تصدير

بقلم  الدكتور زكي نجيب محمود

١

تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك؛ أما أن يتغير العلم ثم يتشبث رجال الفلسفة بمنطق لا يسايره، فأمر لا بد أن ينتهي إلى الموقف الغريب الذي نراه اليوم، وهو أن يكون العلماء ببحوثهم الفعلية في وادٍ، ورجال الفلسفة الذين يزعمون أنهم يصوغون للعلم منطقه في وادٍ آخر، بحيث يصبح ما يسمونه في كتب المنطق «المنهج العلمي» شيئًا غريبًا على مسامع العلماء أنفسهم؛ فلا مندوحة لنا — إذا أردنا لأنفسنا وحدة ثقافية متَّسقة الجوانب — من أن نراجع وجهة نظرنا إلى مسائل المنطق ومناهج البحث، مراجعة تُوائم بينها وبين البحوث العلمية كما يجريها العلماء فعلًا في عصرنا الراهن. وهذا الكتاب الذي ننقله اليوم إلى اللغة العربية عن «جون ديوي» (١٨٥٩–١٩٥٢م) الذي أصدره عام ١٩٣٨م، وأسماه «المنطق – نظرية البحث» إنما يَعرض علينا منطقًا يُساير العلم في أوضاعه الراهنة، كما ساير المنطق الأرسطي أوضاع العلم في العصر اليوناني وفيما شابهه من العصور التالية.

وكما تختلف النظرية المنطقية باختلاف الأساس الذي ينبني عليه العلم في عصر معين، كذلك تختلف باختلاف المذهب الفلسفي الذي يذهب إليه صاحب تلك النظرية؛ فقد يعيش في العصر العلمي الواحد أكثرُ من فيلسوف ينتمون إلى أكثر من مذهب فلسفي واحد، ومِن ثَم تراهم يختلفون في تحليل الأساس العلمي الذي يجعلونه هدفهم ومدار بحوثهم؛ ففي عصرنا هذا مثاليون وواقعيون وبراجماتيون ومنطقيون وضعيون، ولكل من هؤلاء وجهة للنظر تنعكس على النظرية المنطقية عنده؛ وهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم مترجَمًا إلى العربية تعبير عن وجهة النظر البراجماتية؛ فعلى الرغم من أن كلمة «براجماتية» لم تَرِد بنصها في هذا الكتاب؛ إذ اجتنبها مؤلفه عمدًا على الرغم من أنه إمام البراجماتية في عصرنا، لأنها — كما يقول في مقدمة الكتاب — «ربما تكون مدارًا لسوء الفهم» إلا أن الكتاب — كما يقول المؤلف أيضًا في المقدمة — «براجماتي من أوله إلى آخره؛ إذا نظرنا إلى «البراجماتية» نظرة تُؤوِّلها تأويلًا سليمًا، وأَعني به أن تُستخدم النتائج على أنها اختبارات لا بد منها للدلالة على صدق القضايا، على شرط أن نتناول هذه النتائج من حيث هي عمليات يمكن إجراؤها، ومن حيث هي وسائل تؤدي إلى حل المشكلة الخاصة التي قد استدعت تلك الإجراءات».

هذا — إذن — كتاب يَعرض وجهة نظر في المنطق تُلائم العلم المعاصر، يعبر بها عن رأي البراجماتيين الذين هم — بغير شك — من ألصق الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم. وقد أطلق صاحب الكتاب على منطقه الجديد اسم «نظرية البحث» يُعارض بها سائر النظريات المنطقية قديمها وحديثها على السواء، وكلمة «البحث» Inquiry في هذا السياق كلمة اصطلاحية يُراد بها معنًى خاص. ولَكَم كنت أتمنى أن أُوَفَّق إلى لفظة عربية أخرى غير كلمة «البحث» لكي أجتنب المعنى العام الذي يَلحق بهذه الكلمة في استعمالها الشائع المألوف؛ إذ جرى العرف أن نطلقها على كثير جدًّا من صنوف التأليف الكلامي التي لا تدخل في مجال «البحث» بالمعنى الاصطلاحي الذي أراده «ديوي»، والذي جعله عنوانًا لمذهب في المنطق جديد.

فقد كان أصحاب المذاهب الأخرى يبحثون عن «الحق» الثابت الذي لا يتغير مهما يكن زمانه ومكانه، فعارض «ديوي» هذا الاتجاه، جاعلًا «البحث» — بمعناه الاصطلاحي — لا «الحق الثابت» هو أساس العلم، وإذن فهو أساس المنطق. و«البحث» — بالمعنى الاصطلاحي — هو العمليات الموجهة التي يؤديها الإنسان ليحول موقفًا غير متعين إلى موقف متعين؛ ومعنى ذلك أن الإنسان لا يأخذ في التفكير إلا إذا صادف موقفًا فيه إشكال يُحدث التنافر بين عناصره، فيحاول أن يُدخل فيه من التغيير والتحوير ما يُزيل عنه ذلك التنافر، ويجعل منه موقفًا محدد المعالم موحد العناصر محلول الإشكال؛ وعلى هذا فليس من الفكر ما لا يبدأ بمشكلة معينة وينتهي بحلها. والكلام الذي يُقال دون أن يكون أداة نغير بها جوانب الموقف المشكِل تغييرًا يَفُضُّ إشكاله، لا يكون من المنطق في شيء.

فالمحور الرئيسي لشتى المذاهب المنطقية الأخرى منذ أرسطو فنازلًا، هو التماس الشروط التي تجعل قضية ما صادقة؛ حتى لقد كانت تلك المذاهب المنطقية الأخرى تُعَرِّفُ القضية في المنطق بأنها ما يجوز وصفه بالصدق أو بالكذب، وأما العبارات التي لا يجوز وصفها بإحدى هاتين الصفتين — كالأمر والرجاء — فليست قضايا، ولا يكون للمنطق شأن بها. على أن «الصدق» المنشود لم يكن يُشترط فيه عند تلك المذاهب أن يكون متصلًا بالتطبيق العملي للعبارة التي نصفها بأنها صادقة، ولهذا كان من الجائز أن يتصور الإنسان بفكره البحت قضية، فيقبلها المنطق ما دامت صالحة لأن تُوصف بالصدق أو بالكذب، دون أن يسأل حيالها: أهي وسيلة لإحداث أثر عملي في الوجود الخارجي من شأنه أن يُزيل الإشكال عن موقف مشكِل؟ كلا، لم يكن المنطق التقليدي، بل لم يكن المنطق في كثير من مذاهبه المعاصرة، يجعل إمكان التطبيق العملي شرطًا لازمًا لقبول الفكرة المعينة على أنها قضية من قضاياه.

وأما «ديوي» فلا يفتح بابه إلا للجملة التي تكون ذات مهمة أدائية تؤديها في عملية البحث، أي تؤديها بالتعاون مع غيرها في حل الإشكال الذي يكتنف الموقف المشكل الذي كان بادئ ذي بدء باعثًا للإنسان على التفكير؛ فالقضايا عنده «وسائل» نتوسل بها إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها — كالعُدَد والآلات وغيرها — لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل توصف بأنها مؤدية أو غير مؤدية، فكذلك لا تُوصف القضية في منطقه بأنها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدية إلى الغرض المقصود أو غير مؤدية إليه؛ فإذا كان الكلام غير ذي صفة أدائية عملية، فهو بالبداهة خارج عن مجال المنطق، وكذلك يخرج عن مجال المنطق — في رأيه — كل كلام طابعه الصدق الصوري وحده؛ فالأمر في أي كلام هو كالأمر في الخرائط الجغرافية؛ إذ لا تكون الخريطة جديرة باسمها إلا إذا صلحت أن توجِّه السائر في طريق من شأنه أن يؤدي به إلى غاية يريدها؛ أما إذا صور المصور خطوطًا هنا وخطوطًا هناك، تتخذ شكل الخريطة دون أن يكون لها جانب أدائي في توجيه الإنسان إزاء الرقعة المصورة، فذلك لا يكون من الخرائط الصحيحة في شيء؛ وهكذا قل في العبارات الكلامية العلمية أي في «القضايا» المنطقية؛ فلا يكفي أن نجدها متسقة بعضها مع بعض اتساقًا صوريًّا بحيث لا يَنقُض بعضها بعضًا، لكي نقول إنها «صادقة» منطقيًّا؛ بل لا بد أن ننظر إليها من حيث هي أدوات تقدم أو تَعوق السير بعملية البحث على نحو ينتهي بنا إلى حل نراه ناجعًا في فض الموقف المشكل المطروح للبحث؛ فالقياس الذي نقول فيه إن «كل توابع، الشمس مصنوعة من جبن أخضر، والقمر هو أحد تلك التوابع؛ إذن فهو مصنوع من جبن أخضر» قياس صحيح من الوجهة الصورية، غير أن القضايا الداخلة في تركيبه ليست مما يَقبله المنطق، لا لمجرد كونها «كاذبة من الناحية المادية»، بل لأنها بدل أن تدفع عملية البحث إلى الأمام نحو حل إشكال معين، تَعوقها وتُضللها.

إنك لترى من المذاهب المنطقية ما يكفيه الصدق الصوري للفكرة العقلية، حتى لَيَقنَعُ بأن تكون الفكرة «واضحة بذاتها» — كما يقولون — بغض النظر عن الجانب الأدائي لهذه الفكرة: أهي أم ليست هي وسيلة عملية نحو حل إشكال معين؟ على حين أن نظرية «البحث» التي يَعرضها ديوي لا تجعل الفكرة فكرة على الإطلاق إلا إذا كان من شأنها أن تَهدي صاحبها إلى إحداث تغيير وتحويل في مادة الوجود الخارجي، تغييرًا وتحويلًا يحققان هدفًا مقصودًا. أما أن تنحصر العمليات الفكرية في الشخص العارف فلا تتناول إلا حالاته الداخلية، فذلك يُزيل عن تلك العمليات قوتها المنطقية، أو بعبارة أخرى فإنه يجعلها عمليات يُعوِزها المعنى؛ ولا عجب أن نرى النظرية التقليدية في المنطق — بصورتَيْها التجريبية والعقلية — تذهب إلى أن القضايا تُقرر أو تَصف أشياء كانت قائمة قبل صياغة تلك القضايا؛ وكل الاختلاف بين التجريبيين والعقليين في ذلك هو أن الأولين يجعلون تلك الأشياء السابقة على صياغة القضايا أشياء مادية في العالم الخارجي، على حين يجعلها الآخرون أشياء عقلية في العالم الذهني. ثم يتفق الفريقان بعد ذلك على أن القضية من القضايا تَصدق إذا جاءت مصورة تصويرًا صحيحًا لتلك الأشياء التي سبقت صياغتها؛ وبناءً على هذه الوجهة من النظر لا يكون للقضايا أي شأن بتغيير ما هو كائن، بل هي تقرر ما هنالك وكفى. لكن نظرية «البحث» التي يَعرضها ديوي في هذا الكتاب، تُصر على أن تكون القضايا — سواء قررت لنا عن وقائع الخارج أم عن تصورات الذهن — مراحل وسطى في سبيل السير من مشكلة قائمة إلى حلها، أي إنها أدوات وسليَّة من شأنها أن تُحقق لنا ما نستهدفه من تحول مقصود نريد له أن يَطرأ على مادة الموضوع الذي نبحثه، بحيث يُصيب هذه المادة من التحول ما يجعلها في صورة جديدة غير الصورة التي كانت لها أول الأمر، وهذه الصورة الجديدة للمادة تكون بمثابة الإجابة عن السؤال الذي طُرح في بداية البحث، أي بمثابة الحل للمشكلة التي أُثيرت بادئ ذي بدء.

إنه لَيَجوز عند مذاهب المنطق الأخرى أن تَعزل جملة وحدها، كأن تقول — مثلًا — «هذه نار» ثم تزعم أنها قضية منطقية لأنها مما يصح أن يوصف بالصدق أو الكذب، وأما «ديوي» فلا يَفهم كيف يُمكن أن ننزع هذه الشريحة الواحدة عن جسمها، ثم ندَّعي أنها مكتفية بذاتها وقائمة وحدها، إنها — عنده — لا تكون «قضية» إلا بمقدار ما تؤدي إلى غيرها ثم إلى غيرها وهكذا حتى أنتهي آخر الأمر إلى «حكم» أخير يكون فيه حل للمشكلة التي أكون عندئذٍ بصدد معالجتها وحلها؛ فالقضية دائمًا خطوة وسطى، أو هي دائمًا «وسيلة» إلى ما بعدها، وما لا يَصلح أن يكون كذلك ليس هو من المنطق في شيء، بناءً على نظرية «البحث» التي يَعرضها.

وهو لا يُحتِّم أن تكون القضية دائمًا ذات صلة مباشرة بالوجود الخارجي، ولا يعارض في أن ينشئ الإنسان في ذهنه ما شاء من تصورات عقلية مجردة؛ بل إنه لَيَشترط أن يكون هنالك الجانبان معًا؛ فقضايا تعبر عن التصورات الذهنية المجردة، وأخرى تصف الوقائع الخارجية؛ وفي الحالة الأولى تكون الصلة بين مجموعة القضايا المتصلة بالموضوع الواحد هي صلة الاستنباط الذي يجعل إحداها نتيجة تَلزم بالضرورة عن الأخرى؛ وفي الحالة الثانية تكون الصلة بين مجموعة القضايا المتصلة بالموضوع الواحد هي صلة التعاون معًا على تكوين حكم واحد؛ وهو يُسمِّي القضايا في الحالة الأولى «سلسلة» لأنها تتسلسل واحدة من أخرى، ويُسمِّي القضايا في الحالة الثانية «مجموعة» لأنه لا يتحتم بحكم طبيعتها أن تجيء هذه قبل تلك؛ أقول إنه لا يُعارض في قيام الجانبين معًا: جانب التصورات الذهنية المجردة وجانب العبارات الوصفية التي تصف وقائع الوجود الخارجي، إلا أنه يُلح في أن نضع الفرق بين النوعين نُصْبَ أعيننا؛ فالقضايا العقلية المجردة المرتبط بعضها ببعض برابطة الاستنباط الصوري، هي دائمًا بمثابة الفروض التي لا تدل بذاتها على حقيقة الواقع الخارجي، وكل مهمتها هي في أن تُوجهنا وتَهدينا عندما نأخذ في مشاهدة العالم الخارجي، وإما أن تجيء هذه المشاهدة مؤيِّدة لها، وعندئذٍ يُضاف إلى طبيعتها المجردة انطباقها العملي؛ وإما أن تَدلنا المشاهدة على غير ما نتصوره بالفكر المجرد، وعندئذٍ تظل القضايا العقلية المجردة في تسلسلها الصوري كما كانت، لكنها لا تصدق على الواقع التجريبي؛ فموقفنا من النوع الأول المجرد هو موقف من يَصوغ الأمر صياغة فرضية شرطية قائلًا: إذا كان هذا، كان ذلك؛ وأما موقفنا من النوع الثاني الوجودي فهو موقف من يَصوغ الأمر صياغة وصفية للواقع، قائلًا: الحالة الواقعة هي كذا وكذا؛ وهكذا ترى أنه حتى في حالة القضايا العقلية المجردة لا يَتوافر الجانب المنطقي فيها إلا إذا كانت أدائية في طبيعتها، أعني إلا إذا كان من طبيعتها أن تَهدي الباحث إلى ما يمكن أن يلتمسه في مشاهدته. لوقائع الوجود الخارجي أثناء قيامه بعملية البحث؛ ولو خلت القضايا العقلية المجردة من هذه الصفة الأدائية، كانت عبثًا لا طائل وراءه ولا شأن للمنطق به.

إن إصرار رجال المنطق على أن يجعلوا للتفكير العقلي المجرد كيانًا منطقيًّا بغضِّ النظر عمَّا يؤديه فعلًا من توجيه عملي للباحث أثناء قيامه ببحثه، قد انتهى بالناس إلى التفرقة الحادة بين ما هو نظري في ناحية وما هو عملي في ناحية أخرى حتى لَيَظنون أن الطرفين نقيضان لا يلتقيان، فالنظري لا يكون عمليًّا، والعملي لا يحتاج إلى جانب نظري يسبقه، على حين أن الجانبين في حقيقة الأمر مرتبطان ارتباطًا وثيقًا؛ فكل نظري لا بد أن يكون له جانب أدائي يوجه الباحث في طريق بحثه، وكل عملي لا بد أن يهتدي في سيره بخطة نظرية افتراضية؛ فنظرية «البحث» عند ديوي من شأنها أن توحد الجانبين بمنطق واحد، بحيث يصبح المنطق الصالح للجانب الصوري النظري هو نفسه المنطق الصالح للبحث المُنصبِّ على الوجود الفعلي.

٢

اختلف أساس العلم في العصر الحديث عنه في عصر اليونان، فوجب أن يختلف منطق العلم اليوم عن المنطق الأرسطي الذي كان صورة أمينة لعلم عصره. وأوضح جوانب الاختلاف هو اختلاف العصرَيْن في تصور العلاقة بين الكيف والكم؛ فقد كان العلم القديم قائمًا على أساس الصفات الكيفية لا على أساس المقادير الكمية؛ مثال ذلك أن يُقال عن العالم إنه مكوَّن من العناصر الكيفية الأربعة: التراب والهواء والنار والماء، وهذه بدورها تتألف من تركيبات من الأضداد الآتية: رطب ويابس، بارد وحار، ثقيل وخفيف؛ فلم يكن يَعنيهم، بل لم يكن يَطوف ببالهم أن هذه الأضداد إنما هي أضداد من حيث الكيف فقط، وأما إذا أردنا أن نحددها بدرجاتها الكمية فعندئذٍ لا يكون البارد مضادًّا للحار، بل يصبح هذان درجات متفاوتة من ظاهرة واحدة؛ فليس عند العلم الحديث شيء اسمه «حار» ولا شيء اسمه «بارد»، والذي يُعنَى به هذا العلم هو درجة حرارية مقدارها كذا؛ فالمهم هو التفاوت الدرجي، مع أن هذا التفاوت في الدرجة الكمية لظاهرة ما — وهو من العلم الحديث في القلب والصميم — كان يُعد عند اليونان أحداثًا عارضة لا تَمَسُّ العلم في قليل ولا كثير؛ لأن العلم عندهم هو العلم بالجوهر أو بالماهية الثابتة التي لا تعرف تفاوتًا في الدرجة ولا تغيرًا في المقدار؛ فللحرارة — مثلًا — ماهية خاصة، وللبرودة ماهية أخرى، وتعريف هذه غير تعريف تلك، ولا تكون ذا علم بالطبيعة في رأيهم إلا إذا أدركت بالعقل ماهيات الأشياء الحقيقية. فماذا يُجديك أن تعرف درجة حرارة الجو اليوم ودرجة حرارة هذا الماء وهكذا؟ إن هذه كلها أعراض تجيء وتذهب، وما تنفك تتغير لحظة بعد لحظة، وإنما الجدوى كل الجدوى هي أن تعرف ما «الحرارة» على إطلاقها باعتبارها حقيقة قائمة بذاتها في الكون ذي الطبائع الثابتة؛ وليس من ماهية الحرارة أو جوهرها — والماهية كما قلنا هي موضوع المعرفة بمعناها الصحيح — أن تقيس درجاتها التي تقل هنا وتكثر هناك؛ فاختلاف الدرجة هذا إنما يدرك بالحس لا بالعقل، فإذا وقفنا عنده كنا بمثابة من يقف عند مدخل المعرفة الخارجي؛ مع أنه لا معرفة إلا إذا جاوزنا مرحلة الحس إلى مرحلة الإدراك العقلي. ومؤدَّى هذا كله أن قياس الظواهر قياسًا كميًّا لم يكن عند العلم اليوناني — ولم يكن كذلك عند المنطق الأرسطي — شيئًا ذا بال، اللهم إلا أن يكون ذلك من أجل غايات عملية دنيا يَترفَّع عنها العلم النظري؛ فحسبك — إذن — أن تقارن العلم اليوناني الذي لم يجعل ضبط المقادير الكمية جزءًا منه، بالعلم الحديث الذي ينصرف بكل اهتمامه، وفي كل خطوة من خطواته، إلى القياس الكمِّي للظواهر وتصويرها تصويرًا رقميًّا رياضيًّا، لتعلم أن الشُّقة بين العلمين بعيدة، وأن منطق الأول يستحيل أن يَصلح منطقًا للثاني.

وتفرع عن الاختلاف السابق اختلاف آخر بين العلم اليوناني والعلم الحديث؛ فإذا كانت «الطبيعة» عند اليونان مؤلَّفة من كيفيات مختلف بعضها عن بعض، فليس الحار هو البارد، وليس الثقيل هو الخفيف، وليس الرطب هو اليابس، وهكذا؛ إذن فالطبيعة قوامها «أنواع» متباينة لا يمتزج بعضها ببعض، كأنما أُقيمت بينها الحواجز التي لا تدع نوعًا منها ينساب في نوع آخر؛ وصميم المعرفة بناءً على ذلك هو أن نُلِمَّ بهذه الأنواع عن طريق تعريفاتها التي تحددها تحديدًا فاصلًا حاسمًا، وأما العلم الحديث فأساسه على النقيض من ذلك؛ إذ إنه يُحطِّم هذه الحواجز بين الأنواع المزعومة، ليجد ما بينها من تجانس يَردُّها جميعًا إلى أساس واحد، هو المادة والحركة مثلًا، أو هو ما شئت غير ذلك من أسس تتألف من مدرَكات كمية، وبهذا يرتد العالم إلى تجانس في الكيف واختلاف في الكم وحده، بعد أن كان عند اليونان منوعًا في كثرة كيفية يقف بعضها من بعض موقف الأضداد، وهو اختلاف يتضح من الموازنة بين النظرية القائمة اليوم عن العناصر الكيموية التي نحلل الطبيعة إليها، وبين العناصر الكيفية الأربعة التي كان يقول بها العلم اليوناني عن الطبيعة؛ وهاك مثلًا رائعًا يوضح لك اختلاف وجهة النظر العلمية من حيث التكاثر أو التجانس بين العصرين، وهو مثل «الحركة» كيف تَصورها اليونان وكيف يَتصورها العلم الحديث؛ فبدل أن تُعَدَّ الحركة ضربًا من التغير يطرأ على الوضع المكاني، وهو تغير يُقاس مقداره ويَشغل فترة من الزمن يُقاس مقدارها كذلك، ولا فرق عندئذٍ بين أن تكون الحركة لجسم ساقط أو لجسم صاعد أو لجسم يتحرك في دائرة كما هي الحال في الأجرام السماوية، أقول بدل أن تتجانس الحركة كلها فتصبح ضربًا من التغير يُقاس مقداره قياسًا كميًّا دقيقًا، كان اليونان يَعدون الحركة الدائرية نوعًا قائمًا بذاته، والحركة إلى أمام أو إلى وراء نوعًا آخر، والحركة إلى أعلى أو إلى أسفل نوعًا ثالثًا وهلم جرًّا؛ كلها ضروب من الحركة تختلف كيفًا، بحيث لا يدخل نوع منها في نوع آخر؛ بل زادوا على ذلك أن نسبوا هذه الأنواع المختلفة من الحركة إلى أنواع الكائنات التي تتفاوت منازلها في سلم الأنواع علوًّا وسفلًا؛ فمن الأشياء ما هو بحكم طبيعته الأصيلة دَنيٌّ — كالتراب — تكون حركته دائمًا إلى أسفل، ومنها ما هو بحكم طبيعته الأصيلة سَنيٌّ — كالنار — تكون حركته دائمًا إلى أعلى، ومنها ما يدنو من المرتبة الإلهية فيتحرك أكمل ضروب الحركة، وهي الحركة الدائرية، وتلك هي أجرام السماء؛ فأين هذا كله من تصور العلم الحديث للحركة على أنها بشتى صورها ظاهرة متجانسة إذا تميزت أجزاؤها فهي تتميز باتجاهات الزوايا وبقوة الدفع والسرعة، وهي كلها جوانب يمكن قياسها قياسًا كميًّا دقيقًا.

واختلاف ثالث وثيق الصلة بالاختلافين السابقين بين العلم اليوناني والعلم الحديث، نراه في عناية العلم الحديث ﺑ «العلاقات» القائمة بين الظواهر المختلفة؛ مع أن المنطق القديم كان قائمًا على نظرية في الطبيعة تجعل العلاقات كلها أمورًا عرضية لا تمس جواهر الأشياء وحقائقها (فيما عدا علاقتَيْ دخول الأنواع بعضها في بعض وخروجها بعضها من بعض، ومع ذلك فلم يكن ينظر إليهما على أنهما «علاقتان» بالمعنى الذي يقصده العلم اليوم حين يهتم برصد «العلاقات» التي ترتبط بها الظواهر)؛ فتعلق شيء بشيء سواه، معناه — من وجهة النظر الأرسطية — أن يكون الشيء معتمدًا على شيء خارج عنه، وما دام خارجًا عنه فليس هو جزءًا من طبيعته، بل هو من أضداده؛ فجوهر الشيء المعين مستقل بذاته مكتفٍ بكيانه؛ والجوهر وحده هو الذي يَصلح أن يكون موضوعًا للعلم بمعناه الصحيح؛ أما العلاقات الظاهرة بين الأشياء، فهي — شأنها شأن الاختلاف الكمي فيها — أعراض تجيء وتذهب؛ ولا شأن للعلم بما يتغير ولا يثبت على حال؛ فكون الشيء هنا الآن وفي موضع آخر في لحظة أخرى ضرب من التغير إن وَجد مكانه عند الحواس فهو لا يجد عند العقل مكانًا، وهو إن لُوحظ في المادة الدنية فهو لا يَطرأ على المعاني العقلية المجردة؛ وإذن فليس هو من العلم، وإذن فليس هو مما يُعنى به المنطق؛ فأين هذا كله من العلم الحديث الذي يجعل التغير وما فيه من علاقات تربط المتغيرات موضوعَ البحث العلمي؟

فهذا الذي اطَّرحه العلم اليوناني والمنطق اليوناني؛ القياس الكمي والعلاقات بين المتغيرات، هو نفسه حجر الزاوية من بناء العلم الحديث؛ أفلا يكون من المؤسف أن يَكُفَّ العلماء اليوم عن الأخذ بمفاهيم القدماء إلى هذا الحد البعيد، ثم يظل رجال المنطق متشبثين بالمنطق الذي إن يكن قد أدى مهمته بالقياس إلى علم عصره أداءً أمينًا، فهو بالبداهة لا يُصور العلم كما هو قائم اليوم؛ ونحن بالطبع نستثني من رجال المنطق المحدثين نفرًا يحاول جهده أن يَسد النقص وأن يُساير العلم الحديث بمنطق حديث يأخذ في اعتباره مسائل العلاقات واختلافات الكم وما إليها، إلا أنها محاولات يراها «ديوي» ناقصة، ممَّا يحتم علينا أن نراجع الأمر كله مراجعة جادة شاملة.

الفرق بعيد بُعدَ ما بين الأرض والسماء بين فكرتين عن الطبيعة؛ فكرة اليونان من جهة وفكرة العصر الحديث من جهة أخرى، وبين تصورين للبحث العلمي: تصور اليونان وتصور العصر الحديث؛ فيجب إذن أن يكون هنالك مثل هذا الفرق البعيد بين منطقين: منطق يُساير الفكرة والتصور الأولين، وآخر ينبغي أن يجيء ليساير الفكرة والتصور الحديثين؛ يقول «جوزف» في كتابه «مدخل إلى المنطق» (ص٣٨٧–٣٨٨) — وجوزف مؤلف حديث يُدافع عن المنطق الأرسطي بقوة وحرارة — يقول: «يحاول العلم اليوم أن ينصرف بأكثر جهده إلى إقامة ما يُسمَّى ﺑ «قوانين الطبيعة» وهذه القوانين هي — بصفة عامة — إجابات عن السؤال القائل: «في أي الظروف يحدث التغير الفلاني؟» أو «ما هو أعم المبادئ المتمثلة في التغير الفلاني؟» أكثر مما هي إجابات عن السؤال القائل: «ما تعريف الموضوع الفلاني؟» أو «ما هي صفاته الجوهرية؟» فإذا كانت آراء أرسطو قد عَفى عليها الزمن، فذلك في الأسئلة المطروحة ابتغاء الإجابة عنها، أكثر منه في المنطق الذي يحاول به أن يُبرهن على صحة تلك الإجابة»، وهذا وصف موجز دقيق للفرق بين العصرين القديم والحديث: فقد كان السؤال قديمًا هو: ما تعريف الشيء الفلاني، أو ما جوهره الثابت؟ ومِن ثَم كان المنطق قديمًا هو تحديد الأنواع وتعريفها وربطها في قضايا وهكذا، على حين أن السؤال الرئيسي اليوم هو: في أي الظروف يحدث التغير الفلاني؛ وإذن فلا أنواع هناك ثابتة يجيء تعريفها من العقل النظري، وإذن يتغير الوضع بالنسبة إلى المنطق تغيرًا جوهريًّا.

إننا لا ننكر أن الثقافة اليونانية قد امتازت بمشاهداتها الكثيرة الدقيقة للظواهر الطبيعية، وبتعميماتها الشاملة التي صاغت فيها تلك المشاهدات؛ فقد درس اليونان الطب والموسيقى والفلك والأرصاد الجوية واللغة والنظم السياسية، دراسة متحررة من كل سلطان خارجي؛ ثم دمجت النتائج الخاصة التي انتهى إليها الدارسون في هذه الميادين المختلفة، دمجًا كَوَّن منها نظرة واحدة شاملة هي التي أصبحت منذ ذلك الحين — جريًا على سنة اليونان — تحمل اسم «الفلسفة»، وأصبحت تلك الفكرة العامة الشاملة عن «الطبيعة» باعتبارها كلًّا واحدًا هي المرجع الأخير للمعرفة الصحيحة؛ وللتفرقة بين الجانبين: جانب الطبيعة المتغيرة التي تتناولها المشاهدة في العلوم الخاصة، وجانب «الطبيعة» الثابتة التي هي كلٌّ واحد، استعمل اليونان كلمتين: فكلمة منهما هي «الفيزيقا» تدل على الجانب الأول، وكلمة أخرى هي «الطبيعة» تدل على الجانب الثاني؛ وهذه الأخيرة — على خلاف الأولى — مؤلَّفة من ماهيات غير متغيرة، قوامها «طبائع» الأشياء الثابتة؛ ولهذا كانت مشكلة المشكلات عند العلم اليوناني والفلسفة اليونانية، هي التمييز بين ما هو دائم ثابت مما هو متحول متغير، ثم إيجاد العلاقة التي تصل هذا بذاك، وعلى ذلك جاءت فلسفة أرسطو عرضًا محكمًا وحلًّا منظمًا لهذه المشكلة التي رآها ماثلة في شتى الموضوعات التي كانت موضع بحث الباحثين.

وترتبط هذه الحقيقة الأساسية ارتباطًا وثيقًا بالمنطق الأرسطي؛ فلم يكن هذا المنطق «صوريًّا» بالمعنى الذي يجعل الصور مستقلة عن مادة الوجود الحقيقي من وجهة نظرهم؛ لكنه كان منطقًا «صوريًّا» بالمعنى الذي يجعل صوره هي نفسها صور الوجود القائم كما تَصوره اليونان؛ فالوجود الحقيقي عندهم هو ما ليس يطرأ عليه التحول؛ ولهذا كان التغير عندهم برهانًا على نقص في «الوجود» بالنسبة إلى الشيء المتغير، أو هو برهان على ما أَطلق عليه اليونان أحيانًا «اللاوجود».

أما الكائنات ذوات الوجود الحقيقي فهي ماهيات أو هي جواهر معلومة الحدود، ولذلك فالعلم اليقيني بها ممكن، لأنها ثابتة أبدًا على حال واحدة، على حين أن الشيء المتغير يُفلت من الإدراك العقلي اليقيني، بحكم كونه غير ثابت على حال واحدة؛ وإذن فالعلم بالمتغيرات مستحيل إلا بمقدار ما يمكن إدخالها تحت أنواعها الثابتة؛ كأنما هذه الأنواع الثابتة هي بمثابة الإطار ذي السور الثابت، وفي نطاق هذا السور يتغير المتغير زيادة ونقصًا؛ وهذا المتغير في تفاوت درجاته يُدرَك بالحس، وأما إطاره — أي نوعه الثابت — فيُدرَك بالعقل.

والمنطق الأرسطي في صميمه معنيٌّ قبل كل شيء ﺑ «الطبيعة» الثابتة لا ﺑ «الفيزيقا» المتغيرة؛ هو معنيٌّ ﺑ «الأنواع» من حيث ماهياتها الأزلية التي لا تتغير تعريفاتها بتغير الظروف وتغير الأفراد؛ فالإنسان — من حيث هو ماهية ثابتة — هو موضوع العلم، وأما الأفراد الذين يجيئون ويذهبون فلا يتعلق بهم علم يقيني، وإذن فليسوا مما يُعنى به المنطق؛ وحتى إن ذُكر فرد من الأفراد، فلا يُذكر من حيث هو فرد قائم بذاته، بل يُذكر من حيث هو حقيقة جزئية تتمثل فيها حقيقة النوع؛ ولذلك لا يجوز في المنطق الأرسطي أن تعرِّف فردًا، لأن التعريف ينصرف إلى النوع وحده، والتعريف هو الصورة التي يتمثلها الجوهر باعتباره موضوعًا للمعرفة؛ ولو كَمُلت لك تعريفات الأنواع؛ كَمُلت لك المعرفة بالوجود كله.

ومن هذا يتضح لنا بعض الجوانب الرئيسية في المنطق الأرسطي؛ فأولًا ليست صور ذلك المنطق صورية، لأنها ليست بمعزل عن الكائنات الحقيقية التي منها تتألف المعرفة العلمية؛ وثانيًا تتألف المعرفة — في صورها المنطقية — من التصنيف والتعريف، فإذا صنَّفنا الكائنات القائمة في «الطبيعة» أنواعًا أنواعًا، ثم عرفنا كل نوع بماهيته، كَمُلت المعرفة بالكون؛ وثالثًا ليس هنالك مجال لمنطق يُعنى باختراع الجديد؛ إذ إن حقائق الأنواع كلها قائمة في نسق كامل مغلق، وكل ما نستطيعه هو أن «نكشف» عمَّا هنالك، وهذه هي مهمة التعلم، فما التعلم إلا أن يظفر المتعلم بما هو معلوم من قبل، كالتلميذ حين يتعلم ما قد كان من قبل معلومًا للمعلم، أو ما قد كان من قبل معروضًا في كتاب؛ فمهمة الباحث هي أن يَطوي الأفراد الجزئية تحت النوع الذي يتمثل فيها بماهيته، ثم يحاول أن يحدد تلك الماهية تحديدًا عقليًّا؛ وهكذا لم يكن الاختراع الجديد ممكنًا، ما دام الأمر كله مقصورًا على وقوع الإنسان على شيء كان موجودًا بالفعل.

هكذا كانت الصلة وثيقة بين المنطق الأرسطي وبين مذهب اليونان في حقيقة الكون؛ فماذا يحدث لو تغير الأساس الكوني وبقي المنطق الأرسطي على حاله؛ يحدث ما قد حدث بالفعل، وهو أن يُصبح المنطق طرفًا مبتورًا مقطوع الصلة بالمضمون العلمي، ويستحق أن يُوصف بأنه «صوري» بالمعنى الذي تكون به هذه «الصورية» دالَّة على انقطاع الوشيجة التي تَربطه بمادة المعرفة.

فلسنا نطالب رجال الفلسفة بصفة عامة، ورجال المنطق بصفة خاصة، بأكثر من أن يؤدوا لثقافة عصرهم ما أداه أرسطو بمنطقه لثقافة عصره.

٣

إن «ديوي» لَيُعارض بمنطقه البراجماتي منطق أرسطو معارضة العلم الحديث للعلم القديم؛ وهي معارضة توشك أن تشمل كل شيء فيه أصولًا وفروعًا؛ فالمنطق الأرسطي مرتكز على افتراض قوانين ثلاثة للفكر:
  • (١)

    قانون الذاتية الذي يَحكم الفكر بمقتضاه أن الشيء المعين هو هو بذاته مهما اختلف سياقه، ويُعبرون عن هذا القانون تعبيرًا رمزيًّا فيقولون «أ هي أ»؛ فالكلمة الواحدة — مثلًا — تحتفظ بذاتيتها وبمعناها بغض النظر عن السياق الذي تَرِد فيه؛ وذلك لأن الكلمة تسمى نوعًا من أنواع الكائنات. ككلمة «إنسان»، وللنوع ماهية ثابتة وتعريف ثابت، لأن له حقيقة أزلية أبدية لا تتغير بتغير الأفراد الذين يندرجون تحته ظهورًا وزوالًا.

  • (٢)

    وقانون التناقض — أو على الأصح: قانون عدم التناقض، وهو الذي يَحكم الفكر بمقتضاه أن الشيء لا يتصف بصفة ما ونقيضها في آنٍ واحد، وصورته الرمزية هي: «أ لا تكون «ب» و«لا–ب» في آنٍ واحد»؛ لأنه ما دامت أنواع الكائنات الحقيقية ثابتة الماهيات، لا يطرأ عليها تغير ولا تطور، فيستحيل أن نقول عن أي نوع منها إنه يتميز بالصفة الفلانية ولا يتميز بها.

  • (٣)

    قانون الثالث المرفوع، وهو الذي يَحكم الفكر بمقتضاه بوجوب أن يتصف الشيء إما بصفة معينة أو بنقيضها؛ فالشيء الملوَّن مثلًا إما أن يكون أبيض أو لا أبيض، ولا ثالث لهذين الاحتمالين؛ وصورته الرمزية هي: «أ» إما أن تكون «ب» أو «لا–ب».

فهذه القوانين الثلاثة — كما ترى — منطوية على فرض سابق، وهو أن الكون بما فيه من أنواع حقائق ثابتة، بحيث تظل كل حقيقة منها محتفظة بكيانها دائمًا وفي كل الظروف؛ ﻓ «الإنسان» — مثلًا — هو الإنسان دائمًا، وإذا وصفناه بالتفكير فلا يجوز في الوقت نفسه أن نصفه بعدم التفكير، لأنه إما أن يكون مفكرًا أو ألا يكون مفكرًا ولا ثالث لهذين الفرضين.

لكن غيِّر من وجهة النظر، واجعل موضوع البحث العلمي هو الوجود الفعلي المتغير المتطور، وليس هو بالكشف عن ماهيات ثابتة لأنواع أزلية أبدية، تجد هذه القوانين نفسها قد تغيرت طبيعتها؛ فقانون الذاتية هو الشرط المنطقي الذي يقتضي أن تثبت المعاني على حالة واحدة طوال متصل البحث الواحد، دون أن يشترط ثباتها في أكثر من بحث واحد؛ وذلك لأن البحث الجديد قد ينتهي بنا إلى ما يستوجب التغيير في المعاني السابقة؛ فلو اشترطنا أن يحتفظ الرمز المعين بمعنًى واحد لا يتغير في كل البحوث، مع أن البحوث المختلفة التي تتناول مشكلات مختلفة، يعدل جديدها من قديمها، أقول إننا لو اشترطنا ذلك لاستحال على المعرفة أن تتقدم؛ إن قانون الذاتية بالمعنى الأرسطي لا يكون إلا إذا فرضنا أن الإنسان يعرف الحقائق الكونية معرفة كاملة منذ اللحظة الأولى، أما إذا سلَّمنا بأن استمرار البحث من شأنه أن يغير من دلالات الأشياء والمواقف، فالشيء المعين قد يكون ذا دلالة معينة في ثقافة معينة، وإذا بالأسس الثقافية تتغير وتتقدم، فتتغير إذن دلالة ذلك الشيء على ضوء المعرفة الجديدة والظروف الجديدة؛ فإن قانون الذاتية يتغير معناه كما ذكرنا؛ نعم إنه لا ضَيْرَ — بل إنه لشرط واجب في منطق البحث — أن يضع الباحث نصب عينيه حقيقة ثابتة، لا على أنها هي «الحقيقة» العلمية — كما يريد أرسطو بقانون الذاتية — بل على أنها الحد الأعلى الذي تصبو إليه البحوث العلمية في تلاحقها؛ وفي هذا تكون القوة الإجرائية للذاتية الثابتة؛ إذ تكون بمثابة الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه بدرجات متزايدة على مر الزمن؛ وإنك لترى من النقاد من يتخذ من المنزلة النسبية التي تنزلها النتائج العلمية ذريعة للحط من شأن «الحقائق» العلمية. إذا قِيست إلى الحقائق التي يزعمون لها الأزلية والثبات؛ والواقع أن هذه النسبية شرط ضروري للتقدم المستمر في فهمنا للحقائق وإدراكها؛ وهذا هو ما أراده «بيرس» حين عرَّف «الحقيقة» بأنها هي ما يتفق عليه الباحثون إزاء مسألة معينة في زمن معين.

وأما قانون التناقض عند أرسطو فهو كقانون الذاتية عنده قائم على أساس ثبات الحقائق الكونية ثباتًا يُمَكِّن الإنسان من رؤيتها رؤية مباشرة بحيث لو رآها وعرفها لما كان هنالك من سبيل بعد ذلك إلى تغييرها؛ فلو أدركت بالعيان العقلي المباشر أن «أ» هي «ب» تحتم ألا أقول بعد ذلك إن «أ» ليست «ب»، فهاتان القضيتان: «أ هي ب» و«أ ليست ب» متناقضتان، ولا بد أن نحكم بكذب الواحدة منهما إذا حكمنا بصدق الأخرى، حكمًا ينبني — في رأي أرسطو — على طبيعة الفكر وعلى طبائع الأشياء ذاتها؛ وموقف «ديوي» إزاء مبدأ التناقض هو أن الأمر لا يدل بذاته على أن بين قضيتين معينتين تناقضًا؛ إذ لا بد أن تَسبق ذلك عمليات من البحث تؤدي بنا إلى القول عن شيء إنه إما كذا أو كيت؛ لأننا لا نستطيع قبل البحث أن نعلم عن «أ» إن كانت داخلة في النوع «ب» أو ليست داخلة فيه؛ إذ يجوز لها أن تكون كلها أو يكون جزء منها داخلًا في «ب» كما يجوز أن تكون كلها أو جزء منها خارجًا عن «ب»؛ فالعلاقة بين «أ» و«ب» لا تدل على نفسها بنفسها، بل لا بد من إجراءات عملية تجريبية لمعرفتها.

وكذلك قل في مبدأ الثالث المرفوع الذي نقول بمقتضاه عن شيء ما إنه إما «س» أو «ليس س» ولا ثالث لهما؛ فقد انبنى عند أرسطو على أساس أن الفواصل حادة بين الأنواع؛ متجاهلًا ما قد يكون بينها من درجات كمية متدرجة، فالشيء إما أن يكون حارًّا أو ليس بحارٍّ، مع أن قولًا كهذا لا يفيد شيئًا من وجهة النظر العلمية الحديثة. هذا إلى أن تحديد الحالات التي منها تتألف شتى الاحتمالات، بحيث نقول عن شيء ما إنه إما كذا أو كذا أو كذا … لكي نمضي على أساس ذلك في البحث لنُثبت إحدى هذه الحالات وننفي سواها، هو أشق عملية في البحث العلمي، ولا يمكن الفراغ منها إلا بعد مشاهدات وتجارب على كثير من الدقة والتنوع؛ فالأمر — إذن — أبعد ما يكون عمَّا يقوله أرسطو من أن في طبيعة الفكر ما يهديه إلى أن الشيء الفلاني، هو إما كذا أو ليس كذا؛ ولسنا نسرف في القول إذا نحن زعمنا أن الأخذ بمبدأ الثالث المرفوع بمعناه الأرسطي، هو الذي أدى بالإنسان في مجال الأخلاق والسياسة بصفة خاصة، إلى التعصب وضيق النظر وخطأ الحكم؛ إذ كثيرًا ما يقول الإنسان إن الفعل الفلاني إما فضيلة أو ليس فضيلة، كأنما الأمر دالٌّ بذاته على مثل هذا التقسيم؛ ولو أردت أن تعلم إلى أي حد يخلو مبدأ الثالث المرفوع من قوة الدلالة، فحسبك أن تنظر إلى ظواهر الطبيعة وهي في حالة انتقال من طرف إلى طرف، أو من وضع إلى وضع؛ فعندئذٍ لا يَصدق عليها القول بأنها إما كذا أو ليس كذا؛ ولما كانت شتى كائنات الوجود الخارجي في حالة من صيرورة التغير والانتقال دائمًا، كان مبدأ الثالث المرفوع بمعناه الأرسطي مستحيل التطبيق؛ فيستحيل علينا — مثلًا — أن نقول عن الماء وهو في طريقه إلى التجمد، وعن الثلج وهو في طريقه إلى الذوبان، إن الماء إما أن يكون صلبًا أو غير صلب.

وخلاصة القول في قوانين الفكر الثلاثة، هي أنها أمور غير متحققة بذاتها في الوجود الخارجي، كلا، ولا هي خصائص علاقية بين القضايا نابعة من طبيعة القضايا نفسها بغير حاجة إلى بحث وتجربة يسبقان تقريرها، بل هي — عند ديوي — مبادئ إجرائية توجه سير البحث، دون أن يكون لها دلالة موضوعية في طبائع الأشياء.

•••

وننتقل الآن إلى «المعنى الكلي» لنعرض اختلاف الرأي فيه بين المنطق الأرسطي الذي يمثل ثقافة عصره، وبين المنطق البراجماتي الذي يمثل ثقافة عصرنا؛ فماذا يعني اللفظ الكلي مثل «إنسان»؟ كان يُقال إن مفهوم هذا اللفظ هو الصفات الجوهرية المشتركة بين أفراد الناس، ومن هذه الصفات يتكون جوهر الإنسان أو ماهيته أو تعريفه أو معناه؛ وأقل ما نعترض به على مثل هذا القول هو أنه يُصادر على المطلوب، أي إنه يفترض مقدمًا ما يُراد في النهاية إثباته؛ إذ كيف يُتاح لي أن أستخرج الصفات المشتركة بين أفراد النوع الواحد، إلا إذا كنت قد عرفت النوع قبل ذلك لأختار الأفراد التي أقارن بينها على ضوء تلك المعرفة؟ أريد مثلًا أن أقارن بين أفراد الجياد لأستخرج الصفات المشتركة التي تكوِّن معنى «جواد»، لكني لكي أبدأ هذه المقارنة، لا بد أن يكون لي قبل ذلك معيار يهديني إلى اختيار هذا الشيء وهذا وهذا وذلك من بين ألوف الأشياء التي تُحيط بي، على أن كلًّا منها جواد مفرد، وإذن فأنا بذلك أفترض أنني أعرف معنى «جواد» قبل أن أحدد معناه!

إنه لو كان في مستطاعنا أن نكوِّن المعنى العام بأن نضع — في الذهن — عددًا من الأفراد في صف واحد، ثم نأخذ في اطراح الصفات المتباينة، لكي نُبقي على الصفات «المشتركة» وحدها، فتكون هذه هي مفهوم اللفظ الكلي، لكان تكويننا للأنواع والمفاهيم العامة عملية سهلة وآلية؛ لكن انظر إلى البحث العلمي وما يعانيه في سبيل جمعه لمختلف الظواهر على أنها من نوع واحد، وهو في ذلك لا يسير على النحو الذي وصفناه؛ فالأنواع في المجال العلمي كنوع «معدِن» مثلًا، إنما تتكون بإجراءات تكشف عن الخصائص التي لا تكون حاضرة أمام المشاهدة في صورتها المألوفة، بل هي خصائص يخلقها الباحث خلقًا بما يُجريه من تجارب، فهذه التجارب لا تدله على صفات ثابتة ساكنة مشهودة، بل تدله على «ضروب من التفاعل»، بحيث يمكننا بعد ذلك أن نقول إن الصفة الفلانية المشاهدة علامة تدل على ما عساه أن يقع من تفاعلات معينة.

إن الذي يجمع طائفة من الأفراد في نوع واحد يُشار إليه بلفظ كليٍّ واحد، ليس هو أن تلك الأفراد قد لُوحظ فيها تشابه الصفات، بل هو — في رأي ديوي — التشابه في الاستجابة السلوكية إزاءها؛ فلو علمتنا الخبرة الماضية أن نستجيب بصورة واحدة لشيئين مختلفين في ظاهر صفاتهما، لأدرجنا هذين الشيئين تحت نوع واحد برغم اختلافهما في الصفات الظاهرة؛ فلمعة البرق تختلف أشد اختلاف من حيث الصفات المحسة عن الشرارة الكهربية اختلافها عن الجاذبية التي يكتسبها حجر الكهرمان إذا حككته، واختلافها كذلك عن إحساس الإنسان بالخدر «التنميل» حين يمسه إنسان آخر دعك الأرض بقدميه في ظروف جوية معينة؛ لكن هذه الظواهر كلها — على ما بين ظاهرها الحسي من اختلاف شديد — تقع كلها في نوع واحد، وتشير إليها كلها لفظة كلية واحدة، هي «الكهرومغناطيسية»؛ وإنما طويناها كلها معًا على أساس النتائج العملية التي تترتب عليها؛ فالجانب المشترك ليس هو اشتراكًا في الصفات بل اشتراك في ضروب العمل، وعلى هذا الأساس يكون اللفظان مترادفين، لا لأنهما يَدلان على صفات مشتركة واحدة؛ بل لأنهما يَدلان على تفاعلات سلوكية ونتائج عملية واحدة.

بعبارة أخرى، ليس المهم أن نسأل عن الشيء «ما هو؟» بل المهم هو أن نسأل: كيف يتفاعل مع سواه من بقية الأشياء التي تكوِّن الموقف الذي نحن إزاء بحثه؛ فماهية المعنى الكلي «معدِن» — بناءً على وجهة النظر القديمة — كانت هي الصفات التي تميز هذا النوع ممَّا عداه، مثل كونه ذا درجة خاصة من البريق والإعتام، والمرونة، والكثافة، والصلابة، وهي كلها صفات من قبيل ما يمكن مشاهدته أو لمسه … إلخ، أو هي من قبيل ما يمكن تصوره بالعقل. لكن أمثال هذه الصفات التي تصف «المعدِن» أو تحدد ماهيته بالنسبة إلى سائر الأشياء، لم تكن هي التي تدفع البحث في سيره إلى الأمام، لأنها لم تكن لتساعد الباحث على التنقيب عن معادن أخرى غير التي كانت مألوفة معروفة (وقد كانت المعادن المعروفة سبعة أو ما يَقرب من ذلك)؛ وكذلك لم تكن أمثال هذه الصفات التي تحدد ماهية «المعدِن» لتساعد قط على ربط المعادن بغيرها؛ بل لم تكن لتضمن للباحث دقة التحديد في تمييز المعدِن الخالص من المعدِن المخلوط؛ فكانت نتيجة هذا كله أن انحصر فن التعدين في نطاق ضيق محدود.

ثم حدث الانتقال إلى الفكرة العلمية الحديثة من المعادن حين تغيرت وجهة النظر، فأصبح المهم هو كيف يتفاعل هذا الذي نسميه معدِنًا بغيره، لا ماذا عسى أن تكون ماهيته في ذاتها؛ فتعريف المعدِن اليوم قائم على تفاعله مع طائفة معينة من العناصر غير المعدنية، وبخاصة الأوكسجين والكبريت والكلورين؛ مضافًا إليها قدرة الأوكسيدات التي تتولد من ذلك التفاعل على أن تتفاعل بدورها مع الحمضيات فتكوِّن الأملاح؛ كما يقوم تعريفه أيضًا على قدرة الكهربية الإيجابية؛ ومن أهم ما يترتب على تعريف الشيء بتفاعلاته لا بماهيته الساكنة الثابتة، إمكان ربط التغيرات التي تحدث في مجال معين بالتغيرات التي تحدث في مجال آخر، ربطًا يكشف عمَّا بين مختلف الظواهر من صلات.

وقد كان من النتائج التي تفرعت عن الفكرة القديمة عن ماهيات الأنواع — وهي مفاهيم الألفاظ الكلية — بأنها سكونية ثابتة وقائمة في طبائع الأشياء ذاتها، أن صُنفت الأنواع تصنيفًا جامدًا، ينفصل بعضها عن بعض في الطبيعة الخارجية، على حين أن هذه الأصناف المتباينة قد تكون في حقيقتها ذات صلة نشوئية بعضها ببعض، كما دلت على ذلك نظرية التطور الحديثة؛ فعلى أساس هذه النظرية الجديدة نجد الزواحف أقرب نسبًا إلى الطيور منها إلى التماسيح التي كانت توضع معها في صنف واحد أول الأمر.

لقد كانت «المعاني الكلية» — وما زالت — من أعوص المشكلات التي تعرَّض لها المنطق الفلسفي، وتاريخ النظرية الميتافيزيقية على السواء؛ وانشعب الرأي حيالها شعبًا ثلاثًا، فجاءت النظرية البراجماتية وأضافت شعبة رابعة:

(١) فالمدرسة الشيئية — أو الواقعية بالمعنى الأفلاطوني — تجعل المعنى الكلي حقيقة كائنة في العالم الخارجي كالأفراد الجزئية سواءً بسواء، وكل الفرق بينهما هو أن المعاني الكلية — أو الأفكار المجردة أو المثل — قائمة في عالم عقلي غير هذا العالم الفيزيقي الذي هو عالم الجزئيات المتغيرة؛ (٢) والمدرسة التصورية — وهي مدرسة أرسطو — تجعل المعنى الكلي تصوُّرًا ذهنيًّا لا يُجاوز العقل الذي يتمثلها؛ ففكرة «إنسان» — مثلًا — وجودها يكون في ذهن الإنسان، منفصلًا عن وجود المفردات الجزئية؛ وإنما يُصبح الفرد من أفراد الناس إنسانًا بمقدار ما تتمثل فيه تلك الفكرة المجردة؛ فقِوام التصور الذهني المجرد هو الصفات الجوهرية المشتركة التي تجعل من الفرد المعين عضوًا في نوعه؛ (٣) والمدرسة الاسمية تجعل المعنى الكلي كائنًا في دلالة اللفظ الكلي على مسمياته الجزئية، دون أن يكون لذلك المعنى وجود خارجي أو وجود في التصور الذهني. (٤) وأما المدرسة البراجماتية فتجعل المعنى الكلي هو طريقة السلوك إزاء طائفة معينة من مفردات، فإذا تشابه رد الفعل السلوكي إزاء شيئين، كان هذان الشيئان ينتميان إلى نوع واحد؛ فالتجريد هنا ليس لصفات الأشياء، ولكنه لطريقة السلوك.

فوجه الشبه بين المدرسة البراجماتية والمدرسة الشيئية الأفلاطونية هو في أن كلتيهما تجعلان للجانب المجرد وجودًا موضوعيًّا لا يقل عن الوجود الموضوعي الذي للمفردات. وأما وجه الاختلاف بينهما فهو أن الجانب المجرد عند المدرسة الأفلاطونية كافٍ بذاته من الوجهة المنطقية، ولا يتحتم أن يُكمله وجود المفردات الجزئية في عالم الحس. وأما المدرسة البراجماتية فتعتقد أن الكيان المنطقي لهذا الجانب المجرد لا يَكمل إلا إذا كان وسيلة أدائية تهدي الإنسان في حياته السلوكية العملية؛ إذ لا جدوى في أن تظل طريقة السلوك المجردة قائمة بغير أن تتمثل في مواقف سلوكية بعينها.

ووجه الشبه بين المدرسة البراجماتية والمدرسة التصورية الأرسطية هو أن كلتيهما تُقرر أن المعنى العام تصوري فكري في طبيعته؛ لكنها تعود فتختلف عنها في أن المدرسة الأرسطية تجعل قوام المعنى الكلي الصفات الجوهرية المشتركة، على حين تجعله المدرسة البراجماتية في المهمة الأدائية أو في النشاط السلوكي المتشابه إزاء الأفراد التي نضمها معًا في نوع واحد.

ووجه الشبه بين المدرسة البراجماتية والمدرسة الاسمية هو أن كلتيهما تُصران على أن يكون المعنى الكلي مشيرًا إلى الكائنات الخارجية، أي أن يكون بمثابة الرمز الذي يُشير إلى أفراد النوع القائمة في عالم الأشياء؛ لكنهما تختلفان في أن المدرسة الاسمية تكتفي بأن يكون هنالك رمز من جهة ومفرد مرموز إليه من جهة أخرى، وبهذا لا يكون هنالك تعميم بالمعنى الصحيح، وأما المدرسة البراجماتية فتجعل للمعنى العام — الذي هو طريقة السلوك — وجودًا موضوعيًّا خارجيًّا غير مجموعة الأفراد التي نسلك إزاءها سلوكًا متشابهًا، وبهذا نجعلها أعضاءً من نوع واحد.

•••

مِن وَصْلِ المعاني الكلية بعضها ببعض أو فَصْلِها بعضها عن بعض تتكون القضايا، وفي الحديث عن طبيعة القضية وتحديدها يقع الخلاف الرئيسي بين مذهب ديوي ومعظم المذاهب المنطقية الأخرى قديمها وحديثها على السواء؛ وقد أسلفت القول في تلخيص المعالم الرئيسية للقضية من وجهة نظر ديوي (فقرة ١ من هذا التصدير) فلا داعيَ لتكرار ما ذكرناه؛ لكننا نُذكِّر القارئ في هذا السياق بأنه بينما ترى مذاهب المنطق الأخرى أن الطابع المميز للعبارة التي تُعد في المنطق «قضية» هو إمكان وصفها بالصدق أو بالكذب، على اختلاف هذه المذاهب في معنى الصدق والكذب؛ يذهب ديوي إلى أن القضية وسيلة وأداة، والأداة لا تُوصف بهاتين الصفتين؛ فأنت لا تقول عن القلم مثلًا — وهو أداة الكتابة — إنه قلم صادق أو كاذب، بل تقول عن الأداة إنها فعالة من شأنها أن تُحدث من الأثر المطلوب؛ وكذلك الحال في «القضية» فهي وسيلة تؤدي إلى ما بعدها ثم إلى ما بعدها وهكذا حتى ينتهي التفكير إلى «حكم» يُوصف بالصدق أو الكذب، فالحكم الصادق، هو الذي على أساسه تنحل المشكلة المطروحة للبحث.

وننتقل الآن إلى استدلال قضية من قضية أخرى استدلالًا مباشرًا؛ والاستدلال المباشر عند أرسطو معروف مألوف لطلاب المنطق؛ سنذكر منه بعض حالاته لنبين اختلاف وجهة النظر إزاءه بين أرسطو وديوي.

  • (١)

    فبين القضية الكلية الموجبة والقضية الكلية السالبة تضادٌّ؛ وعلاقة التضادِّ معناها أن إحدى القضيتين المتضادتين فقط تكون صادقة؛ فإذا صدقت إحداهما حكمنا على الأخرى بالبطلان، مع جواز أن تَكذب القضيتان معًا؛ مثال ذلك قولنا:

    (أ) «كل الفقريات المائية ذوات دم بارد» و(ب) «لا واحدة من الفقريات المائية من ذوات الدم البارد» فهاتان قضيتان متضادتان، لا تَصدقان معًا لكنهما قد تكذبان معًا.

    ووجه الاختلاف الرئيسي هنا بين أرسطو وديوي، هو أنه بينما يَعد أرسطو هاتين الحالتين بديلين إذا وقع أحدهما امتنع الآخر، كأنهما حالتان متعينتان مما يمكن وقوعه فعلًا في الوجود الخارجي، يرى ديوي أنهما طرفان نظريان يضعهما الباحث افتراضًا عند بداية البحث، لكي يحدد بهما الشوط الذي له أن يتحرك فيه من نهاية سُفلى إلى نهاية عُليا؛ فالنهاية السفلى لإطار البحث هي ألا تكون الفقريات المائية من ذوات الدم البارد، والنهاية العليا هي أن تكون كل الفقريات المائية من ذوات الدم البارد؛ وهو إنما يضع لنفسه هاتين النهايتين النظريتين الإجرائيتين، لا ليختار إحداهما ويرفض الأخرى، بل ليسير بينهما سيرًا يحدد له شتى الحالات القائمة في الوجود الفعلي، وهي حالات تقع كلها بين النهايتين المذكورتين؛ فالتضاد بين القضايا يُقيم الحدود التي لا بد للتغيرات المعينة أن تَحدث في إطارها، وأما القضيتان المتضادتان ذاتهما فهما غير متعينتين، فلا يجوز اعتبارهما حالتين يقف البحث عندهما كأنما قد وصل بهما إلى ختامه المنشود؛ إذ هما بدايتان نفترضهما لتكونا بمثابة إحدى المراحل التي لا بد من اجتيازها واحدة بعد واحدة حتى تنتهي إلى ختام البحث بمعناه الصحيح، وهو الختام الذي نجد عنده ما هو واقع بالفعل، لا ما هو مفترَض افتراضًا نظريًّا ليكون وسيلة إجرائية تهدي الباحث في طريق سيره؛ القضيتان المتضادتان لا تَدلان بذاتهما على شتى الحالات الممكنة، ففي المثل السابق قد تكون حقيقة الواقع هي أن «بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد وبعضها الآخر ليس كذلك»، بل هما بمثابة النهايتين الختاميتين اللتين تتفاوت بين طرفيهما البدائل الوسطى؛ أي إنهما بمثابة السور الخارجي الذي يسور رقعة البحث، وليستا هما بذاتهما ما يصح الوقوف عنده على أنه الحالتان اللتان علينا أن نختار إحداهما وندع الأخرى، أو أن نرفضهما معًا؛ ولو أخذنا طرفَي التضاد على أنهما الحالتان اللتان نختار إحداهما — كما يُستفاد من الموقف الأرسطي — لوقعنا في هذا الخطأ الذي يقع فيه كثيرون حين يضعون الموضوع الذي يتناولونه في صورة «إما هذا أو ذاك» ناسين أن الحالات الحقيقية أوضاع متدرجة بين هذا وذاك، وحسبك أن ترى الباحثين في مسائل الاجتماع والأخلاق يقولون: «إما الفرد أو المجتمع»؛ «إما الحرية أو الاستبداد»؛ «إما الطبقة البورجوازية أو طبقة الأجراء»؛ «إما تغير أو جمود» وهكذا وهكذا من ضروب الاختلاف التي تقع بين الناس ولا يُرجى لها أن تزول، لأن خطأ التفكير عندئذٍ ضارب إلى الأعماق، وهو أن يؤخذ الطرفان المتضادان على أنهما الحالتان اللتان نختار إحداهما.

  • (٢)

    الدخول تحت التضاد، ويكون بين قضيتين جزئيتين، إحداهما موجبة والأخرى سالبة. والحكم فيهما هو أنه إذا كذبت إحداهما صدقت الأخرى، على أنهما قد تصدقان معًا، مثل قولنا: (أ) بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد. و(ب) بعض الفقريات المائية ليس من ذوات الدم البارد. فها هنا أيضًا — على الرغم من أن هاتين الحالتين أكثر تحديدًا وتعيُّنًا من الحالتين المذكورتين في التضاد، حين يكون الطرفان قضيتين كليتين — إلا أن وجه الخطأ هناك ما زال موجودًا هنا؛ وهو أن نتوهم بتأثير هذه الصورة المنطقية أن هاتين الحالتين هما البديلتان اللتان لا بد أن تَصدق إحداهما؛ والذي يُوقعنا في هذا الخطأ هو أننا نخلط بين ما هو «منطقي» وما هو نتيجة المشاهدة الفعلية؛ فمنطقيًّا يجوز ألا تكون الفقريات المائية من ذوات الدم إطلاقًا؛ هذا فضلًا عن أنه حتى مع قبولنا هاتين الحالتين على أنهما الحالتان الممكنتان، فإننا نخطئ إذا ظننا أنهما الختام الذي نقف عنده لنختار أيهما؛ لأنهما مرحلة وسطى من مراحل البحث، لا بد أن ننتقل منهما إلى ما بعدهما، كأن نحدد الظروف التي يكون فيها بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد، والظروف التي لا يكون فيها بعضها الآخر من ذوات الدم البارد؛ ومن قبيل ذلك أن البحث في موضوع الضوء في وقتنا الحاضر ما يزال عند هذه المرحلة؛ فهنالك من الشواهد ما يُسوِّغ القول بأن الضوء في «بعض» نواحيه ظاهرة إشعاعية وفي «بعض» نواحيه الأخرى ليس كذلك؛ إذ هو في هذه الحالة الأخيرة جسيمات. فهل يمكن للبحث العلمي الصحيح أن يقف عند هاتين الحالتين على أنهما الخاتمة التي يَقنع بها؟ كلا، بل إن البحث العلمي لَيَمضي بعد ذلك متخذًا من هاتين الحالتين الداخلتين تحت التضاد مشكلة ينبغي حلها، وهي في أي الظروف يكون الضوء موجيًّا وفي أيها يكون متقطعًا في جسيمات؟

  • (٣)

    التداخل، ويكون بين القضية الكلية والقضية الجزئية المتفقة معها في الكيف؛ والحكم فيهما — بناءً على أرسطو — هو أنه إذا صدقت القضية الكلية صدقت معها القضية الجزئية؛ فإذا قلنا: كل الفقريات المائية من ذوات الدم البارد، لزم عن ذلك أن يكون قولنا: «بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد» صادقًا؛ لكن أرسطو قد أخطأ هنا حين ظن أن القضية الكلية يمكن أن يستدل منها شيء على الوجود الفعلي؛ فالقضية الكلية قضية لا وجودية، هي بمثابة قضية شرطية مجردة تقول: إذا كان الحيوان من الفقريات المائية فهو من ذوات الدم البارد؛ دون أن تورط نفسها في الاعتراف بأن هنالك مثل هذا الكائن؛ وإذن فلا نستطيع من هذا الشرط المجرد أن نستدل وجودًا فعليًّا — والقضية الجزئية دالة على وجود فعلي — فنقول: هنالك بالفعل بعض الفقريات متصفة بكذا.

•••

على أن أهم ما في المنطق الأرسطي هو الاستدلال القياسي؛ وقد بناه أرسطو بناءً صحيحًا على أساس فلسفته الوجودية التي كانت تجمد الأنواع في ماهيات ثابتة؛ وإذا كان أمرها كذلك، كنا إذا وصفنا ماهية نوع ما في المقدمة الكبرى، ثم ذكرنا في المقدمة الصغرى نوعًا يندرج تحت النوع الأول، جاءت النتيجة بأن النوع المشمول يشترك مع النوع الشامل في جوهره، لكن مثل هذا الموقف لا يصدق على حالة العلم في صورته الراهنة؛ وأقرب شيء الآن إلى الاستدلال القياسي في صورته المذكورة: مقدمة كبرى ومقدمة صغرى ونتيجة، هو أن يكون لدينا تعريف (مقدمة كبرى) نطبقه على حالة من حالات الوجود الخارجي (مقدمة صغرى) لننتهي إلى نتيجة تطوي هذه الحالة المعينة تحت ذلك التعريف؛ وعندئذٍ يكون الفرق الجوهري بين هذا الاستدلال القياسي وبين القياس الأرسطي، هو أن المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى ليستا من نوع منطقي واحد؛ فالكبرى قضية شرطية مجردة كأنها تقول: «إذا كان هذا لزم أن يكون ذاك» — والقضية الشرطية المجردة لا تقتضي تحققًا في الوجود الفعلي — وأما الصغرى فقضية وجودية لأنها تصف حالة واقعة مشاهَدة؛ فالنتيجة — إذن — هي انطباق الشرط المجرد على حالة خاصة قائمة بالفعل؛ ولما كانت القضايا الوجودية احتمالية دائمًا، كانت نتيجة الاستدلال القياسي — على هذا الوجه المذكور — احتمالية؛ وبهذا يصبح للقياس أهمية في البحث العلمي، لأن قوامه عندئذٍ هو أن ينشأ في الذهن تفكير نظري يوحي بإجراءات معينة، ثم نعقب عليه بإجراءات فعلية بما نقوم به من عمليات المشاهدة لما هو واقع، لكي ننتهي إلى حل يفض لنا إشكالًا كان مطروحًا للبحث.

ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد أن «مل» حين وجه النقد للاستدلال القياسي في صورته التقليدية، وأراد إصلاح ما فيه من خطأ، وقع في نفس الغلطة القديمة، وإن يكن قد سار بها في اتجاه معكوس؛ فالنظرية التقليدية تجعل المقدمتين الكبرى والصغرى من صورة منطقية واحدة، وفاتها أن ترى أن الكبرى غير وجودية بينما الصغرى وجودية، وأن العمليات المطلوبة لتكوين كلٍّ من المقدمتين تختلف في إحدى الحالتين عنها في الأخرى، فبينما العملية في تكوين المقدمة الكبرى فكرية نظرية شرطية مجردة، فالعملية في تكوين الصغرى هي مشاهدات للواقع الخارجي؛ فجاء «مل» وارتكب الغلطة نفسها؛ إذ جعل المقدمتين من نوع منطقي واحد، وكل اختلافه عن النظرية التقليدية هو أنه جعلهما قضيتين وجوديتين بعد أن كانت كلتاهما عقليتين؛ فبدل أن يشبه صورة المقدمة الصغرى بصورة المقدمة الكبرى كما تفعل النظرية التقليدية، شبَّه صورة الكبرى بصورة الصغرى؛ أعني أن «مل» يجعل المقدمة الكبرى — كالمقدمة الصغرى — حصيلة عدد كبير من القضايا الجزئية الوجودية.

إن الاستنباط الصِّرف لا يكون إلا في عالم الفكر؛ إذ نستنبط فكرة من فكرة، والاستدلال الواقعي الصرف لا يكون إلا في عالم الأشياء المشاهدة، إذ نستدل واقعة من واقعة، والخطأ هو أن نوحد بين العمليتين أو أن نخلط بينهما، بحيث نجعل استنباط الأفكار بعضها من بعض هو نفسه الاستدلال على حالة الواقع؛ والأصح أن نميز بين العمليتين تمييزًا واضحًا، ثم نستفيد بهما معًا في القياس، فنضع من عالم الفكر النظري مقدمة كبرى، ونضع من عالم المشاهدة مقدمة صغرى، ثم تجيء النتيجة بمثابة التطبيق: تطبيق القضية الشرطية المجردة على القضية الوجودية المعينة الموضوع، تطبيقًا لو أدى إلى حل الإشكال المعروض للبحث كان برهانًا على صدق الفكرة النظرية التي جعلناها مقدمة كبرى في القياس.

٤

إن من أهم ما يميز منطق «ديوي» تمييزًا يفصله عن شتى المذاهب المنطقية الأخرى قديمها وحديثها، حتى لَيقول عنه «دونالد بيات»١ إنه يختلف عن معظم الفلاسفة الآخرين بأكثر مما يختلف هؤلاء الفلاسفة فيما بينهم بعضهم عن بعض. أقول إن أهم ما يتميز به منطق ديوي هو اعتماده على اتصال الخبرة الإنسانية؛ فتيار الخبرة متصل، يؤدي كل جزء منها إلى الجزء الذي يليه، وكل حل لمشكلة يُعين على معالجته مشكلة تليها، وهكذا؛ فيستحيل الفصل في حياة الإنسان بين المرحلة الأولى التي كان إدراكه فيها للمسائل المختلفة إدراكًا فطريًّا يستهدف به جانب المنفعة والمتعة، وبين المرحلة اللاحقة، وهي مرحلة البحث العلمي كما نعرفه اليوم؛ فهذه امتداد لتلك، والمنطق الذي يفسر تلك هو نفسه المنطق الذي يفسر هذه.

وعلى أساس فكرة الاتصال هذه، لا يُقر «ديوي» مذاهب المنطق الأخرى على تفتيت عملية الفكر إلى وحدات هي القضايا، بحيث نستطيع أن نقول عن القضية الواحدة وهي بمعزل عن سواها إنها صادقة أو كاذبة؛ إذ القضية في رأيه لا تكون إلا خيطًا من نسيج، وحلقة في سلسلة، ومرحلة من مراحل السير نحو حل مشكلة بعينها أولًا، ثم الاستفادة بنتيجة البحث في تلك المشكلة المعينة في حل مشكلة أخرى وهكذا؛ فإذا كانت المذاهب المنطقية الأخرى تنظر إلى الحقيقة الواحدة على أنها حالة مستقلة ذات بنية خاصة، فالمذهب البراجماتي ينظر إليها على أنها امتداد زمني يؤلف جزءًا من تاريخ، فلها سابق متصل بها ولا حتى يستأنف امتدادها.

ولا شك في أن فكرة الاتصال عند «ديوي» فكرة هيجلية؛ فمن المعروف عن «ديوي» أنه درس الفلسفة الهيجلية وتأثر بها أعمق التأثر — شأنه في ذلك شأن رجال الفلسفة كافة في أمريكا وفي إنجلترا على السواء إبَّان النصف الثاني من القرن التاسع عشر — حتى لَتستطيع القول في غير مبالغة ولا إسراف إن الفلسفة المعاصرة كلها بدأت بهيجل ثم ثارت عليه؛ أقول إن فكرة الاتصال عند «ديوي» هيجلية، والفرق بين الفلسفتين في هذا الصدد هو أن «ديوي» يكفيه في المشكلة الواحدة أن يجعل الاتصال شاملًا لموقف واحد، على حين أن هيجل يَمد من أطرافه حتى يجعل الاتصال شاملًا للعالم كله.

إن المحور الذي يدور حوله المذهب المثالي هو أن أمور الواقع لا يمكن الحكم عليها بأي حكم إلا إذا تحولت أولًا إلى معانٍ عقلية، فعندئذٍ نستطيع أن ننسب هذه المعاني العقلية بعضها إلى بعض فتتكون الأحكام؛ والمحور الذي يدور حوله المذهب الواقعي هو أن أمور الواقع لا بد أن تكون لها واقعية خارجية وبنية محددة المعالم في حد ذاتها لكي يكون لأحكامنا عليها بعد ذلك سند يؤيدها. وأما المذهب البراجماتي فلا هو يريد أن يَفصل الأفكار العقلية في عالم وحدها، ولا هو يَرضى بأن يُقيم العالم الواقع على أساس يستقل به بادئ ذي بدء، بحيث لا يتأثر كيانه بفكر الإنسان؛ إذ الإنسان إنما يعيش في هذا العالم وهو جزء منه، فلا وجه للقول بأنه يتلقى أمور الواقع ليخضع لها كما جاءت إليه؛ لأن حقيقة الأمر هي أنه يتأثر بها ليُغير فيها ويُشكلها على النحو الذي يرضاه لنفسه؛ وإذن فمعطيات الواقع إلينا لا تكون أجزاءً من المعرفة الإنسانية إلا إذا أجريناها في الطريق المؤدية إلى تحقيق أغراضنا، وإلا لما كان هنالك ما يسوغ أن نختار من أمور الواقع شيئًا وندع منها شيئًا، ولكان كل شيء في العالم الخارجي عندنا ككل شيء آخر، نتلقاها كلها ونحن صاغرون ولا ندري ماذا نصنع بها فيما يكتنف حياتنا من مشكلات؛ كلا بل الفكر عند «ديوي» هو أداة لإعادة تكوين الوجود الخارجي، وقوام المعرفة عنده هو التنسيق بين ما نصادفه من عوامل متنافرة في موقف معين، تنسيقًا يُزيل التنافر والتوتر بحيث يصبح الموقف موحدًا مستقرًّا نستطيع العيش به وفيه عيشًا موفقًا.

لهذا ترى «ديوي» شديد النقد لأصول المذهب التجريبي في صورته التقليدية — تجريبية هيوم مثلًا — التي كانت تجعل الفكرة صورة طبق الأصل للانطباع الحسي، كأنما المعرفة عنده هي نسخة من الواقع المحسوس؛ لكن تحصيل النسخة أو أصلها — عند ديوي — ليس من المعرفة في شيء ما دامت المعرفة هي تحويل العالم الخارجي لا تصويره؛ فحلقات القصة هي كما يلي: هنالك بيئة خارجية معينة، لا نحتاج إلى عناصرها كلها في الموقف الذي نكون بصدده؛ بل يَهمنا منها ظروف دون أخرى، فنختار ما يهمنا لحل المشكلة القائمة؛ حتى إذا ما جمعناها بالمشاهدة وحددناها تحديدًا يُبلور لنا جسم المشكلة المراد حلها، عرض لنا حل «ممكن» لها، وهكذا يَمثل الحل الممكن أمام الذهن فكرة؛ فما الفكرة إلا نتائج نتصور حدوثها قبل وقوعها، أعني نتائج لما عساه أن يحدث إذا نحن قمنا بأداء إجراءات معينة في ظل الظروف المشاهدة وعلى هذا فيستحيل الفصل بين الوقائع المشاهدة من جهة والمعاني التي تعرض لنا عنها — أي الأفكار التي توحيها إلينا تلك الوقائع — من جهة أخرى. بل ينشأ الجانبان معًا وينموان معًا في تقابل يتوازيان به، فكلما ازدادت الوقائع لنا ظهورًا، ازدادت كذلك تصوراتنا وضوحًا للطريقة التي ينبغي أن نعالج بها تلك الوقائع؛ والعكس صحيح أيضًا؛ فكلما ازدادت فكرتنا عما سنُجريه على الوقائع وضوحًا، ازداد أيضًا وضوح الإجراءات الفعلية التي نجريها وفق فكرتنا التي تصورناها.

لقد اضطر «هيوم» حين فتت الخبرة تفتيتًا يردها إلى انطباعات حسية كل منها وحدة قائمة بذاتها، اضطر إلى الأخذ بمبدأ «العادة» ليضمن به دوام الشيء الواحد على ذاتية واحدة ولو إلى فترة قصيرة من الزمن؛ إذ بغير ارتباط المعطيات الحسية المفككة التي ترد إلينا من شيء بعينه، ارتباطًا يجعلها في خبرة الإنسان شيئًا واحدًا، لاستحال قيام الذاكرة كما استحال علينا أيضًا أن نتوقع ما يحدث لشيء ما في زمن مقبل؛ لأن كل انطباع جديد سيكون — في رأي «هيوم» — ذرة منعزلة قائمة بذاتها. نعم كان «هيوم» يَعد «العادة» حقيقة غامضة، لكنه مع ذلك اضطر إلى جعلها رباطًا يربط المواد المفككة لكي يلتمس طريقًا إلى احتفاظ الأشياء بذاتياتها؛ وها هو ذا تقدم البيولوجيا اليوم قد أغنانا — كما يقول «ديوي» — عن جانب الغموض في ذلك الرباط الملغز؛ إذ وجد أن طبيعة الخبرة فيها ما يربط أجزاءها ربطًا يحقق لها الاتصال على امتداد فترة زمنية، كما وجد أيضًا أن من طبيعة الخبرة ذاتها أن تكون مؤلَّفة من نبضات متميزة إحداها من الأخرى، لكنها على تميزها مرتبطة بعضها ببعض في تيار واحد.

وسيرنا في عملية البحث يصوِّر ويجسِّد هذا التيار الخبري المتصل الذي أقامته العوامل البيولوجية والثقافية معًا؛ فكل بحث خاص هو سير نتقدم فيه خطوة بعد خطوة، ونراكم حصيلة الخطوة السابقة على الخطوة اللاحقة. ومعنى ذلك أن البحث الذي يتم في لحظة زمنية واحدة أمر مُحال؛ فمحال كذلك أن يكون هنالك حكم — والحكم هو خاتمة البحث — بمعزل وحده عن سوابقه ولواحقه.

الفرق الواضح — إذن — بين «ديوي» و«هيوم» هو أنه بينما يَعد «هيوم» أفكارنا نسخًا عقلية للأشياء التي في الواقع، وبذلك فهو يتجاهل الوظيفة التي تؤديها الأفكار في توجيه المشاهدة، يرى «ديوي» أنها «إيحاءات» لما يمكن أن نؤديه في عالم الواقع من عمليات إجرائية تحول الموقف المشكل إلى موقف محلول الإشكال؛ ولذلك فقد أصاب «كانت» حين لاحظ ملاحظته الدالة على نظرة منطقية عميقة ونافذة، وهي قوله: «إن الإدراكات الحسية بغير مدركات عقلية تكون عمياء، والمدركات العقلية بغير إدراكات حسية تكون فارغة»؛ لولا أن هذه النظرة النافذة قد انهدمت من أساسها حين ظن أن مضمونات الإدراك الحسي ومضمونات الإدراك العقلي قد جاءتنا أصلًا من مصدرين مختلفين؛ ولذلك فقد احتاجتا إلى فعل ثالث — هو فعل الفهم التركيبي — ليضمهما معًا؛ وحقيقة الأمر هي أن المواد الحسية والمواد العقلية قد نشأتا مرتبطتين معًا ارتباطًا أدائيًّا، على نحو يجعل الأولى تُحدد المشكلة وتَصفها، على حين تُقدم الثانية طريقة ممكنة لحلها.

ولئن كانت النظرية البراجماتية تُعارض المذهب التجريبي كما عرفه «هيوم»، والمذهب العقلي كما عرفه «كانت»، فإنها كذلك تُعارض الواقعية الذرية التي يأخذ بها «برتراند رسل» فأخذتها عنه جماعة الوضعية المنطقية؛ فهذه الواقعية الذرية تَعد المعطيات الحسية من البساطة بحيث لا يمكن الارتداد وراءها إلى ما هو أبسط منها؛ ومنها تتألف القضايا الذرية؛ فالقضية التي نقول بها «هذا أحمر» قضية ذرية ينتهي عندها التحليل؛ ونظرية الواقعية الذرية قائمة على أساس أن كلمة الإشارة «هذا» — في القضية الذرية — خالية من كل مضمون وصفي، لأنه لو كانت «هذا» أكثر من مجرد أداة إشارية عارية لأصبحت مركبة، وإذن لكانت شيئًا لا نُعطاه عطاءً مباشرًا؛ لكن «ديوي» يعتقد استحالة أن يكون هنالك أداة إشارية محض، خالية من أي مضمون وصفي؛ ولو كانت كلمة «هذا» من المضمون الوصفي كما يذهب أنصار الواقعية الذرية، لما كان هنالك فرق بين الحالات المختلفة التي نستخدمها فيها؛ فما الذي يُبرر لنا أن نقول في موقف ما، مشيرين بإصبعنا مثلًا، «هذا أحمر» على حين أن ما يمكن أن تَنصَبَّ عليه الإشارة أشياء أخرى كثيرة؟ ولا يُزيل الإشكال أن نقول إن المعطى الأول ليس «هذا» وحدها، بل «هذا الأحمر» مأخوذة جملة واحدة؛ لأنه حتى لو استطعنا أن نحدد الانطباع اللوني للبقعة الحمراء المعينة، لما كان لنا بذلك قضية ذرية كما يقولون، بل لكان الذي لدينا هو «موضوع» عارٍ ينتظر أن يُحمل عليه بمحمول ما، بل لكان في هذه الحالة موضوعًا لا يَصلح لأن يُحمل عليه بشيء على الإطلاق.

ومع ذلك كله فالقضية الذرية «هذا أحمر» — حتى إذا سلمت من الاعتراض السابق — فهي ليست كاملة بذاتها وفي ذاتها، بل هي «وسيلة» نستخدمها لحل مشكلة قائمة؛ إذ نستخدمها شاهدًا نستشهد به على أمر سواه. فحقيقة الواقعية الذرية إذن هي أنها تَعزل ما ليس في سياق البحث معزولًا، وتجرد الوسيلة الأدائية من جانبها الأدائي لتجعل منها هيكلًا ثابتًا قائمًا بذاته مستقلًّا عن أية مهمة عملية يؤديها في مجال البحث؛ فهذا المذهب في رأي «ديوي» يغض نظره عن السياق الذي ترد فيه القضايا الذرية، وعن الهدف المنطقي الذي ما جاءت تلك القضايا إلا من أجله وعلى أساسه.

٥

ولقد تَعرَّض منطق «ديوي» للنقد، وكان «برتراند رسل» من أقوى ناقديه؛٢ ﻓ «ديوي» يرفض نظرية المدرسة التجريبية القائلة بأن المعطيات الحسية هي العناصر الأولية البسيطة، ونقطة الابتداء الأولى التي عندها تبدأ المعرفة يرفضها لأنه لا يريد أن يجزئ ما هو في ظنه عملية متصلة وتيار مستمر، يطلق عليه كلمة «بحث»، ويطرأ خلاله تغير على ذات الباحث وموضوع بحثه معًا؛ وعملية البحث هذه سير متصل مستمر خلال الحياة، بل خلال تاريخ المجتمع الواحد من أوله إلى آخره؛ على الرغم من أن كل مشكلة على حدة تكون ذات بداية، وهذه البداية يسميها «ديوي» موقفًا، و«الموقف» — بتعريفه — هو «كل فذ قائم في الوجود الخارجي وذو صفة كيفية تميزه» و«لو حللنا أي موقف ألفيناه ذا نطاق ممتد، ويشتمل على تمييزات وعلاقات مختلفة، لكنها تمييزات وعلاقات — على اختلافها — تكون كلًّا كيفيًّا موحدًا»، نعم إن «الأشياء المفردة ذات وجود، والحوادث المفردة تحدث، داخل نطاق الموقف الواحد» لكن تميز هذه الأشياء والحوادث لا يُفكك العروة التي تجعل من الموقف وحدة واحدة؛ وها هنا ينشأ اعتراضنا على «ديوي»: كم يتسع هذا الموقف الذي تعده بداية لعملية البحث، والذي تجعله موحد الكيان على كثرة ما فيه من أشياء وحوادث؟ إنه ليعتسف الرأي اعتسافًا حين يبتر جزءًا من البيئة الخارجية ليجعله وحده هو «الموقف»، ولو كان منطقيًّا مع نفسه، لما أخذ من «هيجل» الأساس وترك الفروع؛ إذ الأساس المشترك بينهما هو هذا التوحيد للعناصر المتباينة في كل واحد؛ أما هيجل فيمضي في المنطق إلى آخره، ولا يقف إلا بعد أن يطوي الكون كله في حقيقة واحدة، وأما «ديوي» فيثور على الفلسفة الهيجلية ثورة لا يُحالفها التوفيق، حين يكتفي جزافًا بجانب واحد من العالم ليجعله وحدة قائمة بذاتها تَصلح أن تكون موضوعًا للبحث.

على أن أهم ما يميز منطق «ديوي» هو إصراره على جانب «البحث» معارضًا به ما يسميه غيره من رجال المنطق ﺑ «الصدق»؛ فليس هدفه كهدف هؤلاء تحديدًا للشروط التي يكون بها القول الصادق صادقًا — بالمعنى المنطقي للصدق — بل هدفه هو تحديد للشروط التي تجعل القول «المنتج» أدائيًّا وفعَّالًا؛ فكلمة «بحث» عنده لا تعني ما تعنيه عند سائر الفلاسفة، وهو أن يكون البحث بحثًا عن «الحقيقة» كما هي قائمة في الفكر — على مذهب المثاليين — أو كما هي قائمة في الواقع الخارجي — على مذهب الواقعيين — بل البحث عنده «تحويل» لموقف مشكل إلى موقف محلول الإشكال؛ أو بعبارة أخرى ليست غاية «البحث» أن «يصف» ما هنالك، بل أن «يُغيِّر» ما هو قائم إلى صورة جديدة تخدم أغراض الإنسان إزاء مشكلاته التي تعترضه. ولا يفوتنا هنا بطبيعة الحال أن نُلاحظ الصلة في هذه النقطة بينه وبين رجل آخر كان مثله هيجليًّا أول أمره، ثم ثار مثله على الفلسفة الهيجلية، ألا وهو «كارل ماركس».

إن كاتب هذا التصدير نصير للواقعية الذرية كما استخدمتها الوضعية المنطقية، مع تعديل يجعلها هي والمذهب البراجماتي خطوتين متكاملتين لا متعارضتين؛ فالأساس عند كلتيهما هو الخبرة الحسية؛ لكن البراجماتية إذ تجعل نقطة ابتدائها «موقفًا» بأكمله، والواقعية الذرية إذ تحلل الموقف إلى أولياته البسيطة، وهي المعطيات الحسية التي منها تتألف القضايا الذرية الأولى، فهما في الحقيقة — من وجهة نظر هذا الكاتب على الأقل — متكاتفتان متآزرتان في نهاية الأمر؛ فسواء بدأنا من «موقف» أو رددنا هذا الموقف إلى بسائطه، فلا اختلاف في أن مدارنا هو الواقع. وتحليل الواقعية الذرية من شأنه أن يوضح عناصر «الموقف» لا أن يتنكر له وينفيه. وكذلك الأمر عندما تجعل البراجماتية «القضية» وسيلة أدائية، وتجعلها الواقعية الذرية «حقيقة» تستند في صدقها إلى إمدادات الخبرة الحسية؛ فكلتاهما متعاونتان لا متعارضتان. وما أشبه ذلك بمن يجعل مهمته أن يتثبت من أن شيئًا معينًا هو لون أحمر، ومن يأتي بعد ذلك ليقول إن اللون الأحمر علامة لوقوف السير في حركة المرور؛ فالواقعية الذرية تكتفي بالتحقق من صدق الوحدات الفكرية، والبراجماتية تُصِرُّ على أن تكون الغاية هي كيفية الانتفاع بتلك الوحدات، والجانبان كما قلنا يتكاملان ويتعاونان ولا يتعارضان.

زكي نجيب محمود
الجيزة في ٢٠ من يوليو ١٩٥٩م
١  Bonald A. Piatt, Dewey’s Logical Theory, in “Jon Dewey” ed. by Schilpp.
٢  Dewey’s New Logic, in “John Dewey” ed. by Schilpp.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤