الفصل الثامن والعشرون

أشخاص عديدون يذهبون إلى الغابة

جلست زان بجوار المدفأة، وهي تبرم مريولها من هنا لهناك إلى أن تحول بالكامل إلى عُقد.

كان ثمة شيء في الجو. كان يمكنها الشعور بذلك. وكان ثمة شيء غاضب تحت الأرض، يَطِنُّ ويُدَمدِم. كان يمكنها الشعور بذلك أيضًا.

كان ظهرها يؤلِمها. وكانت يداها تؤلمانها. وكانت ركبتاها وفخذاها وكوعاها وكاحلاها وكل عظمة من عظام قدمَيها المنتفختَين تؤلمها ألمًا مُمِضًّا. وإذ أخذت كل دقة، وكل نبضة، وكل ثانية تنتج عن حركة تروس ساعة عمر لونا تُقربها جميعًا من النقطة التي يشير فيها كل عقرب إلى العدد ١٣، كان بوسع زان أن تشعر بأنها تنحف وتتضاءل وتتلاشى. كانت خفيفة وهشَّة كورقة.

قالت في نفسها: «ورق. حياتي مصنوعة من الورق. طيور ورقية. خرائط ورقية. كتب ورقية. دفاتر ورقية. كلمات وأفكار ورقية. كل شيء يتلاشى ويتمزق ويزول ويصبح عدمًا.» تمكنت من تذكُّر زوسيموس — العزيز زوسيموس! كم كان يبدو قريبًا منها الآن! — وهو ينحني على رزَم أوراقه بست شمعات تحترق لتضيء حول مُحيط مكتبه، مُدَوِّنًا معرفته على الحيز الخشن الخالي.

قالت زان في نفسها: «حياتي كُتِبت على الورق وحُفظت على الورق؛ كل أولئك الباحثين الدمويين كتبوا تعليقاتهم وأفكارهم وملاحظاتهم. لو كنتُ قد توفيتُ، كانوا سيدوِّنون نهايتي على الورق دون أن يذرفوا دمعةً واحدة. وها هي لونا، حالها نفس الحال الذي كنتُ عليه. وها أنا أتمسك بالكلمة الوحيدة التي يمكنها تفسير كل شيء، ولا يمكن للفتاة أن تقرأها أو حتى تسمعها.»

لم يكن هذا عدلًا. ما فعله رجال القلعة ونساؤها مع زان لم يكن عدلًا. وما فعلته زان مع لونا لم يكن عدلًا. وما فعله مواطنو «المحمية» مع أطفالهم الرُّضَّع لم يكن عدلًا. لم يكن أي من هذا عدلًا.

نهضت زان وأطلت من النافذة. لم تكن لونا قد عادت بعد. لعل ذلك كان خيرًا. ستترك لها رسالةً قصيرة. فمن الأسهل قول بعض الأشياء على الورق على أي حال.

لم يسبق أن غادرت زان مبكرًا لأخذ طفل «المحمية». لكنها لم تستطع أن تجازف بأن تتأخر. لا سيما بعد ما حدث آخِر مرة. وكذلك لم تستطع أن تجازف بأن يراها أحد. كانت عمليات التحول صعبة، وتعيَّن عليها أن تقاوم احتمال أنها قد لا تمتلك القوة لإبطال هذا التحول. وقد ينتج عن هذا مزيدٌ من التبعات.

زرَّرت زان معطفها الفضفاض وأدخلت قدميها في حذاء متين طويل الرقبة وحزمت حقيبتها الممتلئة بزجاجات الحليب وملابس ملساء جافة وقليل من الطعام لنفسها. همست بتعويذة كي تمنع اللبن من أن يفسد وحاولت تجاهل القدر الذي كانت التعويذة تستنزف به طاقتها وحيويتها.

تمتمت في نفسها: «أي طائر؟ أي طائر، أي طائر؟» فكرت في تحويل نفسها إلى غراب والاستفادة من براعته، أو إلى عُقاب والاستفادة من قدرته على القتال. كذلك بدا تحويل نفسها إلى طائر القطرس، بما له من قدرة على التحليق بدون مجهود، فكرةً جيدةً، عدا أن نقص الماء قد يعيق قدرتها على الإقلاع والهبوط. في النهاية اختارت طائر السنونو؛ فمع صغر حجمه وضعفه، إلا أنه بارع في الطيران وله عينان ثاقبتان. سيتعين عليها أن تتوقف لأخذ فترات استراحة، وطائر السنونو صغير الحجم وبُني ويكاد ألا يكون مرئيًّا للحيوانات المفترسة.

أغمضت زان عينيها وضغطت بقدميها على الأرض وشعرت بالسحر يتدفق في عظامها الهشة. شعرت بأنها أصبحت خفيفة وصغيرة الحجم وثاقبة الرؤية. أصبح لها عينان لامعتان، وأصابع أقدام رشيقة، ومنقار حادٌّ جدًّا. حركت جناحَيها، شاعرة في أعماق نفسها بحاجتها الملحة إلى الطيران التي ظنت أنها ستموت بسببها، وبصرخة مدوية حزينة نابعة من الوحدة وافتقادها للونا، رفرفت وطارت في الهواء وعبرت فوق قمم الأشجار.

كانت خفيفة كالورقة.

•••

انتظر أنتين ميلاد طفلهما قبل أن يبدأ رحلته. كان «يوم التضحية» لا يزال بعد أسابيع، لكن لن يولد المزيد من المواليد في الفترة التالية. كان زهاء أربعة وعشرين امرأة حاملًا في «المحمية»، لكن بطون جميعهن كانت بالكاد قد بدأت تبرز. ومن ثَم كُنَّ سيلدنَ بعد شهور، وليس أسابيع.

كانت الولادة سهلة. أو هكذا زعمت إيثين. لكن في كل مرة كانت تصرخ، كان أنتين يشعر بأنه يموت في داخله. كانت الولادة صاخبة وفوضوية ومخيفة، وشعر أنتين أنها استغرقت عمرًا كاملًا أو يزيد، على الرغم من أنها في الحقيقة لم تستغرق سوى معظم ساعات النهار. وخرج المولود للعالم يصرخ وقت الغداء. قالت القابلة: «سيد نبيل بحق. خرج إلى العالم في أكثر ساعة مقبولة من اليوم.»

أطلقا عليه اسم لوكين واندهشا من أصابع قدمَيه الدقيقة ويدَيه الضعيفتَين وعينَيه المثبَّتتين على وجهيهما. قبَّلا ثغرَه الصغير، الباحث، الذي لم يتوقف عن العواء.

لم يسبق لأنتين أن كان واثقًا مما عليه فعله كما كان الآن.

غادر صبيحة اليوم التالي، قبل شروق الشمس بوقتٍ كافٍ، عندما كانت زوجته وطفله لا يزالان نائمين في السرير. لم يستطع أن يتحمل الوداع.

•••

وقفت المرأة المجنونة في نافذتها، وهي تسند وجهها على القضبان. رأت الشاب يتسلل خارجًا من المنزل الهادئ. كانت قد ظلَّت تنتظره لساعات. لم تعلم ما الذي جعلها تنتظره، كل ما تعرفه أنها انتظرته. لم تكن الشمس قد أشرقت بعد، وكانت النجوم متَّقدة وواضحة، تلمع عبر السماء مثل زجاج مكسور. رأته يتسلَّل خارجًا من الباب الأمامي لمنزله ويغلقه بهدوء خلفه. رأته وهو يضع يدَه على الباب وضغط براحته على الخشب. للحظة، ظنَّت أنه قد يُغير رأيه ويعود للداخل، لأسرته التي تنام في الظلام. لكنه لم يفعل. أغمض عينَيه بإحكام، وأطلق تنهيدةً عميقةً، واستدار على عقبَيه، مسرعًا في الدرب المظلم نحو الموضع الذي يكون فيه تسلق جدار المدينة أقل صعوبة.

أرسلت له المرأة المجنونة قبلةً مُتمنيةً له حسن الطالع. رأته يتوقف ويرتعش عندما أصابته القبلة. ثم تابع طريقه، بخطوات أخفَّ بشكلٍ ملحوظ. ابتسمت المرأة المجنونة.

كانت تُوجَد حياة كانت تعرفها فيما مضى. وكان يُوجَد عالَم اعتادت أن تعيش فيه، لكن لم يعد بوسعها أن تتذكره. كانت حياتها من قبل لا قيمة لها مثل دخان. عاشت، بدلًا من هذه الحياة، في هذا العالم المصنوع من الورق. الطيور الورقية والخرائط الورقية والأشخاص المصنوعين من الورق، والأتربة والحبر ولباب الخشب والزمن.

سار الشاب في الظلال، يتفحص هذا الطريق وذاك ليرى إن كان أحد تَبِعَه. كان يحمل على ظهره حقيبة وفراشًا يُلفُّ للحمل. وعباءة من شأنها أن تكون حملًا ثقيلًا للغاية خلال ساعات النهار ولن تبعث ما يكفي من الدفء في الليل. ويتأرجح عند خاصرته، سكين طويل حاد.

همست المرأة المجنونة: «يجب ألَّا تذهب بمفردك. ثمة أخطار في الغابة. وثمة أخطار هُنا ستتبعك إلى الغابة. ويُوجَد شخص أخطر مما يمكنك أن تتخيل.»

عندما كانت فتاة صغيرة، سمعت قصصًا عن الساحرة. قيل لها إن الساحرة تعيش في الغابة، وتمتلك قلب نمر. لكن القصص كانت خاطئة، وحُرفت الحقيقة التي كانت لديهم. فالساحرة كانت هُنا، في «البرج». وعلى الرغم من أنها لم تكن تمتلك قلب نمر، كان يمكنها أن تمزقك إلى أشلاء إن سنحت لها الفرصة.

حدقت المرأة المجنونة في القضبان الحديدية للنافذة حتى لم تعد تُوجَد قضبان حديدية على الإطلاق، وإنما قضبان ورقية. مزقتها إلى قصاصات. ولم تعُد الصخور المحيطة بفتحة النافذة صخورًا، بل صارت مجرد كُتَلٍ من اللباب. أزاحتها بيديها عن الطريق.

تمتمت الطيور الورقية حولها ورفرفت ونعقت. فتحت أجنحتها. بدأت أعينها تلمع وتفتش. ارتفعت معًا وكأنها طائر واحد وتدفقت من خلال النافذة، حاملةً المرأة المجنونة على ظهورها المجتمعة، وطارت في سكون نحو السماء.

•••

اكتشفت الأخوات هروب المرأة المجنونة بعد الفجر بساعة. كانت تُوجَد فِرَق لتوجيه الاتهامات ووضع تفسيراتٍ وفرق تفتيش وبحث جنائي وفرق مُحقِّقين. عوقب المسئولون عن ذلك. كانت عملية التمشيط مهمة طويلة وكريهة. لكنها كانت صامتة بالتأكيد. لم تستطع «الأخوات» تحمُّل تبعات ترك خبر الهروب يتسرب إلى «المحمية». كان آخر شيء يُرِدنه أن يُسمح للعامة بأن تخطُر لهم أفكار. فالأفكار، في نهاية المطاف، خطيرة.

أمر جيرلاند كبير الحكماء بعقد اجتماعٍ مع الأخت إجنيشا قبل الغداء مباشرةً، على الرغم من ادعاءاتها بالصعوبة البالغة لإجرائه اليوم.

دوَّى صوت كبير الحكماء وهو يسير إلى مكتبها: «لا تُهِمُّني تعقيداتك النسائية.» هرولت الأخوات الأخريات مُبتعدات، وهن يرمقنَ كبير الحكماء بنظراتٍ قاتلة، لحسن الحظ أنه لم يُلاحظها.

شعرت الأخت إجنيشا أنه من الأفضل ألا تذكر هروب السجينة. بدلًا من ذلك، طلبت الشاي والبسكويت واستقبلت كبير الحكماء، الذي كان يستشيط غضبًا، بحسن ضيافة.

قالت: «من فضلك، قل لي، يا عزيزي جيرلاند. ما الأمر؟» ورمقته بعينَيها الضاريتَين المتواريتَين تحت قلنسوتها.

قال جيرلاند بإرهاق: «لقد وقع الأمر.»

دون وعي منها ألقت الأخت إجنيشا نظرةً سريعةً في اتجاه الزنزانة التي أصبحت فارغةً الآن. وسألت: «أي أمر؟»

«ابن أختي. غادر هذا الصباح. وزوجته ورضيعه يحتميان في منزل أختي.»

بدأت الأفكار تتسارع في عقل الأخت إجنيشا. لا يمكن أن يكون ثمة رابط بين هذين الاختفاءين. لا يمكن هذا. كانت ستعرف … أليس كذلك؟ لقد كان يُوجد، بالتأكيد، انخفاض ملحوظ في الحزن المتاح من المرأة المجنونة. لكن الأخت إجنيشا لم تفكر في هذا كثيرًا. فمع أنه من المُزعج أن يُصبح المرء جائعًا في بيته، كانت تُوجَد دومًا وفرة من الحزن في أنحاء «المحمية»، يُخيِّم على المدينة كغيمة.

أو أنه عادةً ما كان موجودًا. لكن هذا «الأمل» العاصف الذي أثاره أنتين كان ينتشر في أنحاء المدينة، مُعطلًا الحزن. شعرت إجنيشا بمعدتها تقرقر.

ابتسمت ونهضت واقفة. وضعت يدَها برفقٍ على ذراع كبير الحكماء، وضغطت عليه بحنو. اخترقت أظافرها الطويلة الحادة عباءته كمخالب النمر، وهو ما جعله يصرخ من الألم. ابتسمت وقبَّلت خدَّيه. قالت: «لا تخف يا صغيري. دع أنتين لي. الغابة مليئة بالمخاطر.» جذبت قلنسوتها لتُغطي رأسها وخطت نحو الباب. قالت: «سمعتُ أنه تُوجَد ساحرة في الغابات. هل علمتَ بذلك؟» واختفت في الردهة.

•••

قالت لونا: «لا. لا، لا، لا، لا، لا.» أمسكت بالرسالة القصيرة من جدَّتِها في يدَيها لبرهة قبل أن تُمزقها إلى قصاصات. حتى إنها لم تقرأ ما بعد الجملة الأولى. «لا، لا، لا، لا، لا.»

قال الغراب: «كاو»، على الرغم من أنه بدا أشبه بقوله: «لا تُقدمي على أي تصرف أحمق.»

سرى الغضب في جسد لونا، من قمة رأسها لأخمص قدَمَيها. قالت في نفسها: «لا بد أن هذا ما تشعر به الشجرة عندما يضربها البرق.» حملقت في الرسالة القصيرة الممزقة، متمنيةً أن تتجمع من تلقاء نفسها حتى يمكنها تمزيقها ثانيةً.

(التفتت قبل أن تتمكن من ملاحظة أن القصاصات بدأت تهتزُّ قليلًا، آخِذةً في التحرك، بعضها نحو بعض.)

نظرت لونا إلى الغراب نظرةً مُتحدِّية.

«سأذهب خلفها.»

قال الغراب: «كاو»، إلا أن لونا كانت تعرف ما يَعنيه: «تلك فكرة غبية جدًّا. أنتِ لا تعرفين حتى إلى أين أنتِ ذاهبة.»

قالت لونا: «أنا أعرف أيضًا»، وهي تُظهر العزيمة والإصرار وتجذب دفترها من حقيبتها. «أترى؟»

قال الغراب: «كاو.» وكان يعني: «لقد اختلقتِ ذلك. ذات مرة حلمتُ بأنني يُمكنني التنفس تحت الماء مثل سمكة. لكنَّك لا تَرَيْني أُحاول فعل «ذلك»، والآن هل تستطيعين ذلك؟»

قالت لونا، وهي تشعر بأن صوتها بدأ يتهدج: «إنها ليست قوية بما يكفي.» ماذا لو أصيبت جدتها في الغابة؟ ماذا لو مرضت؟ أو تاهت؟ ماذا لو لم ترَها لونا مجددًا أبدًا؟ فكرت لونا: «يلزمني أن أساعدها. أنا بحاجة إليها.»

(طارت القصاصتان اللتان تحتويان على «عزيزتي» و«لونا» والتصقت حوافهما معًا لدرجة أنه لم يعُد يُوجَد دليل على انفصالهما. وكذلك فعلت القصاصة التي تحتوي على «في الوقت الذي ستقرئين فيه هذه الرسالة» والقصاصة التي تحتوي على «ثمة أشياء يتعين عليَّ تفسيرها» بالأسفل. وتحتها كانت تُوجَد قصاصة مكتوب عليها «أنتِ أعظم بكثير مما تدركين.»)

وضعت لونا قدمَيها في حذائها الطويل الرقبة، وحزمت حقيبة ظهر وضعت فيها كل ما استطاعت أن تفكر في أنه قد يكون مفيدًا في الرحلة. جبنًا جافًّا. وتوتًا مجففًا. وبطانية. وقنينة ماء. وبوصلة بها مرآة. وخريطة النجوم الخاصة بجدتها. وسكينًا حادًّا جدًّا.»

قال الغراب: «كاو» لكنه كان أشبه بقوله: «ألن تُخبري جليرك وفيريان؟»

«بالطبع لن أفعل. لن يفعلا شيئًا سوى أن يُحاولا إيقافي.»

تنهدت لونا. (انطلقت قصاصة صغيرة من الورق في طريقها بخفةٍ تُضاهي خفة أي فأر. لم تلحظ لونا. لم تلحظها وهي تتسلل لأعلى ساقها وعلى ظهر معطفها الفضفاض. ولم تلحظها عندما شقت طريقها إلى جيبها.) قالت أخيرًا: «لا. سيخمنان إلى أين أنا ذاهبة. وأي شيء أقوله سيخرج من فمي بطريقة خاطئة. كل ما أقوله يخرج من فمي بطريقة خاطئة.»

قال الغراب: «كاو.» وكان يعني: «لا أظن ذلك صحيحًا.»

لكن لم يكن ما يظنه الغراب مُهمًّا. فقد عقدت لونا العزم. وضعت قلنسوتها ورَبَطَتْها وتفحصت الخريطة التي كانت قد رسمتها. بدت مفصلةً بما يكفي. وبالطبع كان الغراب على حق، وبالطبع كانت لونا تعرف أن الغابة خطيرة جدًّا. لكنها كانت تعرف الطريق. كانت «متأكدة» من ذلك.

قالت للغراب وهي تغادر بيتها وتمضي إلى الخضرة: «هل أنت قادم معي أم ماذا؟»

قال الغراب: «كاو.» وكان يعني: «معكِ حتى أقصى الأرض يا عزيزتي لونا. حتى أقصى الأرض.»

•••

قال جليرك وهو ينظر إلى الفوضى في المنزل: «حسنًا. هذا ليس جيدًا على الإطلاق.»

انتحب فيريان، قائلًا: «أين العمة زان؟» دفن وجهه في منديل، فكان تارةً يشعل النيران في المنديل وتارةً يخمدها بدموعه. «لماذا لم تودِّعنا؟»

قال جليرك: «تستطيع زان أن تعتني بنفسها. من يُقلقني هو لونا.»

قال هذا لأنه بدا صحيحًا حقًّا. لكنه لم يكن كذلك. كان قلقُه على زان يُربكه ويشوِّش تفكيره. تنهد جليرك وهو يقول في نفسه: «فيمَ كانت تفكر؟ وكيف يُمكنني أن أعيدها سالمة؟»

جلس جليرك متثاقلًا على الأرض، وقد لفَّ ذيله الضخم حول جسده، وأخذ يقرأ الرسالة القصيرة التي كانت زان قد تركتها للونا.

قالت: «عزيزتي لونا. في الوقت الذي ستقرئين فيه هذه الرسالة، سأكون مسافرةً بسرعة عبر الغابة.»

تمتم جليرك: «بسرعة؟ آه. لقد تَحَوَّلَتْ.» هز رأسه. كان جليرك يعلم أفضل من أي أحدٍ كم كان سِحر زان قد استُنزِف. ما الذي سيحدث لو عَلِقَتْ زانُ في تحولها؟ ماذا لو عَلِقَتْ للأبد في صورة سنجاب أو طائرٍ أو أيل؟ أو يمكن أن يحدث ما هو أسوأ، وهو ما إن تمكنَتْ من التخلص من نصف التحول فقط.

«الأشياء تتغير بداخلكِ يا عزيزتي. من الداخل والخارج. أعرف أنه يمكنكِ الشعور بهذا، لكنكِ ليس لديكِ الكلمات المناسبة لوصفِه. وهذا خطئي. ليست لديكِ أي فكرة عمن تكونين، وهذا خطئي، أيضًا. ثمة أشياء أخفيتُها عنكِ بسبب الظروف، وأشياء أخفيتُها عنكِ كي لا أُحطم قلبَكِ. لكن هذا لا يُغير الحقائق: أنتِ أعظم بكثير مما تُدركين.»

قال فيريان، وهو يُحلِّق ويطنُّ من ناحيةٍ لأخرى حول رأس جليرك كنحلةٍ طنانة مزعجة لا تكف عن الطنين: «ماذا فيها يا جليرك؟»

تمتم جليرك: «هلَّا تمهلتَ قليلًا يا صديقي؟»

وصف جليرك لفيريان بكلمة «صديقي» جعله ينتفض من السعادة. رفع لسانه نحو سقف حلقه مُزغردًا وتشقلب للخلف ودار دورة مزدوجة في الهواء، فاصطدمت رأسُه بطريق الخطأ بالسقف.

قال فيريان، متجاهلًا التورُّم في رأسه: «بالتأكيد سأُمهلك لحظة، يا جليرك، يا «صديقي». سأُعطيك كل اللحظات في العالم.» رفرف لأسفل نحو مسند ذراع الكرسي الهزَّاز والتزم الهدوء والثبات قدر وسعِه.

تفحص جليرك الورقة بتمعُّن أكبر؛ ليس الكلمات بل الورقة نفسها. كان بوسعه أن يرى أنها كانت قد مُزقت، والتحمت قصاصاتها مرة أخرى، وما كانت معظم الأعين ستلاحظ هذا التغيير. كانت زان ستلاحظه. نظر جليرك بتمعُّن أكثر من ذي قبل، إلى خيوط السحر؛ إلى كل شريط على حدة. أزرق. وثمة لمعة فضية عند الحواف. كان يُوجَد الملايين منها. ولا واحدة منها كان مصدرها زان.

همس: «إنها لونا. يا إلهي، إنها لونا.»

لقد بدأ مبكرًا. سِحرُها. كل تلك القوة — هذا المحيط الهائج الهائل — كانت تتسرب نحو الخارج. لم يكن يملك طريقةً ليعرف ما إذا كانت الفتاة تقصد فعل هذا أم لا، أو حتى ما إذا كانت لاحظت حدوث هذا من الأساس. تذكَّر عندما كانت زان صغيرة، كيف كانت تجعل الفاكهة الناضجة تنفجر وتمطر وابلًا من النجوم بمجرد وقوفها قريبة منها أكثر من اللازم. كانت وقتئذٍ خطيرة، على نفسها وعلى الآخرين. كما كانت لونا عندما كانت صغيرة. وكما كان من المرجح أن تكون الآن.

«عندما كنتِ رضيعة، أنقذتكِ من مصير مُريع. ثم منحتكِ عن طريق الخطأ ضوءَ القمر كي تشربي منه، وشربتِ منه، وهو ما عَرَّضَكِ لمصيرٍ مُريع آخر. أنا آسفة. ستعيشين طويلًا وستنسَين الكثير وسيموت الأشخاص الذين تُحبِّينهم وستمضين في حياتكِ. كان هذا قدري. وهو الآن قدَرُكِ. يوجَد سبب وحيد لهذا.»

كان جليرك يعرف السبب بالطبع، لكنه لم يكن في الرسالة. بدلًا من ذلك، كانت تُوجَد فجوة مقطوعة قطعًا تامًّا في الموضع الذي كانت فيه كلمة «سحر». نظر حوله على الأرض، لكنه لم يجِدها في أي مكان. كان هذا من الأشياء التي لم يستطع أن يستوعِبها في السحر بشكلٍ عام. السحر شيء مُحير. شيء أحمق. وله منطق خاص به.

«إنه الكلمة التي لا يمكن أن تعلَق في ذهنكِ، لكنها الكلمة التي تُحدد حياتكِ. كما حدَّدَتْ حياتي. أتمنى أن يكون لديَّ وقتٌ كافٍ كي أشرح لكِ كلَّ شيء قبل أن أترككِ مرةً أخرى، لآخِر مرة. لا أملك كلماتٍ تُعبر عن مدى حُبي لكِ.

جدتكِ المحبة»

طوى جليرك الرسالة ووضعها أسفل الشمعدان. نظر في أنحاء الغرفة بحسرة. صحيح أن أيام زان كانت تتضاءل، وصحيح أنه مقارنةً بعمره المديد للغاية، لم يكن عُمْر زان أكثر من نفَسٍ عميق، أو ابتلاع ريق، أو رمشة عين. وعما قريب سترحل للأبد. شعر جليرك بغصَّةٍ في حلقه وكأن قلبه قفز وعلَق في حلقه ككتلةٍ صلبة حادة.

تجرأ فيريان وقال: «جليرك؟» حلَّق بطنينٍ نحو وجه وحشِ المستنقع القديم، وتطلع إلى عينَيه الكبيرتَين الرطبتَين. طرفت عينا جليرك وحدَّق فيه بدَوره. كان عليه أن يُقرَّ بأن التنين الصغير كائن لطيفٌ صغير. وذو قلبٍ كبير. وصغير السن. لكنَّ صِغرَ سنِّهِ كان غيرَ طبيعي. وقد آن الأوان كي يكبُر.

هذا ما كان يجب حدوثه في الماضي، حقًّا.

تمالك جليرك نفسه واستوى على أقدامه وعلى أول مجموعة أذرع لدَيه، منحنيًا للخلف قليلًا لتخفيف الالتواءات في عموده الفقري. أحب مُستنقعه الصغير، بالطبع أحبه، وأحبَّ حياته الصغيرة في فوهة البركان. كان قد اختارها دون أي ندم. لكنه أحبَّ العالم الواسع أيضًا. كانت ثمَّة أجزاء من حياته كان قد تخلَّى عنها كي يعيش مع زان. لم يعُد بوسع جليرك أن يتذكَّرها. لكنه كان يعرف أنها كانت غزيرةً ومُفعمة بالحياة و«شاسعة». «المستنقع» الكبير. العالم بأسره. جميع الكائنات الحية. كان قد نسِيَ كم أحبَّ هذا كله. قفز قلبه بداخله عندما خطا الخطوة الأولى.

قال وهو يمدُّ يدَه اليسرى العُليا ويسمح للتنين بأن يحطَّ على راحة يده: «تعالَ يا فيريان. سنذهب في رحلة.»

قال فيريان: «رحلة حقيقية؟ أتقصد «بعيدًا عن هُنا»؟»

«ذلك هو النوع الوحيد من الرحلات، يا رفيقي الصغير. والإجابة نعم. سنذهب بعيدًا عن هُنا. ذلك النوع من الرحلات.»

قال فيريان: «ولكن …». رفرف مُبتعدًا عن يدِه وحلق وهو يطنُّ إلى الجانب الآخر من رأس وحش المُستنقع الضخم. «ماذا لو تُهنا؟»

قال جليرك: «أنا لا أتوه مطلقًا.» وكان هذا صحيحًا. في قديم الزمان، من «أزمنة» بعيدة، سافر حول العالم مرات لا يُمكنه إحصاؤها. وفي هذا العالَم. وأعلاه وأدناه. ثمة قصيدة. ثمة «مستنقع». ثمة حنين عميق. لم يعد يمكنه تذكر هذا الآن، بالطبع؛ وهذا أحد أضرار الحياة الطويلة جدًّا.

قال فيريان، وهو يسرع من أحد جانبَي وجه جليرك إلى الجانب الآخر ثم يعود مرة أخرى: «ولكن … ماذا إذا أخفتُ الناس؟ بحجمي المدهش. ماذا لو هربوا مذعورين؟»

دارت عينا جليرك في محجريهما في نفاد صبر. وقال: «مع أنه صحيح، يا صديقي الصغير، أن حجمك «مدهش»، أظن أن تفسيرًا بسيطًا من جانبي سيُهدئ من روعهم. كما تعلم، أنا أتمتع بمهارة فائقة في تفسير الأمور.»

هبط فيريان على ظهر جليرك. وتمتم: «هذا صحيح. لا أحد يُفسر الأمور أفضل منك، يا جليرك.» ثم ألقى بجسدِه الصغير على ظهر وحش المُستنقع الضخم الرطب، ومدَّ جناحَيه على اتساعهما محاولًا أن يُعانقه.

قال جليرك: «لا حاجة لذلك»، وتحرك فيريان للخلف وارتفع في الهواء محلقًا فوق صديقه. تابع جليرك: «انظر. هل ترى؟ إنها آثار قدمَي لونا.»

وهكذا تبعها وحشُ المستنقع القديم و«التنينُ الصغير للغاية» إلى الغابة.

ومع كل أثر لقدمَي لونا، كان جليرك يُدرك أكثر أن السحر الذي كان يتسرب من قدمَي الفتاة آخِذ في الازدياد. كان يتسرب، ثم يلمع، ثم يتجمَّع على الأرض ثم ينسكب من الحواف. بهذا المعدل، كم سيتبقى من الوقت كي يفيض هذا السحر كالماء ويتحرك كالجداول والأنهار والمحيطات؟ كم تبقى قبل أن يكتسح العالم؟

كم تبقى، حقًّا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤