زوال ملك قرطاجة وخرابها

ولنتكلم الآن بالإيجاز عما حصل لهذه الجمهورية الإفريقية القديمة من بعد أن أخضعها الرومانيون عقب الحرب البونيقية الثانية، وحصروا دولتها في بلاد تونس، وأوجدوا بجانبها جارًا شديد البطش عليها قديم العداوة لها، وهو مسنيسا ليكون في جسمها كالسرطان في جسم العليل، إن برئ من جانب ظهر في الجانب الآخر حتى يقضي العليل نحبه ويستريح بالموت الأحمر من هذا الداء الأزرق، هكذا كانت حال قرطاجة بعد الشروط القاسية التي قبلتها مضطرة غير مختارة عقب انهزام بطلها الشهير أنيبال في موقعة (زاما)، فإن مسنيسا ما انفك بعدها يوجد كل يوم سببًا للشقاق بينه وبين قرطاجة، ويتعدى الحدود المعينة له، ويختلس الأراضي بدون أن تجسر الحكومة القرطاجية على صد هجماته أو منع تعدياته؛ بسبب الشروط التي تم عليها الصلح بينها وبين رومة التي تحرم عليها إعلان الحرب على أحد مجاوريها بدون تصريح الحكومة الرومانية، فكانت تكتفي بالشكوى إلى باب سناتو رومة الأعلى ولا تجد منه إلا أذنًا صماء، حيث كان من صالح رومة إضرام نار الفتن بين الجارين حتى تحصل على ضالتها المنشودة وهي الإجهاز على قرطاجة يومًا ما.

لكن لما كثرت شكوى قرطاجة من جارها؛ أرسلت الحكومة الرومانية رسلًا لتسوية ما بين الجارين من الخلاف وتوطيد أسباب الاتفاق والوئام بينهما إلى حين.

وكان من ضمن أعضاء الوفد (كاتون)، فوجد حالة قرطاجة في غاية اليسار وخزائنها ملأى بالدراهم، ومخازنها مفعمة بالأسلحة والذخائر الحربية، وتجارتها رابحة على عكس ما كان يؤمل الرومانيون بعد انتصارهم.

ولما كانت هذه الحالة المرضية غير منطبقة على رغائب أمته؛ انقلب كاتون على قرطاجة، وصار من أكبر المحرضين على التعجيل بالإجهاز عليها قبل أن تزداد قوتها فيخشى منها وتضطر رومة إلى محاربتها حربًا ربما كانت عاقبتها وخيمة على الأمة الرومانية، وصار يخطب بذلك في كل صقع ونادٍ، ويختم خطاباته ومحرراته بهذه العبارة التي صارت في اللغات الأوروبية إلى الآن مجرى الأمثال، وهي Delenda est Corthago، ومعناها يجب تخريب قرطاجة.

ولقد أثرت خطاباته هذه في الرأي العام وبالتالي في رجال الحكومة تأثيرًا شديدًا حتى اقتنعوا بضرورة محاربة قرطاجة ثانيًا وجعلها ولاية رومانية بسيطة، وانتهزت لتنفيذ غرضها هذا فرصة تعدي مسنيسا على حدود قرطاجة وقيام الجنود القرطاجيين لصد غاراته، فأعلنتها رومة بأنها خالفت نص شروط الصلح بمحاربتها جارها بدون استئذان سناتو رومة، فأزعنت قرطاجة للقوة واسترجعت جيوشها، وتركت مسنيسا يعثو في حدودها فسادًا إرضاء لخاطر الحكومة الرومانية وإذعانًا للقوة دون الحق.

ومع كل هذا التذلل لم تعاملها رومة بالعدل، بل أرسلت إليها جيشًا مؤلفًا من نحو ثمانين ألف مقاتل تحت قيادة سيبيون إمليان Seipion Emilien (في سنة ١٤٩ق.م) لمجازاتها على إخلالها بالعهود، ولما رأت قرطاجة أن الرومانيين ينوون محوها من عالم الوجود؛ عادت الشجاعة إلى أهلها، وتعاقدوا وتضافروا على محاربة الأجنبي حتى يموتوا عن آخرهم أو يعيشوا أحرارًا خصوصًا بعد أن ظهر قصد رومة السيئ، وعدم اقتناعها بأخذ جميع ما لدى القرطاجيين من الأسلحة ومعدات الحرب، وطلبها خروج جميع السكان من المدينة وسكناهم بعيدًا عنها بمسافة عشرة أميال، عند ذلك قفل القرطاجيون أبواب مدينتهم، وأخذوا في الاستعداد للحرب آناء الليل وأطراف النهار، وجمعوا كل ما لديهم من الأشياء الحديدية وصنعوا منها أسلحة جديدة غير التي أخذها الرومانيون، وقبض الحزب الوطني على أَعِنَّةِ الحكومة، وقتلوا كل محازب لرومة، وجمعوا جيشًا مؤلَّفًا من نحو سبعين ألف مقاتل تحت إمرة قائد وطني يدعى ازدروبال، وتفانت النساء قبل الرجال في الاستعداد للحرب حتى قيل إنهن قطعن شعورهن لتصنع منها الحبال اللازمة للمنجنيقات التي وضعت على أسوار المدينة، لكن لم تُجْدِهِمْ كل هذه الاستعدادات نفعًا، فإن الرومانيين احتلوا ثغر (أوتيك) وحاصروا مدينة قرطاجة برًّا وبحرًا، ومنعوا وصول المؤونة إليها ليضطروها للتسليم جوعًا.

وأتى كل من الفريقين من الأعمال الحربية بما شهد له القواد المتأخرون، ومن ضروب القتال وفنون الاستحكام للهجوم من جهة والدفاع من الجهة الأخرى.

وبعد أن استمر الحصار بهذه الكيفية نحو سنة انتصر سيبيون الروماني على ازدروبال الذي كانت تنتظر قرطاجة نجاتها بنجاحه، وأخيرًا دخل الرومانيون المدينة عنوة لكنهم لم يصلوا إلى القلعة القائمة في وسطها إلا بعد أن حاربوا الأهالي في الشوارع شارعًا فشارعًا، بل بيتًا بيتًا مدة ستة أيام وست ليالٍ متوالية، وأخيرًا سلم من بقي فيها من المحاربين ومعهم قائدهم ازدروبال، ولم يصبر على المقاومة إلا نحو ألف شخص امتنعوا في هيكل اسكولاب (إله الطب عند قدماء اليونان والرومان)، وأضرموا فيه النار ليموتوا عن آخرهم حتى لا يروا خراب بلادهم، وكان بهذا الهيكل زوجة ازدروبال ومعها ولداها فصعدت بهما إلى أعلى الهيكل وقتلتهما بيدها أمام زوجها بعد أن وبخته على خيانته لوطنه، ثم ألقت بنفسها من شاهق الهيكل فسقطت في النار وذهبت ضحية الوطن، بينما كان زوجها يَئِنُّ في حالة الأسر والذل والخِذلان.

ثم أصدر سناتو رومة أمرًا ساميًا بجعل الأراضي التابعة لقرطاجة ولاية رومانية، وأطلق عليها اسم (إفريقا)، وبذلك زالت هذه الأمة من الوجود السياسي بعد أن بلغت من العمران واتساع نطاق الاستعمار شأوًا عظيمًا، ونالت من التجارة الأرباح الباهظة، دخلت في خبر كان، وصارت أثرًا بعد عين شأن جميع الدول والممالك قديمًا وحديثًا، إذ كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤