دعوة للأخطار!

قامت الطائرة المعادية بالهجوم رغم إصاباتها … فعاد «أحمد» ينزل إلى تحت … وغاص في السحاب الأبيض … وطار فترةً طيرانًا أعمى معتمدًا على جهاز الرادار، في تجنُّب الاصطدام بالجبال … وفجأةً ظهرت الطائرة المعادية في مواجهته مباشرة، فرفع جناحه الأيمن، ومرق منها … ثم استدار، وصوَّب عليها نيرانه … وفي نفس الوقت الذي شاهد فيه الطائرة المعادية تشتعل فيها النيران، أحسَّ بجناح طائرته يصطدم بشيء ما … واهتزت الطائرة بعنف. وأخذت تدور حول نفسها … وتشبَّث الشياطين بمقاعدهم … وأخذ «ميمون» يصرخ … وبدا واضحًا أن المحرِّك الأيمن قد توقَّف عن العمل … ولم يعُد أمام «أحمد» إلا الهبوط في أي مكان.

رفع الجناح المصاب إلى أعلى … ثم نزل سريعًا، ليبحث عن مكان يهبط فيه قبل أن تشتعل النيران في الوقود، رغم أنه أغلق الصمام الذي يوصل الوقود من الجناح إلى المحرك.

كانت الطائرة تهتز بعنف و«أحمد» يحاول السيطرة عليها … وأخذت تهبط كالصاروخ في اتجاه الأرض، وهو يبحث عبثًا عن مكان مناسب بين أشجار الغابات الكثيفة … ولكن، لم يكن هناك سوى حل واحد … الصعود إلى أقصى ارتفاع ثم القفز بالمظلات.

أصدر تعليماته إلى الشياطين في كلمات موجزة: استعدوا للقفز!

وأسرع «عثمان» يربط المظلة في «ميمون» … ووقف الجميع، وهم يمسكون بالمقاعد حتى لا يسقطوا … ودفع «أحمد» بالطائرة إلى فوق.

استخدم كل ما يمكن من مهارته وهو يقول: هيا أيتها الضفدعة … حاولي من أجل خاطري.

ولم ترُدَّ الضفدعة … صعدت بأقصى ما تُمكِن من قوة.

وقال «أحمد» في مكبر الصوت: سنجتمع عند النقطة «س» عند التقاء خط العرض ١٠ وخط الطول ٤٠ … إن هذا المكان قريب جدًّا من مدينة «لندي» … ومَن يصل أولًا ينتظر.

وارتفعت الطائرة وهي تبذل جهدها الأخير … وصاح «أحمد»: هيا!

وفتح «بو عمير» باب الطائرة وقفز «خالد» … ثم «عثمان» و«ميمون»، ثم أسرع «أحمد» وترك الطائرة وهو يودِّعها متحسِّرًا … وقفز إلى الفضاء العريض.

كان «عثمان» يحاول أن يرصد المظلة البيضاء التي حملت «ميمون» … لقد أحب هذا القرد المدرب الذكي، وخشي أن يفقده في أحراش الغابات الكثيفة، ولم يكن يتصور ما سيحدث بعد ذلك.

نزل «عثمان» على مجموعة من الأشجار العالية، اشتبكت مظلته بالأغصان العريضة … وكان نزوله كوَقْع الصاعقة على طيور وقرود الأشجار، التي أسرعت تفر، وهي تطلق صيحات الفزع.

وجد نفسه في شبكة من الأغصان، وقد التفَّ قماش المظلة في أماكن متعدِّدة وتمزَّقَ … وأخذ جاهدًا يحاول تخليص نفسه من هذا الفخ العجيب، ولكن عبثًا؛ فكلما حاول ازداد تخبُّطًا كأنه وقع في شبكة عنكبوت … وكانت الشمس قد مالت للمغيب، وبدأت الحيوان المفترسة تزأر في الغابة.

وأحسَّ «عثمان» برعبٍ لأول مرة في حياته، إنه وقع في مشكلة حقيقية؛ فقد انكسر الغصن الذي تعلَّق به … ووجد نفسه قد انقلب ووجهه إلى أسفل … بينما بقية المظلة مُعلَّقة في الأغصان العالية … كان معه عدد من الأجهزة الصغيرة التي تساعده على تحديد اتجاهه وأسلحة خفيفة … ومدَّ يده لإخراج سكين يستعين بها على قطع حبال المظلة … وقد اشتدَّ الظلام، وارتفعت صيحات الوحوش في أرجاء الغابة.

كان مشغول البال بزملائه، وبالقرد «ميمون» الذي فقد أثره … واستطاع أن يصل إلى السكين … ولكنه اكتشف أنه إذا قطع الحبال فربما سقط من هذا الارتفاع الكبير، وربما كانت سقطته على الأرض، فيتهشَّم أو يقع فريسة لأحد وحوش الغابة … فأخذ يعدل مكانه تدريجيًّا، بحيث يستطيع أن يجلس أو يتمدَّد ليقضي الليل في مكانه … ثم يبدأ في الصباح في البحث عن النقطة «س»، كما حدَّدَها «أحمد» عند التقاء خط عرض ١٠ وخط طول ٤٠ … قرب «لندي».

وبعد ساعةٍ أحسَّ أنه جوعان، ولكن لم يكن معه أي طعام … وتصوَّرَ ليلة طويلة بلا أكل فتنهَّد … ولكن في هذه اللحظة حدث ما لم يكن في الحسبان … سمع صوتًا قريبًا منه … صوت شيء يقفز، وتصوَّر أنه أحد الطيور الكبيرة، أو الحيوانات المتسلِّقة … ولكن آخر ما كان يمكن أن يتصوَّرَه حدث … فقد سمع صوت قزقزة بجواره … وشفاه طرية تلتصق بوجهه، وشاهد، رغم الظلام، العينين الذكيتين البراقتين للقرد «ميمون» تُحدِّق فيه.

أحسَّ «عثمان» بالسعادة تغمره … ولم يكن في استطاعته إلا أن يقبِّل الوجه الضاحك، وهو يصيح من فرط الفرح: «ميمون» «ميمون»!

أخذ «ميمون» يقفز حول «عثمان» في سعادة، ولما عرف أن صديقه لا يستطيع الفكاك من حبال المظلة والأغصان المتشابكة، قام بعدة حركات سريعة هابطًا صاعدًا، وسرعان ما كان قد فكَّ كلَّ حبال المظلة.

واستطاع «عثمان» أن يعتدل في جلسته، ثم يجلس مستقيمًا … وفي دقائق قليلة كان قد تخلَّص من الفخ الذي وقع فيه.

لم يكن «عثمان» مُصدِّقًا ما حدث … وأخذ يقول لميمون: كيف فعلتها؟ كيف عرفت مكاني؟ كيف وصلت إلى هذا المكان؟

وكانت الإجابات التي يتلقَّاها بعد كل سؤال، هي المزيد من القُبلات وبعض «الصوصوات» غير المفهومة.

أشار «عثمان» إلى فمه، وأخذ يشرح ﻟ «ميمون» أنه جائع، وقد فهم «ميمون» على الفور … فطلبُ الطعام من أبسط التمارين التي تلقاها، ثم إن «عثمان» ضيفه الآن … أليس هو ابن الغابة؟

وقفز «ميمون» مبتعدًا، وأعدَّ «عثمان» لنفسه مكانًا مريحًا بين الأغصان، يقضي الليل فيه.

ولم تمضِ دقائق حتى عاد «ميمون» يمسك بإحدى يدَيه ثمار الموز، وبالأخرى الأناناس … وجلس الاثنان يتناولان طعامهما كأيِّ صديقَين قديمَين … وبعد انتهاء وجبة الطعام الشهية استلقى «عثمان» على ظهره، وسرعان ما استسلم للنوم في حماية القرد الذكي القوي.

تسلَّلَت أشعة الشمس المبكِّرة على الغابة، واستيقظ «عثمان»، ولدهشته الشديدة وجد «ميمون» جالسًا أمامه وقد أعدَّ مجموعة من فاكهة الغابة الطازجة، وكأنه يُعِدُّ طعام الإفطار … واشترك الصديقان في تناول الفاكهة الباردة الحلوة … وقال «عثمان» في نفسه: إنها أجمل وجبة تناولتها في حياتي.

وبدأ العمل … أخرجَ «عثمان» الخرائط وأخذ يبحث عن مكانه، وعن النقطة «س» التي تقرَّر أن يلتقي عندها بالشياطين.

وبعد استخدام البوصلة، وبعمليةٍ حسابية، اكتشف أنه يبعد عن النقطة «س» التي تقع قرب مدينة «لندي» بحوالي ٤٠ كيلومترًا … وهي مسافة يمكن أن يقطعها في عشر ساعات إذا استطاع أن يسير بسرعة ٤ كيلومترات في الساعة في الغابة الكثيفة.

وجمع «عثمان» حاجياته في حقيبته للظهر والتي يربطها إلى كتفَيه، ثم بدأ ينزل وأمامه «ميمون» يسبقه كأنه صاروخ … كان «ميمون» سعيدًا جدًّا بعودته إلى الغابة … وعندما نزلا إلى الأرض، وقف «عثمان» لحظات يحدِّد اتجاهه … ثم أشار إلى «ميمون» أن يتجه إلى الناحية التي سيسيرون فيها.

كانت حيوانات الغابة قد استيقظت من رقادها الطويل … وبدأت تمرح في الغابة … وكان «ميمون» يسير متقدِّمًا … فإذا وجد أنه ابتعد عن «عثمان» كثيرًا، عاد إليه مرة أخرى.

استمرَّ السير في الغابة حتى وصلا إلى حدودها، وخرجا إلى الفضاء المكشوف، حيث تمتد حشائش «السفانا» إلى مدى البصر … لا يقطعها بين مسافة ومسافة إلا الأشجار.

كانت منطقة حافلة بالأسود … فحسب معلومات «عثمان» أن الأسود تعيش على حدود الغابات في مناطق السفانا … كما تعيش على حدود الصحاري … وأعدَّ «عثمان» بندقيته للإطلاق، ثم انطلق يمشي وقد بدأت حرارة الشمس ترتفع … وقدَّر أنه لن يستطيع الوصول إلى النقطة «س» قبل حلول الظلام.

مضت الساعات … وعند الساعة الثانية أحسَّ أنه مُتعَب، وأنه جوعان، فجلس مكانه، وأغفى قليلًا. ولكن فجأةً، انطلقت صيحة «ميمون» مُحذِّرة.

واستيقظ «عثمان» على أصابع «ميمون» تجذبه من ذراعه، وفتح عينَيه على وجه أسد لا يبعد عنه أكثر من عشرة أمتار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤