخذ العبوس يدها بيده، فشعر أنها تضطرب اضطرابًا خفيفًا، وقال: أحقًّا إنك تبغضينني؟

– ليس بعد هذا البغض بغضٌ.

– هو ما تقولين، فقد دنت الساعة.

– أية ساعة؟

– ساعة يستحيل هذا الكره إلى حب أكيد، يعادل ذلك البغض الشديد.

فلم تُجِبْ مس ألن بشيء، ولكنها تنهَّدَتْ تنهُّدًا خفيفًا، لم يَكَدْ يظهر لاجتهادها في إخفائه، ثم نظرت في ساعتها كأنها تريد إشغال نفسها، إخفاءً لتأثرها، وقالت: لم يَبْقَ لديَّ من الوقت غير عشر دقائق، فهل تأذن لي بسؤال؟

– سَلِي يا سيدتي ما تشاءين.

– إنك وضعت ابن عمي العزيز في محل أمين، أليس كذلك؟

– دون شك، وإذا شئتِ أخبرتك بتفاصيل أمره، فهو الآن مقيم في فرنسا يتربَّى في إحدى مدارسها العالية إلى أن يصبح رجلًا، وسترين يا مس ألن حين تدنو الساعة، ويتولَّى زعامة الأرلنديين ما يكون من أمره، فإنه خُلِق للزعامة.

وكانت يدها لا تزال في يده، فشعر أنها تزيد اضطرابًا، ولكنها أخفت ما بها وقالت: أشكرك عما أخبرتني عنه، فهل لك أيضًا أن تخبرني عما فعلته بالسير بترس توين؟

فارتعش الرجل العبوس لهذا السؤال، ونظر إليها نظرةً حاوَلَ أن يخترق بها أعماق قلبها، ويكتشف مخبآت أسرارها، ثم قال لها: أَلَا تعلمين ما حدث له؟

فأجابته بلهجة تشف عن الصدق: إني لم أَرَه منذ أتيتني متنكِّرًا بثياب البوليس.

فخُدِع الرجل العبوس بظواهر صدقها، وتوهَّمَ أنها تقول الحق، وقال لها: اعلمي يا مس ألن أني اختطفت هذا الأسقف كما اختطفت الغلام، وذلك في الليلة نفسها، وسجنته في سفينة بحراسة رجل أرلندي يُدعَى هاريس.

واتُّفِق لنكد الطالع أنهم احتاجوا إلى هذه السفينة، لنقل جياد عليها من فرنسا، فاضطر هاريس أن يكون فيها بوظيفة مدير الدفة، احتفاظًا بالأسير.

فمخرت في التميس وانتشر الضباب بعد حين، وكان خير مساعد له في تحقيق مشروعه، غير أنه سمع سقوط جسمين في المياه، فظن أن أحد البحارة قد أنقذ الأسقف السجين في العنبر، ولم يستطع أن يتحقق هذا الأمر؛ إذ لم يكن يستطيع ترك الدفة، فلم يجد بدًّا من تنفيذ مشروعه وقد نفَّذَه.

– ما هذا المشروع؟

– هو أنه دفع السفينة إلى الصخور فتحطمت، ونجا هاريس سباحةً دون أن يعلم ما حدث للسجين لكثافة الضباب، ولكننا نرجو أن يكون الأسقف …

وهنا توقَّفَ العبوس عن الكلام، لما سمعه من ضجيج الناس، فإن الجلاد أحضر مسز فانوش إلى المشنقة، وهي تصيح وتستغيث وتبكي وتحاول الإفلات من أيدي الجنود.

ولكن الجلَّاد أسرع إلى إلباسها القبعة السوداء، وأوقفها في موقف الإعدام، ثم وضع الحبل مسرعًا في عنقها وأدار لولبًا، فهَوَتْ تلك الجانية، وجعلت رجلاها ترقصان في الفضاء.

وعند ذلك خرج الرجل العبوس بمس ألن، وقال لها: كيف رأيت يا سيدتي؟

وقالت له بلهجة مؤثرة، خفقت لها جوانحه: رأيت يا سيدي أنك شخص هائل، فأنا أكرهك ولكني أعجب بك.

ثم حاولت التخلُّص منه فمنعها، وقال لها: إني أحب أن أراك، فعيِّنِي لي موعدًا.

– أتجسر أيضًا أن تجيء إلى منزلي؟

– نعم لأنك ستحبينني، إذا لم تكوني قد أحببتني.

– إذا كانت لك الجرأة، فاحضر إليَّ من ذلك الدهليز الذي كنتَ تأتي إلي منه من قبلُ.

– متى؟

– غدًا عند نصف الليل.

– سأكون عندك في الساعة المعينة.

ثم حيَّاها وأشار لشوكنج أن يتبعه.

٦٠

وفي اليوم التالي لهذه الحادثة كان قارب يخترق مياه التميس قبل انتصاف الليل بحين وجيز، وفي هذا القارب رجلان أحدهما شوكنج وهو يجدف، والآخَر الرجل العبوس وهو واقف في مؤخر القارب حاسر الرأس، متَّشِحًا بردائه، تائهًا في مهامه التفكير.

وكان الضباب كثيفًا حتى إن أنوار الغاز كانت تظهر ضئيلة، فتشبه النور خلل الرماد.

وكان شوكنج يسير بالقارب وهو يتنهَّدَ من حين إلى آخَر، فلا ينتبه إليه العبوس إلى أن دنا من جسر وستمنستر.

وقال لمولاه: أحقًّا يا سيدي أنك ذاهب إلى الموعد؟

فانقطع خيط تصوُّر الرجل العبوس لكلام شوكنج، وقال له: دون ريب.

فتنهَّدَ شوكنج أيضًا وقال له: إني لو كنت في مكانك لفعلت غير ما تفعل.

– ماذا كنت تفعل؟

– كنت أرجع عن هذا الفكر.

– لماذا؟

– لأني أخشى أن يكون في الأمر مكيدة.

فابتسم العبوس دون أن يجيب، ولكن شوكنج لم يعتبر نفسه مغلوبًا وقال: ربما كنتَ مصيبًا في هزئك بي يا سيدي، ولكني لا أستطيع مقاومة ما يحدِّثني به قلبي.

– وبماذا يحدِّثك قلبك؟

– بأنك إذا ذهبت إلى الموعد أُصِبْتَ بمكروه.

فهزَّ العبوس كتفيه، ونظر في ساعته على نور سيكارته.

– لم يَبْقَ لدينا غير ربع ساعة، فأسْرِعْ في التجذيف؛ إذ لا يجمل بي أن أدع هذه الحسناء تنتظر.

– إذن أنت واثق من حب هذه الحية الرقطاء.

– كل الوثوق.

ورفع شوكنج عينيه إلى السماء، كأنه يلتمس عفو الله لهذا الشخص الذي أضلَّه الغرام، فإنه ليست مس ألن التي تهواه، بل هو الذي فُتِن بهواها.

وكأنما العبوس قد أدرك أفكاره فقال له بجفاء: أسرع إلى التجذيف قبل فوات الأوان.

فامتثل شوكنج مُكرَهًا، وعاد العبوس إلى تصوراته إلى أن وصل القارب إلى مدخل الدهليز، وربط شوكنج حبلًا بحلقة حديدية كانت في الجدار، وربط بطرفه الأخير القارب، فقال له الرجل العبوس: انتظرني هنا إلى أن أعود.

غير أن شوكنج حاوَلَ أن يجادله أيضًا على رجاء إقناعه، وقال: إنك إذن لا تصدِّق حديث قلبي؟

– كلا.

– ولا تزال تظن أن الفتاة تهواك؟

– سأتوثَّق من حبها بعد ساعة.

ورفع عينيه أيضًا إلى السماء كأنه يستشهد الله على جنون مولاه، ثم قال: ألديك مسدسك وخنجرك؟

– كلا.

فلم يتمالك شوكنج من إظهار غضبه وقال: ليس بعد هذا الجنون جنون، أتعرض بنفسك لهذه الأخطار ثم لا يكون معك سلاح؟

فضحك العبوس وقال له: ويحك أيها الأبله، ومتى كان العشَّاق يذهبون إلى مواعيد الغرام مدجَّجين بالسلاح؟

ثم تعلَّق بالحلقة، فوثب منها إلى مدخل الدهليز قائلًا لشوكنج: انتظرني إلى أن أعود، فإذا طلع الصباح ولم أَعُدْ، فاذهب إلى كاليس حيث ينتظرك الغلام وأمه، وخُذِ الأوراق من الربَّان، واعمل بما تراه مكتوبًا فيها.

ثم توارى عن الأنظار.

فلما بقي شوكنج وحده قال: رباه لقد خفت، إن حديث قلبي صادق لا ريب فيه.

وإنما كان خوف شوكنج على العبوس لا على نفسه، إنه انتشله من وهدة الفقر المدقع إلى قمة النعيم، فبات وهو المتسول الشحاذ آمِنًا طوارق الأيام، لا يخاف الفقر، ممتَّعًا بالألقاب والوسامات، لا تفرغ جيوبه من المال، في حين أنه لم يكن يرى الدينار إلا في أحلامه، فهاله ما رآه من تهوُّر العبوس؛ لأنه لم يكن يعتقد بصدق حب النساء، وكان يعتبر أن المرأة لا هَمَّ لها إلا خديعة الرجل، ولا شاغِلَ لها غير العبث به من الصباح إلى المساء.

لما بقي وحده في القارب جعل يتأوَّه ويتنهَّد ويقول: لا شك أن لكل نابغة ضربًا من الهوس والجنون، وأن العبوس من النوابغ، ولكنه أصيب بهوس الحب وألقى بنفسه إلى الفخ الذي نُصِب له، ولولا اعتقادي برجحان عقله سيجد مخرجًا، لَقتلتُ نفسي قانطًا.

وكان شوكنج على اعتقاده بوجود المكيدة، قويَّ الثقة بذكاء سيده ومقدرته على النجاة، فمثَّلَتْ له الوحدة والمخاوف أمورًا لم تكن تجري إلا في مخيلته، فتوهَّمَ في البدء أنهم يقتلون العبوس وأنه يسمع صوت نزعه، ثم توهَّمَ أن الدهليز ملؤه براميل البارود لا تلبث أن تنسفها أيدي المعتدين، فيُقتَل العبوس شر قتل، غير أنه لم يجر شيء من ذلك إلا في مخيلة شوكنج لاشتداد مخاوفه، فقد كانت السكينة سائدة ولم يصدر أقل صوت من الدهليز.

ولكن شوكنج سمع فجأةً صوتًا خارجًا من النهر لا من الدهليز، وكان الصوت صوت مجازيف تعمل في المياه بانتظام تام، فقال في نفسه: إما أن يكون هؤلاء من الصيادين، أو يكونوا من البوليس، وفي كل حال فإنهم لا يرونني لكثافة الضباب واشتداد الظلام.

وكان هذا الصوت يزيد ارتفاعًا مما يدل على أن أولئك الملاحين يدنون من قاربه، ولكنه لم يكن يراهم بل كان يسمع أصواتهم متقطعة، فعلم أن الحديث كان دائرًا بينهم على إعدام فانوش وجوهن، ولكنه علم أن صوت أحدهم كان صوت نيقولا رفيق جوهن الذي أُعدِم، فاضطرب وندم لتغيير لون السواد؛ لأن هذا الرجل كان من أصدقاء جوهن، وكان شوكنج من أعدائه، فخطر له أن يلقي نفسه في النهر ويعود سباحة إلى البر.

وفيما هو يتردد في تنفيذ ما خطر له كان قارب الملاحين قد دنا من قاربه، ووثب منه رجلان إليه فقبضا على عنق شوكنج وألقياه في ذلك القارب، فحاول أن يتخلص منهما وصار يستغيث، فصاح بهما رجل كان لا يزال في القارب، وقال لهما: كمِّمَاه، وإذا صاح اقتلاه. فعلم شوكنج أن هذا الآمِر كان الأسقف بترس توين، كما علم أن القابض عليه كان نيقولا.

أما نيقولا فإنه ضغط على عنقه ضغط المنتقم، وقال له: إنك كنتَ السبب في قتل جوهن مع أنه كان رفيقك، فستنال جزاءك.

وعندها قال لهما الأسقف من القارب الثاني: اقتصرا الآن على تقييد هذا، ثم اصنعا به بعد ذلك ما ترومان، فقَيِّدَاه وكمِّمَاه.

فصعد الأسقف وقال لهما: سيرا بي الآن إلى سلم جسر وستمنستر، فإنهم ينتظرونني عند اللورد بالمير، فذهبا به إلى الجسر، فترك القارب وصعد إلى البر.

ثم قال للرجلين: إنكما تعلمان ماذا يجب أن تصنعاه، فاذهبا الآن واصنعا ما أمرتكما به.

عاد الرجلان إلى موقف شوكنج الأول عند الدهليز، فكان شوكنج يقول في نفسه: لا شك أن العبوس قد سقط في الفخ الذي نصبته له تلك الفتاة الداهية، وأن الأسقف لم يغرق في النهر كما كنَّا نتوَهَّم، وهو ذاهب إلى منزل اللورد بالمير.

أما الرجلان فإنهما حين وصلا إلى الدهليز عادا إلى سفينتهما، فأخرجا مخلين من الحديد ودنوا من حائط الدهليز، فجعلا يفتحان فيه ثقبًا تحت خط المياه، فنظر شوكنج ما يصنعان وفهم مرادهما، إنهما كانا يحاولان فتح ممر للمياه إلى الدهليز فتدخل المياه إليه، فإما تغرق الرجل العبوس إذا كان في داخله، أو تقطع عليه خط الرجوع إذا كان في المنزل.

وهنا انقبضت نفس شوكنج بعد أن تمثلت له الحقيقة الهائلة، ولم يجد معزيًا له غير الصلاة، فجعل يبتهل إلى الله كي ينقذه وينقذ العبوس من هذا الخطر العظيم.

ولكن نيقولا ورفيقيه كانا يواصلان الثقب في الجدار، وينزعان حجارته حجرًا حجرًا، إلى أن فتحَا ثقبًا متسعًا، فارتج قاربهما حتى أوشك أن يغرق؛ فإن مياه النهر دخلت بعنف عظيم إلى الدهليز.

٦١

وَلْنقتفِ الآن أثر الرجل العبوس، فإنه صعد من القارب إلى فم الدهليز، ووثب منه إلى الأرض، فسار في ظلامه المخيف وهو مطمئن البال واثق من حسن النتيجة، حتى إنه لم يحمل سلاحًا.

وتقدَّمَ لنا وصف هذا الدهليز حين اكتشفته مس ألن مع أبيها وبادي، فلا نعود إليه، بل نقول إن العبوس اخترقه حتى بلغ إلى بابه السري ففتحه، ودخل منه إلى غرفة مس ألن، فوجدها معطَّرَة منورة، ولكنه لم يجد مس ألن فيها، وقال في نفسه: لا بأس، إذ يجب أن أكون السابق في مثل هذه المواقف، لكنه ارتاح إلى ما رآه من زيادة التأني في مفروشات الغرفة، واستدلَّ من ذلك على ارتياح الفتاة.

ولكنه لم يَكَدْ يستقر في تلك الغرفة حتى دخلت مس ألن تتهادى في مشيتها، وقد لبثت ثوبًا من المخمل الأسود كانت به فتنة للناظرين، فدنت من الرجل العبوس، ومدَّتْ يدها إليها وصافحته.

– يسرني أنك دقيقة في مواعيدك.

ثم جلست على مقعد، وأشارت له بالجلوس بقربها.

وقالت له مبتسمة: أَلَا تزال تحبني يا سيدي؟

– كما تحبينني أنت.

ثم ركع عند قدميها وأخذ يدها بين يديه، وجعل يكلِّمها بأفصح لغة يوحيها الغرام، ويعرب لها عن وجدانات نفسه بألفاظ لا ترق وتعذب لدى شعب من الشعوب رقتها في أفواه الباريسيين.

وبينما الرجل العبوس يعتقد أنه قد سحرها برقيق ألفاظه، واستغواها بلطف معانيه، ضحكت تلك الفتاة الساحرة فجأةً.

– يا ويحك، إنك من المجانين.

ووقف الرجل العبوس متثاقلًا، ولكن دون انذهال.

وقال: أحق إنك تشبهينني بالمجانين؟

– بل إنك مجنون وأبله معًا.

– لماذا؟

فنظرت إليه عند ذلك نظرة برقت عيناها، وقالت بلهجة الساخر: ذلك أنك تجاسرت على الاعتقاد بأني أحبك.

– ولكني لا أزال أعتقد هذا الاعتقاد.

ثم أخذ يدها فقبَّلَها، فاختلف ضحكها وارتجفت يدها، فقالت له: أتعلم أنك قد سقطت في فخ لا تستطيع أرلندا بجملتها إنقاذك منه، على أني حذرتك أمس حين قلتُ لك أتجسر على الحضور إلى منزلي؟

فأجابها ببرود: هو ما تقولين، ومع ذلك فقد أتيت.

فأشارت بيدها إلى باب السلم، وقالت له: انظر إلى منزل أبي وهذا السلم، فهما غاصان بالجنود.

فقال لها بسكينة دون أن يبدو عليه شيء من الاضطراب: أحقيقة ما تقولين؟

– أحسبك طامعًا أن تخرج من حيث دخلت، أي من الباب السري.

ولم يُجِبْها الرجل العبوس، وجعل ينظر إليها نظرات غرام ضعضعتها، وهو غير مكترث لما تنذره به من الأخطار، كأنما غرامها قد أشغله عن كل خطر.

وبعد ذلك سمِعَا دويًّا يشبه دوي الرعد البعيد.

وقالت له: أَلَا تسمع هذا الدوي؟

فأجابها بسكينة وهو ينظر إليها مبتسمًا: نعم أسمعه، وأعلم أنه صوت مياه التميس دخلت إلى الدهليز، وسيبلغ إلينا بحيث لا يبقى لديَّ إلا واحد من أمرين، وهما إما الموت غرقًا أو التسليم للجنود.

– أتعرف هذا أيضًا؟

– نعم، قد عرفته منذ الصباح.

– عجبًا! وكيف أتيت؟ إنك لا شك مجنون.

– كلا، فإنك في الصباح كنتِ كارهةً لي وربما تكرهينني الآن أيضًا، أما إذا تمثَّل لكِ هلاكي فإنك تحبينني، وهذا كل ما أطمع فيه.

ثم نظر إليها تلك النظرات المغنطيسية الجاذبة، فتكهربت لها نفسها، وكان صوت مياه النهر يزيد ارتفاعًا دلالة على تقدُّمها في الدهليز.

ولا يستطيع قلم كاتب أن يصف قوة تلك الجاذبية السحرية التي ترسلها النواظر أشعةً مكهربةً، فتصل بين القلوب وتفعل فيها فعل السحر، وغاية ما يقال عمَّا جرى في تلك اللحظة أن مس ألن أُصِيبت بما تصاب به الحمامة حين يدركها البازي، فركعت أمام الرجل العبوس، وقالت له بصوت يتلجلج: رحماك، واعْفُ عني، فإني أهواك.

وقد كانت هذه المرة صادقةً في قولها، فإنها ما أتمَّتْ كلامها حتى نهضت فوثَبَتْ إلى عنقه تقطِّعه تقبيلًا، وتقول: رباه ماذا صنعت! يجب أن نهرب، هلم إلى الفرار وإلا قُبِض عليك وهلكت. هلم إلى الفرار، فإن الوقت لا يزال متسعًا.

وكانت تبكي فتدفعه بيدها قائلة: اهرب.

ثم تضمه إلى صدرها وتقول: بل نهرب معًا، فإني أتبعك إلى حيث تشاء.

ثم تجذبه إلى الدهليز وتقول له: هلم بنا، فقد نجد منفذًا منه.

أما العبوس فكان يتطَلَّع إليها مبتسمًا دون أن يعترضها فيما تفعل، ويقول: لقد كنتُ واثقًا أن جهادي معك سينتهي بهذا الفوز.

وعند ذلك تراجعت منذعرة، وصاحت صيحة منكرة قائلةً: رباه! قد فات الأوان، فقد وصلت إلينا المياه تحمل بين أمواجها الموت.

فابتسم الرجل العبوس أيضًا وقال: لقد فات الأوان.

أما هي، فإنها أسرعت إلى الباب الذي كانت قد سدَّتْه بالحجارة في غرفتها حين اكتشفت الدهليز، وقالت له: إنك قوي شديد، اكسر هذا الباب، فإني لا أعلم إذا كان يؤدي بنا إلى النجاة، ولكن قد يكون لنا منه الخير.

ثم انقضت بنفسها على الباب تدفعه بيدها، وقال العبوس: لا فائدة من كسره، فإن المياه من ورائه.

وكان يقول ذلك بملء السكينة، دون أن يظهر عليه شيء من علائم الخوف، في حين أن مس ألن كانت تذرف الدموع الغزيرة، وقد ولهت لإشفاقها عليه حتى بلغت حد القنوط.

فكان يبتسم ويقول لها: لقد كنتُ واثقًا أنك ستحبينني. كأنما لم يكن يشغله في تلك الساعة الرهيبة غير هذا الخاطر.

وكانت مياه التيمس تتصاعد حتى دخلت إلى الغرفة، وبلَّتْ أقدامهما، فاشتد يأسها وقالت له: إنك شجاع باسل، فافتح الباب واخترق هؤلاء الجنود، فإنهم لا يتجاوزون ثلاثين رجلًا، خُذْ أيها الحبيب غدارتيك وجرِّدْ خنجرك وباغتهم بالانقضاض عليهم، فقد تفوز بالنجاة.

وقال لها بسكينة: ليس لدي أسلحة، ولا يجمل بي أن أزور مَن أحب مدججًا بالسلاح.

فصاحت الفتاة صيحة قنوط، وهاجت هياج اللبؤة المشفقة على أشبالها، وكأنما أرادت أن تفدي حبيبها بنفسها وتقيه الموت، فطوَّقَتْ عنقه بذراعيها وقالت: إنهم لا يقبضون عليك إلا بعد أن يقتلوني.

وعند ذلك سمع ضجيج على باب السلم.

ثم فُتِح فجأةً وظهر منه السير بترس توين وكثير من الجنود، فقال لهم مشيرًا إلى الرجل العبوس: اقبضوا على هذا الرجل.

فوقفت مس ألن بينهم وبينه، وحاولت إغواء الأسقف فقالت له: دعنا نمر بحق السماء. أستحلفك بالله، وبكل عزيز لديك أن تدعنا نذهب؛ فإني أحبه، لا تُسِئْ إليه، أفعل لكَ ما تريد، وتكون قد اشتريتني بإحسانك.

ثم عادت إلى عناق الرجل العبوس، فجعلت تقبِّله وتبكي، ولو كان بيدها خنجر لانقضت على هذا الأسقف ومزَّقَتْ أحشاءه.

أما الأسقف فإنه نظر إليها نظر الشامت، وقال لها بلهجة الساخر: إني كنتُ أتوقَّع يا مس ألن أن تسقطي في هوة هذا الغرام، وأن تصفحي عن هذا العدو اللدود، ولكني لستُ امرأةً فلا أصفح عن أعدائي.

ثم أشار إلى الجنود أن يقبضوا عليه.

وتعانق الحبيبان.

واغتنم الرجل العبوس هذه الفرصة، وقال لها باللغة الفرنسية: إننا أيتها الحبيبة مفترقان، ولكن فراقنا لا يطول، فإني أخرج من السجن حين أشاء.

لا تهتمي بي أيتها الحبيبة، بل انصرفي إلى خدمة أرلندا والأرلنديين، ابرحي لندرا إلى باريس، وابحثي فيها عن رجل يُدعَى مرميس وآخَر يُدعَى ميلون وامرأة تُدعَى فاندا، فقولي لهم تعالوا إلى لندرا بأمر الرئيس، يمتثلوا لأمرك ويحضروا في الحال.

إني أيتها الحبيبة أُلَقَّبُ في لندرا بالرجل العبوس، وأما في باريس فإني أُدعَى روكامبول.

وهنا أطبق الجنود على روكامبول، وساروا به إلى السجن بأمر ذلك الأسقف.

ولم تشفع له دموع ابنة اللورد ولا منزلة أبيها، ولكن دهاءه كان أعظم شافع لدى قلبها، فبلغ منه ما أراد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤