الفصل الثالث والعشرون

لونا ترسم خريطة

تركت لونا ملاحظة لجدتها تقول فيها إنها خرجت لجمع التوت ورسم شروق الشمس. أغلب الظن ستظلُّ جدة لونا نائمة إلى أن تعود؛ فهي تنام كثيرًا في الآونة الأخيرة. ومع أن العجوز طمأنت الفتاة بأنها كانت تنام دائمًا بهذا القدر وأن شيئًا لم يتغير مطلقًا، كانت لونا تعرف أن هذه كذبة.

قالت لونا في نفسها شاعرة بوخز في قلبها: «كلتانا تكذب على الأخرى. وكلتانا لا تعرف كيف تتوقف عن هذا.» وضعت ورقة ملاحظتها على الطاولة الخشبية وأغلقت الباب بهدوء.

علقت لونا حقيبتها متقاطعة عبر كتفيها وارتدت حذاء السفر الطويل الرقبة وسلكت الطريق الطويل المتعرِّج عبر الجزء الخلفي من المستنقع قبل أن تتبع الدرب المائل الذي يفصل بين مخروطَي رمادٍ ينبعث منهما الدخان على الجانب الجنوبي من فوهة البركان. كان الجو دافئًا وشديد الرطوبة، وأدركت والرعب يتسلل إليها أنها بدأت تصدر منها رائحة كريهة. كان هذا الأمر قد بدأ يحدث كثيرًا مؤخرًا؛ روائح كريهة، بقع غريبة تظهر على وجهها. شعرت لونا وكأن كل جزءٍ في جسمها يتآمر عليها ليُغير من نفسه، حتى صوتها تحول إلى خائن.

لكن ذلك لم يكن أسوأ ما في الأمر.

كانت ثمة … أنواع أخرى من الانقلابات التي حدثت لها. أشياء لم تستطع تفسيرها. أول مرة لاحظت فيها ذلك، كانت عندما حاولت القفز كي تتمكن من رؤية عش طائر على نحو أفضل، وفجأة وجدت نفسها على أعلى فرع في الشجرة، مُتشبثةً به بشدة كأن حياتها تعتمد على ذلك.

قالت لنفسها: «لا بد أن الريح هي السبب»، على الرغم من أن سخافة الفكرة كانت واضحة. فمن سمع يومًا بأن هبة ريح يمكنها أن تدفع شخصًا لأعلى شجرة؟ لكن نظرًا لأن لونا لم يكن لديها حقًّا أي تفسير آخر، بدا لها تفسير «هبة الريح» حلًّا جيدًا. لم تكن قد أخبرت جدتها أو جليرك بهذا. لم ترد أن تثير قلقهما. كما أن الأمر بدا محرجًا لسببٍ غامض؛ وكأنه كان ثمة خطب بها.

أضف إلى ذلك أمرًا آخر. وهو أنها كانت الريح لا أكثر.

ثم، بعد مرور شهر، حينما كانت لونا وجدتها تجمعان فطر عيش الغراب في الغابة، لاحظت لونا كم كانت جدتها منهكة، وكم صارت نحيلة وهزيلة وكيف تتصاعد أنفاسها وتهبط بألم كالحشرجة.

قالت لونا جهرًا عندما كانت جدتها بعيدة عن نطاق السمع: «أنا قلقة بشأنها.» شعرت لونا بأن صوتها حبيس في حلقها.

أجاب سنجاب بُني بلون حبة البندق: «وأنا أيضًا.» كان واقفًا على أدنى فرع محدقًا لأسفل وعلى وجهه المدبب تعبير ينم عن المعرفة.

استغرقت لونا لحظةً طويلةً لتُدرك أن السناجب «ليس من المفترض أن تتحدث».

واستغرقت لحظة أخرى لتدرك أنها ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها حيوان إليها. كان هذا قد حدث من قبل. كانت متأكدة من ذلك. كل ما في الأمر أنها لم تستطع أن تتذكر متى.

ولاحقًا، عندما حاولت أن تشرح لجليرك ما حدث، لم تُوَفَّق في ذلك. لم تستطع أن تتذكَّر ما حدث رغم أنها بذلت قصارى جهدها. كانت تعلم أن «شيئًا ما» كان قد حدث. كل ما في الأمر أنها لم تعرف «ما هو».

قال صوت في رأسها: «حدث هذا من قبل.

حدث هذا من قبل.

حدث هذا من قبل.»

كانت هذه المعرفة حقيقة وطيدة، وطيدة وثابتة مثل تروس ساعة.

تابعت لونا في الدرب الملتف حول الربوة الأولى، تاركة المستنقع خلفها. كانت شجرة تين تنشر فروعها فوق الطريق، وكأنها ترحب بكل من يتجول فيه. وكان غراب يقف على أدنى فرع. كان رفيقًا لطيفًا، ريشه يلمع كالزيت. نظر إلى لونا مباشرة في عينيها، وكأنه كان ينتظرها.

قالت في نفسها: «لقد حدث هذا من قبل.»

قالت لونا، وهي تثبت بصرها على عين الغراب اللامعة: «مرحبًا.»

قال الغراب: «كاو.» لكن لونا شعرت بأنها متيقنة من أنه كان يعني «مرحبًا».

وفجأة، تذكرت لونا.

في اليوم السابق، كانت لونا قد أخذت بيضة من قن الدجاج. كانت البيضة الوحيدة في كل الأعشاش، ولم يكن معها سلة، لذا حملتها ببساطة في يدها. وقبل أن تصل إلى المنزل، أدركت أن قشرة البيضة كانت تهتز، وأنها لم تعد ملساء ودافئة ومنتظمة، بل حادة ومدببة وحساسة للمس. بعد ذلك عضتها. ألقت البيضة وهي تصرخ. لكنها لم تكن بيضة على الإطلاق. كانت غرابًا كاملًا طار بطريقةٍ حلزونية فوق رأسها وحط على أقرب شجرة.

كان الغراب قد قال: «كاو.» أو هذا «ما كان ينبغي» عليه قوله. لكنه لم يقل هذا.

بدلًا من ذلك نعق الغراب قائلًا: «لونا.» ولم يطر بعيدًا، بل حط على أدنى فرع من فروع بيت شجرة لونا، وتبعها أينما ذهبت بقية اليوم. كانت لونا في حيرة من أمرها.

نعق الغراب: «كاو.» وكان يعني: «لونا لونا لونا.»

قالت لونا موبِّخةً: «صه. أحاول «التفكير».»

كان الغراب أسود ولامعًا، كما ينبغي لغراب أن يكون، لكن عندما حملقت فيه لونا ونظرت إليه نظرة جانبية، رأت لونًا آخر أيضًا. وهو اللون الأزرق. مع لمعة فضية عند الحواف. اختفت الألوان الإضافية عندما فتحت عينَيها على اتساعهما وحدقت فيه مباشرةً.

سألت لونا: «ماذا تكون؟»

قال الغراب: «كاو.» وكان الغراب يعني: «أنا أفضل الغربان على الإطلاق.»

قالت لونا: «مفهوم. تأكد من ألَّا تراك جدتي». وأضافت بعد تفكير: «ولا وحش المستنقع. أظن أنك ستزعجهما.»

قال الغراب: «كاو.» وكان يقصد: «أتفق معكِ.»

هزَّت لونا رأسها.

لم يكن وجود الغراب منطقيًّا. لم يكن أي شيء منطقيًّا. ومع هذا، كان الغراب «موجودًا». كان حقيقيًّا وكان «حيًّا».

قالت لونا في نفسها: «توجد كلمة تُفسِّر هذا. تُوجَد كلمة تفسِّر كل شيء لا أفهمه. لا بد أن تكون موجودة. كل ما في الأمر أنني لا أستطيع أن أتذكر ما هي.»

كانت لونا قد أمرت الغراب بأن يبقى بمنأًى عن الأنظار حتى تتمكن من فهم الأمور، وقد امتثل الغراب لأوامرها. كان بحق غرابًا ممتازًا.

والآن، ها هو ذا مرة أخرى. على أدنى فرع من شجرة التين.

كان لا بد أن يقول الغراب: «كاو.» لكنه بدلًا من ذلك نادى: «لونا.»

قالت لونا: «اهدأ. قد يسمعك أحد.»

همس الغراب بخجل: «كاو.»

صفحت لونا عن الغراب، بالطبع. وبينما كانت تسير مشتتة الذهن، تعثرت بصخرة، وسقطت بقوة على الأرض على حقيبتها.

قالت الحقيبة: «أوه. ابتعدي عني.»

حدقت لونا فيها. لكن عند هذه المرحلة لم يكن أي شيء يُدهشها. حتى الحقائب التي تتكلم.

ثم برز أنف صغير أخضر من أسفل غطاء الحقيبة. سأل الأنف: «أهذا أنتِ يا لونا؟»

أدارت لونا عينَيها في محجريهما استغرابًا. وسألت بحدة: «ماذا تفعل في حقيبتي؟» فتحت غطاء الحقيبة ونظرت إلى التنين الخجول يصعد خارجًا.

قال، دون أن ينظر في عينيها: «أنت تستمرين في الذهاب إلى أماكن. تذهبين بدوني. وهذا ليس عدلًا. أردتُ فقط أن آتي.» رفرف فيريان لأعلى وأخذ يحوم في مستوى النظر. «أريد فقط أن أكون جزءًا من «المجموعة».» ابتسم لها ابتسامة تنينية متفائلة. «ربما علينا أن نذهب ونحضر جليرك. والعمة زان. تلك مجموعة ممتعة!»

قالت لونا بحزم: «لا»، وواصلت صعودها لأعلى القمة الجبلية. ورفرف فيريان خلفها.

«إلى أين نحن ذاهبان؟ هل يمكنني المساعدة؟ أنا متعاون جدًّا. مرحبًا يا لونا! إلى أين نحن ذاهبان؟»

أدارت لونا عينَيها في مِحجريهما ضيقًا ودارت على عقبها وهي تنفُخُ من أنفها.

قال الغراب: «كاو.» لم يقل: «لونا» هذه المرة، لكن لونا شعرت به يفكر في هذا. طار الغراب في المقدمة، وكأنه يعلم إلى أين هم ذاهبون.

تابعوا المضيَّ في الطريق إلى أن وصلوا إلى مخروط الرماد الثالث، الذي يقع على الطرف القصي من فوهة البركان، وصعدوا بمشقة نحو القمة.

«لماذا نصعد إلى هُنا؟» أراد فيريان أن يعرف.

قالت لونا: «صه!»

سأل فيريان: «لِمَ علينا أن نصمت؟»

تنهدت لونا بعمق. «أريد منك أن تكون هادئًا جدًّا جدًّا يا فيريان. حتى أتمكن من التركيز في الرسم.»

زقزق فيريان، وهو لا يزال يحوم أمام وجهها، قائلًا: «يمكنني أن أكون هادئًا. يمكنني أن أكون هادئًا جدًّا. يمكن أن أكون أهدأ من الديدان، والديدان هادئة جدًّا، إلا إذا كانت تقنعكِ بألا تأكليها، عندئذٍ تُصبح أقلَّ هدوءًا، وأكثر إقناعًا، ومع هذا آكلها لأن طعمها لذيذ.»

قالت لونا: «أعني أن تهدأ الآن.»

«لكني هادئ يا لونا! أهدأ مخلوق …»

أغلقت لونا فم التنين بسبابتها وإبهامها، وكي لا تجرح مشاعره رفعته لأعلى بذراعها الأخرى واحتضنته.

همست: «أُحبكَ كثيرًا. والآن صه.» ربَّتت على رأسه الأخضر بحنان وجعلته ينعم بالدفء على خصرها الدافئ.

جلست مُتربعة على صخرة مسطحة القمة. وبينما كانت تمسح بعينَيها حدود الأرض قبل أن تختفي عند الأفق، حاولت أن تتخيل كُنه الأشياء التي تقع في ما وراء ذلك. كل ما تمكنت من رؤيته هو الغابة. لكن من المؤكد أن الغابة لا تمتدُّ إلى ما لا نهاية. فعندما سارت لونا مع جدتها إلى الاتجاه المعاكس، باتت الأشجار ضئيلة في النهاية وأفضت إلى مزارع، والمزارع أفضت إلى مدن، والمدن أفضت إلى المزيد من المزارع. بعد ذلك، كانت تُوجَد صحارى ومزيدٌ من الغابات وسلاسل جبلية ومحيط، ويمكن الوصول إليها جميعًا من خلال شبكة ضخمة من الطرق التي تمتدُّ في شتى الاتجاهات مثل خيوط غزل عملاقة. بالتأكيد الأمر نفسه لا بد أن ينطبق على «هذا الاتجاه». لكنها لم تستطع أن تعرف يقينًا. فهي لم تكن قد ارتحلت في هذه الجهة مطلقًا. ما كانت جدتها لتسمح لها.

كما أنها لم تشرح لها السبب مطلقًا.

وضعت لونا دفترها فوق حجرها وفتحته على صفحة فارغة. أدخلت يدها في حقيبتها، وعثرت على أكثر قلم رصاص مسنون، وأمسكت به بيدها اليسرى … برفق، وكأنه فراشة وقد تطير بعيدًا. أغمضت عينيها، وحاولت أن تجعل ذهنها رائقًا وصافيًا، كسماء زرقاء واسعة بلا سحب.

سأل فيريان: «هل عليَّ أن أغمض عينيَّ أيضًا؟»

قالت لونا: «صه يا فيريان.»

قال الغراب: «كاو.»

قال فيريان وهو يلتقط نفسًا مسموعًا من أنفه: «هذا الغراب مُزعج.»

تنهدت لونا: «ليس مزعجًا. إنه غراب. ونعم يا عزيزي فيريان أغمض عينيك.»

قرقر فيريان بسعادة واختبأ في داخل طيَّات تنُّورة لونا. سيصدر شخيرًا قريبًا. لا أحد يروح في النوم أسرع من فيريان.

حولت لونا انتباهها إلى نقطة التقاء الأرض بالسماء. تخيلت الصورة في عقلها بأوضح ما تستطيع، وكأن عقلها قد تحول إلى ورقة، وعليها أن ترسم عليها بحرص قدر الإمكان. تنفست بعمق كي يهدأ قلبها وكي تتخفف روحها من المخاوف والهموم والعُقد. كان ثمة شعور سيراودها عندما تفعل هذا. حرارة في عظامها. وطقطقة في أناملها. والأغرب من ذلك كله، إدراكها بأن الشامة الغريبة الموجودة على جبهتها تسطع مشرقة وصافية كالمصباح. ومن يدري؟ ربما كانت كذلك بالفعل.

في صفحة عقلها، تمكنت لونا من رؤية حافة الأفق. ووجدت أن طرف الأرض بدأ يمتد أبعد وأبعد، وكأن العالم التفت نحوها وينظر إليها بابتسامة.

دون أن تفتح لونا عينيها، بدأت ترسم. عندما جلست، صارت هادئة لدرجة أنها تقريبًا لم تكن تعي أي شيء؛ لا أنفاسها ولا حرارة فيريان التي تقترب من خاصرتها، ولا أنه بدأ يصدر شخيرًا، وكانت الصور تتدافع بكثافة وسرعة كالسيل لدرجة أنها كانت بالكاد تركز عليها، حتى مرت جميعًا وطُمست معالمها.

صدر صوتٌ من بعيد جدًّا: «لونا.»

قال آخر: «كاو.»

دوى صوت هادر في أذنها: «لونا!» فأفاقت مذعورة.

دوى صوتها: «ماذا؟» لكنها بعد ذلك رأت النظرة على وجه فيريان، وشعرت بالخجل. قالت: «كم …». تلفَّتت حولها. كانت الشمس، التي لم تكن تكاد تدفئ العالم أسفلها عندما وصلوا إلى فوهة البركان، فوقهم مباشرة. «كم بقينا هُنا؟»

«نصف اليوم»، كانت تعلم بالفعل. فكرت: «إنه وقت الظهيرة».

حام فيريان بالقُرب من وجه لونا، وضغط بأنفه الأخضر على أنفها الذي يعلوه النمش. كان على وجهه تعبير قلِق. تنفَّس قائلًا: «لونا. هل أنتِ مريضة؟»

قالت بسخرية: «مريضة؟ بالطبع لا.»

قال بصوت خافت: «أظن أنكِ ربما تكونين مريضة. «حدث للتو شيء غريب جدًّا لمقلتي عينيكِ».»

قالت لونا، وهي تغلق دفترها وتربط الشريط الجلد بإحكام حول الغلاف الأملس: «ذلك سخيف.» ألقت بالدفتر في حقيبتِها ونهضت. كانت قدماها مَثنيَّتَين أسفلها بالفعل. «عيناي طبيعيَّتان.»

قال فيريان، وهو يَطِن منتقلًا من أُذن لونا اليُسرى إلى اليُمنى: «هذا ليس سخيفًا على الإطلاق. عيناك سوداوان ولامعتان. عادةً هما كذلك معظم الوقت. لكنهما كانتا للتو كقمرين باهتين. ذلك ليس عاديًّا. أو أنا متأكد من أن هذا ليس عاديًّا.»

قالت لونا، وهي تتعثَّر للأمام: «عيناي لم تكونا كذلك». حاولت أن تتماسك كي لا تسقط، فتعلقت بجلمود صخر كي تستعيد توازُنها. لكن الجلاميد لم تساعدها؛ إذ كانت قد أصبحت، تحت تأثير لمسة يدها، خفيفة كريشة. بدأ أحد الجلاميد يطفو. تمتمت لونا بإحباطٍ بكلماتٍ غير واضحة.

أشار فيريان، محاولًا أن يكون مفيدًا: «والآن، قدماكِ لا تتحركان. وما الذي يحدث لهذه الصخرة؟»

قالت لونا، مُستحضرةً قوَّتها كي تثب للأمام، وتحط بقوة على منحدر الجرانيت الأملس على الجانب الشرقي: «كفَّ عن التدخُّل.»

قال فيريان، وهو يُحدق مشدوهًا ناقلًا بصره من المكان الذي كانت لونا تقف فيه منذ لحظة إلى المكان الذي أصبحت فيه الآن: «تلك كانت قفزةً بعيدة. عادةً لا يمكنكِ القفز بعيدًا هكذا. أنا أعني ما أقول يا لونا. بدا الأمر أشبه ﺑ …»

قال الغراب: «كاو.» أو لا بد أنه قال: «كاو». لكن للونا بدا وكأنه يقول: «اخرس.» قررت أنها تحب الغراب.

قال فيريان غاضبًا: «حسنًا. لا تستمعي إليَّ. لم يستمع إليَّ أحد «قط».» حلق وهو يطن لأسفل المنحدر مسرعًا فبدا ككتلةٍ ضبابية خضراء مشاكسة.

تنهَّدت لونا بعُمق وسارت مُتثاقلةً نحو البيت. ستُصالحه. وفيريان دائمًا يسامحها. دائمًا.

ألقت الشمس الساطعة بظلالٍ حادة على المنحدر بينما كانت لونا تسرع لأسفل. كانت مُتسخة ومتعرِّقة؛ هل بسبب المجهود أم وقت الرسم في عقلها؟ لم تكن تدري، لكنها وقفت بجوار جدول ماء لتغتسل. كانت البحيرة الموجودة داخل فوهة البركان ساخنة جدًّا لدرجة أنه لم يكن يُمكنها لمسُها، لكن جداول الماء التي كانت تتدفق منها، على الرغم من أنها كانت غير صالحة للشرب، فإنها كانت باردة بما يكفي لرشِّها على الوجه الملطخ بالطين، أو كي تنظف العرق من مؤخرة رقبتِها أو إبطَيها. جثت لونا على ركبتَيها وشرعت في أن تُحسن مظهرها قبل أن تُواجِهَ جدَّتَها وجليرك، اللذين من المرجح أن يطلب كلاهما ردودًا بشأن غيابها.

أصدر الجبل صوتًا مدويًا. كانت تعرف أنه صوت البركان، وكأنه تصدر عنه حازوقة وهو نائم. كانت لونا تعرف أن هذا كان أمرًا طبيعيًّا في حالة البراكين، فهي لا تهدأ حتى أثناء نومها، ولم تكن هذه الاضطرابات مشكلة. إلا إذا كانت اضطرابات غير معتادة. بدا البركان أكثر اضطرابًا مؤخرًا؛ وكان يسوء أكثر فأكثر كل يوم. أخبرتها جدتها ألا تقلق بشأنه، وهو ما جعل لونا تقلق أكثر.

دوَّى صوت جليرك من أسفل منحدر الفوهة: «لووونا!» صعد الدويُّ للسماء. ظللت لونا عينيها بيدِها ونظرت لأسفل المنحدر. كان جليرك بمفرده. لوَّح لها بثلاثة من أذرعه مُحييًا، ولوحت له لونا بدورها. أدركت لونا، وهي تشعر بضيق في صدرها: «جدتي ليست معه.» وقالت في نفسها، والخوف يعتصر معدتها: «لا يمكن أن تكون ما زالت نائمة. ليس لهذه الساعة المُتأخِّرة من اليوم.» لكن على الرغم من هذه المسافة البعيدة، تمكنت من رؤية غشاوة من القلق تُخيِّم على جليرك كغيمة.

عادت لونا أدراجها إلى منزلها ركضًا.

كانت زان لا تزال في فراشها. بعد الظهيرة. نائمة كالأموات. أيقظتها لونا، وهي تشعر بالدموع تترقرق في عينَيها. تساءلت لونا في نفسها: «هل هي مريضة؟»

غمغمت زان «عجبًا، أيتها الطفلة. بحق السماء لماذا تُزعجينني في هذه الساعة؟ بعضنا يحاول النوم.» تقلبت على جنبها وعادت إلى النوم.

لم تنهض إلا بعد ساعة أخرى. أكدت للونا أن هذا كان طبيعيًّا تمامًا.

قالت لونا، دون أن تنظر إلى عينَي جدتها: «بالتأكيد هو كذلك، يا جدتي. كل شيء طبيعي تمامًا.» وتبادلت الجدة والحفيدة ابتساماتٍ فاترة. كانت كل كذبة ينطقانها تخرج من شفتيهما وتتبعثر على الأرض، رنانة ولامعة كزجاجٍ مُهشَّم.

•••

لاحقًّا في ذلك اليوم، عندما أخبرتها جدتها بأنها ترغب في أن تكون بمفردها وغادرت ذاهبةً للورشة، سحبت لونا دفتر يومياتها من حقيبتها وقَلَّبَت صفحاته، وهي تنظر إلى الرسوم التي رسمتها وهي تحلم. كانت دائمًا تجد أنها تُنجز أفضل أعمالها عندما لا تتذكر أي شيء مما فعلته. كان الأمر مُزعجًا حقًّا.

كانت قد رسمت صورة لبرج حجري، كانت قد رسمته من قبل، بجدران عالية ومرصد يشير إلى السماء. ورسمت طائرًا ورقيًّا يحلق خارجًا من النافذة الموجودة في أقصى الغرب. وهو شيء آخر كانت قد رسمته من قبل. رسمت أيضًا طفلة تحيط بها أشجار مُغضَّنة عتيقة. رسمت بدرًا مكتملًا يُلقي بنوره ووعوده على الأرض.

وكانت قد رسمت خريطة. بل خريطتَين في الواقع. على صفحتَين.

أخذت لونا تُقَلِّب فيما بين الورقتَين، وهي تُحدق في عملها اليدوي.

كانت كل خريطة من الاثنتَين مُعقدةً وتفصيلية، فكانت كل منهما تظهر التضاريس والدروب والمخاطر الخفية. ينبوع ماء حار هُنا. وبركة وحلٍ هناك. وحفرة غائرة يمكنها ابتلاع قطيع من الماعز ولا تزال تئن وتطلب المزيد.

كانت الخريطة الأولى تصميمًا دقيقًا للمناظر الطبيعية والدروب التي كانت تؤدي إلى «المدن المستقلة». تمكنت لونا من رؤية كلٍّ من تضاريس الأرض، وكل حفرة من حفر الطريق، وكل جدول وكل أرض مقطوعة الأشجار وكل شلال. تمكنت حتى من رؤية الأشجار الساقطة من رحلتهما الأخيرة.

كانت الخريطة الأخرى لجزءٍ آخر من الغابة مختلف تمامًا. كان الطريق يبدأ من عند بيت الشجرة في أحد الجوانب، وكان يتبع المنحدر الجبلي الذي يهبط نحو الشمال.

الجدير بالذكر أنها لم يسبق لها الذهاب لهناك قط.

كانت قد رسمت دربًا بكل تعرجاته ومنعطفاته والعلامات المميزة الواضحة فيه. أماكن يمكن التخييم فيها. حيث كانت تُوجَد جداول بها ماء صالح للشرب، وجداول لا بد من تجنبها.

وكانت تُوجَد حلقة من الأشجار. وفي منتصف الحلقة، كَتَبَتْ كلمة «طفل».

وكانت تُوجَد مدينة خلف الجدار المرتفع.

وفي المدينة، «برج».

وبجوار «البرج»، الكلمات: «إنها هُنا، إنها هُنا، إنها هُنا.»

وببطء شديد، قَرَّبَت لونا الدفتر منها، وقرَّبت هذه الكلمات إلى قلبها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤