الفصل الرابع عشر

ثمة تَبِعات

عندما استيقظت لونا، شعرت بأنها مختلفة. لم تعرف السبب. رقدت على سريرها وقتًا طويلًا، تستمع إلى تغريد الطيور. لم تفهم ماذا كانت تقول. هزت رأسها. لماذا يتعين عليها أن تفهمها أصلًا؟ هذه مجرد طيور. وضعت يدَيها على وجهها. واستمعت للطيور مرة أخرى.

قالت جهرًا: «لا أحد يُمكنه التحدث إلى الطيور.» وهذا صحيح. لماذا إذن بدا وكأن الأمر لم يكن كذلك. حطَّ طائر حسون زاهي الألوان على عتبة النافذة وغرد بعذوبة، وشعرت لونا بأن قلبها سينفطِر. وبالفعل انفطر قلبها قليلًا، في هذه اللحظة تحديدًا. وضعت يدَيها على عينيها وأدركت أنها كانت تبكي، على الرغم من أنها لم تكن تعرف السبب.

قالت بصوتٍ مرتفع، وهي تلاحظ القليل من التذبذُب والحشرجة في صوتها: «سخيفة. يا لسخافتكِ يا لونا.» كانت أسخف فتاة. الجميع كان يقول هذا.

تلفتت حولها. كان فيريان يستلقي متكورًا عند نهاية سريرها. كان ذلك معتادًا. إذ كان يُحب النوم على سريرها، مع أن جدتها غالبًا ما كانت تمنع ذلك. لم تعرف لونا السبب.

على الأقل كانت «تظن» أنها لا تعرف السبب. لكنها شعرت في قرارة نفسها أنها ربما كانت تعرف في يوم من الأيام. لكنها لا تتذكر متى.

كانت جدتها نائمةً في سريرها على الجانب الآخر من الغرفة. وكان وحش المستنقع ممددًا على الأرضية، يُصدر شخيرًا هائلًا.

قالت لونا في نفسها: «هذا غريب.» لم تتمكن من تذكُّر مرة واحدة نام فيها جليرك على الأرضية. أو في الداخل. أو غير مغمور في المستنقع. هزت لونا رأسها. رفعت كتفَيها وقرَّبتهما من أُذنيها، واحدًا ثم الآخر. كان العالم حولها يُطبق عليها بغرابة، كمعطف صار ضيقًا. أيضًا، شعرت بألَمٍ مريع في رأسها، في عُمق رأسها. ضربت جبهتها عدة مرات براحتها، لكن هذا لم يساعدها.

انزلقت لونا من سريرها وخلعت رداء النوم وارتدت فستانًا بجيوب عميقة مَخيطة في كل مكان فيه، لأنها طلبت من جدتها أن تصنعه هكذا. برفق وضعت فيريان النائم في أحد الجيوب، حريصة على ألا تُوقظه. كان سريرها متصلًا بالسقف بحبال وبكرات لإفساح مساحة البيت الصغير خلال اليوم. لكن لونا كانت لا تزال أصغر من أن تستطيع رفعه بمفردها. تركته كما كان وخرجت.

كان الوقت مبكرًا، ولم تكن شمس الصباح قد تجاوزت حافة قمة الجبل. كان الجبل باردًا ورطبًا ونابضًا بالحياة. كانت ثلاثة من الفوهات البركانية تُطلق شرائط رفيعة من الدخان تخرُج بتكاسُل من داخِلِها في صورةٍ لولبية وتمضي متعرجةً نحو السماء. سارت لونا ببطءٍ نحو حافة المستنقع. نظرت إلى قدمَيها العاريتَين اللتين كانتا تغوصان قليلًا في الأرض المكسوة بالطحالب، تاركة آثار أقدام. لم تنبت أي زهور في الأماكن التي وطأتها بقدمَيها.

لكن، من السخف التفكير في هذا، أليس كذلك؟ لماذا ينبت شيء عند موطئ قدمَيها؟ قالت جهرًا: «سخيفة، سخيفة.» ثم شعرت بدوارٍ في رأسها. جلست على الأرض وحدقت في قمة الجبل، وهي لا تفكر في أي شيء على الإطلاق.

•••

وجدت زان لونا جالسةً بمفردها في الخارج، تُحدق في السماء. وهو ما كان غريبًا. ففي المعتاد، كانت الفتاة تستيقظ محدثة زوبعةً، وتعمل على إيقاظ كل من كان بالقُرب منها. لم يكن هذا هو حالها اليوم.

قالت زان في نفسها: «حسنًا. كل شيء مختلف الآن.» وهزت رأسها. واستدركت: «ليس كل شيء.» فمع أن السحر المقيد والملتفَّ بداخلها آمِن الآن، كانت لا تزال الفتاة نفسها. لا تزال «لونا». ببساطة لم يكن يتعين عليهم القلق بشأن تفجُّر سحرها في أنحاء المكان. الآن يمكنها أن تتعلم في سلام. واليوم سيبدءون.

قالت زان: «صباح الخير أيتها الغالية» تاركةً يدَها تنزلق على رأس الفتاة، وراحت تعبث بأصابعها في خصلات شعرها المتموجة الطويلة السوداء. لم تقُل لونا أي شيء. بدت في حالة غَشْيَة. حاولت زان ألا تقلق بشأن هذا.

قال فيريان، وهو يتطلع إليها من الجيب ويتثاءب، ويمدُّ ذراعَيه الصغيرتين للخارج قدر المستطاع: «صباح الخير يا عمتي زان.» نظر حوله مُحدقًا: «لماذا أنا في الخارج؟»

عادت لونا إلى وعيها باختلاجة. ونظرت إلى جدتها وابتسمت. قالت وهي تنهض مسرعة: «جدتي. أشعر وكأنني لم أركِ منذ أيامٍ عديدة.»

بادر فيريان قائلًا: «حسنًا، هذا بسبب …» لكن زان قاطعته.

وقالت: «صمتًا أيها الصغير.»

تابع فيريان بحماس: «ولكن يا عمتي زان. أريد فقط أن أوضح أن …»

«كفَّ عن الثرثرة، أيها التنين السخيف. اغرب عن وجهي. اذهب وابحث عن صديقك الوحش.»

ساعدت زانُ لونا على النهوض وأخذتها من يدِها وانطلقت بها مبتعدة.

سألت لونا: «ولكن إلى أين نذهب يا جدتي؟»

قالت زان، وهي ترمق فيريان بنظرةٍ حادة: «إلى الورشة يا عزيزتي.» ثم قالت له: «اذهب وساعد جليرك في إعداد الإفطار.»

«حسنًا يا عمتي زان. أريد فقط أن أُخبر لونا أن …»

انفجرت فيه قائلةً: «الآن يا فيريان»، واصطحبت لونا بعيدًا.

أحبت لونا ورشة جدتها، وكانت قد تعلَّمت بالفعل أساسيات الميكانيكا، بما في ذلك الرافعات والأوتاد والبكرات والتروس. حتى في تلك السن الصغيرة، كانت لونا تتمتع بعقل ميكانيكي، وكانت لديها القدرة على صنع آلات ميكانيكية صغيرة تطن وتدق. كانت تحبُّ العثور على قِطَع من الخشب يُمكنها تشذيبها وربطها معًا وتشكيلها لتصبح شيئًا آخر.

في الوقت الحالي، كانت زان قد نحَّت كل مشروعات لونا جانبًا في إحدى الزوايا وقسَّمت الورشة كلها إلى أقسام، كل قسم يحتوي على الأطقم الخاصة به من رفوف الكتب ورفوف الأدوات ورفوف المواد. كان يُوجَد قسم للاختراع وقسم للإنشاء وآخر للدراسة العلمية وآخر لدراسة النباتات وآخر لدراسة السحر. على الأرضية كانت قد رسمت العديد من الرسوم بالطبشور.

سألتها لونا: «ماذا حدث هُنا يا جدتي؟»

قالت زان: «لا شيء يا عزيزتي.» لكنها بعد ذلك عَدَلَت عن رأيها. وقالت: «حسنًا، حدثت عدة أشياء بالفعل، لكن لدَينا أشياء أهم علينا أن نتعامل معها أولًا.» جلست على الأرضية قبالة الفتاة، واستجمعت سِحرها في يدِها، وجعلته يطفو فوق أصابعها مباشرةً ككرةٍ مضيئة لامعة.

قالت: «كما ترين يا عزيزتي، السحر يتدفَّق خلالي، من الأرض إلى السماء، لكنه يتجمع داخلي أيضًا. بداخلي. مثل كهرباء استاتيكية. وهو يطقطق ويطن داخل عظامي. عندما أرغب في القليل من الضوء الإضافي، أحكُّ يديَّ معًا هكذا، وأجعل الضوء يدور بين راحتيَّ حتى يُصبح كافيًا كي يطفو حيثما أريده أن يطفو. لقد رأيتِني أفعل هذا مئات المرات من قبل، ولكن لم يسبق لي أن فسَّرتُه. أليس هذا جميلًا يا عزيزتي؟»

لكن لونا لم تفهم. كانت عيناها خامدتَين، كنايةً عن عدم الفهم. وكان وجهها خاليًا من التعبير. كانت تبدو وكأن روحها كانت قد مضت في حالة سُبات، كشجرةٍ في فصل الشتاء. شهقت زان.

وقالت: «لونا؟ هل أنتِ بخير؟ هل أنتِ جائعة؟ لونا؟» لم تكن ثمة أي استجابة. عينان خامدتان. ووجه خالٍ من التعبير. بدا وكأن لونا كانت تُشكِّل فجوةً في الكون. شعرت زان بالذعر يتفشَّى داخل صدرها.

وعاد البريق إلى عينَي الطفلة، كأن الخواء لم يحدث على الإطلاق. قالت: «جدتي، هل يُمكنني الحصول على بعض الحلوى؟»

قالت زان: «ماذا؟» وازداد ذُعرها على الرغم من أن البريق عاد إلى عيني الطفلة. وأمعنت النظر.

هزت لونا رأسها كما لو كانت تتخلَّص من ماء في أذنيها. قالت ببطءٍ: «حلوى. أريد شيئًا حلوًا.» عقدت حاجبَيها. وأضافت: «أرجوكِ». واضطرت الساحرة إلى أن تضع يدَها في جيبها وتُخرج حفنةً من التوت المُجفف. مضغته الفتاة بتأنٍّ. وتلفتت حولها.

«لِمَ نحن هُنا يا جدتي؟»

قالت زان: «لقد كنا هنا طوال الوقت.» تفحصت وجه الفتاة بعينَيها. وقالت لنفسها: «ما الذي كان يحدث؟»

«ولكن ما السبب؟» نظرت لونا حولها. وزمَّت شفتَيها. «ألم نكن بالخارج؟» قالت: «أنا لا …» وأخذ صوتها يتضاءل. «أنا لا أتذكر …»

«أريد أن أعطيكِ درسك الأول يا عزيزتي.» فبدا القلق على وجه لونا، وتوقفت زان عن الكلام. ووضعت يدَها على خد الفتاة. كانت موجات السحر قد ذهبت. إذا ركزت بشدة، يمكنها أن تشعر بجاذبية هذه الكتلة الكثيفة ملساء وصلدة ومغلفة كحبة جوز. أو مثل بيضة.

قررت أن تجرب مرةً أخرى. «لونا، حبيبتي. هل تعلمين ما هو السحر؟»

مرة أخرى صارت عينا لونا خامدتَين. ولم تتحرك. كانت بالكاد تتنفس. بدا وكأن «شخصية» لونا — بريق عينيها وحركتها وذكاؤها — كانت ببساطة قد تلاشت.

انتظرت زان مرةً أخرى. هذه المرة استغرق الأمر وقتًا أطول كي يعود البريق إلى عيني لونا وكي تعود إلى طبيعتها. نظرت الفتاة إلى جدتها بتعبيرٍ يشي بالفضول. تلفتت إلى يمينها وإلى يسارها. وقطَّبَت حاجبيها.

سألت: «متى أتينا إلى هنا يا جدتي؟ هل نمت؟»

نهضت زان وبدأت تمشي في الغرفة. وتوقفت عند طاولة الاختراعات، متفحصةً التروس والأسلاك والأخشاب والزجاج والكتب التي تحتوي على رسوم وتعليمات معقدة. التقطت ترسًا صغيرًا بإحدى يدَيها وزنبركًا صغيرًا، حادًّا عند الأطراف لدرجة أنه أحدث بقعة دموية على إبهامها، باليد الأخرى. التفتت إلى لونا وتخيَّلَت الآلية الموجودة داخل تلك الفتاة؛ تتحرك بنسقٍ إيقاعي مُتجهة نحو عيد ميلادها الثالث عشر، بانتظامٍ ودون توقف كساعة مضبوطة جيدًا.

أو على الأقل، هكذا كان «يفترض» أن تعمل التعويذة. لم يكن أي شيء في تركيب التعويذة يُشير إلى مثل هذا … «الخمود». هل أخطأت في التعويذة؟

قررت أن تتبع تكتيكًا مختلفًا.

سألت لونا: «جدتي ماذا تفعلين؟»

قالت زان: «لا شيء يا عزيزتي.» وأسرعت نحو طاولة السحر وأخذت تُجمِّع بلورة زجاجية تتنبأ بالمستقبل، خشب من الأرض وزجاج من أحجار نيزكية منصهرة، وقليل من الماء، وثقب واحد في المنتصف كي يسمح بدخول الهواء. كانت واحدة من أفضل جهودها. لم يبدُ أن لونا حتى رأت تلك البلورة. حارت نظرتها من جانب إلى الآخر. وضعت زان البلورة بينهما ونظرت إلى الفتاة من خلال الثقب.

قالت المرأة العجوز: «أريد أن أحكي لكِ قصة يا لونا.»

قالت لونا: «أنا أحب القصص.» وابتسمت.

قالت زان: «في يوم من الأيام، عثرت ساحرة في الغابة على رضيعة.» وعبر البلورة، رأت كلماتها تطير كالغبار إلى أُذني الفتاة. ورأت الكلمات تنفصل داخل رأسها، فمثلًا كلمة رضيعة تباطأت ثم طارت من مراكز الذاكرة إلى التراكيب الخاصة بالخيال إلى المناطق المعنية بالاستمتاع باللعب بالكلمات التي لها وقعٌ موسيقي في الدماغ. رضيعة، رضيعة، ر-ر-رضي-ع-ع-ة، مرارًا وتكرارًا. وأخذت عينا لونا تزداد قتامة.

قالت زان: «في يوم من الأيام، عندما كنتِ صغيرة جدًّا جدًّا، أخذتكِ للخارج لرؤية النجوم.»

قالت لونا: «نحن نخرج دائمًا لرؤية النجوم. كل ليلة.»

قالت زان: «نعم، نعم. انتبهي. في إحدى الليالي، منذ زمن طويل، جمعتُ ضوء النجوم على أناملي وأطعمته لكِ مثل العسل من قرص الشمع.»

فصارت عينا لونا خامدتَين. هزَّت رأسها كأنها تزيح خيوط عنكبوت. قالت ببطءٍ: «عسل!» وكأن الكلمة نفسها كانت حملًا ثقيلًا.

لم تَعبأ زان بردها. وقالت بإصرار: «بعد ذلك، في ليلة من الليالي، لم تلاحظ جدتكِ القمر البازغ، يتدلى منخفضًا وضخمًا في السماء. ومدَّت يدَيها لتجمع ضوء النجوم، وأعطتكِ ضوء القمر عن طريق الخطأ. وبهذا أصبحتِ مسحورة يا عزيزتي. هذا هو مصدر السحر. أنتِ شربت كثيرًا من القمر، والآن القمر مكتمل بداخِلكِ.»

بدا وكأن التي تجلس على الأرض ليست لونا، وإنما صورة مرسومة لها. إذ لم يطرف لها جفن. كان وجهها ساكنًا كأنما قُدَّ من صخر. لوَّحت زان بيدها أمام وجه الفتاة، ولكن لم يحدث شيء. لا شيء على الإطلاق.

قالت زان: «يا للهول! يا للهول! يا للهول! يا للهول.»

أخذت زان الفتاة بين ذراعيها وهرعت نحو الباب وهي تنشج، وتبحث عن جليرك.

ظلت الفتاة على هذا الحال معظم فترة ما بعد الظهيرة قبل أن تستعيد وعيها بذاتها.

قال جليرك: «حسنًا. الموقف صعب قليلًا.»

انفجرت فيه زان قائلةً: «الأمر ليس كذلك على الإطلاق. أنا متأكدة من أن هذا الأمر مؤقت»، وكأن كلماتها وحدَها يمكن أن تجعل هذا صحيحًا.

لكن الأمر لم يكن مؤقتًا. لقد كان نتيجة لتعويذة زان: كانت الطفلة في الوقت الحالي غير قادرة على تعلُّم أشياء عن السحر. ولم يكن يمكنها أن تسمع عنه، أو أن تتحدث عنه، بل لم يكن يمكنها حتى أن تعرف الكلمة. في كل مرة كانت تستمع فيها لأي شيء له علاقة بالسحر، كان وعيها يختفي وتخبو الجذوة المشتعلة بداخلها وتتلاشى روحها. ولم تكن زان تعرف إن كانت هذه المعرفة تُمتصُّ في نواة دماغها أم تتبدَّد بالكامل.

سأل جليرك: «ماذا سنفعل عندما تبلغ السن المنتظرة؟ كيف ستعلِّمينها عندئذٍ؟» وقال في سريرته: «لأنكِ بالتأكيد عندئذٍ ستكونين قد رحلتِ. سينفتح سحرها وسيفرغ سحركِ، ولن يتبق لكِ يا عزيزتي زان، يا من بلغ عمركِ خمسمائة سنة، أي قوى سحرية تُبقيكِ على قيد الحياة.» شعر أن شقوق قلبه تزداد عمقًا.

قالت زان بيأس: «ربما لن تكبر أبدًا. ربما تبقى هكذا للأبد، وبذلك لن يتعيَّن عليَّ أن أودِّعها أبدًا. ربما أخطأتُ في التعويذة، وسحرها لن يخرج أبدًا. ربما لم يكن يُوجَد فيها سِحر مطلقًا كي يبدأ.»

قال جليرك: «أنتِ تعلمين أن هذا غير صحيح.»

اعترضت زان: «قد يكون صحيحًا. أنت لا تدري.» توقفت قليلًا، قبل أن تستطرد مرة أخرى. «البديل أكثر حزنًا من أن نتخيَّله.»

بادرها جليرك: «زان …».

انفجرت قائلةً: «الحزن خطير.» وغادرت غاضبةً.

تكررت هذه المحادثة بينهما مرارًا وتكرارًا، دون أن يصِلا إلى حل. وأخيرًا، رفضت زان أن تُناقش هذا الأمر على الإطلاق.

بدأت زان تقول لنفسها: «الطفلة لم يكن يوجد فيها سِحر.» وكلما قالت زان لنفسها إن ما تقوله قد يكون صحيحًا، كانت تزداد اقتناعًا بأنه صحيح. وحتى إن كانت لونا مسحورة يومًا ما، فإن كل هذه القوى السحرية قد أوقِفت ولن تكون مشكلة. وربما تبقى عالقة للأبد. ربما أصبحت لونا الآن فتاة عادية. «فتاة عادية.» قالتها زان مرارًا وتكرارًا. قالتها مرات كثيرة جدًّا لدرجة الاقتناع بأنها صحيحة. هذا بالضبط ما قالته في «المدن المستقلة» عندما سئلت عنها. قالت: «فتاة عادية.» وقالت لهم إن لونا لديها حساسية من السحر. قالت إنها تُعاني من «البثور». وتعاني من «نوبات.» و«تشعر بحكة في عينيها.» و«اضطرابات في المعدة.» وطلبت من الجميع ألا يذكروا كلمة سِحر بالقرب من الفتاة.

وهكذا، لم يفعل أحد. فدومًا ما كانت نصيحة زان تُنَفَّذ بحذافيرها.

في الوقت نفسه، كان أمام لونا عالم كامل كي تستكشفه؛ العلوم والرياضيات والشعر والفلسفة والفنون. بالتأكيد سيكون ذلك كافيًا. بالتأكيد ستكبر كما تكبر الفتيات، وستظل زان كما كانت؛ زان التي تتمتع بقوى سحرية وتشيخ ببطء ولا تموت. بالتأكيد، لن ترحل زان أبدًا.

قال جليرك مرارًا وتكرارًا: «هذا لا يمكن أن يستمر. لونا بحاجة لأن تعرف ما بداخلها. هي بحاجة لأن تعرف آلية السِّحر. لونا بحاجة لأن تعرف ماهية الموت. هي بحاجة لأن تكون «مستعدة».»

قالت زان: «أنا متأكدة من أنني لا أفهم عمَّ تتحدث. هي مجرد فتاة عادية، حتى لو لم تكن كذلك من قبل، فإنها كذلك الآن بالتأكيد. سحري تجدَّد. ولا أكاد أستخدِمه على أي حال. لا حاجة لأن نزعجها. لماذا نتحدث عن خسارة وشيكة؟ لماذا نعرضها لهذا الحزن؟ الحزن خطير يا جليرك، هل تتذكَّر؟»

رفع جليرك حاجبَيه. سأل: «لمَ نعتقد ذلك؟»

هزت زان رأسها. «ليست لديَّ أي فكرة.» وبالفعل لم تكن لديها فكرة. كانت تعرف من قبل، لكنها نسيت.

كان من الأسهل أن تنسى.

وهكذا كبرت لونا.

ولم تعرف شيئًا عن ضوء النجوم أو ضوء القمر أو العقدة المحكمة الموجودة خلف ناصيتها. ولم تتذكر شيئًا عن تحويلها جليرك إلى أرنب أو عن الزهور التي تنمو عند موطئ قدمَيها أو عن القوة التي كانت، حتى الآن، تدق بداخلها مع حركة تروسها، وتنبض وتنبض وتنبض دون توقُّف نحو نقطة نهايتها. لم تعرف شيئًا عن بذرة السحر الصلبة الصغيرة التي تستعد لأن تتفتح وتزهر بداخلها.

لم تكن لديها أي فكرة على الإطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤