في الهواء غير الطلق

دق جرس «التليفون» صباحًا:

– ألو …

– صباح الخير …

– أمدعو أنت لحفلة عرس فلان؟

– نعم.

– وستذهب؟

– نعم.

– إذن مرّ على في الساعة الثامنة مساء لنذهب معًا.

– مع السرور.

ووضعت السماعة، وكان الذي يتكلم أستاذنا الفيلسوف الذي حدثتك عنه، فأحسست شعورًا مزدوجًا، سرورًا بألم، ورضا بغضب.

لقد كنت أؤمل ليلة خفيفة فيها أكل شهي، ومنظر بهي، وغناء مطرب وتنادر فَكِه، وراحة من كتب، وفرار من درس؛ فإذا كل هذا الأمل يخيب من هذا الحديث القصير، فقد توقعت درسًا في الفلسفة، ومحاضرة في الحكمة، وإن كنت أجهل موضوع الدرس ومدار البحث. فصاحبنا مهما تحدث لا يتحدث إلا فلسفة، وإذا تلقف موضوعًا — مهما كان — فهو يعمق فيه إلى ما تحت الطبيعة، أو يعلو فيه إلى ما فوق المادة، وهو قادر على أن يفلسف كل شيء، حتى أبعد المسائل عن الفلسفة، ولكنه في حديثه خفيف الروح، حلو النفس، جيد المحاضرة، حسن التفنن؛ وهذا ما خفف عليّ بلواي، ثم له عليّ حق الأستاذية، والأبوة العقلية والروحية، فوطنت نفسي أن أضحي بلذة عيني وسمعي للذة عقلي، وقدرت أني سأنتقل من مكتبة إلى مكتبة، وسأكون في فصل من مدرسة، وإن كان المظهر حفلة عرس ومجال أنس، وذهبت معه وأمري إلى الله.

•••

حضارة أمم في دار، ليلها نهار، معرضُ فنان، وجمال ألوان، وعيد حسان، وروائح الجنان، وموسيقى تصدح بأعذب الألحان، ووجوه فرحة، ونفوس مرحة، وفي كل ركن وكل حجرة منظر خلاب، من مرح للشباب.

وإذا أنا وشيخي في هذا الحقل اللجب كأننا نشاز في نَغَم، أو تعويذة في سلك درر.

قال شيخي: ما أنصفنا إذ أتينا، ولو علمت ما جئت، فأنا إذا وجدت هذه المناظر فقدت نفسي. ومع هذا فهمنا في رواية تمثل على مسرح نلهو بمنظرها ولا نشترك في تمثيلها.

وانتحينا ناحية، واسترحت واستراح الشيخ من المقابلات والتحيات والحفاوات، وعادت إليه شهوته للكلام ورغبته في التفلسف، فقال: انظر: كل هذا بعض ما تفعله الغريزة الجنسية. إليها يرجع الفضل في إعجابنا بالألوان البراقة، والأشكال الجذابة، والأصوات الجميلة، بل إليها يرجع في نظري كل فن جميل. فالحفر والتصوير والموسيقى والشعر والنثر الفني وأوزان الشعر وأنواع البديع ما كانت تكون لولا الغريزة الجنسية. وكل ما في اللغة والأدب من وصف الجمال والقبح. والغزل والنصيب. والهجر والوصال، ولذة الحب وألمه مردُّه إليها، بل وإليها يرجع عالم البيت وعلاقاته وشؤونه من زوجية وأبوة وبنوة. وكل ما يتصل بذلك من ملاذ وآلام، وما تلعب فيه العواطف من حب وبُغض، ورضا وغضب، ورحمة وقسوة، وما شئت من أشكال وألوان.

– راقب الألاعيب المختلفة أمامك من مرح وضحك، وحركة وسكون، وهرج ومرج، وأناقة في ملبس، وتأنق في حديث، وموسيقى جميلة، سارة وحزينة، وحلل كل ذلك إلى عوامله الأولية، تره الغريزة الجنسية.

– بل أخرج من عالمنا هذا الضيق إلى العالم الفسيح، ومن هوائنا غير الطلق إلى الهواء الطلق، تر غناء الطير: من هديل الحمام، إلى سجع القمرى، إلى عندلة العندليب، إلى قطقطة القطا، إلى زقزقة العصفور، إلى نقنقة الدجاجة، إلى نحو ذلك، إنما تبعث عليه الغريزة الجنسية؛ وقل مثل هذا في صهيل الفرس، وحنين الناقة، وخوار البقر.

بل خطا أستاذنا «دارون» ومدرسته أكثر من ذلك، فزعموا أن جمال الطيور والحيوان إنما منشؤه الغريزة الجنسية والانتخاب الطبيعي، فتحجيل الفرس وبياض غرته، وزركشة الطاووس، ونقش الفراشة، والنكت البيض والصفر والسود والحمر في الطائر والحيوان إنما هي تبرج للغريزة الجنسية.

قلت: لم يبق إلا أن يقولوا كذلك في الأزهار وألوانها، وجمال الورد، وزرقة البنفسج، وبياض الياسمين، وزركشة «البنسيه»!

قال: نعم، كذلك قالوا، حتى لو عدمت الغريزة الجنسية لم يبق من الجمال في العالم شيء.

قلت: وجمال الطبيعة؟

قال: لم نكن ندرك لها جمالًا لو فقدنا هذه الغريزة — ولم يصنع الإنسان أكثر من أنه أخذ ما يفعل النبات والحيوان، فرقاه في شعوره بالجمال، وفي شعوره بالواجب، وفي الحب الزوجي والأبوي، وفي الغناء، وفي الرقص، وفي الزينة والتزيُّن؛ وقد فعل في ترقية كل ذلك ما فعله في المأكل والمشرب والملبس مع تعقيد وتجميل، والأساس في كل ذلك ما عنده وعند كل حي من الغريزة الجنسية.

قلت في نفسي: سبحان ربي، أفي مثل هذا الجو تثار مثل هذه المشاكل؟ وأُنحَّى من هذه الملاحة والوضاءة، وأحرم من قراءة نسخة الحسن في الوجوه، لأقرأ نسخة من أرسطو، وأُنقَل من سمع الألحان إلى سمع الكيان١.

ودُعينا إلى سماط فخم، فيه كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

قلت لشيخي: ما هذا؟

قال: كأنه كتاب أنيق، حسن الديباجة، محكم الوضع، متناسق، التبويب، متنوع الأساليب، قد استوعب الأصول وأحاط بالفروع.

قلت: أرسطو ورب الكعبة.

وصمت الشيخ فلم يتابع حديثه، وكأنه ضن بالفلسفة أن يسمعها غير أهلها، أو تُقال في غير محلها، فحمدت الله إذا استعضت عن الأكلة في فكرة بأكلة في نظرة. وحدِّثْ ما شئت عن جمال وظرف، وأناقة ولباقة، وفكاهة حلوة على لقمة حلوة، وهمسة خافتة تتبعها ضحكة عالية، حتى انتهينا من أكلنا هنيئًا مريئًا، وعدنا إلى مجلسنا في ركننا، وبالمتكلم رغبة في أن يتكلم أكثر مما للسامع أن يسمع، ثم قال. إلى أين وصلنا؟

قلت: إلى أن كل فن في الإنسان، وكل غناء للطيور والحيوان، وكل برقشة للنبات، سببها الغريزة الجنسية.

قال: نعم، وقد فكرت طويلًا في هذه الغريزة، وما القصد منها، فتبين لي أن الطبيعة منحتها بقصد «استمرار الحياة»، وقد كانت الطبيعة سخية، فمنحت منها أكثر من الحاجة إليها، فرصدت «للاحتياطي» منها أكثر مما يلزم، ومنحت الإنسان أكثر مما يقتضيه بقاء النوع واستمرار الحياة، فصرف جانبًا منه في هذا الغرض الأساسي، وفاض ما عنده فصرفه في اللعب بالعواطف وممارسة الفن، وأنفق جزءًا منه في تربية البنين والبنات ليكمل غرضه في «استمرار الحياة»، ويجعله استمرار حياة تأخذ في الرقي والتقدم؛ ولما كان حبُّه أكثر من الحيوان كانت تربيته لنوعه أرقى وأنفع، فاستطاع أن يرقى ملكاته، ويربي مواهبه على مدى الزمان، حتى لتشعر بالفرق الكبير بين الإنسان الحاضر والإنسان الماضي، ولا تشعر بفرق كبير بين القط الحاضر والقط الماضي، وبذلك امتاز الإنسان بأن ليس الغاية من غريزته الجنسية حفظ نوعه واستمرار حياته فقط، بل غايته أيضًا ترقية النوع إلى أن يصل إلى درجة الإنسان الكامل — وكل القوانين التي شرعت للزواج والطلاق وحقوق الأسرة، وعقوبة الزنا وما إليه، إنما كان الغرض منها حماية هذه الغريزة حتى تؤدي غرضها على الوجه الأكمل، واختلاف هذه الشرائع رقيًا وانحطاطًا اختلاف في التوفيق في فهم الغرض الأساسي ووسائله، أو عدم التوفيق — وقد وجد في الطبيعة من فسدت منه هذه الغريزة الجنسية كما يوجد من فسدت غرائزه الأخرى، فهناك المعتدل في شهوة الأكل، ولكن بجانبه النهم ومن لا يشتهي الطعام، كذلك هذا؛ فمن الناس أبو العلاء، وأبو نواس، وصريع الغواني. والإغراء في هذا الباب أقوى، والحيل فيه أوسع، لهذا التفت التجار إلى أن يستغلوا هذه الغريزة ويستهووها بشتى الوسائل حتى السينما والتمثيل والصحف والمجلات، والتفت المشرِّعون لصد هذا التيار، ووقف الغريزة عند حدها المشروع، فكان صراع أين منه الصراع على المأكل والمشرب والملبس.

وبينما هذه الناحية من الغريزة الجنسية تشغل رجال الدين والأخلاق والاجتماع، إذا بناحية أخرى منها تشغل بعض علماء النفس، فقد لفت نظرهم تعدد أنواع النساء والرجال، ولَعِب الغريزة الجنسية بهم ألعابًا مختلفة، لماذا يحب هذا الرجل هذه المرأة دون تلك؟ إن في مجال هذه الألعاب مناظر نفسية مختلفة: هذه امرأة تثير في الرجل خياله ومشاعره، وأحلامه، تجذبه وتضطره أن يتحمل في سبيلها الآلام، ويتخطى العقبات، ولها سر مجهول يجعل حبه لا يفنى ولا ينقص مهما تغيرت الظروف.

وهناك امرأة أقل منها شأنًا تثير هذا الحب والجاذبية ولكن في إمكان الرجل أن يتغلب عليه بسلطان عقله، لأن ما تثيره من حب هادئ غير عنيف.

وهناك امرأة تثير في الرجل إعجابه لا من طريق شخصيتها، بل من طريق ملابساتها، كذكائها وذوقها، فالرجل ينظر إليها نظرته إلى الصديق الموائم، والأخ المنسجم.

وهناك امرأة تُلهب شعلة كشعلة القش ما تشتعل حتى تخمد، وإذا خمدت فالكراهية والاستثقال والنفور، إلى غير ذلك من أشكال وألوان.

وشأن الرجال في نظر النساء شأن النساء في نظر الرجال؛ بل قد تكون امرأة في نظر رجل من الصنف الأول، وفي نظر آخر من الصنف الرابع وهكذا، ولذلك يخرج من عشرة رجال وعشر نساء أشكال عدة وعلاقات مختلفة — هل درست التوافيق والتباديل في الحساب؟

قلت: نعم.

قال: هو هذا. ولبعض علماء النفس في ذلك بحوث تستخرج العجب، سأقص عليك طرفًا منها في فرصة أخرى، وأزيد الآن على ما قلته أن كثيرًا من أسباب السعادة الزوجية أو الشقاء يرجع إلى هذا السر الخفي. وبدأ الناس في الانصراف فانصرفنا، وركبنا عربتنا، وفي الطريق ظل يتدفق:

أرأيت كيف أن الطبيعة وضعت فينا هذه الغريزة، وسخت في منحها، فلعبت بنا هذه الألاعيب في الفن والغزل، وفي الحياة ومتاعبها؟! لقد أخفت عن الأنسان سرها، وحجبت عنه فهمها، وسخرته في خدمتها، وهو يظن أنه حر طليق يلعب ألاعيبه باختياره وإرادته، مع أنه هو عبد لغريزته! لقد ضحكت منه الطبيعة وهو — من غفلته — يعتقد أنه هو الذي يضحك منها! قلت: أما وقد كشفت لعبتها، فهل ترى رأي أبي العلاء.

تواصل حبل النسل ما بين آدم
وبيني ولم يوصل بلامي باء
تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد
بعدوى فما أعدتني الثؤباء

قال: لا، فرأى أبي العلاء قلب للوضع، وتحريف للجنس، والإنسان الكامل ليس من يحارب طبيعته، بل من يرقّى طبيعته. وأرقى أنواع الحب — كحب الوجود، وحب الله — لم ينشأ إلا مما أفاضته علينا الطبيعة من حب الجنس.

لقد كان أبو العلاء وأمثاله يرون أن الغريزة الجنسية عائق عن تحرر النفس، وأنها مانع من موانع رقيها وسموها، وأن كمال الإنسان في التخلص منها وإمانتها بكبتها، وأنها في الإنسان ضرورة محزنة، وعلى هذا الأساس تأسست نزعة الرهبانية، ونظم الأديرة، وخلوات الصوفية، ولكني أرى غير هذا الرأي. نعم إن الغريزة الجنسية كم حطَّمت من أفراد، بل كم حطَّمت من أمم، وجعلت حياتهم ليست إلا حياة بهيمية مزوَّفة، وجعلتهم يسخِّرون كل ملكاتهم الأخرى — من ذكاء وعاطفة وقدرة — لخدمة هذه الغريزة، ولكني أرى أن من الممكن أن يتسامى الإنسان من طريق وجودها لا من طريق إعدامها، ومن الممكن تحويلها من مصدر شر للإنسان إلى مصدر خير، وخيرٌ للإنسان أن يُمنح نعمة الحب فيعدلها ويلطفها، ويستخدم ما ينبعث عنها من عواطف لخير نفسه وخير إنسانيته، من أن يحرم الحب، ولو عاش بعقله.

ومسألة أخرى عظيمة الأهمية في هذا الموضوع وهي أن الإنسان …

وهنا وقفت العربة أمام بيت الأستاذ، فودعته وانصرفت، ونظرت، فإذا أنا قد عدت من حفلة العرس بخفي حنين، ومن الفلسفة بملء اليدين، فخاسر أنا أم رابح؟

١  سمع الكيان: اسم كتاب في الفلسفة اليونانية نقل إلى العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤