القسم الأخير

في ذلك المساء رافقتُ ذلك العربي، نحو أرجاء المدينة، بحثًا عن عائلته، سألْنا عن اسم زوجته ابنة الغزالي، وكنتُ أراقبه وهو ينظر بحُب إلى كل شيء، كان يُراقِب كل الموجودات، كان يتلهَّف لرؤية تلك الأمور البسيطة التي لا نراها عادة، اشترى الحلوى لجميع الأطفال الذين صادفناهم أثناء بحثنا، وزَّع العديد من القطع النقدية على كل شخص، كان أشبهَ بطفلٍ صغير يلِج هذا العالَم في دهشة، وما كان بمقدور أحدٍ أن يُفسر أفعاله تلك، اعتقد الجميع أنه مجنون آخر، لكنني آمنتُ بأنه رجل حُر، يستمتع بحُريته، بكونه سيدًا للمرة الثانية، يعيشها كفرصةٍ يعرف قيمتها أكثر من أي وقتٍ مضى، كأنه وُلِد من جديد، كان متفائلًا بإيجاد عائلته، أخبرَني أنهم ينتظرونه في مكانٍ ما، كان يثِق في ذلك، فقد أخبرَني أنه، إن هو قضى كل هذه السنين في العبودية ليتمكن بعدَها من اكتساب حُريته، إن كان قد تحوَّل ما رآه يومًا مُستحيلًا إلى حقيقة، فإنَّ إيجاد عائلته أبسط من ذلك، وأنه سيجدها إن هو انتظر مرور الوقت، مثلما انتظر في عبوديته، إنْ هو بحث دون توقف، أخبرني أنَّ مشاكلنا رهينة الزمن، وأنه لا شيء يتمكَّن من هزيمة الزمن، حتى آلامنا هي فقط ستندثر بمرور الوقت، وبحَثْنا عن زوجته في كل مكان، كنَّا نستعمل اسمَها للبحث، اسم عائلتها. علِم هو من بعض الأشخاص في القرية أنها بالمدينة هنا، أنها غادرت القرية قبل مدة، وبحثْنا في كل مكانٍ وبعد مدة، لم نجدها.

لم يتخلَّ ذلك الرجل عن بحثه عن زوجته، غادرتُه ذلك اليوم إلى ابنتي، لم أتغيَّر معها، أو مع أي شخصٍ آخر. ومرَّت الأيام، مرَّت ثمانية عشر شهرًا، كانت زوجتي قد عادت رفقة رجلٍ آخر، زوج يُشبهني في كل شيء، إلا طباعي الغريبة، أخذت ابنتنا معها وغادروا الجزائر، كانت قُرب طائرةٍ أكبر حصلتْ عليها من مراكش وخلقت لحظة الوداع، قالت لي يوم مغادرتها: ستبقى الرجل المُفضل لدي (توقَّفَت قليلًا لتأخُذ نفسًا)، سأُحبُّك دومًا، حتى إن عشتُ أنا برفقة رجلٍ آخر، حتى إن كنتَ تُشبه جدك مثلما أخبرتَني؛ دي لا بوت.

– سأشتاق إليك، لكنني سأنسى ذلك، مثلما نسي دي لا بوت، بعد زمنٍ سأنسى أن أشتاق إلى أحد (نظرت إلى الطائرة في الخلف).

– عزيزي (بصعوبة).

– نعم عزيزتي (بصوتٍ خشِن يُخفي خلفه بكاءً داخليًّا قويًّا).

– أنت لن تتغيَّر! صحيح؟ (ابتسمت.)

– الأمر خارج عن سيطرتي (بكبرياءٍ غريبة وقوية)، لا للأسف.

– تعلَم أنني أحببتُك (قبَّلتني قبلةً طويلة)، أتمنَّى لك حياة سعيدة (تكلَّمَت عند شفتي) أتمنَّى أن تحاول أن تُحب القدَر (قبَّلتْني للمرة الأخيرة وابتعدَت).

– غير ذلك (أُحرِّك أصابعي وأرتجِف)، متى سأرى ابنتي؟ (محاولًا الثبات.)

– عزيزي سنجول العالَم (ابتسمت) لكنني أعِدُك أن الجزائر ستكون محطتنا المُفضلة، ربما يوما ما سنزورك (نظرت إلى الخلف حيث الطائرة)، وإلى ذلك اليوم، إلى اللقاء.

– إلى اللقاء (بصعوبة).

ثم غادر الجميع، وأصبحتِ الجزائر مكانًا فارغًا، اختفت فرنسا، اختفى العالَم من الجزائر، وأصبحتِ الجزائر للعرب مرةً أُخرى، لم أتزوَّج بعد ما حدث، ونسيتُ ذلك تمامًا، مثلما نسيتُ أن أبحث عن المُشرَّد لأُخبره أنني وجدتُ زوجته، ثم مرَّت سنوات كنتُ خلالها ألتقي ابنتي، أو تُراسِلني إن تعذَّر ذلك، ثم تُوفِّيت أنا في إحدى المزارع البعيدة بسبب العضال وغادرتُ تلك الحياة.

وها أنا هنا أجلس وحيدًا في هذا المكان، أردتُ أن أبكي بشدة، تشجَّعتُ مرةً أخرى، وجلستُ هادئًا كنت أنتظر مُحاكمتي، وقد مرَّ وقت على جلوسي بهذه الغرفة الخشبية المُتسعة، كانت محكمة لا أذكر كيف دخلتها أو لأي سبب، دخلتها في يومٍ من الأيام، ربما في أول مرة أخلُد فيها، وكل ما كنتُ أعلمه أنه ما كان يجب أن أغادر مكاني إلا إذا سُمح لي بذلك، مثلما حدث في القاعة الأخرى أين تحدَّث إليَّ العديد من الرجال، ثم دخل علينا القاضي ويتبعه قضاة آخرون، كان الجميع يحمِل دفاتر بيضاء يسيرون في انفراد، وبعضهم يتهامَس عمَّا كُتب في تلك الدفاتر، لم أقف احترامًا لهم، بينما فعل الحشد من خلفي ذلك، فلم تكن هذه محكمة تقليدية، فلا يُهم إن احترمت القاضي أو لم أفعل، ففي كل الأحوال أنا في نظره، بشَر لا يعي معنى الاحترام، بَيْدَ أنهم جلسوا بعد أن جلس الحشد من خلفي، نظر القاضي إليَّ مدة ثم قال: ششششش، هدوء، لو تفضلتُم وتوقَّفتُم عن التحدُّث والضحك.

ثم طرَق على الطاولة ونظر يُوجِّه إليَّ الكلام: أنت تعلم لِمَ أنت هنا، وأنت تعلَم ما حدث معك؛ لذا ربما سنمنحك فرصةً أخرى، لكن هل تعلم ما حدَث معك كما نراه نحن؟ (خفض رأسه ليراني.)

– أجل (تردَّدتُ قليلًا)، أخبروني بذلك في قاعة أخرى.

– آه ممتاز، يجب أن تفهم أن ما حدث معك كان أكبر من أن تفهمه يومَها.

– أجل ربما سأتذكَّر أن أفعل (التفتُّ إلى كل الزوايا).

– استدعيناك لأننا وجدنا لك فرصةً جديدة؛ فرصة من نسلك.

– وإذًا؟ (في تساؤل.)

– لا نعلم إن كنتَ ستستمر في فعل ذلك! استهلكتَ الكثير من الفُرَص، والأهم أن تعلم أن ما نفعله هنا جِدي، أن تؤمن شرطٌ لنا، يجب أن تؤمن، ليس كآخِر مرة، ستؤمِن بالقدَر فقط … سيد! هل تذكُر اسمك الأول؟

وقبل أن أُجيب تذكرتُ ما أخبروني به في القاعة الأخرى (في حياةٍ كنتُ قد عشتها، لا أذكرها حقًّا، فقد عشتُ الكثير من الحيوات، كانت هذه إحداها، هكذا أخبروني، أنا لا أصدقهم)، حقيقة لا أذكر بداية الأمر، إلا أنني كنتُ أجلس قُرب طاولة حديدية ووضع عليها مُدونة بيضاء وقُربها يستقر عدد من الأوراق المُتناثرة، وأول ما أذكره أنني كنتُ أنظر إلى تلك الأوراق الغريبة، كانت تُذكرني بمكتبي القديم، فقد وُضِعت بشكلٍ ما، شكل دفعني إلى الإحساس أنَّ هذا قد حدث من قبل، ثم رفعتُ رأسي إلى الجدران الأربعة التي تُحيط بي، جدران بيضاء مُتماثلة في كل شيءٍ وبكل جدارٍ باب أشبه بالجدار الذي بجانبه وحتى أشبه بالجدار الذي يُقابله، فلا يدرِك الداخل إلى الغرفة أي بابٍ دخل منه، فلا بداية للغرفة ولا نهاية، وتماثل كل شيءٍ في الغرفة؛ سقف أشبه بالأرضية، والجدار أشبه بما تبقَّى من الجدران؛ فصعب عليَّ التفكير في شيء آخر، التفتُّ إلى كل مكان، إلى كل زاوية، ودرت ببطءٍ أراقب كل باب، ولمَّا بلغتُ آخر حائط وجدتُ عند الباب رجلًا ببذلة سوداء، كان يقف ساكنًا ينظر إليَّ.

– أين أنا؟

ثم أجابني صوتٌ لم يكن صوت الرجل الواقف عند الباب، لكنه كان أقرب بكثيرٍ لدرجة أنه خُيل لي أنه معنا بالغرفة.

– اطرح الأسئلة الصحيحة رجاء، ههههههه (ضحك مُستهزئًا) ربما، دعْني أفكر، ماذا عن: ما الذي تودُّونه مني؟ هذا سؤال جيد. وقبل أن أُجيب، فاجأني صوت مُدونة تسقط على الطاولة فاستدرتُ آليًّا إليها، ورفعتُ رأسي إلى رجلٍ آخر ببذلةٍ سوداء، يقِف أمامي عند الطاولة يبتسِم لي، كان صاحب الصوت، ثم أضاف قائلًا: لن تودَّ أن تطرح الأسئلة الخاطئة هنا.

– ماذا عن … (قاطَعَني يُشير بيدِه لي.)

– بعد تفكير، لن تطرح أيًّا من أسئلتك البشرية، فلا يُهم ذلك الآن (ثم دخل رجل آخر من بابٍ آخر، وباشر الحديث وكأنه كان معنا قبل هذه اللحظة).

ما يُهم، أن تُصغيَ مثلما أصغَينا لك كل هذه السنوات.

التفتُّ إليه بينما اقترب على بُعدٍ ما يقف وقفةً أشبه بوقفة الآخرين، وقال لي: حسنًا، لنقُل …

وانتقل الكلام على يساري فالتفتُّ إلى رجلٍ آخر لم يكن موجودًا، يُكمل كلام سابقه: لنقُل أنك يجِب أن تُخبرنا بالحقيقة، الحقيقة المُطلقة لا غير، لأنك تُدرك جيدًا مثلما ندرك أن الأمر خرج عن سيطرتك، وأنه يجب إصلاح بعض الأمور.

ما استطعت أن أجيبَ أحدًا منهم، بل استمررتُ في صمتي أنظر إلى الجميع وهم يتكلَّمون إليَّ وكأنهم ذاتٌ واحدة، حتى جلس إليَّ آخر رجل ولجَ الغرفة من بابها الرابع، كان يُشبه شخصًا أعرفه، ربما كان يُشبه أشخاصًا أعرفهم، ربما لن أستطيع شرح كيف حدَث ذلك بِلُغة أملكها، لكنه كان يُشبه الجميع، يُشبهني، يُشبه جدِّي، يُشبه والدتي، يُشبه خبازًا رأيته مرةً واحدة قبل وفاتي، يُشبه فتاة رأيتها تبكي أثناء محاولتي لفحصها، يُشبه العجوز التي لم أبلُغها يومًا لأُنقذها، يُشبهك أنت من تقرأ هذه الكلمات، يُشبه شخصًا تكرهه، ويُشبه أشخاصًا تُحبُّهم، هو يُشبه جميع البشر، ورأيت وجوه جميع الناس بوجهه، ثُم حدَّثني يُخبرني عن حياتي، وتحدَّث بقية الرجال بتحدُّثه، وأخبروني بأمورٍ كثيرة، وأخبروني أنني من فعل كل شيء. كنت قد أنكرتُ أنني فعلتُ كل ذلك وأن القدر هو ما حاك القصة، ضحكوا حينما أخبرتهم بذلك، استغربوا كيف لم أُلاحظ أنني من فعلتُ كل شيءٍ وأن القدر كان فقط يُجسد اختياراتي فقط، وقال الذي استجوبني قبل أن يُخبرني أن أتَّجِه إلى الباب المزدوَج: غريب؛ كيف تُنكر أن تلك مسئوليتك (ابتسم يرفع أحد جوانب شفتيه إلى الأعلى)، تذكر أنك التقيتَ محمدًا، الفتى العربي، في طفولتك، ابن مُتجول اسمه علي العلاوي، زوَّجَه والدك بابنة أحد الشيوخ، وفعل ذلك بعد أن ترككم، ولو لم يترككم لما تزوَّج محمد.

– اختار والدي أن يترُكنا، لم أدفعه لفعل ذلك.

– ههههه (ضحك)، ومن دفع والدتك لتنتحِر، ربما أنا من لعب تلك اللعبة، لعبة دي لا بوت، هل تعتقد أنَّ والدك كان ليترككم لو بقِيَت والدتك على قيد الحياة؟ أو إن هي لم تُجَن؟

(فكرت دون قول كلمة.)

محمد العلاوي، هههههه، كان ضحية اختياراتك، ككل الضحايا.

(نظرت إليه في صمت.)

أنا محتار قليلًا، هل عليَّ أن أدعوك بسيدي الطبيب؟ آوه، ماذا عن لورد دي لا بوت، أو شارل، أو قابيل؟ ههههههه، لك أسماء عدة، ولا أعرف أي واحدٍ تفضل.

– أخبرني إن أنت انتهيتَ كي أتوجَّه إلى القاضي (بجدية تامة).

– إذن أنت تعلَم أنه يجب أن تتوجَّه إلى القاضي؟! (نظر إلى البقية.)

(نظرتُ إلى الأوراق على الطاولة دون قول كلمة.)

– اتَّجِه إلى الرواق الرمادي مباشرة ستجِدُ الباب المزدوج (ابتسَم ثم توقف للحظاتٍ ويدُه على فمه ثم أضاف). لِمَ أُخبرك؟ أنت تعلم ذلك مُسبقًا.

اكتشفتُ أنه في اليوم الذي تُوفيت فيه تلك العجوز اتضحت كل القصة، كنتُ قد تعطلت يومها عن ركوب الحافلة الأولى بسبب المُشرَّد، محمد العلاوي، وقبل تَعطُّلي بمدةٍ كافية كانت فتاة شابة تنزل من غرفتها، وفي يومٍ حار، كانت تنزل إلى الطابق السُّفلي، إلا أن حرارة ذلك اليوم وأهواء تلك الفتاة الغريبة دفعتها إلى التفكير بارتداء قُبعة، ربما شيء آخر دفعها إلى التأخُّر، بل حتى وضْع مرهم للشمس أيضًا، ربما تخيلتُ ذلك فقط، لكن الأهم أنه ما كان يجب أن تعود إلى غرفتها لتفعل ذلك، ما كان يجب أن تتأخَّر لأي سببٍ من الأسباب، المَرهم، القُبعة أو حتى خصام عائلي، لكنها فعلت، تأخَّرت تلك الفتاة العربية. هي وُضِعت وهي صغيرة عند مدخل منزلٍ فرنسي، وضعها رجل من قريةٍ بعيدة، رجل عربي، لذا من المؤكد أنها عربية، وكبرت بذلك المنزل، كبرت فرنسية، وعلَّمتْها تلك العائلة ارتداء القُبعات، علَّموها عادةً ستتسبَّب في مَقتلها، ما كان يجب أن تتأخَّر لترتديَ القُبعة، ولو أنها كبرت بمنزل عائلتها العربية، لما حدث ذلك، لما تُوفِّيت. كانت ابنة شريفة؛ ابنة العجوز التي لم أستطع إنقاذها؛ ابنة أُخذت منها قبل زمن، لكن الفتاة لم تكبُر رفقة والدتها؛ ولهذا صدمها سائق الحافلة، السائق الذي أخرج سيجارةً ذلك اليوم، سيجارة أشبه بتلك التي جعلت قلبه يتوقَّف بعد زمنٍ من قتل تلك الفتاة، في إحدى الحانات أُصيب بسكتةٍ قلبية حينما كان يلوم نفسَه على قتل الفتاة، كان قد تعلَّم أن يُخفي أحزانه خلف السجائر، وكانت تلك عادة سيئة، تعلَّمها بعد أن فقد كل شيءٍ في غارةٍ تعرَّض لها بالجنوب في إحدى رحلاته، وقبل ذلك كان قد التقى والدي وطلب منه رجلًا يرافقه إلى الصحراء، وقد اختار والدي مُحمدًا العلاوي، فقد كان ابن مُتجوِّل مرموق، وقد علم من والده سرَّ التجوُّل، وقد شعر والدي أن محمدًا يحتاج إلى رحلةٍ إلى الجنوب؛ لذا نصح رفيقه بأخذ محمدٍ معه، حتى أنه عرض عليه أن يتكلَّم معه شخصيًّا شرط أن يُرافقهم إلى نصف الطريق، وقد أخذ سائق الحافلة معه محمدًا العلاوي، ثم عاد إلى هنا بعد أن أنقذه هذا الأخير، عاد على ظهر ناقةٍ باعها ليبدأ من جديد، عاد ليُدخن السجائر، سجائر ستجعله يتأخَّر فيصدم تلك الفتاة، وعاد ليبدأ من جديد، عمل كسائقٍ للحافلة، فكر أنه مُجرد عمل مؤقت، ريثما يستعيد مكانته ليبدأ الرحلة من جديد، بحثًا عن أسطورة والدي في الجنوب؛ والدي الذي انتظرَهم في نصف الطريق بإحدى المزارع، انتظر طويلًا حتى تُوفي، انتظر عودتهم بالأسطورة؛ الأسطورة التي فكر والدي أنها ستسترجع والدتي، لكن السائق لبث وقتًا طويلًا في هذا العمل، ثم مرَّ زمنٌ جعله يكرَه هذا العمل، واعتاد على السجائر لينسى ما يكره، كان يُدخن سيجارةً قبل أن يركب حافلته لهذا تأخَّر، ما كان يجب أن يتأخَّر وبمدةٍ ستكفي تلك الفتاة لتلبس قُبعتها، وتنزل إلى الشارع، تسير قليلًا، وتُقابله في لحظةٍ ومكان اختِيرا بدقَّة، كان قد التفت إلى رجلٍ يبكي على الرصيف، كان قد التفت إلى والد سيلين وعلى بُعدٍ ما سيصدم ابنة العجوز؛ ابنة المُربية؛ ابنة أخذت منها حينما غادرها محمد العلاوي للقيام بالرحلة؛ رحلة رفقة هذا السائق الذي سيقتُل ابنة محمد ويتسبَّب في تأخُّري عن إنقاذ زوجته، ما كان على محمد أن يرافق السيد الفرنسي في رحلته تلك، ما كان عليه أن يرافق والدي إلى القرية، ما كان ليتزوَّج هناك، ثم إنه كانت لتكون تلك القافلة بخير، كانت لتصِل إلى وجهتها، ما كان يجب أن يكون محمد هناك ليسهر رفقة السيد الفرنسي، بل توجَّب على الجنديين أن يبيتا حول نار المُراقبة، أن يرَيا تلك النيران التي رآها محمد، أن يُخبرا السيد الفرنسي، كان ليجد حلًّا، أن تُغادر القافلة المكان مثلًا وقبل أن يصِل قُطَّاع الطرُق، لكن محمدًا العلاوي كان بتلك الليلة رفقة السيد، نام الجميع وحصل قُطَّاع الطرُق على القافلة. كل ذلك لأن محمدًا رافق القافلة، كان بإمكانه أن يعيش بسلامٍ رفقة زوجته شريفة، لم تكن لتكون مُربية، وما كانت لتفقد ابنتهما، لم تكن ابنتهما لتلبس القُبعات التي تقتُلها، وما كان بإمكاني أن أتأخَّر عن كلتا الحافلتين، ما كنتُ لألتقيَ به وما كان ليحدُث شيء، الأهم ما كان ليحدُث شيء.

قد يتساءل الجميع عن دخلي بالقصة؛ عما حدث حقًّا، لم يخبروني بذلك في القاعة الأخرى، لكنني اكتشفتُ ذلك بنفسي، وقبل وفاتي بزمن، راسلت زوجتي، كانت قد أعادت إليَّ المال، وفي الرسالة أخبرتُها أن الأموال التي أخذتْها مِنِّي لم تُغيِّرني مثلما وعدَتْ، لكنها كتبتْ لي أن سبب المُشكل لم يكن يومًا بعيدًا عني، وأنني من يجِب أن يجد حلًّا لذلك فالأموال لن تنفع أبدًا، وكتبَتْ في جزءٍ من رسالتها:

عزيزي، إن لم تُغيرك تلك الأموال التي قدمتَها لي، فإنها ساعدت في تغيير إنسانٍ آخر، تغيير قدَر رجلٍ آخر؛ أنت اشتريت حُرية رجلٍ آخَر بتلك الأموال، لقد منحتَهُ فرصةً ليرى عائلته.

وتذكرت محمدًا العلاوي، تذكرتُ الشاب الذي قابلته في طفولتي حينما حضر عربي إلى منزل والدي الإسباني، حينما وجدَه قُرب كلبةٍ أخرى، هو تُوفِّي وهو يبحث عن زوجته، كنا قد استعملنا اسمها للبحث عنها، لكنها سمَّت نفسها بشريفة العلاوي، اسم لو ذكرناه لتوقَّف عن البحث. كنتُ نسيت ذلك، لم أعتقد يومًا أن تكون شريفة التي يبحث عنها هي شريفة التي تأخَّرتُ عن إنقاذها، وهكذا كان جهلي للقدَر أكبر حجةٍ له في استعبادي.

وفي المحكمة

كنتُ أجلس وحيدًا بين ضحكات الحضور خلفي ونظرات القضاة أمامي، كان الرفاق من الموتى يضحكون باستمرار، يضحكون كعادتهم على غرابتي، كان اعتقادُهم بأنني مجنون في محله، فقد ضحكوا على الرجل الذي لا يمكن تحريكه، أو هذا ما اعتقدت.

رفعتُ رأسي، ما كان بإمكاني التحدُّث، ثم رفع القاضي الأكبر صوته يُخاطبني: سنمنحك فرصة أخرى، لكنك ستنسى ما كنتَ عليه سابقًا، ستنسى الرجل الذي لا يمكن تحريكه، ستنسى فلسفتك في الحياة، وستعيش بشرًا كباقي البشر، وأن تحترم ما فوق البشر.

وقف في اعتدالٍ وبِوقوفه دفع الجميع إلى الفعل بالمثل، ثم قال بجدية: يمكنك المغادرة.

ثم رفع القاضي الجلسة وحمَلوني لأتَّجِه إلى الباب، وفي ذلك اليوم الذي غادرتُ فيه تلك الجلسة، فُتح الباب لأول مرة وولج ضوءٌ أنار القاعة حتى إنه كاد يختفي كل شيءٍ في بياض ذلك النور. رافقني الرجل الأسود إلى غاية المخرج. سمعتُ أثناء ذلك أصواتًا غير مفهومة وأحسستُ بالاختناق وأنا أخرج من المكان، ولشدة خوفي صرختُ ولم أفهم صراخي، كان أشبه ببكاء طفل، لكنني نسيتُ ذلك، ورأيتُ وسط ذلك البياض، الذي بدأ يندثِر ببطء، بشرًا عمالقة، أكبر حجمًا بكثير، أشبه بأطباء عمالقة، وكانوا يحملونني من المخرج، بينما أنا أبكي مُغادرتي المحكمة إلى مكانٍ ما، مكان به عمالقة. كان البعض يبتسِم، ولم أسمع شيئًا سوى صراخي، وكانت شفاههم تتحرك من دون أن أسمع ما يقولون، قبَّلني الجميع، ضحك آخرون، وجعلتني امرأة أقترب من ثديها لأُمسكه بشفتي وقد كنتُ أتضوَّر جوعًا فأنا لم آكل شيئًا لتسعة أشهر، وهي كانت تجهل ذلك، إلا أن غريزتها دفعتها إلى فعل ذلك، كما جعلتْها تبكي، وفي ذلك اليوم ولدَتِ ابنتي ابنًا يُشبهني، يُشبه جدَّه، ابننا تنتظرِه حياةً غريبة في عالمٍ غريب، سيكبُر الصبي بين عائلته وسيُلاحظ الجميع مِقدار الشبَهِ بينه وبيني.

ما سيحدث من الأحداث سيستمرُّ في الحدوث

كولونيل دي لا بوت

قبل زمنٍ بعيد، زمن نَسِيه الجميع، اقترب مجموعة من الرجال من إحدى الغرَف وحينما بلغهم دي لا بوت صرخوا صرخةً واحدة، واستعدُّوا لفتح الباب المزدوَج، إلا أن الكولونيل طلب منهم التريُّث، ثم طرَق الباب، لم يُجب أحد فاضطُرَّ إلى فتحه بنفسه ثم دلف إلى الداخل، وقبل أن يأخُذ نظرةً إلى المكان ركض دي لا بوت إلى إحدى الفتاتَين المُعلقَّتَين وحملها يمنعها من الانتحار، كانت صديقتها الأخرى تتخبَّط مُعلَّقةً جراء الاختناق، بينما حمل دي لا بوت محبوبته يمنعها من السقوط، كانت تتحرَّك ليتركها تسقُط، فقد فضَّلَت أن تموت على أن يأخُذها دي لا بوت. صديقتها لم تأخذ وقتًا قبل أن تتوقَّف عن التحرك، سرقَها الموت بينما ترك جوانا على قيد الحياة يحملها دي لا بوت، كانت تبكي فوز صديقتها في النجاة من دي لا بوت، كانت تبكي بشدَّة عدَم موتها، كانت تبكي لأن ما ينتظرها رفقة الكولونيل الشاب أسوأ من الموت نفسه، كانت تعلم أنه إن حصل عليها حيَّةً فستخلد كخادمةٍ له، حتى وإن أحبَّها كزوجةٍ له، وفضَّلت الموت على أن تتزوَّج به، أخرج الكولونيل سكينته وقطع الحبل، ثم جعل جوانا تجلس أرضًا. نظرت إليه وهي تجلس على أرضية الغرفة، نظرت إلى صديقتها المُعلقة إلى جانبها، ثم باغتت دي لا بوت وركضت نحوَه لتضربه، كان قد أمسك يدَها، ثم أدارها بشكلٍ يمنعها من التحرُّك، قام بشدِّ الخناق عليها، يمنعها من التحرك وهو يقول: ششش، ششششش (كانت جوانا تتحرك في يأسٍ).

– اترُكني، اتر… (ثم وضع يدَه يمنعها من التكلم.)

– سوف أتركك إن توقَّفتِ عن ارتكاب الحماقات (لم تتوقَّف جوانا عن التحرُّك محاولة التحرُّر من قبضته)، ششش، توقَّفي (بصوتٍ هادئ) إن سمعك الرجال بالخارج سيقتلونك، توقَّفي، أعِدُك سيكون كل شيءٍ على ما يُرام (تحرَّكَتْ ببطءٍ وكأنها توافق على ما قال)، حسنًا، بهدوء، سأتركك الآن.

ترك دي لا بوت الفتاة، ابتعدَتْ عنه أمتارًا قليلة ونظرت إليه، ارتكب لحظتها حماقة، لكنه رأى أنه يتوجَّب عليه أن يفعل ذلك، أخرج سكينته مرةً أخرى ورماها بالقُرب من جوانا.

– خُذي، يمكنك أن تحمي نفسك بها.

نظرت جوانا للحظاتٍ إلى الكولونيل ثم أسرعتْ إلى السكينة وأشهرتها بوجهه، أضاف دي لا بوت: قتلي لن يساعدك (ورفع يديه يُحاول منعها من التسرُّع)، يجب أن تُصغي.

جوانا كانت تفكر بسرعة، بغضبٍ وبحقدٍ، وما كانت تهتمُّ، ثم وبسرعةٍ وجهت السكينة إلى بطنها، تدافع الكولونيل قافزًا إليها ورمى السكينة من يدها.

– غبية، ألن تتوقَّفي عن ارتكاب الحماقات؟ (كانت جوانا تنظر إليه في ذهول) تبًّا!

أُصيب الكولونيل بجرحٍ في يده، واتَّجه إلى حمل السكينة، والتفت إلى جوانا في صمت، ثم قال: تسمعينني، لن تفعلي شيئًا خاطئًا ثم إنني … أعدك أنني لن أسمح لشيءٍ بأن يُصيبك بمكروه.

– أكرهُك، أنت لستَ سوى وحشٍ آخر.

– هههههه، ربما، تذكَّري إن سمعك الرجال في الخارج ستموتين.

– تبًّا لكم.

– غبية أنت. لِمَ تحاولين قتل نفسك؟

– أتعتقِد حقًّا أن ابنتي ستكبُر بين أحضانك؟

(تفاجأ دي لا بوت، ما كان بمقدوره أن يفعل شيئًا أو أن يقول شيئًا ثم نظر حولَه يفكر.)

– أنت وحش، أتعتقد أن ابنتي ستكبُر بين يدَي من قتل والدها، أتعتقد أنني سأُحبك في يومٍ من الأيام، كيف لك أن تعتقد أنني سأُحِب؟ انظر ماذا فعلت. كيف لك أن تعتقد أنني سأُحبُّ وحشًا مثلك، سوف أقتُل نفسي قبل أن تُفكر بلمسي حتى، سوف تمنعني مرة، وسأقتُل نفسي آلاف المرات، أكرهك، وسأكرهك إلى أبد الآبدين.

أُصيب دي لا بوت بصداع شديد، وتكرَّر برأسه هذا الكلام، جوانا حامل بابنة الرجل الذي تُحبه، ستكرَهُه كل الأيام، سيستيقظ كل يومٍ ليُحبها، وستموت كلَّ يومٍ لتكرهه، كانت تلك فاجعة بالنسبة له، ولأول مرة أحسَّ أنه خسر؛ أن الرجل الذي لا يمكن تحريكه له نقطة ضعف، أحسَّ أنه مهزوم آخر. ارتفع بجدية، توجَّه إلى الحبل وأخذَه؛ الحبل الذي سيُذكِّره بأن جوانا تُفضل الموت على أن تعيش لحظةً إلى جانبه، وأشار إلى الخزانة.

– اختبئي هناك (ثم استدار إلى الباب ليفتحه).

ثم غادر الجميع تلك القلعة، بكت جوانا هناك في غرفتها إلى منتصف الليل، ثم قامت بحمْل ما تركه الرجال ممَّا تحتاجه في رحلتها، كانت تعلم أنه سيأتي رجال آخرون، كان يجب أن تُنقِذ ما تبقَّى من حياتها، هي ما زالت تملك هذه الأراضي، حتى وإن فقدت المجوهرات والذهب، ما زالت الأراضي والقرية ملكًا لها، لذا امتطت أحد الأحصنة وتوجَّهت تبحث عن ديرٍ ما بالجنوب.

ما حدث مع جوانا ودي لا بوت جهله الجميع سوانا أنا والكولونيل، واحتفظنا بتلك الذكرى لسنوات، أخبروني بعدَها في المحكمة أن جوانا اتَّجهت إلى مكانٍ آخر، أنجبت فتاةً اسمتها صوفيا، الفتاة التي ستكون الدليل على أن جوانا لم تكن مُقدِّرة لدي لا بوت، ستكبر صوفيا وستُنجب بنين وبناتٍ وسأتزوج أنا إحدى بناتها، فتاة رائعة سرقت قلبي بحُبها للحياة، هكذا سيتكرَّر دي لا بوت في شخصي، وستتكرَّر جوانا في زوجتي، وسيتزوَّج دي لا بوت بجوانا، من خلال زواجي بحفيدتها، وستُولَد صوفي، الهزيمة الوحيدة التي عرفها القدر منذ أن أوجد الوجود وإلى أبد الآبدين.

سيكون ذلك أشبهَ بخطةٍ انتقم بها القدَر مِني، فتركني في حياتي ﮐ «دِي لا بوت» لأختار ما أودُّه من الخيارات، ثم قَدَّر لي أن تتبعني تلك الخيارات ما تبقَّى لي من الحيوات التي سأعيشها مُجددًا. اتجهتُ في إحدى الحيوات إلى غرفةٍ ما وتركت فتاةً لتعيش بعيدًا عني، منعتُها من قتل نفسها، ومنعتُ نفسي من الحصول عليها، لكنني لم أمنعها من إنجاب صوفي وتسبَّبتُ في حياةٍ أخرى في قتْل والدتي، فاتَّجَهَ والدي يبحث عن أسطورته من أجل والدتي، أسطورة تسبَّبت في قتل الكثير، أو ربما أنا من تسبَّب في قتْل الكثير، لو أنَّ والدتي على قيد الحياة، لو لم ألعبْ لعبة دي لا بوت، لَما اتَّجَه والدي إلى أسطورته، لَما تشرَّد محمد، لَما تُوفِّيت ابنته، لَما … إلخ من الأحداث، لَما حدث ما حدث، تشابكَت نتائج ما فعلتُه، فارتبطت حياةٌ كنت عشتُها بحياةٍ عشتُها مرة أخرى، واجتمعتْ خطايا سابقة بخطايا جديدة، ودفعتُ بشرًا كان يُفترض أن أحمِيَهم، دفعتُهم إلى الانتهاء، بسبب كل تلك الحيوات التي عشتُها ولم أكن سوى كارثةٍ أخرى. ربما سأنكر ذلك يومًا ما، مُدعيًا أنني فعلتُ كل ذلك من أجل الحب، حب فتاةٍ لم تكن مُقدَّرة لي. سيتعجَّب العديدُ ممَّا حدث، لكن، لم يكن الحبُّ يومًا بهذا السوء؛ لم يكن مُؤلمًا بهذا الشكل؛ لم يكن أنانيًّا بهذا الشكل. سيتساءل الجميع: كيف لِتصرُّف رجلٍ واحد أن يؤثر بشكل كبير على أقدار العديد من البشَر؟ ثم ستفكر أنت، هل ما ستفعله مُستقبلًا سيؤثر بشكلٍ ما على الحياة، شخص ما قد يكون بقُربك، أو أبعد ممَّا تتصوَّر، أن يكون بهذه الحياة، أو أن يكون الآن مجرد شهوةٍ عابرة، أو هو في العدم مُنتظرًا فرصته في الحياة، أو هو في المحكمة يتحدَّث إلى الرجل الذي يُشبه الجميع. هل ما سيحدُث من الأحداث سيتسبَّب في حدوث المزيد، ثم سأطلُب منك أن تتذكَّر كل تلك القرارات التي قُمتَ بها؛ ألم تؤثر في شيءٍ ما؟ ألم تُحدِث هزةً خفيفة في وتَرِ قيثارة القدَر؟ ألا يمكن أن يُحدِثَ تصرفٌ منك كمًّا هائلًا من التصرُّفات الأخرى، التي ستنكرها بطبيعة الحال؟ ربما يجب أن تذكُر كل الخطايا، كل الخير، كل الأفعال. ربما سيدفعك ذلك لتُفكر من جديد، هل حقًّا ليس لك تأثير علينا؟ هل أنت حقًّا موجود لأنك تُفكر أو إنك موجود لأنك تؤثر؟ ولن يكون هناك سوى شيءٍ لتأكيده، وهو أنه يجِب أن يفكر أحدُنا بكل قرارٍ يستقر بداخله؛ أن نفكر بنتائج ذلك على البشرية العظيمة؛ لأنه بداخل كل بشريٍّ إنسانٌ لا يمكن تحريكه؛ لا عن قراراته ولا عن مبادئه، لكن الأهم ألا ننسى أنه — وفوقَنا جميعًا، فوق عدم تحرُّكنا عما نؤمن به، فوق عزيمتنا، فوق ما نودُّه بشدَّة — تستقرُّ قوة عظيمة تتحكَّم في أيامنا، ترسُمها ببدايةٍ ونهاية نجهلها، وتتجرَّأ فوق جرأتنا، تتعنَّت فوق تعنُّتنا، وليس بمقدورنا سوى الخضوع لها والإيمان بها، وانتظار الآتي البعيد بجزءٍ من الأمل لا أكثر؛ فنحن عبيد لتلك السلطة، والرجل بداخلنا ألدُّ أعدائها.

صوفي شيلون

في إحدى الحدائق بمنزلٍ فرنسي، والدٌ يجلس على كرسي مُتأرجح يقرأ أحد الكتب القديمة، والدة تقترِب من ابنٍ لها، وولد غريب يُشبهني بشكلٍ مُخيف يتمدَّد على الأرضية العُشبية ومِن حوله أوراق رسم تُحيط به مُبعثرة بطريقةٍ غريبة، اقتربَتْ منه والدته مِثلما اقتربت مِني والدتي في إحدى الحيوات، جلسَتْ ككلِّ أمٍّ عادية لتراقب ابنها، وتساءلَتْ مثلما تساءلتْ والدتي، سؤالًا بدا اعتياديًّا، على الأقل في تلك اللحظة، ما كان يجِب أن تلاحظ ذلك، لكنه القدَر، وقد دفعها إلى ابنها لتُراقبه، سألته: عزيزي، ماذا تفعل؟ (تراقب الرسومات واحدةً تلوَ الأخرى.)

– أنا أرسم (لم ينظُر إليها).

– ماذا ترسُم عزيزي؟ (تترك الأوراق جانبًا وتتَّجِه بتركيزها إلى ما يرسُمه.)

– عزيزتي دعيه وشأنه (صوت زوجها على بُعد منهما).

– أوه، أخبِرْني بُني ماذا ترسُم؟ (تبتسِم.)

– ماما، هذا أنا رجل إطفاء (يرفع الرسمة بطريقةٍ طفولية)، أنا أُنقذ هؤلاء، وهذا هو القدَر يمنعني (وقد رسم القدَرَ على شكل خربشةٍ سوداء وكأنه يجهل شكله).

– آه (تُمسك الرسمة وتتأمَّلها)، من أخبرك بذلك صغيري؟ القدَر لن يفعل ذلك (تلاحظ شيئًا أزرق)، إذًا أخبِرْني ما هذه، هنا في هذه البُقعة.

– ماما إنها مُدونتك الزرقاء (قال ذلك وهو يُمسِك القلَم بأسنانه).

– عزيزتي هل سمعته يقول مُدونة زرقاء؟ (يتدخَّل الوالد في تساؤُلٍ من مكانه) هل تقصين عليه طفولتك ليلًا؟

– عزيزي، ششش (تُشير بيدِها إلى زوجها)، ششش.

– أنتِ وضعتِها هنا، وأنا أرسُمك، ستُساعدينني في التغلُّب عليه (يبتسم ابتسامةً غريبة، ابتسامة شيطانية).

– اللعنة (تسقُط الورقة)، هذا أبي (وتتراجع في ذهول، كانت تضع يدَيها على فمها)، إنه أبي وليس ابني (ترتجِف في خوفٍ تنظُر من حولها غير مُصدقة).

– عزيزتي تعلمين أنه لا يتوجَّب أن تشتُمي أمام الصغير (قال من دون أن يرى تصرُّفات زوجته، مُنغمسًا في قراءة الكتاب).

– اللعنة! إنه هو، هذا والدي، هو لم يمُت.

– ماما هل أخبرتُك أنني رجل إطفاء. (بصوتٍ مُخيف، صوت يُشبه …)

– أبي (ترتمي إلى ابنها تهزُّه بقوة)، هذا أنت، صحيح؟ إنها أنا ابنتك.

(ثم تسقط أرضًا.)

– عزيزتي هل سمعتُك تخاطبين ابننا بكلمة أبي (يلتفِتُ فيرى زوجته أرضًا، أسرع إليها)، عزيزتي هل أنتِ بخير؟ عزيزتي … صوفي … صوفي.

كبُر ذلك الصبي وجُنَّت ابنتي صوفي، وعلى خلافِ والدي؛ زوجُها لم يترُكها أبدًا. بعد سنواتٍ تُوفِّي كلاهما وأصبح الطفل رجل إطفاءٍ غريبًا، وكانت غرابته أشبَهَ بغرابة أسلافه، أشبه بغرابتي، كان نتيجة طريقة الخلود. وقد كان هو وكل أسلافه مجرَّد فُرَصٍ لرجلٍ واحد؛ رجل مُنح هبة الخلود في هذا العالَم لأنه تحدَّى القدَر، وقد استهلك الكثيرَ من الزمن، الكثير من الأرواح ليتعلَّم، وقد عاش كل القصص، لكنه ومن بين كل تلك الحيوات التي عاشها، هو لم ينسَ تلك المرة التي جرَّب فيها، وبيأسٍ، أن يفهم القدَر، واكتشف أنه لن يفعل وإن خلد الدهر بأكملِه. كان جهله للقدَر أشبهَ بجهل الأطفال للغة الكبار، أشبه بجهل الكبار للغة الأطفال، أشبه بالجهل نفسه، جلس مُجددًا في تلك المحكمة بعد زمن، كان قد التقى ذلك القاضي مُجددًا، وقد قال له القاضي: هذا أنت مُجددًا.

وقد تذكَّر حفيدي المُسمَّى باسمي، تذكرتُ أنا، تذكَّر جدي دي لا بوت، تذكَّر جميع أسلافي، تذكر الرجل الأول الذي قرَّر أن يخلُد في هذه الحياة، تذكَّر الصبي مُجددًا وسيتذكَّر الرجل الذي سنكونه في نهاية هذا العالَم، أننا جميعا كنَّا شخصًا واحدًا اكتشف بطريقةٍ ما إكسير الخلود الخاص به، طريقة كان قد نَسِيها بعد عيشه لكل هذه الحيوات، وقد كان رجلًا لا يمكن تحريكه.

والسؤال الذي سأطرحه الآن، ربما سيكون غريبًا أن أفكر بشيء كهذا، لكن، فقط فكِّر للحظة، ماذا لو؟ ماذا لو لم يفعل دي لا بوت ما فعله؟ ماذا لو تأخَّرتُ «عن قصدٍ» في الذهاب إلى الغرفة في إحدى الحيوات التي عشتُها، ووجدت كلتا الفتاتين مُعلقتَين من دون روح تسكنهما، هل كان ليحدُث شيء؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤