الفصل الحادي والأربعون

مسارات عديدة تتلاقى

سارعت لونا بتسلُّق المنحدر المائل نحو أعلى قمة. بدأ الطرف العلوي للقمر يظهر في الأفق. كان يمكنها الشعور بطنين بداخلها، مثل ترس زنبرك يُلَفُّ بإحكامٍ شديد ويطنُّ خارجًا عن السيطرة. شعرت ببركان يجيش بداخلها، وكان ذلك البركان يندلع بعنف من أطرافها. تعثرت واصطدمت يداها بقوة بالأرض المُغطاة بالحصى. فبدأ الحصى يتدافع وينطلق ويزحف بعيدًا كالحشرات. أو ليس كالحشرات. بل كان «بالفعل» حشرات؛ لها قرون استشعار هوائية وذات أرجل مشعرة وأجنحة قزحية الألوان. أو صار الحصى ماءً. أو ثلجًا. ارتفع القمر أكثر في الأفق.

كانت جدة لونا قد علمتها، عندما كانت صغيرة برُكبتَين متقرحتَين وشعرٍ مُتشابك، كيف تعيش اليرقة، وكيف تكبر وتسمن وتُصبح لطيفة، حتى تُكوِّن الشرنقة. وبداخل الشرنقة «تتغير». يتفكَّك جسدها. ويتكسَّر كل جزءٍ منه، ويُعاد تكوينه من جديدٍ متحولًا إلى شيءٍ آخر.

وكانت لونا قد سألت: «ماذا يُشبه هذا؟»

قالت جدتها ببطءٍ شديد، وهي تُضيِّق عينَيها: «يُشبه السحر.»

حينذاك، كان قد أصاب لونا جمود. والآن، في ذاكرتها، كان يمكنها أن ترى ذلك الجمود؛ كيف حلَّقَت كلمة «سِحر» بعيدًا، مثل طائر. كان بوسعها بالفعل أن تراها تطير؛ كل صوت وكل حرف ينزلق من أُذنيها ويُحَلِّق بعيدًا. لكنها الآن تُحلق عائدة من جديد. حاولت جدَّتُها أن تشرح لها السحر في يومٍ من الأيام. ربما أكثر من مرة. لكنها بعد ذلك كانت قد باتت معتادة على جهل لونا بالسحر. والآن، شعرت لونا وكأنها وسط عاصفةٍ من الذكريات، التي تضطرب داخل رأسها.

كانت جدتها قد قالت إن اليرقة تدخل إلى الشرنقة. ثم «تتغير». يتغير جلدها وتتغير عيناها ويتغير فمها. وتختفي أقدامها. كل جزءٍ منها — حتى معرفتها بنفسها — يُسحَق إلى فتات.

وكانت لونا قد سألت، وهي تحدق بعينين واسعتين: «فتات؟»

وكانت جدتها قد طمأنتها، قائلةً: «حسنًا. ربما ليس فتاتًا. لنقل إنها المادة الأولية. المادة الأولية التي تكونت منها النجوم. المادة الأولية للضوء. المادة الأولية للكوكب قبل أن يصبح كوكبًا. المادة الأولية للجنين قبل أن يُولَد. المادة الأولية للبذرة قبل أن تصبح شجرة جميز. كل شيء ترينه يخضع لعملية تكوين أو تفكُّك أو موت أو حياة. كل شيء في حالة «تغير».

والآن، بينما كانت لونا تركض صاعدةً القمة الجبلية، كانت تتغير. كان بوسعها أن تشعر بذلك. عظامها وجلدها وعيناها وروحها. كانت الآلة الموجودة داخل جسدها — كل ترس وكل زنبرك وكل رافعة مصقولة — قد تبدلت وأُعيد ترتيب أجزائها وأُعيد تركيبها متخذةً مكانها. مكانًا مختلفًا. وصارت لونا الآن «جديدة».

كان يُوجَد شاب في أعلى القمة الجبلية. لم تتمكن لونا من رؤيته، ولكن كان بوسعها أن تشعر به في قرارة نفسها. كان بوسعها أن تشعر بوجود جدتها في الجوار. أو على الأقل كانت مُتيقنة بدرجة كبيرة من أنها جدتها. كان يمكنها أن ترى صورةً ذهنية لجدتها مطبوعة في ثنايا روحها، لكن عندما حاولت أن تكتشف أين جدتها «الآن»، كانت الصورة مشوشة إلى حدٍّ ما.

سمعت الرجل يقول: «إنها «الساحرة»». شعرت لونا بقلبها ينقبض. ركضت أسرع من السابق، على الرغم من أن القمة الجبلية كانت شديدة الانحدار والطريق كان طويلًا. ومع كل خطوةٍ كانت تزيد من سرعتها.

صرخ قلبها: «جدتي!»

«ابتعدي!» لم تسمع هذا بأُذنيها. بل سمعَتْه يتردَّد بداخلها.

«استديري!»

«ما الذي تفعلينه هنا، أيتها الفتاة الحمقاء؟»

كانت تتخيل هذا. بالطبع كانت كذلك. ولكن لا. لماذا بدا وكأن الصوت كان آتيًا من الصورة الذهنية المطبوعة لجدتها في ثنايا روحها. ولماذا بدا «بالضبط مثل أسلوب زان»؟

سمعت لونا الرجل يقول: «لا تقلق يا صديقي. سأنفذ هذا بسرعة كبيرة جدًّا. ستأتي «الساحرة». وعندئذٍ سأنحر عنقها.»

صرخت لونا: «جدتي! احذري.»

وسمعت صوتًا. كان مثل صيحة طائر سنونو. تُدَوِّي في جنبات الليل.

•••

قال جليرك، وهو يمسك فيريان من جناحه ويدفعه للأمام: «أقترح أن نتحرك بسرعة أكبر يا صديقي.»

قال فيريان، وهو يسقط على ركبتَيه: «أشعر بأنني مريض يا جليرك.» لو كان قد سقط بهذه القوة في وقتٍ أبكر من اليوم، من المؤكد أنه كان سيجرح نفسه. لكن ركبتيه — على وجه الدقة رجليه وقدميه وظهره بالكامل وحتى براثنه الأولية — كانتا الآن مُغطاتَين بجلد سميك وبدأت طبقة من الحراشف الصلبة تتكوَّن.

قال جليرك، وهو ينظر خلفه: «ليس لدينا وقتٌ كي تمرض.» كان فيريان الآن كبير الحجم بقدر جليرك، وكان يكبر كل لحظة. كان هذا صحيحًا. بدا ما حول وجهه مخضرًّا قليلًا. لكن ربما كان هذا هو لونه الطبيعي. كان يستحيل الجزم بذلك.

شعر جليرك بأن فيريان اختار أكثر وقتٍ غير مناسب كي يكبر. لكن جليرك لم يكن عادلًا في شعوره هذا.

قال فيريان: «المعذرة!» رفع نفسه بصعوبة لشجيرة منخفضة وتقيأ بشدة. «عجبًا. يبدو أنني أشعلتُ النار في بعض الأشياء.»

هزَّ جليرك رأسه. وقال: «إذا كان بإمكانك إخمادها، فافعل. لكن إذا كنتَ مُحقًّا بشأن البركان، فلن يُهمَّ كثيرًا ما يشتعل وما لا يشتعل.»

هزَّ فيريان رأسه وهزَّ جناحَيه. حاول أن يُرفرف بهما بضع مرات، لكنه كان لا يزال أضعف من أن يُحَلِّق. استنشق من أنفه، وانطبعت نظرةٌ مصدومة على وجهه. «ما زلتُ لا أستطيع الطيران.»

قال جليرك: «أظن أنه من المقبول قول إن هذه حالة مؤقتة.»

قال فيريان: «كيف عرفت؟» بذل ما في وسعه كي يُخفي النشيج الذي يكمن في صوته. لكنه لم ينجح في إخفائه جيدًا.

نظر جليرك إلى صديقه. كان النمو قد صار أبطأ لكنه لم يتوقف. على الأقل، بدا الآن أن فيريان ينمو على نحوٍ أكثر توازنًا.

«لا أعرف. لا يسعني سوى أن آمُل في حدوث الأفضل.» انفرج فكَّا جليرك الكبيران الواسعان عن ابتسامة. «وأنت يا عزيزي فيريان، من أفضل من عرفت. هيا. لنصعد لأعلى القمة الجبلية! لنسرع!»

استحثَّ جليرك وفيريان الخُطى عبر النباتات وتسلَّقا الصخور.

•••

لم تشعر المرأة المجنونة طوال حياتها بشعورٍ أروع مما كانت تشعر الآن. كانت الشمس قد غربت. وبدأ القمر للتوِّ في البزوغ. وكانت تمضي مُسرعةً عبر الغابة. لم تُحبَّ شكل الأرض؛ فقد كان يوجد العديد من الأخطار الكامنة والبوتقات التي تغلي والأغوار العميقة المشبعة بالبخار، التي كان يمكن أن تطهوها حية. ولكن، باستخدام الحذاء، كانت تقفز من فرع إلى فرع بسهولةٍ مثل سنجاب.

كانت «كبيرة الأخوات» تتبعها. إذ كان بوسعها أن تشعر بانقباض وانبساط كل عضلة من عضلات «الأخت». كما شعرت بتموُّج سرعتها ووميض الألوان وهي تركض بخطواتٍ واسعة عبر الغابة.

توقفت للحظة على فرع سميك لشجرة لم تستطع أن تُحدِّد نوعها. كان لحاء الشجرة متغضنًا بشدة، وتساءلت عما إذا كان يجري كالأنهار عندما تمطر السماء. حدقت في الظلام المتزايد. جعلت مجال رؤيتها يتَّسع، ويتخطى التلال والوديان والقمم الجبلية، ويصل حتى أطراف العالم.

ها هو! وميض أزرق، له بريق فضي.

ها هو! وميض أخضر داكن.

ها هو! شابٌّ صغير كانت قد جرحَتْهُ من قبل.

ها هو! وحش من نوع ما وحيوانه الأليف.

دمدم الجبل. كانت كل مرةٍ أعلى من سابقتها، وأكثر تصميمًا. كان الجبل قد ابتلع طاقة، وكانت الطاقة تُريد التحرُّر.

قالت المرأة المجنونة، وهي توجه وجهها نحو السماء: «أحتاج إلى طيوري.» ووثبت للأمام وتعلَّقت بفرعٍ جديد. ثم آخر. ثم آخر. ثم آخر.

«أحتاج إلى طيوري!» هكذا صاحت مُجددًا، وهي تركض من فرع لآخر بسهولة وكأنها في سباق عَدو في مضمارٍ عُشبي. ولكن أسرع بكثيرٍ من ذلك.

كان بوسعها أن تشعر بأن سِحر الحذاء يجعل عظامها خفيفة. وبدا أن ضوء القمر المتزايد يزيد من سحره.

همست، وهي تركض أسرع، وعيناها مُثبَّتَتان على الوميض الأزرق: «أحتاج إلى ابنتي.»

وخلفها، تنامى همس آخر؛ هو رفرفة أجنحة ورقية.

•••

زحف الغراب خارجًا من قلنسوة الفتاة. وهَيَّأ قدمَيه الدقيقتَين على كتفِها ثم حرك جناحَيه اللامعين مُنطلقًا في الهواء.

نادى الغراب: «كاو.» وتردَّد صوته: «لونا.»

مرة أخرى قال: «كاو!» وكان يعني: «لونا.»

«كاو، كاو، كاو.»

«لونا، لونا، لونا.»

أصبحت القمة الجبلية أكثر انحدارًا. تعيَّنَ على الفتاة أن تمسك بالجذوع الطويلة الضعيفة والفروع العالقة بالمنحدر كي لا تسقط للخلف. كان وجهها مُتوردًا وكانت أنفاسها لاهثة.

قال الغراب: «كاو.» وكان يعني: «سأتقدَّم للأمام كي أرى ما لا يُمكنكِ رؤيته.»

انطلق للأمام، خلال الظلال، فوق الربوة العارية أعلى القمة الجبلية، حيث تقف جلاميد كحراس، يحرسون الجبال.

رأى رجلًا. كان الرجل يحمل طائر سنونو. وكان السنونو يركل ويرفرف وينقر.

تحدث الرجل بنبرةٍ مُهدئة وهو يلفُّ السنونو بقطعةٍ من القماش ويضعه داخل معطفه: «والآن اهدأ يا صديقي!»

انسلَّ الرجل نحو أحد الجلاميد الأخيرة الموجودة بالقرب من حافة القمة الجبلية.

قال للسنونو، الذي كان يقاوم ويُحدِث هَرْجًا: «إذن. هي مُتنكرة في هيئة فتاة. حتى النمر يُمكنه أن يتنكر في هيئة حمَل وديع. هذا لا يُغير من حقيقة كونه نمرًا.»

وبعد ذلك، أخرج الرجل سكينًا.

صرخ الغراب «كاو!». وكان يعني: «لونا!»

«كاو!»

«اهربي!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤