الفصل السادس والعشرون

المرأة المجنونة تتعلم مهارةً وتستخدمها

عندما كانت المرأة المجنونة فتاةً صغيرة، كانت ترسم صورًا. وكانت أمها تحكي لها حكايات عن الساحرة التي تعيش في الغابة؛ حكايات لم تكن متأكدة على الإطلاق من صحتها. وفقًا لما روَتْه أمُّها، كانت الساحرة تقتات على الحزن، أو الأرواح، أو البراكين، أو الأطفال، أو السحرة الشجعان الصغار. ووفقًا لما روتْه أمها، كانت الساحرة تمتلك حذاءً أسود كبيرًا طويل الرقبة يُمكِّن مُرتديه من قطع سبعة فراسخ في الخطوة الواحدة. ووفقًا لما روتْه أمها، كانت الساحرة تمتطي ظهر تنين وتعيش في برجٍ عالٍ جدًّا لدرجة أنه يكاد يخترق السماء.

لكن أم المرأة المجنونة قد ماتت. أما الساحرة، فلم تمُت.

وفي سكون «البرج»، عاليًا فوق الضباب القاتم المُخيِّم على المدينة، شعرت المرأة المجنونة بأشياء لم تستطع أن تشعر بها مطلقًا قبل سنواتها هناك. وعندما كانت تشعر بأشياء، كانت ترسُمها. كانت ترسُمها مرارًا وتكرارًا.

كل يوم، تأتي «الأخوات» إلى زنزانتها دون سابق إنذار ويُطقطِقن بألسنتهن استنكارًا لدى رؤيتهن لكمية الأوراق المهولة في الغرفة. كان بعض الأوراق مطويًّا على هيئة طيور. وكان بعضها مطويًّا على هيئة أبراج. وبعضها طُويَ على هيئة أشكالٍ شبيهة بالأخت إجنيشا، ثم داست عليه المرأة المجنونة بقدمَيها العاريتَين. كانت الأوراق مغطاة بشخبطة. وبصور. وبخرائط. كل يوم، كانت «الأخوات» ينقلنَ إلى خارج الزنزانة حِمل ذراعٍ من الأوراق، كي تُسحق وتُنقع ويُعاد تحويلها إلى أوراقٍ مرة أخرى في ورش التجليد في البدروم.

تساءلت الأخوات: «لكن، من أين يأتي هذا الورق أصلًا؟»

أرادت المرأة المجنونة أن تقول لهن: «هذا سهل جدًّا. ليس عليكن إلا أن تُصَبْن بالجنون. فالجنون والسحر متصلان، في نهاية الأمر. أو أظن أنهما كذلك. كل يوم، يُعاد ترتيب العالم وتشكيله. كل يوم أجد شيئًا لامعًا في الأنقاض. أوراقًا لامعة. حقيقة لامعة، سحرًا لامعًا. لامعًا، لامعًا، لامعًا.» كانت تعلم بكل أسًى أنها مجنونة. وقد لا تُشفى أبدًا.

في أحد الأيام بينما كانت جالسةً على الأرضية مُتربعةً في منتصف الزنزانة، كانت قد عثرت على حفنة من الريش تركتها أنثى سنونو كانت قد قرَّرت أن تبني عشَّها على عتبة نافذة الزنزانة الضيقة، وذلك قبل أن يُقرِّر أحد الصقور أن يتخذ السنونو وجبةً خفيفة. انجرف الريش ودخل عبر نافذة المرأة المجنونة وسقط على الأرضية.

شاهدت المرأة المجنونة الريش وهو يتساقط. حطت الريشات على الأرضية أمامها مباشرةً. حدقت فيها؛ في النصل والجزء المُدبب والزغب. ثم تمكنت من رؤية التراكيب الأصغر؛ الذرَّ والقصيبات والخلايا. راحت ترى التفاصيل الأصغر فالأصغر، حتى تمكنت من رؤية كل جسيم، يدور حول نفسه مثل مجرةٍ ضئيلة. في نهاية المطاف، كان جنونها بقدْر دِقة التفاصيل التي تراها. حرَّكت الجسيمات عبر الفراغ الواسع بينها، في هذا الطريق وذاك، حتى انبثق شيءٌ جديد بالكامل. لم يعُد الريش ريشًا. صار ورقًا.

تحول الغبار إلى ورق.

تحول المطر إلى ورق.

أحيانًا كان عشاؤها يتحول، هو الآخر، إلى ورق.

وكل مرة، كانت ترسم خريطة. وتكتب «إنها هُنا» مرارًا وتكرارًا.

لم تقرأ أي من «الأخوات» خرائطها. ولم تقرأ أي منهن كلماتها. في نهاية المطاف، لم تُزعج أيٌّ منهن نفسها بكلمات المجنونة. كن يسحقنَ أوراقها ويصنعنَ منها عجينًا يبعنَه في السوق مقابل مبلغٍ معتبَر من المال.

وما إن أتقنت فنَّ تشكيل الورق، حتى وجدت أن من السهل للغاية تحويل أشياء «أخرى» أيضًا. صار سريرها قاربًا لفترةٍ قصيرة. وصارت قضبان نوافذها شرائط. وصار الكرسي الوحيد في الزنزانة قطعةً من الحرير، لفَّتها حول نفسها مثل شال، لمجرد أن تستمتع بملمسها. وأخيرًا وجدت أنه يمكنها تحويل نفسها أيضًا، إلا أنها لم تتمكن من تحويل نفسها إلا إلى أشياء صغيرةٍ جدًّا، وللحظات قليلة فحسب. كانت تحولاتها مُجهِدة للغاية لدرجة أنها جعلتها تُلازم الفراش لأيام.

جُدجُد.

عنكبوت.

نملة.

كان يتعين عليها توخي الحذر كي لا تتعرض للدهس. أو للسحق.

حشرة ماء.

صرصور.

نحلة.

كما كان يتعين عليها أن تتأكد من أن تعود إلى زنزانتها عندما تشعر أن روابط ذراتها تبدو على وشك التفجر والتفكُّك. وبمرور الوقت، أصبح بإمكانها أن تتخذ شكلًا معينًا لفترات تتزايد ببطء. كانت تأمُل أن تتمكن يومًا ما من الاحتفاظ بهيئتها على صورة طائر لمدةٍ تكفي للعثور على طريق يوصلها إلى وسط الغابة.

يومًا ما.

لم يحِن ذلك اليوم بعد.

بدلًا من ذلك، تحوَّلت إلى خنفساء. صلبة. ولامعة. ركضت فرارًا مباشرةً من تحت أقدام «الأخوات» اللاتي يحملنَ القوس والنشاب، وأسرعت تنزل درجات السُّلَّم. تسلَّقت على أصابع أقدام فتًى جبان يؤدي مهام «الأخوات» اليومية؛ يا له من فتًى مسكين. كان يخاف من خياله.

سَمِعَتْ «رئيسةَ الأخوات» تصيح من آخِر الردهة: «يا ولد! كم من الوقت علينا انتظار الشاي؟»

تذمَّر الصبي، وجمَّع الأطباق والمخبوزات فوق صينية مُحدثًا ضجة هائلة، وأسرع يمضي في الردهة. كل ما تمكنت المرأة المجنونة من فعله كان التشبث بأربطة حذائه طويل الرقبة.

قالت «رئيسة الأخوات»: «أخيرًا.»

وضع الفتى الصينيةَ على المنضدة مُحدثًا صوت ارتطام هائل.

قالت «رئيسة الأخوات» بصوتٍ مدوٍّ: «اخرج! قبل أن تُدمِّر شيئًا آخر.»

أسرعت المرأة المجنونة أسفل المنضدة، مُمتنة لوجود الظلال. تعاطفت مع الصبي المسكين وهو يخرج متعثرًا ويُطبِق يدَيه معًا كأنهما احترقتا. أخذت «الأخت» نفَسًا عميقًا عبر أنفها. ودققت النظر. حاولت المرأة المجنونة أن تُصغِّر حجمَها بقدر الإمكان.

سألت «الأختُ» الرجل الجالس في الكرسي المقابل: «هل تَشَم شيئًا؟»

كانت المرأة المجنونة تعرف هذا الرجل. لم يكن يرتدي عباءته. وإنما كان يرتدي قميصًا أنيقًا من قماشٍ رائع ومعطفًا من أخفِّ أنواع الصوف. فاحت من ملابسه رائحة النقود. ازداد جلده تغضُّنًا عن آخر مرة رأته فيها. كان وجهه متعبًا وبدت عليه علامات التقدم في العمر. تساءلت المرأة المجنونة عما إذا كانت تبدو مثله. كان قد مر وقتٌ طويلٌ جدًّا، طويل جدًّا جدًّا، منذ آخر مرة رأت فيها وجهها.

قال كبير الحكماء: «لا أشَم أي رائحة يا سيدتي. باستثناء الشاي والكعك. وعطرك الممتاز، بالطبع.»

قالت المرأة: «لا داعي لإطرائي، أيها الشاب»، رغم أن كبير الحكماء كان أكبر سنًّا منها بكثير. أو هكذا كان يبدو.

عندما رأتها المرأة المجنونة تجلس بجوار كبير الحكماء، أدركت أنه لم يبدُ على الأخت إجنيشا أي تقدمٍ في العمر على الإطلاق.

تنحنح الرجل المسن. «وهذا يأخذنا إلى سبب مجيئي إلى هُنا، يا سيدتي العزيزة. لقد فعلت ما أمرتِني به. وعرفت ما يُمكنني أن أعرفه، وفعل الحكماء الآخرون الأمر نفسه. وفعلت كل ما بوسعي لأُثنيه، لكن هذا لم يُجدِ نفعًا. لا يزال أنتين ينوي اصطياد «الساحرة».»

«هل اتبع نصيحتك، على الأقل؟ هل احتفظ بخططه طيَّ الكتمان؟» كان صوت الأخت القائدة ينطوي على شيءٍ أدركتْه المرأة المجنونة. إنه الأسى. كان يمكنها أن تتبيَّن ذلك الصوت في أي مكان.

«بكل أسف، لا. الناس يعرفون. لا أعرف من أخبرهم؛ هو أم زوجته السخيفة. إنه يؤمن بإمكانية تحقيق مسعاه، ويبدو أنها تؤمن بذلك أيضًا. وآخرون الآن يؤمنون بالأمر نفسه. جميعهم … «يأملون».» قال الكلمة وكأنها أكثر الأقراص الطبية مرارة. وارتجف كبير الحكماء.

تنهدت «الأخت». نهضت وأخذت تذرع الغرفة. «أحقًّا لا تشَم تلك الرائحة؟» ارتجف كبير الحكماء، وهزت «الأخت» رأسها. «لا يهم. على الأرجح، ستقضي عليه الغابة. لم يسبق له أن حاول الذهاب في رحلةٍ كهذه. وليست لدَيه مهارات. وليست لدَيه أي فكرة عما يفعله. ووفاته ستحُول دون طرح المزيد من الأسئلة «المزعجة». ومع ذلك، من المُحتمل «أن يعود». وهذا ما يقلقني.»

تخطت المرأة المجنونة الظلال بقدْر ما سمحت لها شجاعتها. رأت حركات الأخت تصبح أكثر حدةً واضطرابًا. ورأت بقعةً من الدموع تلتمِع عند جفنَيها السُّفليين.

«هذه مجازفة كبيرة جدًّا.» تنفست كي تتمالك نفسها. «ولا تغلق الباب في وجه التساؤلات. حتى وإن عاد بخُفَّي حُنين، فهذا لا يعني أنه لا يُوجد «شيء» يمكن أن يعثر عليه مواطن آخر طائش لدرجة تجعله يقصد الغابة. وإذا لم يعثر «ذلك» الشخص على شيء، فربما يحاول شخص «آخر» أيضًا. وسرعان ما تتحول تلك الأخبار عن «عدم وجود شيء» إلى أخبار عن «وجود شيء». وسرعان ما تبدأ «المحمية» في استنباط أفكار.»

لاحظت المرأة المجنونة أن وجه الأخت إجنيشا كان شاحبًا. شاحبًا ومجهدًا. كما لو كانت تموت جوعًا ببطء.

صمت كبير الحكماء للحظةٍ طويلة. ثم تنحنح. وقال: «أظن يا سيدتي العزيزة …». وخمد صوته. وصمت مرةً أخرى. ثم تابع: «أظن أن واحدة من «الأخوات» يمكنها قتله. حسنًا. إن كان يمكنها.» ابتلع ريقَه. كان صوته ضعيفًا.

«هذا ليس سهلًا على أيٍّ مِنا. يُمكنني ملاحظة أنك تُكنُّ بعض المشاعر للصبي. بالفعل، حزنك …» انقطع صوت «الأخت»، وخرج لسانها بسرعة ثم عاد يختفي داخل فمها. أغمضت عينيها وتورَّد خدَّاها. وكأنها كانت قد تذوَّقت للتو ألذَّ نكهة في العالم. «حزنك حقيقي جدًّا. لكن لا يمكن فعل شيءٍ حيال ذلك. لا يمكن للصبيِّ أن يعود. ولا بد أن يبدوَ واضحًا للجميع أن «الساحرة» هي من قتلته.»

اتَّكأ كبير الحكماء بتثاقل على أريكةٍ في مكتب «الأخت». كان وجهه شاحبًا ومجهدًا. رفع عينَيه للسقف. على الرغم من أن المرأة المجنونة كانت ترصد المشهد من زاوية محدودة، تمكنت من ملاحظة أن عينَيه كانتا مُبتلَّتَين.

سأل بصوت أجشَّ: «أيُّهنَّ؟ أيهن ستفعلها؟»

سألت «الأخت»: «هل هذا يهم؟»

«مُهم لي.»

نهضت الأخت إجنيشا، وهُرعت نحو النافذة، وأطلَّت للخارج. انتظرت للحظة طويلة. وأخيرًا قالت: «كما تعلم، جميع «الأخوات» مدربات جيدًا ومُتمكنات. ليس … من «المعتاد» أن تتغلب المشاعر على أيٍّ منهنَّ وتؤثر فيها. ولكن هذا لا يعني أن المهمة سهلة. فجميعهن اهتمَمْنَ بأمر أنتين أكثرَ من أيٍّ من صبيان «البرج» الآخرين. لو كان أي شخص آخر، كنتُ سأرسِل أيَّ أختٍ وكانت ستنتهي من الأمر. في هذه الحالة … — تنهدت والتفتت مواجِهةً كبير الحكماء — «… سأفعلها بنفسي».»

فرك جيرلاند عينَيه كي يتخلَّص من الدموع وثبَّت ناظريه على «الأخت».

«هل أنتِ متأكدة؟»

«أجل. ويمكنك أن تطمئن: سأجعلها ميتة سريعة. سيكون موته بدون ألَم. لن يعلم بمقدمي. ولن يعلم بما أصابه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤