الفصل الثامن عشر

الساحرةُ تُكتَشَف

لم تستطع زان تذكُّر آخر مرة سافرت فيها بهذا البطء الشديد. كان سحرها قد أخذ يتضاءل لسنوات، لكنها لا تنكر أن هذا التضاؤل كان يحدث بسرعة أكبر الآن. يبدو الآن أن السحر قد تقلص إلى قطرات ضئيلة تتدفق عبر قناة ضيقة في عظامها المسامية. ضَعُف بصرها وسمعها وصارت تشعر بألم في خاصرتها (وكذلك قدمها اليسرى وأسفل ظهرها وكتفاها ورسغاها، والمثير للدهشة، أنها صارت تشعر بألم في أنفها). وكانت حالتها على وشك أن تزداد سوءًا. عما قريب، ستمسك بيد لونا للمرة الأخيرة، وتهمس لها بكلمات معبرة عن الحب بصوت مبحوح. كان هذا يفوق احتمالها.

في الحقيقة، لم تكن زان تخشى الموت. ولماذا تخشاه؟ كانت قد ساعدت على تخفيف آلام المئات والآلاف من الأشخاص خلال إعدادهم للرحلة إلى المجهول. وكانت قد رأت بما يكفي من المرات في وجوه الأشخاص في لحظاتهم الأخيرة، نظرات دهشة، وفرحة جنونية جامحة. شعرت زان بالثقة في أنه لم يكن يُوجَد ما تخشاه. ومع ذلك كان أمرًا ذا شأن. كان «ما قبل الموت» هو ما يجعلها تتوقف بعض الوقت للتفكير. كانت تعلم أنها لن تنعم بالسكينة في الأشهُر التي ستقودها نحو نهايتها. وعندما كانت تتمكن من استدعاء ذكريات زوسيموس (كان الأمر لا يزال صعبًا، مع أنها كانت تبذل قصارى جهدها)، كانت هذه الذكريات حول تجهُّمه، وارتعاشه ونحوله المفزع. تذكرت الألم الذي كان يُقاسيه. ولم تودَّ السير على خطاه.

قالت لنفسها: «هذا من أجل لونا. كل شيء، كل شيء من أجل لونا.» وكان هذا صحيحًا. فقد أحبتها مع كل وخزةِ ألمٍ في ظهرها؛ أحبَّتها مع كل سُعال جافٍّ متقطع؛ أحبتها مع كل تنهيدة ناتجة عن الآلام الروماتيزمية؛ أحبتها مع كل طقطقة في مفاصلها. لم يكن ثمة شيء لم تكن على استعداد لتحمله من أجل هذه الفتاة.

وكانت بحاجة لأن تُخبرها. بالطبع كانت كذلك.

قالت لنفسها: «قريبًا. ليس بعد.»

•••

تقع «المحمية» أسفل منحدر طويل قليل الانحدار قبل نقطة التقاء المنحدر ﺑ «مستنقع زرين» الشاسع. تسلقت بروزًا صخريًّا كي تلقي نظرة على المدينة من أعلى قبل هبوطها الأخير.

كان ثمة شيء مختلف بشأن تلك المدينة. الطريقة التي تبقى بها أحزانها الكثيرة معلقة في الهواء وثابتة مثل الضباب. وبينما كانت زان واقفةً على ارتفاعٍ أعلى من غيمة الحزن أخذت تنتقد نفسها، وهي في حالة من صفاء الذهن.

تمتمت: «يا لكِ من عجوز حمقاء. كم من أناس ساعدتِ؟ وكم من جروح طيبتِ وكم من قلوب طمأنتِ؟ وكم من أرواح أرشدتِ إلى الطريق؟ ومع ذلك، ها هم هؤلاء المساكين، رجالًا ونساءً وأطفالًا، الذين رفضتِ مساعدتهم. ما الذي يمكنكِ قوله للدفاع عن نفسك أيتها المرأة السخيفة؟»

لم يكن لديها ما تقوله دفاعًا عن نفسها.

وكانت لا تعرف السبب بعدُ.

كل ما تعرفه أنها كلما اقتربت، زاد شعورها بحاجتها الماسَّة إلى الرحيل.

هزت رأسها ونَحَّت الحصى وأوراق الشجر عن تنُّورتها، وتابعت السير لأسفل المنحدر نحو المدينة. وبينما كانت تسير، راودتها ذكرى. تمكنت من تذكر غرفتها في القلعة القديمة، غرفتها المفضلة، التي كانت تحتوي على تنينَين منحوتَين في الصخر على جانبي المدفأة، وسقف مكسور، مفتوح على السماء لكنه مسحور بحيث يُبعِد الأمطار. واستطاعت أن تتذكر صعودها إلى سريرها المُتنقل وعقدِها ليدَيها معًا ووضعهما على صدرها وهي تدعو النجوم أن تحظى بليلةٍ خالية من الأحلام السيئة. لكنها لم تحظَ بهذا قط. واستطاعت تذكُّر نحيبها في السرير، وتدفق الدموع. واستطاعت أن تتذكر صوتًا على الجانب الآخر من الباب. صوتًا هادئًا أجشَّ ومبحوحًا يهمس: «المزيد. المزيد. المزيد.»

جذبت زان عباءتها وأحكمتها حول ذراعيها. لم تكن تحب الشعور بالبرد. كما أنها لم تكن تحب تذكُّر الأشياء. هزت رأسها كي تطرد الأفكار وسارت لأسفل المنحدر. نحو الغيمة.

•••

رأت المرأة المجنونة في «البرج» الساحرة تعرج عبر الأشجار. كانت بعيدة جدًّا، لأبعد حد، لكن عيني المرأة المجنونة كان يُمكنهما أن تريا أرجاء العالم إن هي سمحت لهما.

هل كانت تعرف كيفية فعل هذا قبل أن تُصاب بالجنون؟ ربما كان بإمكانها هذا. وربما ببساطة لم تلحظ هذا. لقد كانت يومًا ما ابنةً مخلصةً ثم فتاةً وقعت في الحب ثم أمًّا منتظرةً، تعدُّ الأيام التي تفصلها عن ميلاد ابنتها، وبعد ذلك اتخذ كل شيءٍ مسارًا خاطئًا.

اكتشفت المرأة المجنونة أنه يمكنها «معرفة» بعض الأمور. أمور مستحيلة. كان العالم، الذي عرفته أثناء جنونها، مليئًا بقِطع براقة وثمينة. قد يُسقط رجل عملةً على الأرض ولا يعثر عليها مرة أخرى، لكن غرابًا سيجدها في لمح البصر. والمعرفة، في جوهرها، عبارة عن جوهرة براقة، والمرأة المجنونة هي الغراب. اندفعت، ووصلت للمعرفة والتقطتها وجمعتها. عرفت «الكثير من الأشياء». على سبيل المثال عرفت أين كانت تعيش الساحرة. يمكنها السير إلى هناك معصوبة العينين لو تمكنت من الخروج من «البرج» مدةً طويلةً بما يكفي. كانت تعرف أين تأخذ الساحرة الأطفال. وكانت تعرف شكل تلك المدن.

كانت «رئيسة الأخوات» تقول لها كل يوم عند بزوغ الفجر: «كيف حال مريضتنا هذا الصباح؟ ما مقدار الحزن الذي يُخيم على روحها المسكينة للغاية؟» كانت جائعة. شعرت المرأة المجنونة بهذا.

كان يمكن للمرأة المجنونة أن تجيب: «لا يوجد» لو كانت ترغب في الكلام. لكنها لم تكن ترغب.

لسنوات، كانت «رئيسة الأخوات» تتغذى على أحزان المرأة المجنونة. لسنوات شعرت المرأة المجنونة بالانقضاض المفترس. (اكتشفت المرأة المجنونة أنها تعرف مصطلح «آكلة الحزن». لم يكن مصطلحًا تعلمته من قبل. وجدت نفسها تعرفه بنفس الطريقة التي كانت تعثر بها على أي شيء مفيد، مدت يدَها عبر الشقوق الموجودة في الكون واكتشفته.) لسنوات رقدت بصمتٍ في زنزانتها أثناء افتراس «كبيرة الأخوات» للحزن.

ثم في أحد الأيام، لم يكن يُوجد حزن كي تحصل عليه. تعلمت المرأة المجنونة كيف تقفل عليه وتستبدل به شيئًا آخر. الأمل. ومنذ ذلك الحين، باتت «كبيرة الأخوات» تتضور جوعًا.

قالت «كبيرة الأخوات»، والتجهُّم بادٍ على وجهها: «جيد. لم تَدَعيني أدخل. في الوقت الحالي.»

قالت المرأة المجنونة في نفسها، وبارقة الأمل تشرق بداخلها: «وأنتِ لم تَدَعيني أخرج. في الوقت الحالي.»

ضغطت المرأة المجنونة وجهها على القضبان الكثيفة في نافذتها الرقيقة. كانت الساحرة قد غادرت البروز الصخري وهبطت في اتجاه جدران المدينة، في الوقت الذي كان المجلس يحمل فيه آخر رضيعٍ للبوابات.

لم تولول الأم. ولم يصرخ الأب. لم يقاتلا من أجل طفلهما المنكوب. في خَدَرٍ شاهدا الطفل يُحمَل إلى الغابة بأهوالها، وهما يعتقدان أن هذا سيُبعد تلك الأهوال. ثبَّتا وجهيهما وحدَّقا في خوف.

أرادت المرأة المجنونة أن تُخبرهما أنهما «أحمقان». وأرادت أن تقول لهما: «أنتما تنظران في الاتجاه الخاطئ.»

طوت المرأة المجنونة خريطةً على شكل صقر. كانت ثمة أشياء يمكنها أن تجعلها تحدث، أشياء لا يمكنها تفسيرها. كان هذا يحدث قبل أن يأتوا لأخذ رضيعتها، وقبل «البرج»؛ كان الصاع من القمح يُصبح صاعَين؛ والقماش يتضاءل بينما يُصبح الورق كثيفًا وفخمًا في يدَيها. لكن ببطء أثناء سنواتها الطويلة في «البرج» أصبحت الهِبات التي حظيت بها واضحةً وقاطعة. عثرت على قطع وأجزاء من السحر في الشقوق الموجودة في الكون وأخْفَتها.

وجهت المرأة المجنونة الصقر نحو الهدف. كانت الساحرة تتَّجِه نحو المساحة التي تحيطها الأشجار. كان الحكماء يتجهون نحو المساحة نفسها. سيتَّجه الصقر مباشرةً نحو المكان الذي يُوجَد فيه الرضيع. كانت تعرف هذا في قرارة نفسها.

•••

كان جيرلاند كبير الحكماء يشيخ حقًّا. وكانت الجرعات، التي كان يتلقَّاها كل أسبوع من أخوات النجمة، تساعده، لكن هذه الأيام بدا أنها كانت تساعده على نحوٍ أقلَّ من المعتاد. وأزعجه هذا.

وكان عمل تسليم الرُّضَّع في الغابة يُزعجه أيضًا، ليس «المبدأ» نفسه ولا «النتائج». كان ببساطة لا يحب لمس الرُّضَّع. فهم مزعجون وغليظون، وبصراحة، «أنانيون».

بالإضافة إلى ذلك، رائحتهم كريهة. الطفل الذي كان يحمله كانت رائحته كريهة بالفعل.

كانت هيبة الموكب على أتمِّ ما يُرام، وكان من المهم المحافظة على المظاهر، لكن … نقل جيرلاند الطفل من ذراع لأخرى، فقد كان يكبر في السن على مثل هذا الأمر.

كان يفتقد أنتين. كان يعرف أن تفكيره بهذه الطريقة سخيف. فرحيل الفتى كان أفضل من بقائه. فالأعذار، في نهاية المطاف، مسألة تُثير الفوضى. لا سيما إذا كانت العائلة طرفًا في الأمر. ومع ذلك كان يفتقده. فبقدر غضب جيرلاند من معارضة أنتين غير المنطقية ﻟ «يوم التضحية»، شعر أنه فقد شيئًا ما باستقالة أنتين، لكنه لم يستطع أن يُحدِّد ماهيته بالضبط. بدا المجلس فارغًا برحيل أنتين. قال لنفسه إنه ببساطة كان يريد أن يُمسك شخصٌ آخر بالطفل الذي كان يتلوَّى، لكن جيرلاند كان يعرف أن الطفل لم يكن السبب الوحيد لما كان يشعر به.

انحنى الأشخاص الواقفون على امتداد الممشى عندما مر المجلس، وهو ما كان أمرًا حسنًا وجيدًا. تلوَّى الرضيع. وبصَقَ على عباءة جيرلاند. تنهد جيرلاند بعُمق. لن يُحدث ضجة. فقد كان واجبه نحو قومه أن يتعامل مع هذه الأمور المزعجة بهدوء.

كان صعبًا — لا أحد سيعرف كم هو صعب — أن تكون محبوبًا وجديرًا بالاحترام وغير أناني هكذا. وعندما مرَّ أعضاء المجلس فوق المعبر الأخير، حرص على أن يُهنئ نفسه على طبيعته الطيبة الإنسانية.

تحولت صرخات الطفل إلى حازوقة متَّصِلة.

تمتم جيرلاند: «يا لك من ناكر للجميل.»

•••

حرص أنتين على أن يكون مرئيًّا بينما كان أعضاء المجلس يمرون. تبادل النظرات قليلًا مع خاله جيرلاند، وقال في نفسه، بقشعريرة: «يا له من رجل مقيت»، وانسلَّ من خلف الحشد وتسلل عبر البوابة دون أن يراه أحد. وما إن صار تحت غطاء الأشجار، حتى تقدم ركضًا نحو المنطقة الخالية التي تُحيطها الأشجار.

كانت إيثين لا تزال واقفةً على جانب الطريق. كانت معها سلة مُجهزة من أجل الأسرة المكلومة. كانت ملاكًا وكنزًا، والمذهل في الأمر أنها كانت الآن زوجة أنتين، إذ كانت قد أصبحت زوجته بعد شهرٍ من تركها «البرج». أحب كل منهما الآخر بشدة. وأرادا تكوين أسرة. ولكن كان ثمة عائق.

«المرأة المُعلقة بالعوارض الخشبية،

صرخات الطفلة،

غيمة الحزن التي تُخيم على «المحمية» مثل الضباب.»

كان أنتين قد رأى ذلك الهول يمتدُّ وينتشر دون أن يفعل شيئًا. وقف جانبًا يرى رضيعًا تلو الآخر يؤخَذ ويُترَك في الغابة. قال لنفسه: «لا يُمكننا إيقاف ما يحدُث مهما حاولنا.» هذا ما كان الجميع يقولونه لأنفسهم. وهذا ما كان أنتين يعتقِدُه طوال الوقت.

لكن أنتين كان يعتقد أيضًا أنه سيقضي حياته بمفرده، وحيدًا. ثم أثبت الحب خطأ ما كان يعتقد. والآن كان العالم أبهى من ذي قبل. إذا ثبت خطأ ذلك الاعتقاد، ألا يُحتَمَل أن تكون الاعتقادات الأخرى أيضًا خاطئة.

تساءل أنتين: «ماذا لو كنا مُخطئين بشأن الساحرة؟ ماذا لو كنا مخطئين بشأن التضحية؟» كان السؤال في حد ذاته ثوريًّا. ومدهشًا. «ماذا سيحدث إذا حاولنا؟»

لماذا لم تخطر له هذه الفكرة من قبل؟ فكر في نفسه: «ألن يكون من الأفضل إنجاب طفل في عالم يسوده الخير والعدل والطيبة؟»

هل حاول أي شخصٍ من قبل أن يتحدث مع الساحرة؟ كيف «عرفوا» أنه لا يمكن التفاهم معها؟ في نهاية المطاف، أي شخصٍ كبير في السن يتمتع حتمًا بقدرٍ من الحكمة. كان هذا ببساطة منطقيًّا.

جعله الحب متهورًا. وجعله شجاعًا. وجعل الأسئلةَ الضبابية أوضح. وكان أنتين بحاجة إلى إجابات.

مضى مسرعًا بمحاذاة أشجار الجميز وتوارى بين الشجيرات، منتظرًا أن يغادر الرجال المسنون.

وهناك وجد الصقر الورقي، متدليًّا كحليةٍ من شجيرات الطقسوس. أمسك به وقربه من قلبه.

•••

عندما وصلت زان إلى منطقة الأشجار، كانت قد وصلت متأخرة. كان بوسعها سماع صوت اهتياج الرضيع من على بُعد نصف فرسخ.

نادت: «العمة زان قادمة، يا عزيزي! أرجوك لا تغضب!»

لم يكن بوسعها أن تصدق ذلك. على مدى كل هذه السنوات، لم تأتِ متأخرة مطلقًا. لم يحدث هذا قط. يا للرضيع المسكين! أغمضت عينيها وحاولت أن ترسل سيلًا من السحر إلى ساقيها كي تمنحاهما المزيد من السرعة. لكنه مع الأسف كان أشبه ببُرَيكة وليس سيلًا، لكنه بالفعل ساعد قليلًا. وباستخدام عكازها كي تقفز عاليًا وهي تمضي قدمًا، تمكنت زان من المرور عبر الشجيرات.

قالت: «حمدًا للآلهة!» وتنفَّست الصعداء عندما رأت الرضيع؛ صحيح أنه كان محتقن الوجه وغاضبًا، لكنه كان بخيرٍ ولا يزال على قيد الحياة. «لقد كنت قلقةً جدًّا عليك، أنا …»

وفجأة، حال رجل بينها وبين الطفل.

صرخ: «توقفي!» كان وجهُهُ مليئًا بالندوب العميقة ويُمسك بسلاح في يدَيه.

اختلطت بُرَيكة السحر الآن بالخوف والدهشة والقلق على الرضيع الذي كان الغريب الخطير حائلًا بينها وبينه، فتضخمت فجأة وصارت موجةً عارمة. توهجت داخل عظام زان، وجعلت عضلاتها وأنسجتها وجلدها يتوهج. حتى شعرها توهج من السحر.

صاحت زان، وصوتها يرعد عبر الصخور: «ابتعد عن طريقي.» كان بوسعها أن تشعرَ بسحرها يندفع من مركز الأرض، عبر قدمَيها ويخرج من رأسها مُتجهًا نحو السماء، ثم يعود إلى الأرض مرة أخرى ثم إلى عظامها وهكذا دواليك، كالمدِّ والجزر على الشاطئ. مدت يديها وقبضت على الرجل بكلتا يديها. صرخ الرجل لأن موجة عارمة أصابته مباشرةً في ضفيرته العصبية البطنية وقطعت أنفاسه. طرحته زان جانبًا بسهولة وكأنه دميةٌ من القماش. حولت نفسها إلى طائر باز كبير على نحو مدهش، وهبطت على الرضيع وأمسكت بقماطه جيدًا بمخالبها وطارت به إلى السماء.

لم تستطع زان أن تبقى على هذه الحالة؛ فلم تكن تملك ما يكفي من السحر، ولكن كان يمكنها أن تبقى هي والطفل في الهواء إلى أن تعبر القمَّتَين الجبليتَين القادمتَين. بعد ذلك، ستمنح الرضيع طعامًا وقسطًا من الراحة، هذا إذا لم تسقط قبل ذلك. فتح الرضيع حلقه وأخذ يصرخ.

•••

شاهدت المرأة المجنونة في «البرج» تحوُّل الساحرة. لم تشعر بشيء وهي تشاهد الأنف العجوز يتحول إلى منقار. ولم تشعر بأي شيء وهي تشاهد الريش ينبثق من مسامها، ولا عندما تحول ذراعاها إلى جناحَين وقصُر جسدها وصرخت العجوز في قوة وألم.

تذكرت المرأة المجنونة وزن طفلتها في ذراعَيها. وتذكرت رائحة فروة رأسها. وركلاتها المرحة بساقيها اللتين لم تكن قد سارت عليهما بعد. والتلويح المندهش ليدَيها الصغيرتَين.

تذكرت كيف أولت ظهرها للسطح.

وتذكرت وجود قدمَيها على العوارض الخشبية. تذكرت كم تمنَّت أن تطير.

تمتمت، عندما شرعت الساحرة في الطيران: «الطيور. الطيور، الطيور، الطيور.»

لا يوجد وقت في «البرج». لا يوجد سوى الضياع.

قالت في نفسها: «في الوقت الحالي.»

شاهدت الشاب؛ الشاب ذا الندبات على وجهه. كانت آسفة بشأن الندبات. لم تكن تقصد أن تفعل ذلك. لكنه كان صبيًّا حنونًا، وماهرًا وفضوليًّا، وطيب القلب. طيبته هي كَنزه الثمين. كانت تعرف أن هذه الندبات أبعدت عنه الفتيات السخيفات. كان يستحق شخصًا غير عادي ليُحبه.

رأته يحدق في الصقر الورقي. ورأته يفضُّ بحرصٍ كل طيةٍ ويبسط الورقة على صخرة. لم تكن الورقة تحتوي على أي خريطة. بل كانت تحتوي على كلمات.

كُتب على أحد جانبَي الورقة: «لا تنسَ.»

وكُتب على الجانب الآخر: «أنا أعني ما أقول.»

وبداخل روحها، شعرت المرأة المجنونة بآلاف الطيور، طيور من الورق، وطيور من الريش، وطيور من القلوب والعقول، واللحم والدم، تصعد إلى السماء وتحوم حول أشجار الأحلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤