الفصل التاسع عشر

رحلة إلى «مدينة العذاب»

فيما يخص الأشخاص الذين يحبون لونا، كان الوقت يمضي في لمح البصر. أما لونا، فكانت قلقة من أنها قد لا تبلغ الثانية عشرة من عمرها أبدًا. كان كل يوم يمر عليها ثقيلًا كالحَجر فوق قمة الجبل السامق.

وفي الوقت نفسه، مع كل يومٍ كان يمرُّ عليها، كانت تزداد معرفة. كان كل يومٍ يجعل العالم يبدو وكأنه يتمدَّد وينكمِش في آنٍ واحد؛ فكلما «عرفت» لونا، كان يزداد شعورها بالإحباط من أنه توجد أشياء لم «تعرفها» بعد. كانت سريعة التعلم كما كانت ماهرة في استخدام يديها وسريعة الخطو وأحيانًا متقلبة المزاج. كانت تهتم بالعنزات والدجاج وكانت تهتم بجدتها وبالتنين وبوحش المستنقع. تعلمت كيف تحلب الماعز وتجمع البيض وتصنع الخبز وتبتكر الاختراعات وتصنع آلاتٍ معقدة وتزرع النباتات وتكبس الجبن وتُنضِج حساءً يغذي العقل والروح. تعلمت كيف تجعل المنزل مُرتبًا (مع أنها لم تحب هذه المهمة كثيرًا) وكيف تخيط الطيور الورقية على طرف الفستان كي يبدو مبهجًا.

كانت فتاة ذكية وبارعة، فتاة تعرف الحب كما أنها كانت محبوبة.

ولكن، كان ثمة شيء ما.

كان ثمة شيء ناقص. فجوة في معرفتها. فجوة في حياتها. كان بوسع لونا أن «تشعر» بذلك. كانت تأمُل أن بلوغها الثانية عشرة سيجعلها تتغلب على هذا الشعور؛ سيبني جسرًا فوق هذه الفجوة. لكن هذا لم يحدث.

بدلًا من ذلك، عندما بلغت الثانية عشرة أخيرًا، لاحظت أن تغييرات عديدة بدأت تحدث لها؛ ولم تكن كلها لطيفة. لأول مرة، صارت أطول من جدتها. وصارت أكثر عرضة لتشتت الانتباه. كما أنها أصبحت عديمة الصبر. ومشاكسة. كانت تنفجر غضبًا في جدتها. وتنفجر غضبًا في وحش المستنقع. حتى إنها كانت تنفجر غضبًا في تنينها، الذي كان قريبًا من قلبها كأخيها التوءم. كانت تعتذر إليهم جميعًا بالطبع، لكن حدوث هذا في حدِّ ذاته كان مثيرًا للغضب. لماذا كان يغيظها الجميع؟ تساءلت لونا.

وكان ثمة شيء آخر. وهو أنه على الرغم من أن لونا كانت تعتقد دومًا أنها قرأت كل الكتب الموجودة في الورشة، بدأت تُدرك أنه كان يُوجد العديد من الكتب التي لم تقرأها على الإطلاق. كانت تعرف شكل هذه الكتب. كما كانت تعرف أماكنها على الرف. لكن مهما حاولت، لم تستطع تصوُّر عناوين هذه الكتب أو تذكُّر إشارةٍ واحدة إلى محتوياتها.

وعلاوة على ذلك، وجدت أنها لا تستطيع حتى قراءة الكلمات المكتوبة على حواف أغلفة المجلدات. كان ينبغي أن تتمكن من قراءتها. فالكلمات لم تكن أجنبية والأحرف مشبَّكة بعضها في بعض بطرُق تجعل المعنى أوضح حتمًا.

ومع هذا لم تتمكن من قراءتها.

في كل مرة كانت تحاول أن تنظر إلى حواف الأغلفة، كانت عيناها تنجرفان يمينًا ويسارًا وكأن الكلمات لم تكن مصنوعةً من حبر على جلد بل من زيت على زجاج. لم يحدث لها هذا عندما نظرت إلى حافة كتاب «حيوات نجم» ولم يحدث عندما نظرت إلى النسخة العزيزة عليها من كتاب «الميكانيكا». لكن كلمات الكتب الأخرى كانت زلقة ككراتٍ زجاجية على زبد. والأدهى من ذلك، أنها كلما مدت يدها لتمسك بكتابٍ من هذه الكتب، كانت تجد نفسها تغرق في ذكرى أو حلم. وتجد نفسها بعد ذلك قد أصيبت بالحوَل أو تشوُّش في الأفكار، وتهمس بشِعرٍ أو تؤلِّف قصة. أحيانًا كانت تستعيد حواسَّها بعد ذلك بدقائق أو ساعات أو بنصف يوم، فتهز رأسها لإنهاء حالة تشوش أفكارها وتتساءل ماذا بحق السماء كانت تفعل وكم استغرقت فيما كانت تفعله.

لم تخبر أي أحدٍ بشأن هذه النوبات. لم تخبر جدتها. ولم تخبر جليرك. وبالطبع لم تخبر فيريان. لم تكن تريد أن تقلقهم. هذه التغييرات كانت مُحرجة للغاية. وغريبة للغاية. لذا أبقتها طيَّ الكتمان. ومع ذلك كانوا أحيانًا يرمقونها بنظراتٍ غريبة. أو كانوا يعطونها إجاباتٍ غريبة على أسئلتها، وكأنهم كانوا يعلمون بالفعل أن خطبًا ما أَلَمَّ بها. وأن ذلك «الخطب» كان متشبثًا بها كصداع لا تستطيع أن تتخلص منه.

وحدث شيء آخر للونا بعدما بلغت الثانية عشرة: هو أنها بدأت ترسم. كانت ترسم طوال الوقت. كانت ترسم دون وعي منها وكانت ترسم وهي في كامل وعيها. كانت ترسم وجوهًا، وأماكن، وتفاصيل دقيقة لنباتات وحيوانات؛ سداة هُنا وبراثن هناك، وأسنانًا مخلخلة لعنزة مُسنَّة. رسمت خرائط للنجوم، وخرائط «المدن المستقلة» وخرائط لأماكن لا وجود لها إلا في مخيلتها. رسمت برجًا من أحجار مُقلقلة وممرات متداخلة ومتقاطعة وسلالم داخلية، ويطلُّ على مدينة غارقة في الضباب. رسمت امرأة ذات شعرٍ أسود طويل. ورسمت رجلًا يرتدي عباءة.

فعلت الجدة كل ما بوسعها كي تُبقيها برفقة الريشة والألوان. شرع فيريان وجليرك يصنعان لها الأقلام الرصاص من الفحم والقصب الصلب. وكانت لونا مُستمتعة بالرسم جدًّا.

•••

في وقت لاحق من ذلك العام، سارت لونا وجدتها إلى «المدن المستقلة» مرة أخرى. كان الطلب على جدتها يتزايد باستمرار. كانت تزور الحوامل وتعطي النصائح للقابلات والمعالجين والعطارين. ومع أن لونا كانت تحب زيارة المدن الموجودة على الجانب الآخر من الغابة، فهذه المرة أغضبتها الرحلة أيضًا.

كانت جدتها، التي بقيت صامدة كالصخر طوال حياة لونا، قد بدأت تضعف. كان قلق لونا المتزايد على جدتها يخِزُ جلدها كفستان مصنوع من الأشواك.

كانت زان تعرج طوال الطريق. وكان عرجها يسوء. قالت لونا، وهي ترى جدتها تنكص ألمًا مع كل خطوة: «جدتي. لماذا تَظلِّين تسيرين؟ لا بد أن تجلسي. أظن أن عليكِ الجلوس الآن. انظري إلى هناك، جذع شجرة مقطوعة. يمكن الجلوس عليها.»

قالت الجدة وهي تتكئ على عصاها وتنكص ألمًا مرةً أخرى: «أوه، هراء. كلما جلست، ستستغرق الرحلة وقتًا أطول.»

ردت لونا: «كلما مَشيتِ، ازداد ألمُكِ.»

كان يبدو أنه كل صباح كانت زان تعاني من وخزٍ جديد وألم جديد. تشوُّش في الرؤية أو تدلٍّ في الكتف. وكانت لونا تُغالب قلقها ومخاوفها.

سألت لونا زان: «هل تريدين مني الجلوس على قدميك يا جدتي؟ هل تريدين أن أروي لكِ قصة أو أُغني لكِ أغنية؟»

تنهَّدت الجدة: «ماذا أصابكِ أيتها الطفلة؟»

«ربما ينبغي أن تأكلي شيئًا. أو أن تشربي شيئًا. ربما ينبغي أن تشربي بعض الشاي. هل تريدين مني أن أُعِدَّ لك كوبًا من الشاي؟ ربما ينبغي أن تجلسي. لتشربي الشاي.»

«أنا على أحسن ما يُرام. لقد قمتُ بهذه الرحلة مرات عديدة لا يُمكنني إحصاؤها، ولم تحدُثْ لي أي مشكلة. أنت تُحدثين جلبة على لا شيء.» لكن لونا كانت تعرف أن شيئًا ما تغير في جدَّتها. كانت ثمة رعشة في صوتها ويديها. وكانت نحيلة جدًّا! اعتادت لونا أن تكون جدتُها بدينة ومنتفخة كالبصلة؛ واعتادت على العناق الناعم والأحضان الرقيقة. الآن أصبحت هشَّةً وواهنة وخفيفة، كحزمة من الأعشاب الجافة الملفوفة في ورقة مُجعدة يمكن أن تتفكَّك من هبَّة ريح.

•••

عندما وصلَتا إلى مدينة تُسمى مدينة العذاب، ركضت لونا إلى منزل الأرملة الذي يقع على الحدود تمامًا.

قالت لونا للأرملة: «جدتي ليست بخير. لا تُخبريها بأنني قلتُ هذا.»

أرسلت الأرملة ابنها، الذي كاد أن يكون بالغًا (وهو من «أطفال النجوم»، كالكثيرين)، والذي ركض في طلب المُعالج، والذي بدوره ذهب للعطار، والذي بدوره ذهب للعمدة، الذي أخطر «رابطة السيدات»، التي أخطرت «جمعية النبلاء»، و«تحالف صانعي الساعات» و«صانعي الألحفة» و«الصفاحين» ومدرسة المدينة. بحلول الوقت الذي سارت فيه زان وهي تعرج إلى حديقة بيت الأرملة، كان نصف المدينة هناك بالفعل، ينصبون الموائد والخيام، مع استعدادِ جحافلَ من الفضوليين للحديث وإحداث ضجة بشأن العجوز.

تنشَّقَت زان، قائلةً: «حماقة»، على الرغم من أنها انكمشت على نفسها فوق الكرسي الذي وضعته إحدى الفتيات بجانب حديقة الأعشاب لأجلها.

قالت الأرملة: «ارتأينا أن هذا كان أفضل.»

قالت لونا، مُصححةً: «ارتأيتُ أن هذا كان أفضل.» داعب ما بدا أنه آلاف الأيدي خدَّيها وجبهتها وربَّتَت على كتفَيها. همْهَمَ أهل المدينة: «يا لها من فتاة طيبة. كنا نعرف أنها ستكون أفضل من أفضل الفتيات، وأفضل من أفضل الأطفال، ويومًا ما ستكون أفضل من أفضل النساء. نُحب حقًّا أن نكون على صواب.»

لم يكن هذا الاهتمام غير عادي. فأينما ذهبت لونا لزيارة «المدن المستقلة»، كانت تجد استقبالًا حارًّا وتوددًا إليها. لم تكن تعرف لماذا يُحبها أهل المدن هكذا، أو لماذا يُصغون بحرصٍ بالغٍ لكل كلمة تقولها، لكنها أُعجبت بمديحهم.

أبدوا ملاحظات على عينيها الجميلتين، السوداوين واللامعتين مثل سماء المساء، وعلى شعرها الفاحم ذي الخصلات الذهبية، وعلى الشامة في جبهتها التي على شكل هلال. كما أبدوا ملاحظات على أصابعها البارعة وذراعَيها القويتَين وساقيها السريعتين. وامتدحوا الطريقة الدقيقة التي تتحدث بها وإيماءاتها الماهرة عندما ترقص وصوتها المغرد العذب.

تنهَّدت الممرضات، قائلات: «صوتها ساحر»، وعندئذٍ رمقتها زان بنظرةٍ منذرة، بدأ عندها الجميع يُغمغمون بحديثٍ حول الطقس.

تلك الكلمة جعلت لونا تتجهَّم. في تلك اللحظة، عرفت أنها لا بد أن تكون قد سمعت هذه الكلمة من قبل، لا بد أنها سمعتها. لكن بعد لحظة، طارت الكلمة من عقلها مثل طائر طنَّان. ثم تلاشت. وبقيت مكانها مساحةٌ فارغةٌ، كخاطرة عابرة على حافة حلم.

جلست لونا وسط مجموعة من أطفال النجوم، من أعمار مختلفة؛ فكان أحدهم رضيعًا وبعضهم يتعلم المشي، وهكذا حتى أكبرهم، الذي كان رجلًا مسنًّا للغاية.

(سألت لونا آلاف المرات: «لماذا يُسمَّون «أطفال النجوم»؟»

وكانت تُجيب زان بغموض: «أنا على يقينٍ من أنني لا أعرف ما تتحدَّثين عنه.»

ثم كانت تُغير الموضوع. ثم تنسى لونا الأمر. كل مرة.

فقط مؤخرًا، تمكنت من تذكُّر أنها كانت تنسى.)

كان أطفال النجوم يتحدَّثون عن ذكرياتهم الأولى. كانوا يفعلون هذا الأمر دائمًا، ليروا من منهم يُمكنه أن يقترب قدْر الإمكان من اللحظة التي أحضرتهم فيها زان العجوز إلى عائلاتهم وجعلتهم محبوبين. ونظرًا لأنهم في الواقِع لم يتمكَّنوا من تذكُّر ذلك — فقد كانوا صغارًا جدًّا عندئذٍ — كانوا يُحاولون الغَوص في ذكرياتهم لأعمق نقطةٍ ممكنة ليجدوا أول مشهدٍ يُمكنهم تذكُّره.

قال السيد، الذي يُعد أكبر «أطفال النجوم» عمرًا: «يمكنني أن أتذكر سِنَّة؛ وكيف صارت مُلخلخة وسقطت. يؤسفني القول إن كل شيء قبل هذا مشوش».

قالت فتاة: «يمكنني تذكُّر أغنية اعتادت أُمي أن تُغنيها لي. لكنها لا تزال تُغنيها لي، لذا لعلَّها في نهاية المطاف ليست ذكرى.»

قال صبي: «أتذكر عنزة. عنزة ذات عُرف مجعد.»

سألته فتاة، وهي تقهقه: «هل أنت متأكد من أن العنزة لم تكن زان العجوز؟» كانت من أصغر «أطفال النجوم» عمرًا.

قال الصبي: «أوه. ربما أنتِ مُحقة.»

قطبت لونا حاجبَيها. كانت ثمة صور تختبئ في غياهب عقلها. هل هي ذكريات أم أحلام؟ أم ذكريات لأحلام عن ذكريات. أم أنها تخلط بينها. كيف لها أن تعلم؟

تنحنحت.

وقالت: «كان ثمة رجل مُسن، يرتدي عباءة داكنة، تصدر حفيفًا مثل حفيف الريح، وكانت له رقبة مترهلة، وأنف كأنف طائر جارح. ولم يكن يُحبني كثيرًا.»

اشرأبت أعناق «أطفال النجوم».

قال أحد الصبيان: «حقًّا؟ هل أنتِ متأكدة؟» حدقوا فيها بعمق، وهم يزمُّون شفاههم ويعَضون عليها.

لوَّحت زان بيدها اليسرى باعتراض بينما تحوَّل لون خدَّيها من الوردي إلى القرمزي.

«لا تستمعوا إليها.» أدارت زان عينَيها في محجريهما استنكارًا. «هي لا تعرف ما تتحدث عنه. لا يُوجَد رجل كهذا. نحن نرى العديد من الأشياء السخيفة عندما نحلم.»

أغمضت لونا عينيها.

«وكان ثمة امرأة تعيش على السقف، شعرها مُموج مثل فروع أشجار الجميز في عاصفة.»

قالت جدتها ساخرة: «مستحيل. أنتِ لا تعرفين أي شخصٍ لم أقابله أنا أولًا. لقد كنتُ ملازمةً لكِ طوال حياتكِ.» وحدقت في لونا مُضيقةً عينيها.

«وصبي كانت تفوح منه رائحة نشارة الخشب. لماذا كانت تفوح منه رائحة نشارة الخشب؟»

قالت جدتها: «كثير من الناس تفوح منهم رائحة نشارة الخشب. الحطابون والنجارون والسيدة التي تنحت الملاعق. وغير ذلك كثير.»

كان هذا صحيحًا بالطبع. وتعين على لونا أن تهز رأسها موافقةً. كانت الذكرى قديمة وبعيدة، لكنها في الوقت نفسه، «واضحة». لم تكن لدى لونا ذكرى واضحة ومتماسكة مثل هذه؛ فعادةً ما كانت ذاكرتها متملِّصة ويصعب حصرها، لذا تشبَّثَت بهذه الذكرى. لم تكن هذه الصورة الذهنية «تعني» شيئًا. كانت «متأكدة» من ذلك.

وخطر لها حينئذٍ أن جدتها لم تكن مطلقًا تتحدث عن الذكريات. لم تفعل ذلك مطلقًا.

•••

في اليوم التالي، بعد أن نامت زان في غرفة الضيوف في منزل الأرملة، تجولت في المدينة، وزارت النساء الحوامل ونصحتهنَّ بشأن مستوى الأعمال التي يَقمنَ بها واختيارات الطعام، ووضعت أذنها إلى بطونهن.

لازمتها لونا كظلها. قالت جدتها: «حتى تتعلمي شيئًا مفيدًا.» كانت كلماتها لاذعة، دون شك.

قالت لونا، وهي تخطو فوق الحصى وهما تسرعان إلى بيت المريضة الأولى على الطرف الآخر من المدينة: «أنا مفيدة.»

كان قد مضى على حمل المرأة وقتٌ طويل، وبدا من هيئتها أنها قد تلد في أي لحظة. حَيَّت السيدةُ الجدَّةَ والحفيدةَ بإعياءٍ هادئ. وقالت: «أودُّ أن أنهض، لكنني أخشى السقوط.» قبَّلَت لونا خدَّ السيدة، كما جرت العادة، وبسرعة لمست بطنَها المنتفخ، وشعرت بالطفل ينتفضُ بالداخل. فجأة شعرت بانتفاخٍ في حلقها.

قالت بسرعة، وهي تُشيح بوجهها: «لماذا لا أُعِدُّ بعض الشاي؟»

قالت لونا في نفسها: «يومًا ما، كان لي أم. لا بد أنه كان لي أم.» عبست. ولا بد أنها بالتأكيد سألت عن هذا أيضًا، ولكن يبدو أنها لم تستطع أن تتذكر أنها فعلت ذلك.

أعدت لونا قائمة في رأسها بالأشياء التي تعرفها.

(الحزن خطير.

الذكريات متملصة.

جدتي لا تقول الحقيقة دائمًا.

ولا أنا.)

دارت هذه الأفكار في دوامات في رأس لونا وهي تقلب أوراق الشاي في الماء المغلي.

سألت المرأة: «هل يمكن للفتاة أن تضع يدها على بطني قليلًا؟ أو ربما يمكنها أن تُغني للطفل. سأكون ممتنةً لبركاتها، نظرًا لأنها تحيا في حضرة السحر.»

لم تعرف لونا السبب الذي يجعل المرأة تريد بركاتها، بل لم تكن تعرف حتى معنى البركات. وتلك الكلمة الأخيرة … بدت مألوفة. لكن لونا لم تستطع التذكُّر. وببساطة، لم يكن يمكنها تذكُّر الكلمة أصلًا، ولم تكن تدرك سوى شعورٍ بنبضٍ في رأسها، مثل دقات الساعة. على أي حال، أخرجتها جدتها من الغرفة، ثم تشوش تفكيرها، وبعد ذلك، عادت إلى الغرفة وأخذت تصبُّ الشاي من القِدر. لكن الشاي كان قد برد. كم ظلَّت في الخارج؟ ضربت جانب رأسها بضعَ مراتٍ بباطن يدِها كي توقِفَ تشوُّش عقلها. ولكن بدا أن لا شيء يُجدي نفعًا.

في المنزل التالي، أعدَّت لونا الأعشاب للعناية بالأم من أجل أن تكون مفيدة. وأعادت ترتيب الأثاث كي يُناسِب بطن السيدة الحامل الذي يكبر، وأعادت ترتيب معدات المطبخ حتى لا تُضطَر السيدة إلى أن تمدَّ يدَيها بعيدًا للوصول إلى الأشياء.

قالت الأم: «حسنًا، أنتِ رائعة. خدوم جدًّا!»

قالت لونا بخجل: «شكرًا لكِ.»

أضافت: «كما أنكِ ذكية وسريعة البديهة.»

قالت زان، موافقة: «بالطبع هي كذلك. إنها حفيدتي، أليس كذلك؟»

شعرت لونا بلفحة برد. ومجددًا، خطرت لها تلك الذكرى عن الشعر الأسود المموَّج، واليدَين القويتَين ورائحة اللبن والزعتر والفلفل الأسود، وصوت امرأة تصرخ: «إنها لي، إنها لي، إنها لي.»

كانت الصورة الذهنية واضحة جدًّا، وحاضرةً وفوريةً جدًّا، لدرجة أن لونا شعرت بأنفاسها تتلاحق وبقلبها يخفق بقوة. لم تلاحظ المرأةُ الحامل ذلك. ولم تُلاحظه زان. شعرت لونا بصراخ المرأة يتردَّد في أُذنَيها. شعرت بذلك الشعر الأسود يُلامس أنامِلَها. رفعت ناظرَيها وحدقت في العوارض الخشبية، لكن لم يكن هناك أحد.

مرَّت بقيةُ الزيارة دون حادثة تُذكَر، وقطعت لونا وزان رحلة طويلة إلى البيت. لم تتحدث أي منهما عن ذكرى الرجل الذي يرتدي العباءة. أو عن أي ذكريات أخرى. لم تتحدثا عن الحزن أو القلق أو المرأة ذات الشعر الأسود على السقف.

بدأت الأشياء التي «لم» تتحدثا عنها تفوق الأشياء التي تحدَّثَتا عنها. كل سر، كل شيء غير مُفصَح عنه كان مُستديرًا وصلبًا وثقيلًا وباردًا، كصخرةٍ تجثم فوق رقبة الجدة والفتاة.

وانحنى ظهراهما تحت وطأة الأسرار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤