السيد جمال الدين الأفغاني (١)

١٢٥٤–١٣١٤هـ/١٨٣٩–١٨٩٧م

لئن كان محمد بن عبد الوهاب يرمي إلى إصلاح العقيدة، ومدحت باشا يرمي إلى إصلاح الحكومة والإدارة، فالسيد جمال الدين يرمي إلى إصلاح العقول والنفوس — أولًا — ثم إصلاح الحكومة، وربط ذلك بالدين. «مدحت» يرى إصلاح الشعب عن طريق إصلاح الحكومة؛ وجمال الدين يرى إصلاح الحكومة عن طريق إصلاح الشعب. مدحت يقول: إن الحكومة راع وإذا صلح الراعي صلحت الرعية، والغاية «الدستور» فإذا وضع ونفذ فالخير كل الخير للأمة؛ ويقول جمال الدين: «إن القوة النيابية لأي أمة لا يكون لها قيمة حقيقية إلا إذا نبعت من نفس الأمة، وأي مجلس نيابي يأمر بتشكيله ملك أو مير، أو قوة أجنبية محركة له، فهو مجلس موهوم موقوف على إرادة من أحدثه»، فالعقول والنفوس — أولًا — والحكومة ثانيًا والغاية هما معًا.

ماذا تنفع الحكومة الصالحة إذا كان الشعب غير صالح؟ لقد علمنا التاريخ، أن الحكومة لا تستقيم إلا إذا كان في الأمة رأي عام يخيفها، ويلزمها أداء واجباتها، والوقوف عند جدها، فإذا لم يكن ذلك فالطبيعة البشرية تملي على الحكام أن يستأثروا بالمنافع، وغاية ما يتوقع من الحكومة الصالحة غير المؤسسة على قوة الأمة ويقظتها أن تكون موقوتة بوقتها، فإذا زالت حل محلها من لا يصلح؛ إذ لا شأن للأمة في اختيارها، ولا رقابة لها على أعمالها.

يقول حول سنة ١٢٩٦هـ: «هبوا أن مجلسًا نيابيًا أنشئ فستجدون أن حزب الشمال لا أثر له، وسيفر الأعضاء كلهم إلى حزب اليمين، وسيكونون كلهم آلة صماء … وسيرى كل عضو أن الدفاع عن الوطن ومناقشة الحاكم الحساب قلة أدب، وسوء تدبير، وقلة حنكة، وتهور». لا! لا! العقول والنفوس هي المقدمة، والحكومة الصالحة النتيجة.

•••

أفغاني الأصل، شريف النسب، ينتمي إلى الحسن بن علي (ولشرف النسب في هذه البلاد حرمة وإجلال تفوق ما في غيرها من الأقطار). جمع إلى شرف النسب عزة السيادة؛ فقد كان أهل بيته سادة على عمالة من أعمال أفغان. ولكن ما لنا ولهذا كله، فقد تنبت النبتة الطيبة في الأرض السبخة، والنبتة الفاسدة في الأرض الصالحة، فإذا نبتت النبتة الصالحة في الأرض الصالحة اكتفينا بالتسجيل. فأسرة جمال الدين لم تنبت إلا جمال الدين، وأسرة محمد عبده لم تنبت إلا محمد عبده، وما أكثر الأسر التي تشبه أسرتيهما أو تفوقهما ومع هذا لم تنبت شيئًا. فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

تعلم — كما يتعلم شباب زمانه في بلاده — الفارسية والعربية على طريقة تشبه الطريقة الأزهرية، ولا تمتاز عنها إلا بدراسته الواسعة في الفلسفة الإسلامية والتصوف كما هي عادة الفرس إلى اليوم، فكان ذلك نواة ثقافته؛ ودرس في الهند الرياضة على الطريقة العصرية، وساح سياحة طويلة في الأقطار الإسلامية إلى مكة، فأكسبه ذلك تجارب عملية واسعة، وخبرة بحياة الشرق. ووقعت بلاده في منازعات سياسية على من يتولى الملك، فانغمس فيها وتشيع لجانب منها ونام منه مقام الوزير وانتصر وانهزم، ولمس تدخل الدول، فعلمه ذلك كله السياسة وخصومتها ودهاءها وألاعيبها.

وتعلم الفرنسية وهو كبير؛ أتى بمن يعلمه الحروف الهجائية ثم انفرد بتعليم نفسه نحو ثلاثة أشهر يحفظ من مفرداتها حتى استطاع أن يقرأ من كتبها ويترجم منها، ثم توسع في ذلك أثناء إقامته بباريس ومع هذا فلم يحذقها كل الحذق.

كم من الناس علموا أكثر مما علم، وقرأوا أكثر مما قرأ، ورطنو أكثر مما رطن، ولكن لم يكن لأحد منهم شخصية كشخصيته. ذكاء متوقد، وبصيرة نافذة، وتوليد للأفكار والمعاني من كل ما يقع تحت سمعه وبصره، واستقصاء للفكرة حتى لا يدع فيها قولًا لقائل. «له سلطة على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها، كأن كل معنى قد خلق له. وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها. كل موضوع يلقى إليه يدخل للبحث فيه كأنه صنع يديه فيأتي على أطرافه، ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه، فيظهر المستور منه. وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها؛ ثم له باب في الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبدع، وله لسن في الجدل، وحذق في صناعة الحجة لا يلحقه فيها أحد إلا أن يكون في الناس من لا نعرفه …

أما أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفاته، وله حلم عظيم يسع ما يشاء الله أن يسع، إلى أن يدنو منه أحد ليمس شرفه أو دينه، فينقلب الحلم إلى غضب، تنقض منه الشيب، فبينما هو حليم أوّاب، إذا هو أسد وثاب، وهو كريم يبذل ما بيده، قوى الاعتماد على الله، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر.

أما خَلْقه فهو يمثل لناظره عربيًا محضًا من أهالي الحرمين، فكأنما قد حفظت له صورة آبائه الأولين من سكنة الحجاز. ربعة في طوله، وسط في بنيته، قمحي في لونه، عصبي دموي في مزاجه، عظيم الرأس في اعتدال، عريض الجبهة في تناسب، واسع العينين عظيم الأحداق، ضخم الوجنات، رحب الصدر، جليل في النظر، هش بش عند اللقاء، قد وفاه الله من كمال خلقه ما ينطبق على كمال خُلُقه١».

فهم رسالته وما تتطلب من جهاد، وما تقتضيه من أعباء، فلم يرتبط بأسرة ولم يستعبده مال، وعاش لأفكاره ومبادئه، تكفيه أكلة واحدة في اليوم كله، وإن أفرط في الشاي والتدخين. أعد نفسه للنفي في كل لحظة؛ فنافيه لا يتعبه إلا شخصه. ملابسه على جسمه، وكتبه في صدره، وما يشغله في رأسه، وآلامه في قلبه.

ولقد طوف في فارس والهند والحجاز والآستانة، وأقام فيها، ولكن لعل أخصب زمنه، وأنفع أيامه، وأصلح غرسه، ما كان في مصر مدة إقامته بها من أول محرم سنة ١٢٨٨ إلى سنة ١٢٩٦هـ (مارس سنة ١٨٧١/أغسطس سنة ١٨٧٩). ثمان سنين كانت من خير السنين بركة على مصر، وعلى العالم الشرقي، لا بجمال مظهرها وحسن رونقها، وسعادة أهلها، ولكن لأنه فيها كان يدفن في الأرض بذورًا تتهيأ في الخفاء للنماء، وتستعد للظهور ثم الازدهار، فما أتى بعدها من تعشق للحرية وجهاد في سبيلها فهذا أصلها، وإن وجدت بجانبها عوامل أخرى ساعدت عليها وزادت في نموها.

لقد جرّب «السيد» أن يبذر بذورًا في فارس والآستانة فلم تنبت، ثم جربها في مصر فأنبتت.

كان من حسنات رياض باشا أن أعجب «بالسيد» ورأى فيه عالمًا لا من جنس العلماء، يعرف الدين ويعرف الدنيا ويجيد الفهم ويجيد القول؛ فمكّن له من البقاء في مصر وسعى عند الحكومة فقررت له عشرة جنيهات شهريًا.

كانت هذه السنون الثمان من أشق السنين على مصر، إذ كان حالها حال أسرة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، ولكن ربها أسرف فيما ينفق، ولم يكتف بدخله الكثير فأنفق أضعاف ما كسب مما كان يستدين، حتى إذا بلغ الغاية في الدين أخذ الدائنون يحجرون عليه، ويتدخلون في شؤونه، ويشرفون على مصادره وموارده، ولا يتركون له شيئًا من حرية التصرف؛ فإذا الأسرة بائسة بعد نعيم، وشقية بعد سعادة، وإذا هي مغلولة الأيدي والأرجل والأعناق تحاول الخلاص فلا تجده، وتتلمس طريق الحرية فلا تهتدي إليه.

فقد توالت القروض التي عقدها اسماعيل باشا، ففي المدة الواقعة بين سنة ١٨٦٤ وسنة ١٨٧٥ بلغت الديون نحو خمسة وتسعين مليونًا من الجنيهات، فجاءت بعثة كيف Cave سنة ١٨٧٥ لفحص مالية مصر، واقترحت لضرورة إصلاحها إنشاء مصلحة للرقابة على ماليتها، وأن يخضع الخديوي لمشورتها، ولا يعقد قرضًا إلا بموافقتها.

وأنشئ صندوق الدين سنة ١٨٧٦ يتسلم المبالغ المخصصة للديون من المصالح المحلية، فكانت حكومة أجنبية داخل الحكومة المصرية. وأنشئ نظام الرقابة الثنائية في هذه السنة أيضًا، وكان من مقتضاه أن يتولى الرقابة على المالية المصرية مراقبان: أحدهما إنجليزي لمراقبة الإيرادات العامة للحكومة، والآخر فرنسي لمراقبة المصروفات؛ وأنشئت لجنة مختلطة لإدارة السكك الحديدية وميناء الإسكندرية. وجاءت لجنة تحقيق عليا أوروبية سنة ١٨٧٨ لمراعاة مصالح الدائنين الأجانب، وتدبير المال اللازم لوفاء الأقساط المطلوبة لهم.

وتطورت الرقابة الثنائية إلى تأليف وزارة مختلطة برئاسة نوبار باشا يدخلها وزيران أوروبيان أحدهما إنجليزي لوزارة المالية، والآخر فرنسي لوزارة الأشغال٢.

ولا شك أن المال عصب الحياة، فالمشرف عليه مشرف على كل شيء، فتوفير المال لسداد الديون يتطلب الإشراف على جميع الإدارات التي تغل المال، وهذه الإدارات تحصِّل المال من الفلاح، فلا بد أن يكون آمنًا على ماله، مهيأة له وسائل إصلاح زراعته، يُعَامَلُ بالعدل في تحصيل الضرائب منه، فلا بد من الإشراف على هذه الشؤون كلها من أجل المال. وهكذا من أشرف على المال أشرف على كل شيء.

كل هذا حدث مدة إقامة «جمال الدين» في مصر، وكان من طبعه الانغماس في السياسة، ونمى هذا الطبع نشأته في بيت حكم، وانغماسه فيها أيام تنازع الأسرة المالكة في الأفغان، فكانت هذه الأحداث المصرية حافزة له على أن يعيد ما بدأ به من الاشتغال بالسياسة، وحافزة للناس في مصر على أن يجاوبوا حركته.

•••

كان نشاطه التعليمي ذا شعبتين: دروس علمية منظمة يلقيها في بيته في «خان الخليلي»، ودروس عملية يلقيها بين زوّاره في بيته وفي بيوت العظماء حين يردُّ زيارتهم، وفي «قهوة البوستة» بالقرب من «العتبة الخضراء»، وحيثما تيسر له في المجتمعات.

فأما دروسه في بيته، فكان يلقيها على طائفة من مجاوري الأزهر وبعض علمائه، أمثال الشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الكريم سَلْمان، والشيخ إبراهيم اللقاني، والشيخ سعد زغلول، والشيخ إبراهيم الهلباوي.

كان أكثر الكتب التي قرأها على هؤلاء وأمثالهم كتب منطق وفلسفة وتصوف وهيئة، مثل كتاب الزوراء للدواني في التصوف، وشرح القطب على الشمسية في المنطق، والهداية، والإشارات، وحكمة العين، وحكمة الإشراق في الفلسفة، وتذكرة الطوسي في علم الهيئة القديمة، وكتابًا آخر في علم الهيئة الجديدة.

هي كلها كتب فلسفة على نحو ما يتصور الفلاسفة القدماء وفي العصور الوسطى؛ فكانوا يعدون المنطق مقدمة الفلسفة أو مدخلها، ومن فروعها الألهيات والطبيعة والفلك والطب وما إلى ذلك.

ويظهر لي أن هذه الكتب لم تكن لها قيمة في ذاتها؛ فقد كان الشيخ حسن الطويل مثلًا يقرأ بعض هذه الكتب في الأزهر، وإنما كانت قيمتها في أن كل فصل من فصولها، أو جملة من جملها، كان تكأة يستند عليها الشيخ في شرح أفكاره وآرائه، والتبسط في مناحي الفكر، والتطبيق على الحياة الواقعة، ونظرته إلى العالم كوحدة، مازجًا التصوف بالفلسفة بالهيئة بغير ذلك. وهذا هو ما أقنع الشيخ محمد عبده من الشيخ وطمأن نفسه إذ قال: إنه «بعد حضوره في الأزهر سنين ملّ الدروس المعتادة، وصارت نفسه تطلب شيئًا جديدًا، وتميل إلى العلوم العقلية، وكان الشيخ حسن الطويل ممتازًا في الأزهر بعلم المنطق فحضره عليه ولكن لم يكن يشفي ما في نفسه، بل كانت تتشوف دائمًا إلى علم غير موجود … وقرأ الشيخ حسن الطويل شيئًا من الفلسفة، ولكن لم يكن يجزم بأن المعنى كذا، بل كان درسه احتمالات، حتى جاء السيد جمال الدين فوجد عنده طلبته وأقصى أمنيته».

فهذه الكتب التي قرأها إنما قيمتها في نفس جمال الدين، والدنيا تتلون بلون منظار الرائي، والطبيعة كلها مفتوحة أمام أعين الناس كلهم، ولكن لا يفهم منها إلى القليل.

ما هذا الشيء الجديد الذي وجده «محمد عبده» عند «جمال الدين» فاطمأن إليه واهتدت نفسه؟ هو ما عند جمال الدين من أصول كلية هي عماد الفلسفة، يرجع إليها كل ما يقرأ من صفحات الكتب، وهي الحَكَمُ في صحة ما يصح، وبطلان ما يبطل، ثم شخصية قوية تجزم في الحكم ولا تتردد تردد الشيخ حسن الطويل، ثم ربط جزئيات الحياة العلمية والعملية كلها برباط واحد، يفتح النوافذ كلها بعضها على بعض حتى تتألف منها وحدة، فالتصوف، والفلسفة، والدنيا العامة، ودنيا الشخص، هذه كلها لا يصح أن يكون كل منها حجرة مغلقة على نفسها، بل لا بد أن تتقابل وتتناغم، وتؤلف دورًا موسيقيًا واحدًا، فإذا تم هذا صح نظر الإنسان وزال عنه كثير من الشك المؤلم والحيرة المضنية، وبت فيما ينفع وما يضر، وما يعمل وما يدع، ووضحت أمامه الأعلام، واستنارت السبل، أما جملة تصح وجملة لا تصح، ومؤلف أخطأ ومؤلف أصاب، ومنطق في الكتاب ولا منطق في العمل، ونظرية في التصوف يقضها نظرية في الحكمة، وأقوال في الزهد يسلم بها في حينها، وأقوال في الحث على الانغماس في الحياة يسلم بها في حينها أيضًا، فهذه كلها نظرة البدائيين الذين لا يستطيعون أن ينظروا إلا إلى السطح دون الأعماق، والأعراض دون الجوهر، والأشكال دون الحقيقة.

وفوق هذا كله كان يأخذ بيد تلاميذه فيرفعهم إلى مستوى يسيطرون فيه على الكتاب ولا يستعبدهم الكتاب، ويسمون عن قيود الألفاظ والجمل إلى معرفة الحقيقة في ذاتها ولو خالفت الألفاظ والجمل.

وكانت طريقته في التدريس عكس طريقة الشيخ محمد عبده. كان جمال الدين يحدد موضوع الدرس فقط من الكتاب، ثم يفيض في شرح الموضوع من عنده حتى يحيط به من جميع أطرافه، وبعد ذلك يقرأ نص الكتاب فإذا هو واضح ظاهر، بيِّنٌ فيه موضع الخطأ والصواب. أما الشيخ محمد عبده فكان يقرأ النص أولًا ويتفهمه ويفهِّمه، ثم يفيض في التعليق عليه وفي بسط الموضوع من عنده.

هذه هي مدرسته النظامية في بيته.

١  من وصف الشيخ محمد عبده له.
٢  انظر تفصيل ذلك في كتاب عصر اسماعيل لعبد الرحمن بك الرافعي جزء ٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤