الفصل السادس عشر

تقليد القدماء

كتبنا نقد حافظ منذ أعوام، ولم يكن الباعث لنا عليه، كما حسب بعض البله والحمقى، ضغينة نحملها للرجل أو عداوة بيننا وبينه. وكيف يكون شىء من ذلك ولا علم لنا به ولا صداقة ولا صحبة،١ ولا نحن نرتزق من الكتابة والشعر، أو نزاحمه على الشهرة، لأن ما بيننا من تباين المذهب واختلاف المنزع لا يدع مجالًا لذلك. ولكنى لسوء الحظ أحدُ من يمثِّلون المذهب الجديد الذى يدعو إلى الإقلاع عن التقليد والتنكيب عن احتذاء الأولين فيما طال عليه القدمُ ولم يعد يصلح لنا أو نصلح له. أقول لسوء الحظ، لأنه لو كان الناس كلهم يرون رأينا فى ضرورة ذلك، وفى وجوب الرجوع عن خطأ التقليد لربحنا من الوقت ما نخسره اليوم فى الدعوة إلى مذهبنا ومحاولة رد جمهور الناس عن عادة إذا مضوا عليها أفقدتهم فضيلة الصدق ومزية النظر، وهما عماد الأدب وقوام الشعر والكتابة.

ولو كان الناس اعتادوا النقد وألِفوا الصراحة فى القول وتوخى الصدق فى العبارة عن الرأى، لما كانت بى حاجة إلى هذه المقدمة أو ضرورة إلى تبرئة نفسى ودفع ما يرموننى به؟ ولكنت أنشر النقد على ثقة من حسن ظن القراء بى وبخلوص نيتى وبراءة سريرتى مما تصفه الأوهامُ ويصوِّره الجهل. ولكنا لسوء الحظ مضطرون إلى أن نثبت حسنَ القصد فى كل ما ننقدُ كأن المرء لايمكن أن يفعل شيئًا إلا ودافعه الضغائن والأحقاد! ومن سوء حظ الناقد فى مصر أنه يكتب لقوم لا يستطيع أن يركن إلى إنصافهم أو يعول على صحة رأيهم. وليسامحنى القراء فى ذلك فقد رأيت عجبًا أيام كنت أنشر هذا النقد: من ذلك أنى كنت إذا قلت إن حافظًا أخطأ فى هذا المعنى أو ذاك، قال بعضهم «لم يخطئ حافظ وإنما تابع العرب، وقد ورد فى شعرهم أشباه ذلك»، كأن كل ما قال العرب لا ينبغى أن يأتيه الباطل ولا يجوز إلا أن يكون صحيحًا مبرأ من كل عيب! إلى غير ذلك مما يُغرى المرء باليأس ويحمله على القنوط من صلاح هذه العقول!

وإذا فرضنا أن العرب أصابوا فى كل ما قالوا، أفترى ذلك يستدعى أن نقصد قصدهم ونحتذى مثالهم فى كل شىء ونحن لا نحيا حياتهم؟ ألسنا الوارثين لغتهم وللوارث حق التصرف فى ما يرت؟ هل تقليدك العربَ وجريك على أسلوبهم يشفعان لك فى خطأ نحوى أو منطقى؟ كلا! إذًا فكيف يشفع لك فى غير ذلك مما لا يصح فى العقول ولا يتفق مع الحق؟ وكيف نتحاكم إلى العقل فى الأولى ولا نستقضيه فى الثانية؟

لا ننكر ما لدراسة الأدب القديم من النفع والفائدة، وما للخبرة ببراعات العظماء، قديمهم وحديثهم، من الفائدة والأثر الجليل فى تربية الروح، ولكنه لا يخفى عنا أن ذلك ربما كان مدعاة لفناء الشخصية والذهول عن الغاية التى يسعى إليها الأديب والغرض الذى يعالجه الشاعر، والأصل فى الكتابة بوجه عام.

على أنه مهما يكن فضل القدماء ومزيتهم فليس ثَمَّ مساغ للشك فى أنك لا تستطيع أن تبلغ مبلغهم من طريق الحكاية والتقليد. فإن الفقير لا يغنى بالاقتراض من الموسرين. ولست أقصد إلى نبذ الكتّاب والشعراء الأولين جملة وعدم الاحتفال بهم فإن هذا سخف وجهل، ولكنى أقول إنه ينبغى أن يدرس المرء فى كتاباتهم الأصول الأدبية العامة التى لا ينبغى لكاتب أن يحيد عنها أو يغفلها بحال من الأحوال — كالصدق والإخلاص فى العبارة عن الرأى أو الإحساس — وهذا وحده كفيل بالقضاء على فكرة التقليد.

(وبعد) فإنه لا يسع من ورد شِرعة الأدب، وعلم أنه يحتاج إلى مواهب وملكاتٍ غير الكد والدؤوب والاحتيال فى حكاية السلف والضرب على قالبهم والاقتياس بهم فيما سلكوه من مناهجهم، ومن تبسط فى شعر الأولين، لا ليسرق منه ما يبتنى به بيوتا كبيوت العنكبوت ولكن ليستعين بنوره ويستعين به على استجلاء غوامض الطبيعة وأسرارها ومعانيها، وليهتدى بنجوم العبقرية فى ظلمة الحياة وحلوكة العيش، وليتعقب بنظره شعاعها المتغلغل إلى ما لم يتمثل فى خاطر ولم يحلم به حالم — أقول لا يسع من هذا شأنه وتلك حاله إلا أن ينظر إلى حال الأدب العصرى نظرة فى طيها الأسف والخيبة واليأس. وكأنما شاءت الأقدار أن يذيب أحدُنا نفسه، ويعصر قلبه، وينسج اماله ومخاوفه التى هى آمال الإنسانية ومخاوفها، ويستورى من رفات آلامه شهابًا يضىء للناس وهو يحترق، ثم لا يجد من الناس أخًا حنَّانًا يؤازره ويعينه على الكشف عن نفسه وإزاحة حجب الغموض عن إحساسات خياله التى ربما التبست على القارئ لفرط حدتها أو غابت فى مطاوى اللفظ واستسرت فى مثانى الكلام.

أليس أحدنا بمعذور إن هو صرخ وبه من سانح اليأس خاطر: «يا ضيْعةَ العمر! أقص على الناس حديثَ النفس، وأبثهم وجد القلب ونجوى الفؤاد، فيقولون ما أجود لفظه أو أسخفه! كأنى إلى اللفظ قصدت!!

وأنصب قبل عيونهم مرآة للحياة تُريهم، لوتأملوها، نفوسهم باديةً فى صقالها فلا ينظرون إلا إلى زخرفها وإلى إطارها، وهل هو مفضض أم مذهب؟ وهل هو مستملح فى الذوق أو مستهجن؟! وأفضى إليهم بما يُعيى أحدَهم التماسُه من حقاتق الحياة فيقولون لو قلت كذا بدل كذا لأعيا الناس مكان ندك! ما لهم لا يعيبون البحرَ باعوجاج شطآنه وكثرة صخوره؟! يا ضيعة العمر!!».

سيقولون ما فضل مذهبكم الجديد على مذهبنا القديم؟ وماذا فيه من المزية والحسن حتى تدعونا إليه؟ وبأى معنى رائع جئتم؟ وماذا ابتكرتم من المعانى الشريفة والأغراض النبيهة؟ فنقول: قد لا يكون فى شعرنا شىء من هذه المعانى الشريفة والأغراض النبيهة التى تطلبونها وتبحثون فيه عنها ولا تألون (أنتم) جهدًا فى الغوص عليها وفتح أغلاقها والتكلف لها! وقد لا نكون أحسنَّا فى صوغ القريض ورياضة القوافى ولكن خيبتنا لا يصح أن تكون دليلًا على فساد مذهبنا وعقمه، إذا صح أننا خبنا فيما تكلفناه وهو ما لانظنه، بل هى دليل على تخلف الطبع لا أكثر — وعلى فرض ذلك كله فإن لنا فضل الصدق وعليكم عار الكذب ودنيئة الافتراء على نفوسكم وعلى الناس جميعًا، وحسبنا ذلك فخرًا لنا وخزيًا لكم!

ليس أقطع فى الدلالة على أنكم لا تفهمون الشعر، ولا تعرفون غاياته وأغراضه، من قولكم إن فلان! ليس فى شعره معانٍ رائعة شريفة، لأن الشاعر المطبوع لا يُعنت ذهنه ولا يكد خاطره فى التنقيب على معنى لأن هذا تكلف لا ضرورة له. أو ليس يكفيكم أن يكون على الشعر طابع ناظمه وميسمه، وفيه روحه وإحساساته وخواطره ومظاهر نفسه سواء أكانت جليلة أم دقيقة، شريفة أم وضيعة؟! وهل الشعر إلا صورة للحياة؟ وهل «كل» مظاهر الحياة والعيش جليلة شريفة رفيعة حتى لا يتوخى الشاعر فى شعره إلا كل جليل من المعانى ورفيع من الأغراض؟ وكيف يكون معنى شريفًا وآخر غير شريف؟ أليس شريف المعنى وجلالته فى صدقه؟ فكل معنى صادقٍ شريفٌ جليل.

ألا إن مزية المعانى وحسنها ليسا فى ما زعمتم من الشرف، فإن هذا سخف كما أظهرنا فيما مر، ولكن فى صحة الصلة أو الحقيقة التى أراد الشاعر أن يجلوها عليك فى البيت مفردًا أو فى القصيدة جملة، وقد يتاح له الإعراب عن هذه الحقيقة أو الصلة فى بيت أو بيتين، وقد لا يتأتى له ذلك إلا فى قصيدة طويلة، وهذا يستوجب أن ينظر القارئ فى القصيدة جملة لا بيتًا بيتًا كما هى العادة، فإن ما فى الأبيات من المعانى، إذا تدبرتها واحدًا واحدًا، ليس إلا ذريعة للكشف عن الغرض الذى إليه قصد الشاعر وشرحًا له وتبيينا.

وأنتم فما فضل هذا الشعر السياسى الغث الذى تأتوننا به الحين بعد الحين؟ وأى مزية له؟ وهل تؤمنون به؟ وهل إذا خلوتم إلى شياطينكم تحمدون من أنفسكم أن صرتم أصداء تردد ما تكتبه صحف الأخبار؟ وهل كل فخركم أنكم تمدحون هذا وترثون ذاك؟ وأنتم لا تفرحون بحياة الواحد إلا لماله، ولا تألمون موتَ الآخر إلا لانقطاع نواله؟ ما أضيع حياتكم!

ليس أدل على سوء حال الأدب عندنا من هذا الشك الذى يتجاذب النفوس فى أولى المسائل وأكبرها. ولقد كتب نقاد العرب فى الشعر، على قدر ما وصل إليه علمهم وفهمهم، ولكنهم لم يجيئوا بشىء يصلح أن يتخذ دليلًا على إدراكهم لحقيقته. ولسنا ننكر أن كتّاب الغرب متخالفون فى ذلك، ولكن تخالفهم دليل على نفاذ بصائرهم وبُعد مطارح أذهانهم ودقة تنقيبهم وشدة رغبتهم فى الوصول إلى حقيقة يأنس بها العقل ويرتاح إليها الفكر، كما أن إجماع كتاب العرب وتوافقهم دليل على تقصيرهم وتفريطهم وأنهم كانوا يقلد بعضهم بعضًا إن لم يكن دليلًا على ما هو أشين من ذلك وأعيب.

غير أن هذا القلق والشك المستحوذين على النفوس لعهدنا هذا هما الكفيلان بأن يفسحا رقعة الأمل ويطيلا عنان الرجاء، لأن القلق دليل الحياة، والشك اية الفطنة وما يدرينا لعلنا فى غد نجنى من رياض هذا القلق أزاهير السكينة والطمأنيته!

١  نقدنا شعر حافظ فى ١٩١٣. ثم جمعنا متفرقه وطبعناه فى ١٩١٤–١٩١٥ وجعلنا هذا المقال مقدمة له، ولم يكن بيننا يومئذ وبين حافظ أى صلة. وقد أثبتا هذا المقال هنا لدلالته على حال الأدب يومئذ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤