في الهواء الطلق (٦)

تلاقينا كما تواعدنا، وكنتُ والدكتور وحدنا، فلم أشأ أن أشعّب الحديث، واقتحمت الموضوع اقتحامًا، فقلت: حدِّثني — إذن — كيف تكون الصداقة مع اختلاف الطباع والأمزجة والثقافة؛ وقديمًا قالوا: شبيه الشيء منجذب إليه — وقالوا: حدِّثني مَنْ صديقك أُحدِّثْكَ مَنْ أنتَ! ولذلك حيرني أمر جمعيتنا بالأمس؛ فقد رأينا فيها متدينًا ومَنْ لا يأبه بدين، ورجلًا نظريًا ورجلًا عمليًا، ورجلًا يُحكَم بالعقل، ورجلًا يحكم بالعاطفة، وحليمًا وغضويًا، ومتفلسفًا ورجل مال؛ فكيف أتفق لهؤلاء أن يتصادقوا، وأن تنعقد بينهم الألفة على اختلاف منازعهم ومشاربهم؟

الدكتور: لقد علّمتنا التجارب أن الصداقة تفرخ تحت حرارة الإعجاب، فما لم يكن إعجاب لم تكن صداقة؛ فأنت تعجب بصديقك من ناحية ما، أو من جملة نواح، وهو كذلك. وهذا الإعجاب من شأنه توسيع النفس والشعور باللذة فيما تُعجب به، فأنت تتغذَّى من صديقك بالنواحي التي أعجبت بها، وتتلذذ هذا الغذاء، وتشعر أن نفْسك اتسعت لتتشرَّب نفْسه، وهو يشعر هذا الشعور نحوك؛ وقد تضحِّي ببعض فوائدك ومسرَّاتك من أجله، ولكن هذه التحضية في الواقع ليست إلا تضحية لذة للذة أكبر منها؛ فأنت تُضحي — مثلًا — بشيء من راحتك أو مالك لصديقك لتنعم بلذة أكبر منها، وهي ما تتلذذه من مواضع الإعجاب، أو ما تتلذذه من تضحية صديقك لك.

ثم هذا الإعجاب من جانب قد يكون مناقضًا للإعجاب من الجانب الآخر، فيكون أدعى إلى التصادق؛ فإذا كنت حسن الحديث، وكان صديقك حسن الاستماع، وأعجبت به لحسن استماعه، وأُعجب بك لحسن حديثك، كان ذلك سببًا من أسباب الصداقة، إذ تلاقت فيكما الرغبتان، قد شعرت أنت بمركَّب النقص عندك في الرغبة الكلامية، وأحس هو بمركب النقص في الرغبة السكوتية، فأعجب كل منكما بصاحبه لأنه يكمل نقصه. فليس صحيحًا دائمًا أن شبيه الشيء منجذب إليه، بل قد يكون التناقض سبب الانجذاب، كالكهرباء السالبة والموجبة؛ ومثل هذا في الحياة الواقعية كثير، فكثيرًا ما يقع اختيار الزوج على زوجته لأنه غضوب وهي حليمة، أو هو مسرف وهي مقتصدة، أو هو رزين وهي مرحة، أو نحو ذلك أو عكس ذلك ثم يكون الزواج موفقًا، وسبب التوفيق هذا التناقض؛ ولو كان الزوجان غضوبين أو مسرفين أو رزينين، لكانت عيشتهما لا تطاق، فخير أن ينضم إلى النار ماء، من أن ينضم إلى النار نار؛ ومن هذا ترى — يا أخي — أن عجبك من اختلاف الأصدقاء في الطبع والمزاج يساوي عجبك من تصورك أن الصداقة تتطلب الاتحاد في الميول دائمًا.

فأساس الصداقة — كما ذكرتُ — الإعجاب، وليس الاتحاد في موضوع الإعجاب؛ ومصداق ذلك أنك ترى بعض الناس تغلب عليهم عقيدة أن الناس كلهم أشرار خائنون لا شرف لهم، وأن ما يصدر عنهم مما يظن فيه الخير والمنفعة العامة ليس إلا خداعًا يسترون به أنانيتهم وحبهم لأنفسهم، أمثل هؤلاء لا يستطيعون أن يصادقوا لأنهم فقدوا الإعجاب، ففقدوا بفقده الصداقة.

وقد تتم الصداقة بين شخصين أو أكثر، وتتأكد الصداقة بتأكيد الإعجاب، فإذا فتر الإعجاب فترت الصداقة.

وليس دائمًا أن تكون الصداقة مبنية على الإعجاب بالنيل والفضل والأخلاق الجميلة: فقد تكون الصداقة صداقة شريرة مبنية على الإجرام، أو على شرب الخمر، أو تعاطي كيف من الكيوف، وقد تكون صداقة نبيلة أساسها البطولة أو النبوغ أو الفضيلة، وسواء كان هذا أو ذاك فالأساس هو الإعجاب؛ فالمتصادقان على احتساء الخمر سبب صداقتهما إعجاب كلٍّ بمقدرة الآخر على السكر، وتلذذه من أن يرى صاحبه عونًا له على بلوغ غايته، ونحو ذلك.

ومما يساعد على الصداقة ويقوِّيها الإيثار والتضحية، ومما يضعفها الأثّرَة والأنانية؛ فمحب نفسه جدًا لا يمكن أن يصادق، وتعليل ذلك متصل بما سبق، وهو أن الأناني جدًا قلّ أن يرى خيرًا إلا في شخصه، بل هو يكره ويمقت مواضع العظمة من غيره لأنها تشعره بنقص نفسه. ولذلك تجد خير أنواع الصداقة عند من تعاونوا على نوع من أنواع الخدمة الاجتماعية، لأن لهم غرضًا واسعًا خارجًا عن أشخاصهم، وهو تحقيق نوع من الخير لمجتمعهم؛ فكما رأوا أن صاحبًا لهم مصدر لهذا النفع زاد الإعجاب فتأكدت الصداقة.

وسكت الدكتور قليلًا، فقلت: إذا كان أساس الصداقة الإعجاب فقط، وجب أن يتحقق كلما وجد، وهذا ليس بصحيح، فكثيرًا ما أعجب بإنسان ولا تكون صداقة، فأنا أعجب بعدل عمر بن الخطاب، وبطولة خالد بن الوليد، وفصاحة عليٍّ ونحو ذلك، ثم لا تكون هناك صداقة؛ بل كثيرًا ما يكون الإعجاب بين الأحياء ولا صداقة، فقد أعجب بعقل كاتب إنجليزي أو فرنسي، أو أسلوبه أو بطولته، وقد أعجب بإجادة ممثل على المسرح، أو بجمال غانية، أو بصوت مغنٍ أو مغنية ثم لا تكون هناك معرفة فضلًا عن صداقة كم من الناس يعجبون بصوت (عبد الوهاب) أو (أم كلثوم)، أو بكوكب من كواكب السينما ولا معرفة ولا صداقة؛ وكم من المفكرين يعجبون «بيرناردشو»، أو «ويلز» أو «برتراندرسل» أو نحوهم من الأدباء والمفكرين، وكل ما بينهم هو صلة روحية لا أستطيع أن أسميها صداقة!

بل أستطيع أن أذهب إلى أبعد من ذلك، فأرى أن الإعجاب قد يكون ومعه الكراهية والنفور لا الصداقة، فقد أعجب بفصاحة خطيب أو بلاغة أديب، ولكي أكرهه لثقل روحه؛ وأعجب بقدرةِ عظيم لكفايته المالية وأكرهه لأني أعلم أنه مُرْتَشٍ. والخلاصة أن الإعجاب وحده لا يكفي في تكوين الصداقة.

الدكتور: إن الجزء الأول من اعتراضك، وهو الإعجاب بالأموات، والإعجاب بالعظماء الأحياء عن بُعدٍ سهلٌ الرد عليه، وربما كان سبب اعتراضك عدم التفاتك إلى نقطة هامة فيما ذكرت، وهو أن يكون الإعجاب متبادلًا من الجانبين، فإنك إذا أعجبت بعمر أو خالد أو عليٍ، أو أعجبت ببرناردشو أو ويلز، او عبد الوهاب أو أم كلثوم، فليس هناك إعجاب متبادل، وإنما هو إعجاب من جانب واحد؛ وبذلك لا تتم الصداقة.

وأما اعتراضك بأنه قد يكون الإعجاب مع الكراهية، فهو صحيح، ولكنه يؤيد رأيي، لأن كراهة شخص من بعض النواحي مع الإعجاب به من نواح أخرى تضعف قوة الإعجاب، فالكراهية والإعجاب متقابلان، والإعجاب يدعو إلى التصادق، ثم تلتهم الكراهية هذا الإعجاب فتقف حائلًا دون التصادق.

وأريد أن أزيد شيئًا أكمل به وجهة نظري، وهو أن الصداقة إذا تأسست على الإعجاب فيجب أن تغذَّي دائمًا، وإلا هَزُلت ثم ماتت؛ غذاؤها اتصال الأصدقاء ليتجدد الإعجاب، فإذا لم يتيسر فمبادلة الكتب أو تبادل الأحاديث التليفونية أو نحو ذلك من أنواع الاتصال، لأنه إذا لم يكن اتصال قدُم الإعجاب وهَزْل حتى يُنسى فتُنسى معه الصداقة — والحديث المأثور: «تهادوا تحابوا» لا يزال صحيح المعنى، وليست قيمة الهدية بين الأصدقاء في ثمنها، وإنما فيما يحيط بها من معان؛ فتقديم الهدية معناه أني لا زلت أذكرك، وأني على استعداد للتضحية في سبيلك، وأني أوثرك بما تحب، إلى غير ذلك من معانٍ نبيلة تؤكد الصداقة وتنميها، فالصداقة شجرة وَرْدٍ لا بد من ريِّها، وإلا جفَّت.

وقد قرأت في هذا المعنى حكاية لطيفة حدثت، وهو أن سيدة أوربية متزوجة من غني كبير اعتاد أن يهديها في عيد ذكرى زواجها وردة صفراء جميلة، رمزًا إلى الحب والإعجاب، فجاء عامًا من أعوامها وأهداها في ذلك العيد صكًا بعشرين ألف جنيه، فغضبت جدًا، وألمت جدًا، إذ لم يهدها الوردة الصفراء، لأنها رأت أن الوردة الصفراء — لا العشرين ألفًا — هي التي تغذي روحها؛ فالمال عند غني قد يُمنح صدقة، وقد يؤجر به على عمل، وقد يقدم لمائدة ميسر؛ ولكن الوردة الصفراء — رمز الحب — لاتعوَّض ولا تقدر بمال، ولا تقدم إلا من محب لمن يُحبُّ؛ وكيف يوزن الحب بالمال، وهو إذا وضع في كفة ووضعت الدنيا كلها في الأخرى ما تأثرت الكفة الأولى؟!

قلت: لا يزال في نفسي شيء مما ذكرت، فقد تتوافر الشروط التي قلتها من إعجاب متبادل، وكثرة اتصال ونحو ذلك، ثم لا تكون صداقة.

الدكتور: أرجو أن تنتظرني حتى أتم عرض رأيي، فإذا سكتُ فإنما أفكر في جمع ما يكمل فكرتي، وقد يكون جواب اعتراضك فيما سأذكر، فنستغني عن الأخذ والرد، لا سيما والموضوع عريض، وتحديده والإلمام بكل أطرافه ليس أمرًا هينًا؛ فأشكال الصداقة متعددة، وطباع الناس وأمزجتهم مختلفة، وحصرها كلها تحت قاعدة عامة في منتهى الصعوبة.

وما أريد أن أقوله الآن هو أنه يجب أن يُضاف إلى ما ذكرتُ أن يكون هناك تناغم بين المتصادقين، وأن يكون هناك غرض واحد مشترك في شأن من الشؤون، ولست أريد بالتناغم اتحاد الطبع أو المزاج، فقد سبق أن بيَّنت خطأ ذلك، وإنما أريد بالتناغم الانسجام، كالانسجام بين الدف والمزمار والندى في الجوقة الموسيقية؛ بل إن هذا التناغم هو الذي يفسح الجو للصداقة أكثر مما يفسح لها الاتحاد؛ ثم الاشتراك في الغرض معناه أن يكون للمتصادقين نوع من الغاية المتحدة يسعون لتحقيقها، وتدعوهم هذه الغاية إلى تعلم خُلق الأخذ والعطاء، وهو خلق لا بد منه في تكوين الصداقة؛ ويتجلى هذا المعنى — معنى الاشتراك في الغرض وتبادل الأخذ والعطاء — في المتصادقين من حزب سياسي واحد، أو حزب اجتماعي، أو لجنة من لجان الخدمة العامة.

ثم إذا استعرضنا الصداقات وجدناها أشكالًا وألوانًا، فهي كدرجات في سلم طويل، تبتدئ بالمعرفة، وتنتهي بالعشق والهيام، وبين هاتين درجات لا عدّ لها؛ ثم هناك طباع تُصادق من أول نظرة، وطباع متحفظة لا تصادق إلا ببطء وذلك أدعى أن تحتفظ أيضًا بصداقتها ببطء.

وإلى جانب ذلك كله هناك صديق تعتبره كالغذاء الروحي لا تستغني عنه أبدًا، وتشعر أنك في أشد الحاجة إليه دائمًا، ويصعب عليك أن يمر اليوم ولا تراه؛ وصديق كالفاكهة تحبها في موسمها، وتشتاق إليها حينًا بعد حين؛ فهناك صديق تتلمسه إذا دعا داعي المرح، وصديق آخر تتلمسه إذا دعا داعي الجد.

قلت: هل انتهيت؟

الدكتور: تقريبًا، فإن شئت فاسأل.

قلت: كيف تعلل ما نرى من ظاهرة غريبة، وهو أن صديق الصديق قد يكون صديقًا، وأحيانًا نرى صديقًا واحدًا لشخصين متعاديين؟

الدكتور: هذا صحيح، وتعليله ليس عسيرًا بعد الذي ذكرت؛ ذلك أن نواحي الأخلاق في الإنسان متشعبة متنوعة، فإذا كان صديق الصديق مشتركًا معك في نواحي الإعجاب المتبادل، والتناغم والاهتمام بغرضك، كان صديقًا لك أيضًا — ولكن يحدث أن يكون شخصان متعاديان لعدم الإعجاب وعدم التناغم وعدم اتحاد الغرض، ومع ذلك هما يلتقيان معك في نقطة فيها تبادل الإعجاب، كثلاث دوائر، لا أدري اسمها في الهندسة ولكن أستطيع أن أرسمها لك هكذا ، فمساوى المساوى مساو، ولكن ليس شبيه الشبيه شبيهًا دائمًا؛ فقد يخالف رجل رجلًا في البياض والسواد، والطول والقصر، والعقلية الفلسفية والعملية، ولكنهما يلتقيان معك في شيئين عندك لكل منهما شيء، يلتقي الأول معك في حب الفن، وهو ليس عند الآخر؛ ويلتقي الآخر معك في نوع من الخدمة العامة لا يقوم بها الأول.

أواضح ما أقول؟

قلت: نعم! ولكن — يا دكتور — ألا ترانا قد بعدنا بعض الشيء عن موضوعنا الأصلي، وهو سؤالنا الأول: كيف تصادق هؤلاء المتخالفون!

الدكتور: بعد هذه القواعد العامة التي ذكرتها، لم يبق إلا التطبيق على «أ» و«ب» و«د» و«جـ»، وهذا ليس بالعسير عليك، فتولّهُ أنتَ بنفسك، فقد أحسست التعب من طول تفكيري في هذا الموضوع، وعرض نظرياته، فتعال بعد ذلك نتحدث فيما لا يتعب الفكر.

قلت: أنا أحوج إلى هذا منك؛ فأنت تتكلم في موضوعك بعد أن مرنت عليه.

وتحدثنا فيما لا يهم القارئ. ثم افترقنا وذهني مأخوذ بهذا الحديث المثير للتفكير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤