الفصل الخامس عشر

أبو الطيب المتنبى

(١) سيرورة شعره — قوة المتنبى — عناصر قوته١

لى عامان وبعضُ عام لم أر ديوان المتنبى. وكنت قبل ذلك لا أدمن قراءته، ولا أكثر من مراجعته، وإذا تناولته لا أعكف عليه عكوفى على غيره من شعراء العرب من مثل ابن الرومى والمعرّى والشريف، وقد أبدأ القصيدة فلا أتم قراءتها. وربما استوقفنى بيت فى أول مقطع منها فأضع الديوان وأذهب آخذ فيما فتحه لى البيتُ من أبواب التفكير. ولا أزال ماضيًا على سننى حتى أنسى الشاعر وما قرأت له. ولا أذكر أنى قرأت له فى حياتى قصيدتين فى يوم واحد.

ولكنى على شغفى بغيره، وقلة إقبالى ومواظبتى عليه، وطول الفترات التى قد تمضى قبل أن أعود إليه — أقول على الرغم من كل ذلك أرانى أحفظ من شعره أكثرَ ممّا أحفظ لسواه، وإن لم أكن بالقوى الذاكرة، ولا بالذى يحفظ لشاعر، كائنًا من كان، شيئًا يُذكر مهما بلغ من حبى له وكثرة مطالعتى لكلامه. وقد أنسى له البيتَ كنت أظننى ذاكرَه ولكنى لا أنسى معناه. وقد تعابثنى الذاكرة فلا أجد حتى المعنى حاضرًا، ولكنى على هذا أحسه، وإن كان يعيينى تحديده وإيضاحه، وأشعر كأن أثره شائع فى صدرى، مستفيضٌ فى جوانب نفسى، مالئ لشعاب قلبى. فأقنع بهذا الإحساس الغامض وأستغنى به عن المعنى الذى أحدثه، وأستشعر الرضا والغبطة كأنى حللتُ مشكلًا أو جلوت معمّى.

ولقد فقدت نسخة ديوانه — أو بعتُها — فلم أشعر بإلحاح الحاجة إليه. وكنت كلما نازعتنى نفسى أن أشتريه أقول: ما ضرورة ذٍلك؟ أليس خيرًا أن يحيا المتنبى فى نفسى من أن يعيش على رف فى المكتبة؟ أترى الغاية من الأدب هى اقتناء الكتب؟ لا. وليست هى أن يكون المرءُ كثيرَ الحفظ أو مدمن القراءة لما لا ينتفع به. وحسب المرء من الكتب أثرها فى نفسه وفعلها فى تهذيبها ورفع مستواها وصقلها. ولخيرٌ له أن يقرأ، وينسى لفظ ما قرأ بل معناه أيضًا، ما دامت الفائدةُ قد حصلت. والنفس إذا كانت خصبة مستعدة تنمى البذرة التى غرست فيها، وليس يمنع النماءَ أن البذرة تحت التراب مدفونة.

ولكن لماذا يبقى عندى من كلام المتنبى ما لا يبقى من كلام سواه؟ الذاكرةُ واحدة وليس هو بأحب إلىّ وأعز علىّ من الشعراء الفحول غيره؟ أيكون تعليل ذلك أن حُفّاظ شعره كثيرون وأن أبياته متداولة ملوكة تُساق فى كل معرض من معارض الاستشهاد والاقتباس، وأن كثرة سماعى لشعره من أفواه الناس ورؤيتى إياه موردًا فى غضون الكتابات — كل ذلك كان من اثاره أن علقت أبيات كثيرة له بذاكرتى؟ هذا التعليل لا يزحزح المسألة عن موضعها قيد أنملة. ويبقى بعد ذلك أن نسأل: لماذا نرى الناس أحفظَ لشعره وأكثر رواية وتمثلًا به منهم لشعر غيره؟ وكل ما هنالك من الفرق أن دائرة السؤال اتسعت فصارت عامة تشمل الناس جميعًا بعد أن كانت خاصة قاصرة على كاتب هذه السطور؟

وعندنا أن علة هذه السيرورة التى رُزقها شعرُ المتنبى هى أن فى شعره «قوةً» تخطئها فيمن عداه من مشاهير شعراء العرب. وإذ كنا لا نحب أن يكون كلامنا مبهمًا فالأولى والأمثل أن نخرج من هذا التعميم إلى التخصيص، وأن نبين مظاهر هذه «القوة» فى المتنبى وقد لا نحصيها أو نستطيع الإتيان على أكثرها، ولكن هذا لا قيمة له ولا خطر، وليست غايتنا الاستقصاءَ فإن المقام أضيق من أن يتسع له، والوقت أقل من أن يعين عليه. على أنه لا حاجة بنا إلى التقصى وحسبنا أن ندل المحتاج من القراء إلى الطريق وليسر هو بعد ذلك على الدرب.

لم يكن المتنبى من المكثرين بل من المقلين، وهو على على إقلاله لا يُطيل قصائده. وقد حسب له الواحدى ما اشتمل عليه ديوانه فبلغت عدة أبياته خمسة الاف وأربعمائة وتسعين، وهذا كل ما قاله فى أكثر من خمس وثلاثين سنة. وقد قال ابنُ الرومى مثلًا فى ثلاثين من قصائده الطوال أكثر من هذا. وهذا على الرغم من طول اتصاله بسيف الدولة وكافور خاصة وبغيرهما من مثل ابن العميد وعضد الدولة. وهذه رواية صاحب «الصبح المنبى»، قال إن أبا فراس الشاعر قال يومًا لسيف الدولة وكان قريبه: «إن هذا المتسمّى كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة الاف دينار على ثلاث قصائد» وهى رواية قريبة من الصحة وإن لم تكن فى الصميم من حبة الصواب؟ لأن المتنبى إنما كان يقول الشعر فى سيف الدولة إذا عرضت مناسبة لذلك كغزوة أو نحوها ولم يكن فارضًا على نفسه أن يقول ثلاثَ قصائد فى كل عام، ولكن العبارة صحيحة فى دلالتها على أن المتنبى كان يُقل من الشعر ولا يكثر، وأنه كان أشبه بصديق لممدوحه منه بشاعرٍ وظيفته الثناءُ عليه.

وكان المتنبى فضلًا عن ذلك يستنكف أن ينشد وهو قائم، وقد بدأ حياته بالتطلع إلى ولاية أمرٍ من أمور الدنيا ولم يزل يطمع فى ذلك إلى أن وافاه الحينُ. وفى هذا وحده، فضلًا عن حوادث حياته، دلالة كافية على روحه وأنه من أصحاب الشخصيات القوية التى خُلقت للكفاح والنضال لا للاستخذاء والتمسح بالأقدام.. وهذه الشخصية البارزة ظاهرةٌ فى شعره وحسبك شاهدًا عليها أنه لما شعر بتغير سيف الدولة دخل عليه وأنشده قصيدةً يعاتبه بها، وفيها يقول:

وما لى إذا ما اشتقتُ أبصرت دونه
تنائف لا أشتاقها وسباسبا
وقد كان يُدنى مجلسى من سمائه
أحادث فيها بدرها والكواكبا
أهذا جزاء الصدق إن كنت صادقًا؟
أهذا جزاء الكذب إن كنت كاذبا؟

وهو أشبه بالمحاسبة منه بالمعاتبة. وأدل من ذلك قصيدته التى مطلعها:

واحرَّ قلباه ممن قلبه شبم

وفيها يقول:

يا أعدل الناس إلا فى معاملتى
فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ
أعيذها نظراتٍ منك صادقةً
أن تحسب الشحمَ فتمن شحمُه ورم

(يعنى أبا فراس وحزبه).

سيعلم الجمعُ ممن ضمّ مجلسنا
بأننى خيرُ من تسعى به قدم
انا الذى نظر الأعمى إلى أدبى
وأسمعتْ كلماتى مَن به صمم
أنام ملء جفونى عن شواردها
ويسهر الخلْقُ جرَّاها ويختصم
وجاهلٍ مدَّه فى جهله ضحكى
حتى أتته يدُفراسة وفم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة
فلا تظنَّنَّ أن الليث يبتسم

إلى أن يقول:

يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شىء بعدكم عدم
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة
لو أن أمركم من أمرنا أمم
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وبيننا — لو رعيتم ذاك — معرفةٌ
إن المعارف فى أهل النهى ذمم
كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم
ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفى
أنا الثريا، وذان الشيب والهرم
إذا ترحلتَ عن قوم وقد قدروا
أن لا تفارقهم فالراحلون هم
شر البلاد بلاد لا صديق بها
وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
وشر ما قنصته راحتى قنص
شهبُ البزاة سوا: فيه والرخم
هذا عتابك إلا أنه مقة
قد ضمن الدرَّ إلا أنه كلم

وليس هذا بكلام مداح مأجور وما كان ليصدر عنه لولا شعوره بنفسه وبحقه، وأنه فوق أن يُعَدَّ أحد الأذيال. وقد أنس إليه سيف الدولة على أثر هذه القصيدة وعاد فأدناه، وقال بعض الرواة وقبَّل رأسه وأجازه.

ومن الإطالة فى غير محل لذلك أن نفيض فى بيان شعور المتنبى بنفسه، ومعرفته لقدره، وطموحه وبروز شخصيته، وكفى دليلًا على ذلك قوله فى أمه:

ولو لم تكونى بنتَ اكرم والد
لكان أباك الضخمَ كونُك لى أمّا

وهو فى شعره يأخذ بيدك إلى ما يريد مباشرة، ولا يطيل اللف والدورانَ معك إلى غايته. وهذا من أسباب القوة. وليس ممن يهذرون ولا يقدرون قيمةَ الاقتصاد أو يحشون كلامهم بما يراد به التظاهرُ والمفاخرةُ بسعة المجال وطول الباع. بل هو يدفع إليك المعنى الذى فكر فيه وأنضجه، تامّا محبوكًا لا يحتاج إلى زيادة ولا يتأتى نقصُ حرف مما عبر به عنه، كقوله:

ومن عرف الأيامَ معرفتى بها
وبالناس، روَّى رمحه غير راحم
فليس بمرحومٍ إذا ظفروا به
ولافى الردى الجارى عليهم باَثم

ثم يتركك وشأنك وما يبدو لك فى هذا الذى ألقاه إليك. إذا شئت خالفته أو وافقته، أما هو فينام كما يقول ملء عينيه ولا يبالى كيف وقع كلامُه من نفسك بعد أن ألقاه بلهجة الجزم القاطعة التى لا تردد فيها.

ولو كان غيره مكانه لمهد لهذا المعنى وراح يسوق الحجج والأمثلة والشواهد على صحته وسداده حتى يملك، ولأغرق هذه الخلاصة فى بحر من الكلام حتى تعود وليس لها أثر محسوس. وأين من يدعى مثلًا أن المتنبى هو الوحيد الذى له معان مستجادةٌ وأبيات متخيرة وأمثال حكيمة؟ أليست دواوين الشعراء حافلة بنظائر ما فى شعر المتنبى؟ ولكنها ليست سائرة على الألسن لأن أصحابها لم يُرزقوا رجولة المتنبى التى تخرج البيت مخرج المثل، ولم يمنحوا مثله إحكام التسديد إلى الغاية، والاقتصاد إلى الحد الواجب، وحسن تخير الألفاظ التى يؤدى بها المعنى، والحلاوة فى سبكها وتعليق بعضها ببعض. وهى صفات قلما يخلو منها شاعرٌ كبير، ولكنها لا تؤدى إلى مثل ما تحسه من القوة فى شعر المتنبى إلا إذا اجتمعت.. ولو أنه كان كابن الرومى مولعًا بشرح المعنى وتصفيته والتوليد منه، أو كالشريف كَلِفًا بفخامة اللفظ ورنة الأسلوب وجزالة التعبير، أو كمهيار فى حشوه وفتور روحه، أو كالمعرى فى التردد وكثرة المو ازنة والتحليل — نقول لو أنه كان كهؤلاء لما أجدتْ عليه مزاياه الأخرى. نعم كان يكون له محلّ رفيع بينهم ولكن شعره لم يكن ليسير هذا المسير، ولا كانت الأمثال والحكم تكثر فيه هذه الكثرة. وقد لا توافقه على ما يذهب إليه من الرأى ولكنه لا يسعك إلا أن تحترم منه ما تحسه فى شعره من عمق الاقتناع، ومن قوة الجزم البات، وإلا أن تتأثر بطريقته المباشرة فى العبارة عن فكرته، وأن تشعر بقيمة اقتصاده وما ينم عليه ذلك من يقينه أن الأمر لا يحتاج إلى إطناب وإسهاب، وأنه بديهى يُلمس السدادُ فيه ويحس وإلا أن تفتنك موسيقية الأسلوب وحلاوته وإن كانت أشبه بموسيقى الحرب!

ولكن المتنبى كثيرًا ما يُزهى بقوته هذه فيسىء استعمالها ويأتى بالثقيل الذى تستك منه المسامع، وبالضعيف المهلهل. ولهذا كثرت السفاسف وحفل بها شعره وإن كان كثير من ذلك مما قاله فى صباه أو مما تعمده ولا عجب! فإن عثرة الوثَّاب شديدة.

(٢) شخصيته وجوانبها — موقفه من كافور

يقول ابنُ رشيق فى كتاب العمدة: «ثم جاء المتنبى فملأ الدنيا وشغل الناس».. ووُفق بهذه العبارة الوجيزة إلى ما عجز عنه سواه من النقاد والشراح والخصوم والأنصار. والواقع أننا لا نعرف شاعرًا اَخر كان له من الشأن ما كان للمتنبى، أو أحدث فى عالم الأدب مثل ضجته، وأثار من العداوات المرة بعض ما أثار، حتى ولا ابن الرومى الذى بسط لسانه فى كل عرض حتى خافه القاسم وأشفق أن يستطيل عليه بمثل ما وصم به غيره فدعاه إلى الطعام ودس له السم فيه. وحسبك دليلًا على عمق ما تركه المتنبى من الأثر فى بعض النفوس قولُ الجرجانى عن فريق خصومه إنه (أى هذا الفريق) «يسابقك إلى مدح أبى تمام والبحترى ويسموِّغ لك تقريظَ ابن المعتز وابن الرومى حتى إذا ذكرتَ أبا الطيب ببعض فضائله وأسميته فى عداد من يقصر عن رتبته امتعض امتعاض الموتور ونفر نفارَ المضيم فغض طرفه وثنى عطفه وصعَّر خده وأخذته العزة بالإثم».

ولا يُعقل أن تكون علةُ ذلك أن شعر المتنبى يهيج هذا النفارَ ويغرى بذلك الامتعاض ويشعر القارئ كأنه بطبيعته وتر أو ضيم. فإنا نقرؤه فى عصرنا هذا فنوافقه أو نخالفه ونستجيد قوله أو نسترذله ونعجب به أو لا نُعجب، ولكنا لا نحس شيئًا من هذا الذى يصفه الجرجانى فى كتاب الوساطة. ولا شك فى أن الناس كانوا مثلنا على عهده ولكنهم كانو ا فريقين: فريقًا يراه ويعرفه ويبلو منه بعض صفاته، وفريقًا لا يتأدى إليه سوى شعره ولا يحكم عليه إلا به وبأخباره مثلنا. وقد روى عن أحد النحاة، واسمه أبو على الفارسى، أن بيته كان فى طريق المتنبى إلى عضد الدولة. وكان أبو على هذا يستثقله ولا يرتاح إلى ما يأخذ به نفسه من الكبرياء. وكان ابن جنى كثير الإعجاب بالمتنبى يكره من يذمه ويحط منه ويسوءه إطناب أبى على فى ذمه.. واتفق أن أبا على هذا قال يومًا: «اذكروا لنا بيتًا من الشعر نبحث فيه».

فبدأ ابن جنى فأنشد:

حلتِ دون المزار فاليوم لو زر
تِ لحال التحولُ دون العناق

فاستحسنه أبو على واستعاده، وقال: لمن هذا البيت فإنه غريب المعنى؟

فقال ابن جنى للذى يقول:

أزورهم وسوادُ الليل يشفع لى
وأنثنى وبياضُ الصبح يُغرى بى

فقال: والله هذا أحسن فلمن هذا؟ فقال: للذى يقول:

ووضع الندى فى موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف فى موضع الندى

فقال: وهذا أحسن والله! لقد أطلت با أبا الفتح فأخبرنا من القائل؟ قال: هو الذى لا يزال الشيخ يستثقله ويستقبح فعله وزيه! وما علينا من القشور إذا استقام اللب؟ قال: أظنك تعنى المتنبى؟ قال: نعم، قال: والله لقد حببته إلىّ إلخ إلخ.

نقول: ونحن لا نطمئن كثيرًا إلى أمثال هذه الروايات ولا نمنحها ثقتنا التامة، ونشتم من أكثرها رائحة التأليف والاختراع، ولكن هذه الرواية فى ذاتها معقولة وإن كان يلاحظ أن ابن جنى لم يتخير أجودَ ما للمتنبى وما يصح أن يبهر من شعره، ولكنا نحسب ابن جنى تعمد ألّا ينشد من كلام أبى الطيب ما عليه طابعه الخاص، مخافة أن يفطن أبو على فيزهد فى الاستزادة ويفوت على ابن جنى غرضه ويقطع عليه متوجهه، فاثر صاحبنا أن ينشده من الأبيات ما قدر أن يكون أوقع فى نفس لغوى نحوى مثل أبى على الفارسى: على أننا إنما سقنا هذه القصة شاهدًا على أن «شخصية» المتنبى هى التى أقامت قيامةَ الناس فى زمنه وجعلتهم لا يعدون فريقيين: أنصارًا متعصبين، وخصومًا متعنتين. وذلك ما تفعله كل شخصية قوية كالعاصفة لا يبقى أحد إلا عُنى بها واكترث لها.

وما حاجتنا إلى القصص والأخبار نسوقها ونستشهد بها على ضخامة شخصية المتنبى؟ إن شعره أصدقُ راوٍ وأوثق شاهد. وإذا كنا فى حاجة إلى شاهد من غيره فكفى ما قاله رجل ساذج بفطرته فى رثاء المتنبى لما بلغه قتله، وهو رجل يدعونه أبا القاسم المظفر بن على الطبسى لا نحسب أديبًا قرأ له أكثر من هذه الأبيات:

لا رعى الله سربَ هذا الزمانِ
إذ دهانا فى مثل ذاك اللسانِ
ما رأى الناس ثانى المتنبى
أى ثانٍ يُرى لبكر الزمان؟
كان من نفسه الكبيرة في جيش
وفى كبرياء ذى سلطان
هو فى شعره نبىّ ولكنً
ظهرت معجزاته فى المعانى

والبيت الثالث هو الشاهد. وقد فطن فيه صاحبنا أبو القاسم إلى الحقيقة.. وانظر بعد ذلك إلى قول المتنبى نفسه من قصيدة له يهنئ فيها كافورًا ببناء دار:

فارم بى ما أردتَ منى فإنى
أسدُ القلب، آدمىُّ الرواء
وفؤادى من الملوك، وإن كا
نَ لسانى يُرى من الشعراء

وإنه لكذلك، وما به من عيب إلا ما تكشف عنه الشهرة. والشهرة إذا استفاضت، صار صاحبها هدفا لعيون الخلق وألسنتهم، تلك تفلى وتنقب، وهذه تروى وتسرد، حتى تعود كل كلمة لصاحب الشهرة محفوظة، وكل حركة ملحوظة، وكل عمل محسوبًا، وكل رأى مكتوبًا، وحتى تشغل التوافهُ من أعماله، والفلتاتُ من حركاته أو أقواله، أكثر من محلها الصحيح. فيشتهر بالبخل وقد لا يكون كزّا بخيلًا، ويوصم بالجبن ولعله أجرأ ذى قلب، وهذا هو الذى مُنى به المتنبى.

ولقد ذكرنا فى مقالنا السالف أنه لم يكن يعد نفسه شاعرًا يُثنى على سيف الدولة ويدوِّن وقائعه وحسناته ويمشى فى ظله، بل صديقًا وكفئًا، وأوردنا من شعره بعض ما ينم على ذلك. ولم يكن حيال كافور إلا كذلك. تأمل قوله وهو يهنئه:

وأنا منك، لا يُهنئ عضوٌ
بالمسرات سائرَ الأعضاء

ولو سوى المتنبى لشعر بالضعف أمام القوة المادية التى يملكها الملوك الذين غضب عليهم وجفاهم وهجاهم. ولكنه كان يشعر بقوة لدُنّيَّة تكافئ فى نظره قوة الجيوش وبأسها، بل كان يحس أن فى وسعه أن يعتو ويسطو كذلك على العاتين والساطين. فمن ذلك قوله لما خرج من مصر:

لتعلم مصرُ ومن بالعراق
ومن بالعواصم أنى الفتى
وأنى وفيتُ وأنى أبيت
وأنى عتوت على من عتا

ولو شاور الحزمَ الدنيوى لما أصدر هذا الإعلان، ولا أشهر هذا الإنذار، ولخطر له أن يتقرب إلى من نابذهم قبل مضيه إلى مصر كسيف الدولة على الأقل. ولكن المتنبى ليس من هذا الطراز لأنه لا يعرف ضعف النفس ولو خلت يده من كل وسائل البطش وكثر عُداته وقل إخوانه. فنفسه أبدًا شابَّة قوية على الأيام كما يقول:

وفى الجسم نفسٌ لاتشيب بشيبه
ولو أن ما فى الوجه منه حراب
يغير منى الدهرُ ما شاء غيرَها
وأبلغ أقصى العمر وهى كعاب

لا يكربه أن يفارق وطنه إذا نبا به مقامه فيه، ولا تحز فى عظامه الفاقةُ ولا يلين عزمه بُعْدُ الشقة وكثرة الأعداء وقلة الأسباب إذا وجد ما يركب فيها، وإلا فالسير فى المهامه والقفار على الأقدام أشرف وأفخر وأمثل به:

غنىٌّ عن الأوطان لا يستفزنى
إلى بلدٍ سافرت عنه، إياب
وعن ذملان العيس إن سامحت به
وإلا ففى أكوارهن عقاب

وماذا يهمه؟ إن مطلبه ضخم ومراده عظيمٌ، وعلى قدر علو المطلب تكون صعوبة المرتقى، وهو لعظم ما يحس من ذات نفسه يدرك أنه وحيد فى هذه الدنيا، فوطنه وغيره سواء:

أهمُّ بشىء والليالى كأنها
تطاردنى عن كونه وأطارد
وحيد من الخلان فى كل بلدة
إذا عظم المطلوب قل المساعد

وهو لعظم رجولته يستنكف من صفات النساء ويتبرأمما يُجَمِّلهن حتى من غير أن تدعو مناسبةٌ إلى هذا التبرؤ، ويقول «وما بى حسن المَشَى» أى إنه ليس جميل المشية، والواقع أنه كان مشَّاءً قويّا صبورًا على المشى سريعًا فيه، حتى زعموا أنه كان يوهم أغرارَ البدو أن الأرض تُطوى له.. وبلغ من ذلك أنه لما رثى خولة أخت سيف الدولة نعتها بصفات الرجال وأخرجها من جنسها، ولم يرض إلا أن يجعلها «غير أنثى العقل»! وإن كانت قد خلقت أنثى، وإلا أن يفضلها على عشيرتها التى نمتها، وذلك حيت يقول:

فإن تكن خُلقت أنثى لقد خلقت
كريمةً غير أنثى العقل والحسب
وإن تكن تغلبُ الغلباء عنصرَها
فإن فى الخمر معنى ليس فى العنب

ومثل ذلك رثاؤه لعمة عضد الدولة حين أشار إليها بضمير المذكر وقال إن حسن ذكرها ينم على تذكيرها:

يحسبه دافنه وحدَه
ومجدُه فى القبر من صحبه
ويظهر التذكير فى ذكره
ويستر التأنيث فى حجبه

قد يقال: إذن فما بال هذا الرجل القوى العاتى لا يرى أن يقصد إلا كافورًا بعد أن فارق سيف الدولة على حين كان كثير من الأمراء يتوقون ويشتهون أن يقدم عليهم، فأحقدهم باطراحه إياهم وصمده إلى كافور؟ والجواب: إنه لم يمدح كافورًا لأنه راة أهلا لمدحه، بل طمعًا فى ولاية بعض أملاكه، كما هو مشهور معروف. أما المدح فإنا والله نراه تهكَّم به ولم يثن عليه. وما قرأنا له قصيدة فى كافور إلا عثرنا فيها على بيت أو أبيات تُشعر بأن المتنبى كان يركبه بالدعابة ويرى نفسه أجل وأخطر شأنا من أن يمدحه.. ونورد لذلك بعضَ الشواهد. قال:

أنت أعلى محلةً أن تُهنى
بمكان فى الأرض أو فى السماء
ولك الناسُ والبلاد وما يسر
ح بين الغبراء والخضراء

فمن يرى فى قوله هذا مدحًا؟ أى امرئ يقال له هذا ولا يدرك أنها مبالغةٌ قد جاوزت كل حد مع أعظم التسامح حتى انقلب هجاءً؟ ومن الذى يرضيه أن يقال لهإن لك ما بين السماء والأرض؟ أليس هذا فراراً التهنئة؟! قد يقال: ولكن المتنبى كثير المبالغات وتلك عادته، حسن! فتأملو إذن قوله واذكروا أن كافوراً أسود الجلد:

يفضح الشمس كلما ذرَّت الشمس
بشمس منيرة سوداء

شمس سوداء تفضح شمس النهار؟! ولقد اضطر المتنبى لما نظم هذا البيت أن يفسر المعنى و يؤوله على خلاف عادته من إلقاء الكلام وترك الناس وشأنهم فيه، وجارى ابن الرومى فى هذه المره فقال:

أن فى ثوبك الذى المجد فيه
لضياءٌ يزرى بكل ضياء
إنما الجلد ملبسٌ وابيضاض النفس
خير من ابيضاض القباء

ولم يكتف بذلك بل راح يقول له فى القصيدة نفسها: إنه أمل العيون! وماذا ترى العين فى كافور الأسود، الضخم البطن، القبيح السحنة، الغليظ «المشفرين»؟

«يا رجاء العيون» فى كل أرض
لم يكن غير أن «أراك» رجائى

أيمكن أن يستقيم المعنى ويعقل إلا على تأويل واحد هو أنه اشناق أن يبصر عبد السوء هذا الذى صارت له فى مصر دولة كما يحب المرء أن يرى قردا يقلد الآدميين مثلاً؟

وأدل على شعور المتنبى وهو يمدح كافوراً قوله من قصيدة آخرى!

أما تغلط الأيام فىّ بأن أرى
بغيضا تنائى أو حبيبا تقرب؟

ومن أقرب إليه يومئذ من كافور وأبعد من سيف الدولة؟ وما الداعى إلى ذلك، والمناسبة لا تستوجبه؟ ولم يكتف ببيت واحد بل أنشأ يقول بعد أن وصف سيره وقدومه إلى مصر:

عشيةَ أحفى الناس بى من جفوته
وأهدى الطريقين الذى أتجنَّب

وهل من المدح أن يقول لك قادم عليك إن أرشد الطريقين هو الذى تجنبته وأضلهما الذى سلكته؟ وقد زاد المتنبى الطين بلة فقال:

وما طربى لما رأيتك بدعة!
لقد كنتُ أرجو أن أراك فأطرب

فجعله هزأة وأضحوكة وقرر أن لا غرابة إذا طربت لما رأيته. وقد فطن ابنُ جنى إلى أن المتنبى أراد الاستهزاء فقال: «لما قرأت عليه (على المتنبى) هذا البيت قلت: جعلت الرجل أبا زنة! (وهى كنية القرد) فضحك».

وشر من ذلك وأدهى قوله بعد هذا البيت:

وتعذلنى فيك القوافى وهمتى،
كأنى بمدحٍ قبل مدحك مذنب

والشطر الأول صريح فى السب والهجاء، وإن كان قد رقعه فى الشطر الثانى.

وحسبنا أن أبا الطيب لما انصرف عن مصر شعر بأن عليه أن يعتذر للأدب عما تكلفه من مدح كافور، فقال ما معناه أن الناس هم الذين أحوجوه إلى مدحه، وأن هذا المدح كان عبارة عن هجاء للخلق لأنهم اضطروه إلى أن يقصده، وهذا قوله:

وشعرِ مدحتُ به الكركدن
بين القريض وبين الرُّقى
فما كَان ذلك مدحا له
ولكنه كان هجوَ الورى

ولم يكن يخفى عن كافور أنه ما قصده حبّا فيه بل ليستعين به على كبت خصومه، فقد كان يقول له فى وجهه إن قومًا خالفوه فى مجيئه إلى كافور ولم يسايروه إليه استنكافًا فذهبوا شرقًا وحضر هو:

وما شئتُ إلا أن أذل عواذلى
على أن رأيى فى هواك صواب
وأُعلِم قومًا خالفونى فشرّقوا
وغرّبت، أنى قد ظفرت وخابوا

وما هذا من المدح فى شىء على الرغم من احتراسه فى الشطر التالى من البيت الأول.

(٣) اعتراض مدفوع — المتنبى ومظاهر الرقة — طماحه — بعض مشابه من نابليون

تلقيت اليوم رسالة من الأستاذ الشيخ عبد العظيم يوسف ينكر فيها علىَّ بعض ما ذهبت إليه فى كلامى عن شخصية المتنبى ويؤاخذنى على قولى «وهو لعظم رجولته يستنكف من صفات النساء ويتبرأمما يُجمِّلهن حتى من غير أن تدعو مناسبةٌ إلى هذا التبرؤ، ويقول «وما بى حسن المَشَى» أى إنه ليس جميل المشية والواقع أنه كان مشّاءً قويّا صبورًا على المشى سريعًا فيه … إلخ».

وأنا أجتزئ من رسالة الأستاذ بما يمس الموضوع دونى. قال تعليقًا على هذه الكلمة:

«وهذا رأى إدٌّ لا تغتبط الحثالة من الأقنان إذا امتدحت به، ولا ترتاح السفلة من الدهماء إذا ألبسته، بله ذا البطولة كالمتنبى، فصرف هذه الصفات إلى مزنون بالتخنث أحق وأجدر، فأرجع فيها بصرك كرة أخرى. ولقد ظهر منك بعض التردد والإنكار لهذا الوصف إذ تقول: «من غير أن تدعو مناسبة إلى هذا التبرؤ». ومنشأ ما فرط وهمك إليه فيما أحسب، هو اقتطاعك لجزء فى بيته عما يلتحم به قبله وبعده، وتأويلك له على حسب ما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة من لفظه، فجاء معناه كما ترى.

«وقبل مساق البيت مشدودًا بأواخى أخويه، أقول إن قول العرب «ما بى كذا» مثلًا معناه ما أكترث به وما أهتم له وما أباليه. أما الجزء المذكور فمن قصيدته التى أثبتها عند وصوله الكوفة من مصر يهجو كويفيرها ونواطيرها الغافلين عن أعمال الثعالب ويصف منازل سيره التى اجتاب ومصاعب سبله التى اجتازَ بقوله:

ألا كلُّ ماشيةِ الخيزلى
فدى كل ماشية الهيدبى
وكل نجاة بَجاويةٍ
خنوف — وما بى حسن المشى
ولكنهن حبالُ الحياة
وكيد العداة وميط الأذى

واضح جلىّ أنه يفدِّى الخيل والنياق وضروب سيرها بكل امرأة جميلة حسنة المشية، ويقول وما بى حسن مشى النسوة أى لا ابه ولا أحفل بمحاسن مشيهن. وتحتمل العبارة وجهًا آخر أن تكون الألف واللام فى «المَشَى» عوضًا عن ضمير مضاف إليه يرجع، لا إلى المرأة، لكن إلى الخيل والإبل، أى أنه لم يؤثرها على النساء لحسن مشيها على مشيهن، كلا فإنه لايهتم ولايحفل ما يشتغل به الضعفة من التلهى بالمحاسن البادية ولكنه اعتصم بها فوصل ساحل الحياة وشارف بر السلامة فأعاناه على كيد عداه وكبتهم ودفع أذاهم عنه. ذلك هو المعنى الفحلى تبرق أساريره بأشعة الصواب، وهو مراد أبى الطيب فى مقام المفاضلة بين الماشيتين».

نقول والذى يقرأ هذا يحسبنا وصمنا المتنبى بسبة، وطوقناه بعار! أو يتوهمنا على الأقل لم نفهم معنى البيت. وما فعلنا شيئًا من هذا وإنما أردنا أن نتخذ من قوله دليلًا على نزعته. ولا بأس من العود إلى هذه النقطة لنجلوها وندفع الإشكال فنقول إن «الخيزلى» هذه مشية يصفونها بأن فيها استرخاء وتفككا من مشية النساء، و«الهيدبى» مشية سريعة للإبل والخيل، و«النجاة» الناقة السريعة التى تُنجى راكبها والبجاوية نسبة إلى بجاوة وإليها تنسب النوق. ومعنى الأبيات الثلاثة: فدت كل امرأة تمشى الخيزلى كلَّ ناقة تمشى الهيدبى، أى أنه ليس من أهل الغزل وليس به حب النساء، وإنما هو رجل أسفار يحب كل ناقة سريعة السير توصل إلى الحياة وتكيد الأعداء وتدفع الأذى.

هذا هو المعنى الصريح الذى لا يحتاج إلى تأويل ولا يستلزم أن نحل الألف واللام محلَّ ضمير محذوف مضاف إليه، والذى لم نتردد كما يزعمنا الأستاذ فى استخلاص مدلوله وإضافته إلى أمثاله مما سقناه. وقد قلنا إنه رجل قوى عظيم الإحساس بالرجولة ومقتضياتها، وإن إحساسه هذا ظاهرٌ من استنكافه الطراوة والرخاوة، ونفوره من نسبة شىء من ذلك إليه فى نفسه أو فيما هو جاعلُه أداة إلى غايته.

وليقل الأستاذ ما شاء فإنه يبقى أن فى الأبيات تعريضًا بمشية النساء المسترخية، وذكرًا لزهادته فيها وعزوفه عنها، وهذا شأن أبى الطيب فى كل حالاته.. وهو لا يكره التطرى فى المشية وحدها، بل يتجاوز ذلك إلى كراهة الترف والنعومة فى جميع مظاهرهما. وإذا كان قد بقى بعد الذى سقناه فى كلمتنا السابقة مستزادٌ فإليك قوله من قصيدة يمدح بها كافورًا.

وفى الناس من يرضى بميسور عيشه
ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكنَّ قلبًا بين جنبىَّ ما له
مدى ينتهى بى فى مراد أحدّه
يرى جسمه يكسى شفوفًا تربّه
فيختار أن يكسى دروعًا تهدّه

والشفوف هى الثياب الرقيقة، وتربه أى تنعمه والمعنى ظاهر. يقول قلبى لا يطلب رفاهيةً لجسمه بأن يكسوه ثيابًا رقيقة ناعمة، وإنما يطلب لبس الدروع الثقيلة.. حتى الثياب الناعمة لا يرتاح إليها وإن كان مضطرّا إلى أن يلبسها، إذ كان لا يسع أحدًا أن يظل فى الدروع وحلق الحديد. وتراه حتى إذا اضطر إلى المفاضلة بين امرأة وامرأة، آثر الساذجةَ الجمال التى لا تكسب نفسها الحسن بالاحتيال والتى لا يكون حسنها إلا طبعًا لا مجلوبًا.. ومن قوله فى ذلك:

ما أوجُه المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفى البداوة حسن غير مجلوب
أفدى ظباءَ فلاةٍ ما عرفن بها
مضغَ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة
أوراكهن صقيلات العواقيب

لقد كان للمتنبى شغلان بمساعيه عن الحياة الرخوة، وعما يروق الضعفاءَ وأوساط الناس من العيش الناعم اللين. ولقد افتتح حياته بما ختمها به: يطلب ذلك «الشىء» الذى ليس له غايةٌ تعرف، أو حد يوصف والذى يبتر العمر كما قال فى صباه.

إذا لم تجد ما يبتر الفقرَ قاعدا
فقم واطلب الشىء الذى يبتر العمرا

وهو لا يعرف على وجه الدقة ماذا يريد من الأيام. نعم لقد طلب الحكم، وبغى أن يؤمر على الناس، ولكنى أحسب أن لو كان نال ذلك لما قنع به ولا قعد عن الطلب. ذلك أن نفسه تجيش برغبة جامحة عنيفة فيما تحسه من أبياته الاَتية، وإن كان لم يسعه، ولا يسعك تحديدُه.

ولا تحسبن المجد زقّا وقينة
فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريبُ أعناق «الملوك» وأن تُرى
لك الهبواتُ السود والعسكر المجر
وتركك فى الدنيا «دويّا» كأنما
تداولُ سمعَ المرء أنملُه العشر

هذا هو الذى يبتغيه. يريد أن يدوخ الدنيا وأن يترك فيها دويّا لا ينقطع أبد الدهر.. ولو شاعر غير المتنبى قال هذه الأبيات لجاء البيت الثانى على الأرجح هكذا.

وتضريبُ أعناق «الرجال» وأن تُرى
لك الهبواتُ السود والعسكر المجر

ولكن نفس المتنبى فوق هذا، أعناق الرجال العاديين يتركها لعسكره. أما هو فلا يضرب إلا أعناق «الملوك». ولو شاعر غير المتنبى قال هذا وراح فى كل شعره يطلب هذا المجد، ويذكر الفتكات البكر، لابتسم القارئ ابتسامة المسرور من هذه المبالغات الظريفة الجوفاء! ولكنك تقرؤها للمتنبى الفقير، الصغير النشأة، الذى زعموه ابن سقاء، وقال بعضهم فى هجائه أن أباه:

عاش حينًا يبيع بالكوفة الماء
وحينًا يبيع ماء المحيا

نقول تقرأ له هذا — وتلك نشأته — فلا تضحك ولا يخامرك شك فى صدقه وفى إخلاص سريرته حين يتحدت إليك بهمة نفسه ومطمح قلبه، وتحس أنه لو كان الحظ آتاه وحباه الملك لحاول أن يكون كالإسكندر المقدونى.

ولقد فخر غيره من الشعراء وباهوا بأصولهم، وحدثوا عن أطماعهم وطلبهم للمعالى، ولكنك لا تجد غيره يسمى مايطلبه «حقّا» له! انظر قوله فى مستهل قصيدة يمدح بها محمد بن سيار بن مكرم:

سأطلب «حقى» بالقنا ومشايخ
كأنهمُ من طول ما التثموا مرد،
ثقال إذا لاقوا — خفاف إذا دعوا —
كثير إذا شدوا — قليل إذا عدوا،
وطعنٍ كأن الطعن لا طعنَ عنده
وضرب كأن النار من حره برد
إذا شئت حفت بى على كل سابح
رجال كأن الموتَ فى فمهم شهد
أذم إلى هذا الزمان «أهيله»
فأعلمهم فدم، واحزمهم وغد
وأكرمهم كلب، وابصرهم عمٍ
وأسهدهم فهد، واشجعهم قرد
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوّا له ما من صداقته بدّ
بقلبى — وإن لم أرو منها — ملالة،
وبى عن غوانيها — وإن وصلت — صد

وبهذا الكلام الشامل يجبه ممدوحه.. ومن الغريب، بل مما له دلالة خاصة، أن أحفل قصائده بمثل هذا التحديث عن نفسه والإشادة بها أماديحه، وأن أخلاها من ذلك أهاجيه.. حتى لكأنه يتعمد أن يثنى على نفسه ويذكر فضلها قبل أن يتطرق إلى الثناء على ممدوحه!

ولم يكن من يقصدهم من الأمراء والملوك يستخفّون بشأنه، أو يقللون من خطره، أو لا يعتدون برأيه. فقد كان اهتمامهم لمعرفة حقيقة رأيه فيهم عظيمًا. يدلك على ذلك ما حكاه عبد العزيز بن يوسف الجرجانى، وكان كاتب الإنشاء عند عضد الدولة، عظيم المنزلة منه قال: «لما دخل أبو الطيب المتنبى مجلس عضد الدولة، وانصرف عنه، أتبعه بعض جلسائه وقال له: «سله كيف شاهد مجلسنا؟ وأين الأمراء الذين لقيهم منا؟». قال فامتثلت أمره، وجاريت المتنبى فى هذا الميدان، وأطلت معه هذا القول، فكان جوابه عن جميع ما سمعه منى أن قال: «ما خدمت عيناى قلبى كاليوم!». فاختصر اللفظ وأطال المعنى، وكان ذلك أوكد الأسباب التى حظى بها عند عضد الدولة».

•••

ولكن هذه النفس الكبيرة التى كان منها فى جيش، كما يقول صاحبنا أبو القاسم المظفر بن الطبسى، لم تخل من مواضع الضعف وإن كان لها من ظروف حياته ما يبررها أو يجعلها معقولة على الأقل، وأى نفس تخلو؟ ألم يكن نابليون زمن المروءة والفتوة؟ ألم يكن من أقل الناس كرمًا وأريحية ووفاء، ومن أخونهم عهدًا، وأغدرهم ضميرًا وأفجرهم يمينًا، لا يأنف أن يتدلى إلى سرقة الحق، أو يتسفل إلى الكذب، أو يحقد على رجل من أعوانه فيقتله أو يسمه؟ يظلم قواده وينشر فى صحيفته الرسمية ما يحب أن يُعرف عنه ما لا فيه للحق إنصاف. حتى بعد هويّه وبعد أن ذهب إلى منفاه كان يزور الحديث ويختلق الأباطيل ويقلب الحقائق؟ ولكنه على الرغم من كل ذلك عظيم بمزاياه وإن كثرت عيوبه. وكذلك المتنبى، وإن لم تكن العيوب واحدة.

وليس نابليون بالعظيم الوحيد فى الدنيا، ولم أسقه مثلا لأن المعايب مشتركة، بل «لبعض» مشابه نراها بين الرجلين: فكلاهما وضيع النشأة، على الأقل بالقياس إلى الذروة التى تسنماها والرفعة التى بلغاها كل فى ميدانه. وكان كل منهما يحفزه طلبُ المجد، ولا يدع له قرارًا دون أن يعرف لغايته حدّا. وكما أن المتنبى يرى أن المجد أن تترك فى الدنيا الدوى الذى يصفه، كذلك كان نابليون يقول: «ليست الشهرة إلا ضجة عظيمة كلما اشتدت كان ذلك أذيعَ لذكرك وأطير لشهرتك، ولتسلم أن القوانين والأنظمة والأمم كلها إلى فناء، ولكن ضجيج الشهرة دائم خالد لا يزال يدوى فى آذان الأجيال الآتية». وكلاهما كان يعلم أن لا وفاء ولا صداقة فى هذه الدنيا، ولا يرى ذلك ضائره. وكان نابليون يقول: «ما للرجال والرحمة والرقة؟ ذلك بالنساء أحرى. وأخلق بالرجال أن يكونوا كالسيف مضاء وكالطود ثباتًا، ومن لم يأنس من نفسه ذلك فليتنحّ عن ميادين الحرب والحكم». ويذكرنا ذلك قول المتنبى:

ومن عرف الأيام معرفتى بها
وبالناس، روّى رمحه غير راحم
فليس بمرحوم إذا ظفروا به
ولا فى الردى الجارى عليهم بآثم

ولكن بينهما على ذلك من الاختلاف ما بين اثنين عاش أحدهما بالفضيلة، ونجح الآخر فى حياته ثم هوى بغيرها.

(٤) سخافة وحكمة — مقتضيات الخلود — العفو (أو التعمد فى حكمة المتنبى)

أحكى للقارئ قصة شخصية تبقى سخافتُها بى عالقة وإن كنت قد تفاديتها، وتدل على مكان المتنبى من الفضل وحكمة الطبع، ولولا ذلك ما سقتها: صنعت يومًا قصيدة، هى قصة مروية على لسان بطلها، وجعلتُ الجحيم مسرحها، وتصورت فيها بعض ما يقع فى دنيانا هذه وما تجيش به نفوسنا من شتى العواطف والغرائز الأرضية. ونورد هنا بعض أبياتها فى موقف ليفهم القارئ المراد:

ذهبتُ أجوس خلال الجحيم
وأنفض أجوازها والحجر
فما راعنى غير مرأى اللعين
إبليس يرمقنى كالنمر
وأنصفه: إنه كيس
ظريف، وإن كان ينبوع شر
ولولاه آضت حياةُ الورى
كجنات ربك ذات السدر
جمال وليس له مدرك،
وخير ولكن من المفتقر؟
وإبليس، فا علم، أبو مرة،
له جرأة الليل إمّا اعتكر
غنى بقوته والجلال
لا يسأل الخلق أن ينتصر
سواء عليه أأنصفتَه
أم ارتدت ساحته بالعرر
وما كان يعدم من حزبه
رسولًا، وإن أعوزته النذر
فنازعنى الشوقُ أن أنتحيه
وخامرنى الخوف مما يسر
وأدرك أنى له وامق
وأنى مستعصم بالحذر
فحيا وأنغض لى رأسه
كما يفعل الأفعوان الذكر
وقال، وفى صوته نبرة
من السخر شائكة كالإبر
«رصيفى الجليل! إذا لم أكن
ركبت من الوهم شرَّ الحمر!
فإنك توشك أن تنثنى
!إلى الله مستغفرًا، لو غفر
ألا انظر فتاتك تحسو الهوى
!وتحتث مختارها المنبهر
يموج على عطفها شعرها
إذا أسقط الوجدُ عنها الأزر
تبارك خالق هذا الجمال
!ومشبعه بالشباب النضر
وطوبى لمن قد غدا لصقها
وإن عجّ من عنفها أو جأر
تعاطيه أنفاسها حرة
وتُلمسه جسمها والشعر
وتدفع فى صدرها وجهه
وتحنو على شعره بالثغر
وتجعل من معصميه لها
نطاقًا، وتدعوه أن يهتصر
وتنأى، وكلتا يديها له،
وتنآد من بعد إذ تنأطر
وتجذبه وهو فى غمرة،
وتورده، ويشاء الصدر!
وتجلو مفاتنها لاتضن
عليه بشىء ولاتدخر
ويأبى الغرير سوى أن يفر!
فواهًا له من سعيدٍ بطر!

وكنت ضنينًا بها، مزهوّا بفكرتها، أحملها معى إلى حيثما ذهبت. ثم ضاعت منى مسودتها — ولا أدرى كيف حدث ذلك — كما ضاع غيره! فأسفت، ولبثت زمنًا أشكو افتقادها إلى إخوانى.. وزاد فى ألمى أنى لا أذكر منها إلا كلمات أو أبعاض شطور لا خير فيها، ولعلها أردأ ما فى القصيدة. وانقضت شهور وشهور، وهى بين العين والقلب، والذاكرة كإخوان ماعهدتها. ثم أصبحت يومًا على ذكر ماكس نورداو، فتناولت كتابا له فإذا فيه المسودة الضائعة! وفى هذا اليوم نُعى إلينا ماكس نورداو فأحسست بدافع إلى الموازنة بين مقدارى الخسارة والربح، وإلى المقابلة بين العواطف المتعارضة التى حركتها فى النفس وفاةُ هذا العالم الكبير واهتدائى إلى قصيدتى التائهة! ولم يزل يخب بى التفكير ويوضع بهذه المناسبة حتى ذكرت قول أبى الطيب من قصيدة يرثى بها مولى تركيا لسيف الدولة اسمه يماك:

سُبقنا إلى الدنيا، فلو عاش أهلها
مُنعنا بها من جيئة وذهوب
تملكها الآتى تملك سالب
وفارقها الماضى فراق سليب
ولا فضل فيها للشجاعة والندى
وصبر الفتى لولا لقاء شعوب

فعدت إلى قصيدتى وتناولت مسودتها ومزقتها بيدى غير آسف على تمزيقها!

•••

وأنت أيها القارئ أفهمت؟ لا أدرى! ولكن الذى أدريه أنى قلت لنفسى إن المتنبى أصاب كبد الحقيقة حين قال إن الموت هو علةُ الشجاعة والكرم والصبر، ولو اتسع مصراعا البيت لقال إنه مبعث كل الصفات والعواطف والغرائز الإنسانية جليلها ودقيقها وشريفها ووضيعها. وما على من شاء إلا أن يتصور أن الله حبا الناس الخلود وحماهم الموت: أتظن أن غرائز الإنسان يكون لها حينئذ محل أو عمل؟ المرء خالد. ومتى كان الخلود مضمونا والموت مأمونًا فلا عمل لغريزة حفظ الذات ولا حاجة بالإنسان إلى الطعام يدفع به غائلة الجوع — وهو أبسط مظاهر الغريزة — لأنه لا غائلة هناك، وتقوى به جسمه لأنه لا حاجة إلى القوة ولا خوف أن يعتريها نقصان أو يصيبها كلال. ولا لزوم للسعى والكدح إذ لا طائل تحتهما ولا ضير من رفع مؤونتهما. والاجتهاد يبطل وتذهب معه كل ما عسى أن يوفق الإنسان إليه من العلوم والمعارف والاختراعات والاستكشافات. فيعيش الإنسان على أتم ولاء وأصدق وداد مع الميكروبات التى تفتك بالعالم الآن، ويلقى بنفسه فى أطغى لجج اليم وكأنه يتمطى على فراشه الوثير، ويساكن الوحوش الضارية التى لم تعد أنيابُها ومخالبها تؤذى وتردى. ويهدم المساكن ويرمى بالثياب ويؤثر العرىَ، إذ ما حاجته إليها؟ وأى سوء يتقيه بها؟ ولا يعود «.يستحيى» أن يمشى هكذا عاريًا — كما سنثبت ذلك — بل لا يعود يحس حتى الحاجة إلى النوم لأن جسمه مركب بحيث لا يضمحل ولا ينتابه التداعى أو يعدو عليه الفناء. ولا يبقى ثم فرقٌ بين إنسان وإنسإن: لا شجاعة، لأن معنى الشجاعة الإقدام على الخطر أو مايتوهمه المرء خطرًا، وليس هنإك خطر ما، ولا كرم لأن الفقر والغنى سيان، وما بأحد حاجة إلى شىء، ولا بخل إذ لا كرم ولا خوف من الفقر وما ينطوى تحته من المعانى. والأرض ما الداعى إلى حرثها واستغلالها؟ والمصانع لماذا ننشئها؟ والمتاجر لأى غاية نتخذها؟ والسفن ما إضاعة الوقمت فى ابتنائها؟ وأى داع للعجلة فى الانتقال من مكان إلى مكان؟ والعمر عمر الأبد لا يحد؟ بل ما الحاجة إلى الانتقال وكل بقعة ككل بقعة؟ حتى الحكومات لماذا نقيمها وننظم أمورنا بواسطتها وليس لنا أمور أو شؤون تنظيم؟ والمثل العليا هل ينشدها أحد أو يحلم بها؟ كلا! ولا تبقى هناك آداب ولا علوم ولا صناعات ولا ملاهٍ ولا شىء على الإطلاق إلا جسم خامد لا يحفزه حافز حتى إلى تحريك إصبعه.

بقيت الغريزة النوعية، ومظهرها الحب وغايتها حفظ النوع. وهى تبقى ما بقيت الغاية مطلوبة مسعيّا إليها. أما إذا أصبحت الغاية موجودة بطبيعة الحال، وصار النوع باقيًا خالدًا لا خوف عليه، فإن الغريزة لا يبقى لها عمل، وإذا بطل عمل الغريزة انعدمت وبطل كل ما نتج عنها من العواطف. وصار الرجل يرى المرأة ولا يشعر بحاجة إلى التعارف بينهما، والمرأة ترى الرجل ولا تحس أنه نصفها الثانى كما يقولون فى تعابيرهم الجديدة، أو أن بها حاجة إلى تكميل نفسها به. لا بجذب أحدهما الاَخر أو يصغيه إليه أو يحرك فيه بواعث الشعر والغناء. ومتى امتنع الشعور الجنسى المتبادل بين الرجل والمرأة امتنع تبعًا لذلك ما نسميه الاَن الجمالُ والحياء والخفر والدلال والوصل والهجر والغيرة وسائر أمثال هذه المعانى التى ترجع فى مردّ أمرها إلى الحب، وزالت عاطفة ا لأمومة والأبوة، وتجرد «البيت» من معناه، واستحال أن يكون «للأسرة» وجود، وتقوضت دعائم الاجتماع وصار الإنسان مخلوقًا «غير مدنى بالطبع»! لا يخالجه غضب أو رضا أو حب أو بغض أو قوة أو أمل أو ندم، ولا خوف ولا يأس ولا احتقار ولا رحمة أو قسوة ولا غيرة أو إعجاب، وزايلته مادة الحياة الحاضرة بأسرها.

وعسى من يسأل: ولكن ألا يبقى له شىء؟ ألا يحتفظ بصفة واحدة أو شهوة من شهواته كالشهرة والحكم؟ كلا! حتى ولا هذه! لأنها جميعًا ليست إلا مظاهر للتعزى عن الخلود الممتنع فى الحياة بخلود الذكر. وماذا يصنع الإنسان بالشهرة؟ ولماذا يطلبها وليس من يكترت لها أو يفهمها؟ وبأى شىء يريد أن يشتهر؟ الأدب معدومة بواعثه، والعلوم لا ضرورة إلى تحصيلها، والخير ليس خيرًا، والشر لم يعد شرّا ولا شىء هناك ينفع أو يضر. وما يُستطاع من الأعمال التى نعدها الآن أعمال بطولة مستحيل إذا ضمن الخلود. إذ ما هى البطولة الحربية مثلًا؟ هى أن تقوى بشجاعتك وبصرك بفنون القتال على سحق عدوك وإخضاعه لك. والسر فى خضوعه هو هول الفتك به. والآن فتصور جيشين رجالهما خالدون وقل لى كيف يستطيع أحدهما أن يقهر خصمه؟ إن الموت هو نفاد القوة الحيوية، والخالد لا يموت أى لا تنفد قوته ولا يعروه نصب فلا بد أن يظل الجيشان يتحاربان أبد الدهر بلا نتيجة، فأولى ألّا يتحاربا، وعلى أن الباعث على التقاتل يمتنع من تلقاء نفسه مع الخلود. وهب هذا الباعث الطمع أو شهوة التحكم أو غير ذلك، فما محله مع الخلود؟ الطمع لا يشعر به الخالد لأنه بلغ أقصى غاية الطمع وصار فى غنى عن كل ما دونه. وشهوة التحكم يثيرها علم المرء أن فى الناس الخنوع والخوف والجبن ورهبة القوة، والخلود يُعفِّى على هاتيك جميعًا ويقطع الطريق على نشوئها. وإذ كان لا فضل لإنسان على اخر ولا مزية، لأن الخلود سوّى بين الناس، فكيف يمكن أن يلج بالمرء مثل شهوة الحكم ولا قوة له ينفرد بها، ولا فى غيره عجز عما يطيقه ولا من وراء ذلك غاية؟

إذن فالناس إذا خلدوا يتجردون من كل صفاتهم ونزعاتهم وغرائزهم وعواطفهم وإحساساتهم التى نعرفها ونسير بها فى حياتنا وفق طبائعها، ويحولون مخلوقات أخرى يستحيل على العقل الآدمى أن يتصور حالتها وما تكون عليه أو ما تغرى به.. وكل ما يهدينا إليه القياس هو أن كل ما للإنسان مما ذكرنا يصبح باطلًا ومحالًا. ومن هنا كان من السخافة المطبقة أن أتصور أن مثل ما يقع لنا فى حياتنا يمكن أن يكون جائزًا مقبولًا ومحتملًا مع الخلود فى الاَخرة. ولهذا لم يسعنى إلا تمزيق القصيدة إذ كانت فكرتها قائمة على استحالة!

•••

ولكن هل كان المتنبى يقصد إلى كل هذه المعانى حين قال:

ولا فضل فيها للشجاعة والندى
وصبر الفتى لولا لقاء شعوب؟

أليس الأرجح أن لو كان يدرك ما ينطوى تحت بيته هذا من المعانى التى استخلصناها لأتى عليها فى بيت أو أبيات أخرى يُصفى فيها المسألة ويبين ما أغفل من الجوانب المتممة للفكرة؟ أليس أقرب إلى الصواب والأرجح فى الرأى أن يكون هذا البيت قد جاء منه عفوًا كالشرارة تطير عن حافر الجواد وهو يعدو على الحصى والحجارة؟ وكما أن الجواد لم يتعمد أن يقدح الشرارة، كذلك المتنبى لعل تدفُّقَ الذهن فى مجرى الكلام على الموت قاده عفوًا إلى هذا الخاطر دون أن يفطن إلى عمق ما كشف عنه. نقول: قد يكون هذا كذلك فما ننكر أن للذهن انتباهات يرى فيها حتى الغيب كما يقول ابن الرومى:

وللنفس حالات تظل كأنها
تشاهد فيها كل غيب سيشهد

ولكن السياق يرجح عكس ذلك، لأنه فى معرض التقدم بالعزاء لسيف الدولة عن يماكه التركى، وقد شاء أن يعزيه عن فقده بأن يبين له ضرورة الموت وفضله وأنه حتم لا مفر منه، فمضى يقول له: لو أن من سبقونا عاشوا أبدًا وخلدوا فى الدنيا لما وجدنا نحن، فإذا كانت الحياة خيرًا فالفضل فيها للموت الذى عصف بسابقينا.. وأراد أن يزيد فى بيان ما للموت من الفضل وما ينتجه من المزايا ويخلقه فى النفس من الخلال الحميدة، فقال بيته الذى جعلناه مدار هذا الفصل.. ولعله تعمد أن يغفل أن الموت سبب الرذائل كما هو علة الفضائل، لأن المقام استوجب منه ألّا يذكر إلا حسنات الموت وأياديه البيضاء على الإنسانية، ليحمل سامعه على الرضا بهذا القدر المر. أو لعله لم يفطن حين قال هذا البيت إلى كل جوانب الفكرة التى ساقها.

وما أظن شاعرًا أو كاتبًا لم يجرب ذلك: يخطر له المعنى فيبادر إلى تقييده، ثم يفطن فيما بعد إلى أنه لم يُحط بكل جوانبه. وقد يتيسر له أن ينقح ما كتب أو نظم فيوفى المعنى حقه. وقد تشغله الشواغل عن ذلك فيبقى المعنى ناقصًا وإن كان قد تم ونضج فى ذهن صاحبه. وتجىء ناقد مثلى أو مثلك أيها القارئ فيدرك هذا النقص فى استيفاء المعنى ويفرح بذلك وينعاه على قائله ويطبل ويزمر ويقيم الدنيا ويقعدها كأنما يقول للناس: «تأملوا ذكائى وفطنتى! ما أعظمهما وأكبرهما! وما أشد إرباءهما على ذكاء صاحبكم الشاعر أو الكاتب الذى كنتم تحسبونه بذّ الأوائل والأواخر!».. وصاحبنا الشاعر أو الكاتب — إذا كان معاصرًا وكان واسع الصدر — يضحك ويقول «ما أظلم الدنيا والحظ!».

ولعلى بعدُ أخطأت حين مزقت القصيدة. ذلك أن المرء ليس مطالبا بما يفوق طوق الإنسان ويجاوز مدى قدرته. وليس من العيب أن يُعجزه أن يتصور الحياة الخالدة فى الاَخرة أو غيرها إلا على مثال الدنيا. وإنه ليكون من العنت البحت أن يطالب أحد بأن يكون صادق التصوير لنوع من الحياة لا يعلمه ولا هو يتاح له أن يجربه فى مدى عمره أو عمر سواه من الخلق. وأحسب أن لو استطاع أحد أن يصف لنا حقيقة الحياة الخالدة لما وسعنا أن نفهمها نحن أبناء الموت، بل لبدت لنا حافلة بكل ضروب الاستحالات.

ولكنى مع ذلك فعلتها! فكنت سخيفًا فى الأولى والثانية!

(٥) حكايات بخله — نقدها — الحزم لا البخل — شاهد من شعره

زعموا أن المتنبى بخيل كز، وأنه أهان نفسه الكبيرة — أو التى زعمها كبيرة — فى سبيل المال.. وقالوا إن بخله هذا ودعواه الشجاعة لا يتفقان، واعتمدوا فى ذلك كله على مشهور الاعتقاد دون الانتقاد، وأخذوا فيه بالتقليد لا بالتمحيص والاختبار، وقابلوا أصحاب هذا الرأى بالتسليم والامتثال، ولم يعن واحد ممن قرأنا لهم فى هذا الباب بأن يبين عوار ما رُوى عن الرجل وزلله وعلة الخطأ فيما حكوه عنه وخلله، وليس هذا من النقد الأدبى فى شىء. ولا هو يدل على وجود الاستعداد لفهم الشعر على الوجه الصحيح. ويحسن بنا قبل أن نخوص فى هذه المسألة أن نورد ما يستندون إليه فى دعواهم.

حكوا أن أبا الفرج قال: «كان أبو الطيب يأنس بى ويشكو من سيف الدولة ويأمننى على غيبته له، وكان ما بينى وبينه عامرًا دون باقى الشعراء، وكان سيف الدولة يغتاظ من تعاظمه ويجفو عليه إذا كلمه والمتنبى يجيبه فى أكثر الأوقات ويتغاضى فى بعضها — قال أبو الفرج الببغاء هذا — وأذكر ليلة، وقد استدعى سيف الدولة بدرّة فشقها بسكين الدواة، فمد أبو عبد الله بن خالويه طيلسانه فحثا فيه سيف الدولة صالحا، ومددت ذيل دراعتى فحثا لى جانبا، والمتنبى حاضر، وسيف الدولة ينتظر منه أن يفعل مثل فعلنا. فما فعل! فغاظه ذلك، فنثرها كلها على الغلمان.. فلما رأى المتنبى أنها قد فاتته زاحم الغلمانَ يلتقط معهم، فغمزهم عليه سيف الدولة فداسوه وركبوه وصارت عمامته فى رقبته، فاستحيا ومضت به ليلة عظيمة، وانصرف — فخاطب أبو عبد الله بن خالوبه سيف الدولة فى ذلك فقال: يتعاظم تلك العظمة وتنزل تلك المنزلة لولا حماقته؟».

هذه هى أشهر القصص التى تروى عن المتنبى، وهى إذن أصبحت أدل على الحماقة منها على البخل — وعلى حماقة لحظة دون حماقة العمر التى تُعيى المداوى. ولكن فيها مواضع للنظر تبعث على الشك فى صحتها وتثير الريب فى صدق راويها. ذلك أن أبا الفرج الببغاء لم يكن يحتاج إلى كل هذه المقدمة فى بيان منزلته من أبى الطيب واطلاعه على سره لو أنه كان حقيقة بحيث يصف نفسه. إذن لكان هذا معروفًا لا يحتاج إلى شرج، ومفهومًا بطبيعة الحال لا يستلزم أن يسوقه توطئة للحكاية، وليلاحظ القارئ كذلك أن أبا الفرج هذا جعل نفسه «شاهد عيان» للحادثة التى يرويها. ولو أنه كان يحكيها على أنه سمعها من المتنبى نفسه لفهمنا منه أن يقول عن نفسه فى مستهلها إن المتنبى كان يأتمنه على غيبته لسيف الدولة، وإن ما بينهما كان عامرًا دون سائر الشعراء. فأما وهو شاهد عيان فلا محل على الإطلاق لهذه المقدمة التى يُخيل لنا أنها دفاع سابق لتهمة مقدرة.

ولم يعرف عن المتنبى أنه كان ممن يغتابون الناس، وبخاصة سيف الدولة. وهذا بالبداهة لا يمنع أنه كان يشكو جفوته فى بعض الأحيان، ولكن الغيبة شىء والشكوى شىء اَخر. وما حاجة المتنبى إلى مؤتَمَن على الغيبة وهو يعلن عتبه ويذيعه فى شعره الساتر مسير الشمس حتى قبل أن يفارق سيف الدولة؟

وليس هناك من الشهود على صحة الحكاية غير ابن خالويه، وهذا خصم للمتنبى لا يصدق قوله فيه. وفى الحكاية مبالغة ظاهرة لا يُعقل أن تصدر عمن كان كالمتنبى تعاظمًا وترفعًا. ومن ذا الذى يصدق أن المتنبى يبلغ من حماقته واستهانته بكرامته ألّا يكتفى بمزاحمة الغلمان له على الدنانير حتى يرضى أن يدوسوه ويركبوه؟!

وحكوا غير ذلك. أن أبا الطيب دخل مجلس ابن العميد وكان يستعرض سيوفًا، فلما نظر أبا الطيب نهض من مجلسه وأجلسه فى دسته، ثم قال: «اختر سيفًا من هذه السيوف»، فاختار منها واحدًا ثقيل الحلى، واختار ابن العميد غيره، ثم قال كل واحد منهما: «سيفى الذى اخترته أجود»، ثم اصطلحا على تجربتهما فقال ابن العميد: «فبماذا نجربهما؟». فقال أبو الطيب: «فى الدنانير يُؤتى بها فينضد بعضها على بعض ثم تُضرب به فإن قدّها قاطع». فاستدعى ابن العميد عشرين دينارًا ثم ضربها أبو الطيب فقدها فى المجلس، فقام من مجلسه الفخم يلتقط الدنانير المتبددة، فقال ابن العميد: «ليلزم الشيخُ مجلسه فإن أحد الخدام يلتقطها ويأتى بها إليك»، فقال أبو الطيب: «بل صاحب الحاجة أولى».

نقول والاختراع فى الحكاية واضح. وحسب القارئ أن ننبهه إلى أنها ناقصة! ماذا فعل ابن العميد بسيفه الذى اختاره؟ لقد عرفنا أن المتنبى جرب سيفه فقدَّ به الدنانير فتبين له ولغيره أنه قاطع. ولكنا لم نعرف شيئا عن سيف ابن العميد. وهذا على الرغم من أن القصة محورها الخلاف على أىّ السيفين أقطع!!

ومن هذا النقص يتبين للقارئ أن الراوى — وهو مجهول! — إنما ساق الحكاية للتنديد بالمتنبى، ولهذا نسى أن يتمها على عادة المشنِّعين، ولهذا أيضًا تحرى فيها أن يحمل السامع أو القارئ على ازدراء عمل المتنبى، وذلك بأن يفخم من أمره لتزداد الهوة التى انحدر إليها عمقًا، فجعل ابن العميد يتخلَّى له عن مجلسه. ثم يعرض عليه السيوف دون الحاضرين جميعًا وُيفرده فضلًا عن ذلك باختيار واحدٍ لنفسه. ثم يأبى الراوى المجهولُ إلا أن يجعل المتنبى يختار سيفًا كثير الحلى ثقيلها ليوقع فى روعك أن أبا الطيب نظر إلى الحلى ولم ينظر إلى مهزِّ السيف وفرنده. ثم بعد ذلك يقيم المتنبى من مجلسه ليلتقط الدنانير ويجسم لك الأمر فيصف المجلس — هنا فقط — بأنه فخم!

وبعد، فهل بقيت بنا أو بالقارئ حاجة إلى تقصِّى أخبار البخل المرويّة عن المتنبى لنزنها ونحصَّهإ؟ لست أشعر بالحاجة إلى ذلك. وأكبر ظنى أن بالقارئ مثل استغنائى عنه. فإذا شاء المزيد فعليه بالصبح المنبى وأشباهه من كل كتاب لم يتوخ صاحبه إلا مجرد النقل حتى لتحسبها جميعًا لرجل واحد لولا ما تلمحه من قصد هذا إلى الدفاع، ومن تعمد ذلك الزراية والتشهير. ولو أن هؤلاء أو غيرهم من الكتاب المعاصرين الذين رأينا لهم كتبًا فى هذا الباب نظروا إلى شعر الرجل باعتباره صورةً لنفسه وجوانبها المتعددة لنبذوا هذه القصص، ولفطنوا إلى أن المتنبى لم يكن بالرجل البخيل وإنما كإن رجلًا يعرف قيمة المال وما له من الأثر البالغ فى الحياة.

ولقد عرف القارئ مما كتبنا عن المتنبى، ومن شعره نفسه، أنه كان «يتعاطى كبر النفس وعلو الهمة وطلب الملك» كما يقول أبو البركات ابن أبى الفرج المعروف بابن زيد التكريسى الشاعر. ولم يكن يخفى على المتنبى أن المال «عضل» المساعى والمطالب الضخمة كما يقولون. أو «زندُها» كما يقول المتنبى. والمال عند المتنبى لم يكن مطلوبا لذاته، ولا لأن له قيمة قاتمة بنفسها، ولا لأن به مرضا يدفعه إلى التماسه وتكديسه، بل لأنه عونٌ على الغايات، وفى ذلك يقول:

وما رغبتى فى عسجد أستفيد
ولكنها فى مفخر أستجده

ويقول لكافور وهو يمدحه ويطلب منه الولاية التى جاءه طامعًا فيها:

وأتعب خلق الله من زاد همه
وقصر عما تشتهى النفس وجده
فلا ينحلل فى المجد مالك كله
فينحلّ مجدٌ كان بالمال عقده
ودبّره تدبير الذى المجدُ كفه
إذا حارب الأعداءَ، والمال زنده
فلا مجد فى الدنيا لمن قل ماله
ولا مال فى الدنيا لمن قل مجده

أى أنه يقول: أشقى الناس من زادت همته وقصر ماله عن مبلغ ما يهمّ به، وينصح لكافور ألّا يُسرف فى العطاء فيذهب ماله كله فى طلب المجد والرياسة، لأن المجد لا يعقد إلا بالمال، فإذا ذهب المال انحل ما كان معقودًا به. وكما أن الضرب لا يكون إلا باجتماع الكف والزند، كذلك المجد والمال قرينان. وصاحب المال بلا مجد فقير زرىٌّ وصاحب المجد بلا مال موشك أن يزول عنه مجده.

وقد زعم بعضهم أنه إنما يصف كافورًا بالبخل فى هذه الأبيات لأنه حرمه وضنَّ عليه ببغيته، وأنه سلك فى ذلك مسلك كثيِّر إذ دخل على هشام فمدحه فلم يثبه فقال كثيِّر يخاطبه:

إذا المال لم يوجب عليك عطاؤه
صنيعةَ تقوى أو خليلًا توافقه
منعت، وبعض المنع حزم وقوة
ومجد ولا يعنيك إلا حقائبه

فقيل لكثيِّر: ما حملك على أن تعلم أمير المؤمنين البخل؟ فقال: إنه منعنى من رفده، واَلمنى برده، فأردت أن أحبب إليه المال، فيمنع غيرى كما منعنى، فيتفق الناس على ذمه!

وهى حكاية مخترعة. والحقيقة الواضحة أن بعض المولعين بالتأليف عثر على هذين البيتين فى قصيدة كثيِّر، فوجدهما غريبين من شاعر يريد أن يمدح ملكًا بالكرم ليستوكف رفده، فنسج حولهما هذه القصة السخيفة. فقد كان هشام بخيلًا بطبعه لا يحتاج إلى أن يعلمه كثيِّر الحرص. ولو كان جوادًا لما بلغ كثيِّر عزة غايته منه ببيتيه هذين.

وفرقٌ بين بيتيه وأبيات المتنبى التى يوصى فيها بالحزم وضبط الأموال لغاية مفهومة معقول أن يُضبط لها المال. وقد صارت القضية الآن جلية بعد الذى سقناه. رجل له غاية معينة، يريد أن يوفر لها الوسائل، وأن يحشد لها المال، فى غير كزازة، إذ كان المال أقوى أداة، وأمتن وسيلة.

١  كتبت هذه المقالات بمناسبة ظهور مؤلف حديث عن المتنبى، وقد تناولنا فيها ما اغفله أو أخطأ فيه المؤلف، فموضوعاتنا محدودة بهذا القصد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤