الفصل الثاني

امرأة تعِسة الحظ تفقد عقلها

حرص جيرلاند، كبير الحكماء، على التأني ذلك الصباح. «يوم التضحية» لا يأتي سوى مرةٍ واحدة في العام على أي حال، ولا بد أن يبدوَ في أفضل مظهر له أثناء الموكب المهيب المتجه إلى البيت المشئوم وأثناء التقهقر الكئيب للموكب. وقد نصح الحكماءَ الآخرين بأن يحذوا حذوَه. كان من المهم الاستعراض أمام عامة الناس.

وضع القليل من الحُمرة على خدَّيه المترهِّلَين وحدَّد عينَيه بخطوط سميكة من الكحل. فحص أسنانه في المرآة كي يتأكد من عدم وجود أي فُتاتٍ أو بقايا طعام عالقة. أَحَبَّ هذه المرآة. فقد كانت الوحيدة في «المحمية». ولا شيء يُسعد جيرلاند أكثر من اقتناء شيء فريد من نوعه لا يملكه أحدٌ سواه. فهو يحب أن يكون «مميزًا».

امتلك كبير الحكماء العديد من الممتلكات النادرة في «المحمية». كانت هذه إحدى منافع منصبه.

كانت «المحمية»، التي يُطلِق عليها بعضهم «مملكة عشب البوط»، ويطلِق عليها البعض الآخر «مدينة الأحزان»، محصورةً بين الغابة المحفوفة بالمخاطر من جهة ومُستنقعٍ هائل من جهة أخرى. كان معظم سكان «المحمية» يكسبون رزقهم من «المستنقع». أخبرت الأمهات أطفالهن بأن السير في المستنقع سيكون له مستقبل. لن يكون مستقبلًا مبهرًا لكنه سيكون أفضلَ من لا شيء. يزخر «المستنقع» ببتلات نبات الزيرين في الربيع وأزهار الزيرين في الصيف وثمار الزيرين في الخريف، بالإضافة إلى مجموعةٍ واسعة من النباتات السحرية الطبية والنباتات غير المعروفة التي تُحصَد وتُحضَّر وتُعالَج ثم تُباع للتجار على الجانب الآخر من الغابة، وينقل التجار بدَورِهم ثمار «المستنقع» إلى «المدن المستقلة»، بعيدًا. الغابة نفسها كانت مكانًا مروعًا جدًّا ولا يمكن التنقُّل فيها إلا من خلال «الطريق».

كان مجلس الحكماء يملك هذا «الطريق».

بعبارة أخرى، كان جيرلاند كبير الحكماء يملك الطريق، وللحكماء الآخرين حِصة. كان الحكماء يملكون «المستنقع» أيضًا. والبساتين. والمنازل. والأسواق. وحتى الحدائق المنزلية.

لهذا السبب كانت العائلات في «المحمية» تصنع أحذيتَها من البوص. ولهذا السبب، في أوقات الشدة، كانوا يُطعمون أطفالهم حساء «المستنقع» الكثيف، على أمل أن يمنحَهم «المستنقع» القوة.

ولهذا تربى الحكماء وعائلاتهم على اللحم والزبد والجعة، فصاروا ضخامًا أقوياء البنية بخدودٍ وردية.

سُمِعَ طرقٌ على الباب.

غمغم جيرلاند: «ادخل»، بينما كان يُعدِّل ثنية ردائه.

كان الطارق أنتين ابن أخته. كان «حكيمًا تحت التدريب»، لا لشيءٍ سوى أن جيرلاند، في لحظة ضعف، وعَدَ الأم الأكثر حمقًا من الفتى نفسه بهذا. ولكن ليس من اللُّطف قول هذا. فقد كان أنتين فتًى مهذبًا جدًّا، في الثالثة عشرة من عمره تقريبًا. كان مُجدًّا في عمله وسريع التعلُّم. كما كان يجيد حساب الأرقام واتسم بالمهارة اليدوية؛ إذ كان بإمكانه صناعة مقعدٍ خشبي مريح لكبير الحكماء المتعَب بسرعة تعادل سرعة تنفسُّه. وعلى غير رغبةٍ من جيرلاند، راوَدَه شعور مُتزايد وغير مُبرَّر بحب الفتى.

ولكن ذلك لم يكن كل شيء.

كان لدى أنتين أفكار عظيمة، وملاحظات كبرى. وكان لديه «أسئلة». عقد جيرلاند حاجبَيه. لقد كان أنتين — كيف يمكنه وصفه؟ — «شديد التطلع والحماس». وإذا استمر في هذا، فسيتعين التعامُل معه، سواءً كان بينهما صلة دمٍ أم لا. مجرد التفكير في هذا كان يَثقُل على قلب جيرلاند كجلمود صخر.

«خالي جيرلاند!» باغت أنتين خاله وكاد يُسقطه أرضًا بسبب حماسته التي لا تُحتمَل.

أجاب كبير الحكماء بعنف: «على رسلك يا فتى! هذه مناسبة مهيبة!»

سكن جموح الفتى بوضوح، وأطرق بوجهه اللاهث كوجه الكلب نحو الأرض. قاوم جيرلاند الرغبة في أن يُربِّت بيده على رأس الفتى برفق. تابع الفتى بصوت ناعم: «لقد أُرسِلْتُ إليك كي أخبرك أن بقية الحكماء جاهزون. وجميع العامة ينتظرون على طول الطريق. وكلٌّ في مكانه.»

«كل واحد؟ ألا يُوجَد متهربون؟»

قال أنتين بصوتٍ مرتعش: «بعد العام الماضي، أشكُّ في أن يُوجَد من جديد أيُّ مُتهربين».

«يا للأسف!» تفحَّص جيرلاند مرآته مرة أخرى، وهو يلمس الحمرة على خدَّيه. كان يستمتع جدًّا بتعليم الدرس الخاص بهذه المناسبة لمواطني «المحمية». فهذا يوضح الأمور. ربَّت بأصابعه على التجاعيد والطيَّات المترهلة أسفل ذقنه وعقد حاجبيه. وقال، وهو يُحدث حفيفًا أنيقًا بردائه الذي استغرق منه أكثر من عقد حتى يُصبح متقنًا: «حسنًا يا ابن الأخت، لنذهب. فهذا الرضيع لن يُضحِّي بنفسه». وخرج إلى الشارع بصُحبة أنتين الذي كان يتعثر في عقبه.

•••

عادةً، يأتي «يوم التضحية» وينقضي بكل مظاهر الأبَّهة والخيلاء التي ينبغي أن يكون عليها. يُسَلَّم الأطفال دونما أي احتجاج. تنتحِب الأُسر عديمة الحيلة في صمت، وتتراكم أواني الحساء والأطعمة في مطابخهم، وتلتفُّ حولهم أذرُع الجيران المواسِية علَّها تُخفف عنهم آلام الفقدان.

عادةً، لا يكسِرُ أحدٌ القواعد.

لكن هذا لم يحدث هذه المرة.

زمَّ جيرلاند شفتَيه في عبوس. كان بوسعه أن يسمع نواح الأم قبل أن ينعطف الموكب في الشارع الأخير. بدأ المواطنون يتحركون في أماكنهم في عدم ارتياح.

عندما وصلوا لمنزل الأسرة، رأى مجلس الحكماء مشهدًا مذهلًا. التقى بهم عند الباب رجل بوجهٍ مخدوش وشفةٍ سُفلى متورِّمة وبُقَع دموية في فروة الرأس الصلعاء التي تساقطت منها خصلات الشعر. حاول أن يبتسِم لكن لسانه انتقل تلقائيًّا إلى الفراغ الذي خلَّفته إحدى الأسنان مؤخرًا. بدلًا من ذلك لعق شفَتَيه وحاول أن يَنحني احترامًا.

قال الرجل — الأب على الأرجح: «أعتذِرُ يا سادة. لا أعلم ماذا حدث لها. يبدو أنها أصيبت بالجنون.»

صرخت امرأة من العوارض الخشبية فوقَهم وانتحبت بمجرد دخول الحكماء إلى المنزل. كان شعرُها الأسود اللامع يتطاير حول رأسها كعشٍّ من الأفاعي الطويلة المُتلوِّية. أصدرت المرأة فحيحًا وتَفَلَتْ كحيوانٍ محاصَر في زاوية. تشبثت بدعامات السقف بإحدى ذراعيها وساقيها، بينما ضمَّت ابنتها إلى صدرها بقوة بالذراع الأخرى.

صرخت المرأة: «اخرجوا من هنا! لا يمكنكم أخذها. أبصُق على وجوهكم وألعن أسماءكم. غادروا بيتي في الحال، وإلا اقتلعتُ أعينكم وألقيتُ بها للغربان!»

حدَّق فيها الحكماء فاغرين أفواههم. لم يستطيعوا تصديق ما يسمعون. كيف يُقاتِل أحدٌ من أجل طفل محكوم عليه بالهلاك. ببساطة هذا لم يحدث من قبل.

(بدأ أنتين وحدَه يبكي. وبذل كل ما بوسعِه لكيلا يراه أحدٌ من الكبار الموجودين في الغرفة.)

ثَبَّتَ جيرلاند، الذي أخذ يفكر بسرعة في الأمر، تعبيرًا ينمُّ عن اللُّطف على وجهه المتجعد. مدَّ راحتَيه ناحية الأم كي يُبين لها أنه لا ينوي أي أذًى. أخذ يصِرُّ على أسنانه من خلف الابتسامة. فكل مظاهر الطيبة هذه كانت تكاد تقضي عليه من الداخل.

قال جيرلاند بأقصى نبرةٍ صبورة لدَيه: «نحن لن نأخذها على الإطلاق أيتها الفتاة المسكينة المضللة. الساحرة هي التي ستأخذها. إننا نفعل ما أُمِرنا به فحسب.»

أصدرت المرأة غمغمةً خرجت من أعماق صدرِها كدُبٍّ غاضب.

ربَّت جيرلاند بيدِه على كتف الزوج المذهول وضغط عليه برفق. وقال: «يبدو أنك على حقٍّ أيها الرجل الطيب؛ لقد أصيبت زوجتك بالجنون.» وبذل قصارى جهده كي يُدثِّر غضبه بغطاءٍ من الجزع. «حالة نادرة بالتأكيد، لكن هذا ليس بالأمر الجديد. لا بد أن نستجيب لذلك بالعطف، فهي تحتاج إلى الرعاية لا اللوم.»

بصقت المرأة، وقالت: «كذاب». بدأت الطفلة تبكي وتسلَّقت المرأة لأعلى أكثر، واضعةً كل قدمٍ على إحدى العواض المتوازية ومُستندةً بظهرها على السطح المائل، محاولةً أن تتموضع بطريقةٍ تجعل من الصعب الوصول إليها بينما كانت تُرضِع طفلتها. هدأت الطفلة في الحال.

قالت مُزمجرةً: «إذا أخذتموها، فسأجِدُها. سأجدُها وسأستعيدُها. سترى أنني سأفعل ذلك.»

ضحك جيرلاند، وقال: «وتواجهين الساحرة؟ ستفعلين كل هذا بمفردكِ؟ يا إلهي! أنتِ مُثيرة للشفقة، أيتها المرأة الضالة.» كان صوتُهُ عذبًا، لكن وجهَهُ كان جمرةً مُتقدة. «لقد أفقدكِ الأسى صوابكِ. لقد دمَّرَت الصدمةُ عقلكِ. لا عليكِ، سنداويكِ بأفضل ما في وسعنا. يا حُراس!»

طقطق بإصبعَيه مُستدعيًا الحراس، فاندفعت حارسات مُسلحات إلى الحجرة. هؤلاء الحارسات هن وحدة خاصة تُرسلها قوات «أخوات النجمة» دائمًا. كُنَّ يحملنَ أقواسًا وسهامًا تتدلى من ظهورهنَّ وسيوفًا قصيرة حادة داخل أغمادها. وشعورهن الطويلة المضفَّرة تلتفُّ حول خصورهن، حيث تُربط بإحكام، شاهدةً على سنواتٍ من التأمُّل والتدريبات القتالية أعلى «البرج». كانت وجوههن جامدة كأنما قُدَّت من صخر، وحتى الحكماء، على الرغم مما كانوا يتمتعون به من قوة ونفوذ، تحركوا بعيدًا عنهن. كانت قوات «أخوات النجمة» قوة مخيفة. لا يمكن لأحدٍ العبث معها.

قال جيرلاند آمرًا: «خُذْنَ الطفلة من قبضة المخبولة، واقتدْنَ هذه المسكينة إلى «البرج».» حملق في المرأة الموجودة عند العوارض الخشبية، التي شحب وجهها فجأة بشدة. «قوات «أخوات النجمة» تعرف جيدًا ما يتعين فعلُه مع العقول المحطَّمة يا عزيزتي. أنا متأكد من أنهنَّ لا يُسبِّبنَ الأذى على الإطلاق.»

اتسمت الحارسة بالبراعة والهدوء وانعدام الشفقة. ولم تكن أمام الأم أي فرصة للنجاة. فخلال لحظات، قُيِّدَت وحُملت واقتيدت. تردَّد صدى عويلها في جنبات البلدة الصامتة، وانتهى فجأة عندما أُغلِقت أبواب «البرج» الخشبية الضخمة بإحكامٍ تاركةً إيَّاها حبيسةً بالداخل.

من ناحية أخرى، بمجرد أن انتقلت الرضيعة لذراع كبير الحكماء انتحبت قليلًا ثم ركزت انتباهها على الوجه المترهِّل أمامها، وكل التجاعيد والخطوط والطيَّات. كانت تتمتَّع بمظهر مهيب مقارنةً بكونها طفلة؛ إذ بدت هادئةً وساخرة وحادة الانفعالات، وهو ما جعل من الصعب على جيرلاند أن يشيح بناظرَيه عنها. للفتاة شعر أسود مجعَّد وعينان سوداوان. وبشرتها وضَّاءة مثل الكهرمان المصقول. وفي منتصف جبهتها، لديها شامة على شكل هلال. لدى الأم الشامة نفسها. كانت التقاليد الشائعة تؤكد أن مثل هؤلاء الأشخاص مميزون. يمقت جيرلاند اعتبار التقاليد قواعدَ عامة، ويكرهها بالتأكيد عندما يستخدمها العامة في «المحمية» كي يتصوروا أنهم أفضل مما هم عليه بالفعل. ازداد عبوسُه ومال على الرضيعة، عاقدًا حاجبَيه. فأخرجت الرضيعة لسانها.

قال جيرلاند في نفسه: «يا لها من طفلة مريعة.»

قال جيرلاند محاولًا التظاهر بالرسمية بقدْر ما استطاع: «أيها السادة، حان الوقت الآن.» وعندئذٍ اختارت الرضيعة هذه اللحظة تحديدًا كي تُبلِّل رداءه من الأمام ببقعةٍ دافئة وكبيرة. تظاهر جيرلاند بأنه لم يلحظ ذلك، لكنه كان يغلي من الداخل.

لقد تَعَمَّدَتْ فعل ذلك. كان متأكدًا من ذلك. يا لها من رضيعة ذات روح ثورية.

كان الموكب مهيبًا وبطيئًا وثقيلًا بطريقة لا تُحتمل. شعر جيرلاند بأنه قد يُجَن من نفاد الصبر. ولكن، ما إن أُغلِقت أبواب «المحمية» خلفهم وعاد المواطنون إلى منازلهم الرتيبة برفقة صغارهم الذين تسيطر عليهم الكآبة، حتى أخذ الحكماء يحثون الخُطى.

سأل أنتين: «لكن لماذا نركض يا خالي؟»

أسكته جيرلاند: «اصمت يا فتى! وواصل السير!»

لا أحد يحب أن يبقى في الغابة، بعيدًا عن «الطريق». ولا حتى الحكماء أنفسهم. ولا حتى جيرلاند. كانت المنطقة خارج جدران «المحمية» آمنة بما يكفي. هذا من الناحية النظرية. لكن الجميع كانوا يعرفون شخصًا ما تجول بعيدًا بالصدفة. وسقط في أحد الأغوار. أو خطا بقدمه داخل أحد الأحواض الطينية الحارة فاحترق معظم جلده. أو تجول في إحدى القنوات المنخفضة حيث كان الهواء خانقًا فلم يعُد قط. كانت الغابة خطيرة.

تبع الحكماء اتجاه حركة الرياح إلى أن وصلوا إلى غورٍ مُحاط بخمس أشجار عتيقة، تُعرف باسم «خادمات الساحرة». أو كانت تُوجد ست أشجار. «ألم يكن يوجَد خمس؟» حدق جيرلاند في الأشجار، وعَدَّها مرةً أخرى وهز رأسه. توجد ست أشجار. لا يهم. يبدو أن الغابة كانت تؤثر على حواسِّه لا أكثر. فتلك الأشجار، في نهاية المطاف، قديمة قِدم العالم نفسه.

كانت المساحة الموجودة داخل حلقة الأشجار ناعمة ومغطاة بالطحالب، ووضع الحكماء الطفلة فيها، وحرصوا على ألا ينظروا إليها. وكانوا قد أداروا ظهورهم للطفلة وهموا في الرحيل بسرعة عندما تنحنح أصغر عضو بينهم.

تساءل أنتين: «هكذا الأمر إذن. كل ما علينا هو ترك الطفلة هُنا؟ أهكذا تجري الأمور؟»

قال جيرلاند: «نعم يا ابن الأخت. هكذا تجري الأمور». شعر جيرلاند بموجة من التعب تثقل كاهله كنير الثور. وشعر بأن عموده الفقري بدأ ينحني.

قرَص أنتين رقبته، وهي عادةٌ عصبية لا يمكنه الإقلاع عنها. «ألا يجب علينا الانتظار حتى تصل الساحرة؟»

خيم صمت غير مريح على الحكماء الآخرين.

سأله الحكيم راسبين وهو أكثر الحكماء ضعفًا وهرمًا: «ماذا قلت؟»

لانَ صوت أنتين، وهو يقول: «حسنًا، بالتأكيد …» وقال بهدوء: «بالتأكيد لا بد أن ننتظر الساحرة.» «ماذا سيكون مصيرنا إذا جاءت الحيوانات المفترسة أولًا وحملت الطفلة وذهبت بها؟»

زمَّ الحكماء شفاههم وحدقوا في كبير الحكماء.

قال جيرلاند بسرعة وهو يدفع الفتى للأمام: «لحُسن الحظ يا ابن أختي، هذا لم يمثل مشكلةً قط.»

قال أنتين وهو يقرص رقبته بقوة لدرجة أنها تركت علامة هذه المرة: «ولكن …».

قال جيرلاند وهو يضع قبضته القوية على ظَهر الفتى ويدفعه وهو يحث خُطاه في المسار المطروق: «لا يُوجَد ولكن».

انطلق الحكماء، واحدًا تلو الآخر، تاركين الطفلة خلفهم.

رحلوا وهم يعلمون جميعًا — باستثناء أنتين — أن احتمال أن تفترس الحيوانات الطفلة ليس مشكلةً على الإطلاق؛ بل إن من المؤكد أن الحيوانات ستفترسها.

تركوا الطفلة وهم يعلمون جيدًا أنه بالتأكيد «لا توجَد» ساحرة، ولم تكن هناك ساحرة قط. لا يُوجَد سوى غابة خطرة وطريق واحد وسلطان على حياة الأشخاص يتمتع به الحكماء لأجيال متعاقبة. وجود الساحرة — أو بعبارة أخرى، الإيمان بوجود الساحرة — نتج عنه أشخاص خائفون وخاضعون ومُمتثلون للقواعد، يعيشون حياة ضبابية حزينة، فغيوم الأسى هذه من شأنها أن تُغشِّي أبصارهم وتكبح تفكيرهم. كان هذا ملائمًا تمامًا لحكم الحكماء غير المثقل بأي التزامات. كان كريهًا أيضًا، لكن ما باليد حيلة.

سمعوا صوت نحيب الطفلة بينما كانوا يسيرون مُتثاقلين بين الأشجار، لكن سرعان ما حلَّ محل النحيب تأوُّهات تصدح من مستنقع الغابة وتغريد طائر وصرير أخشاب الأشجار في أنحاء الغابة. وكان الحكماء جميعهم على يقين من أن الطفلة لن تعيش حتى الصباح، وأنهم لن يسمعوا صوتها ولن يرَوها، ولن يتكبَّدوا عناء التفكير فيها مجددًا.

ظنوا أنها رحلت للأبد.

لكنهم بالطبع كانوا مخطئين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤