الفصل الرابع عشر

القضايا الجامعة والقضايا الكلية

مقدمة

للقضايا العامة صورتان: الجامعة والكلية؛ وأما القضايا الكلية فصياغات للطرائق أو الأساليب الممكنة لفعل ما نفعله أو إجراء ما نجريه؛ وإنما نتطلب هذه القضايا في صياغاتها تلك، لنضبط بها الفعل الذي من شأنه أن ينتهي بنا إلى تحديد وترتيب المادة الوجودية من حيث تكون بالنسبة إلينا بينات تشهد (على ما نريد أن نستشهد بها عليه)؛ على أننا إذ نمضي في تنفيذ العمل الإجرائي الذي تمليه وتوجهه القضية الكلية في أدائها لمهمة الشواهد المبينة، فإننا بهذا التنفيذ نختبر قوة القضية الكلية نفسها، ومدى صلتها بموضوع البحث، باعتبارها أداة لحل المشكلة المطروحة للحل؛ وذلك لأن القضية الكلية تُساق لتقرر علاقة مُقَدَّم شرطي المضمون يبدأ بكلمة «إذا»، بتالٍ هو جواب ذلك الشرط، مشتمل على كلمة «إذن»؛ فإذا كان تطبيقنا للقضية الكلية تطبيقًا عمليًّا، يبين وجود ظروف في العالم الخارجي، تتفق مع مضمونات جواب الشرط الذي يشتمل على كلمة «إذن»، تأيَّدَ فرضنا الذي نحن بصدد تحقيقه، ما لم يظهر بعد ذلك ما ينفيه؛ لأن تأييده هذا ليس له ما يكفي لتسويغ قبولنا إياه؛ أعني أن اتفاق جواب الشرط مع الواقع الخارجي هو اختبار (للقضية الكلية) ضروري ولكنه ليس كافيًا؛ إذ إنه من ضروب المغالطة أن تثبت المقدم لمجرد كون التالي قابلًا للإثبات؛ ولا بد من عمليات نحذف بها ما نحذفه (من عناصر الموقف) أي ننفي بها ما ننفيه، لكي نقطع بأن التالي لا يقع إلا إذا ثبت صدق المقدَّم.

وتطبيقنا على مادة الوجود الخارجي للإجراءات التي تشير بها القضية الكلية، هو الذي يقرر لنا من أي الأنواع تكون تلك المادة الوجودية المشار إليها؛ فإذا مضينا في إجراءات ندخل بها نوعًا في نوع يشمله، ونبعد بها نوعًا من نوع لا يتصل به، استطعنا أن نحدد أي الأنواع تدخل أعضاء في نوع يشملها، بل استطعنا أن نحدد تلك الأنواع الأعضاء على سبيل الحصر الجامع المانع، حتى نستوفي استيفاءً كاملًا لكل ما يمكن استيفاؤه من الشروط المنطقية المطلوبة في عمليتي إدخال الأنواع بعضها في بعض وإخراجها بعضها من بعض، وهو استيفاء — في حقيقة الأمر — مستحيل التحقيق على النحو الكامل، بسبب طبيعة مادة الوجود الخارجي التي تجعل هذه المادة عَرضية الحدوث؛ غير أن ذلك لا يمنع من الاقتراب من الاستيفاء المطلوب — إبَّان سيرنا في البحث المتصل المراحل — فإذا لم يكن ذلك الاستيفاء الكامل ممكنًا في خطوات البحث الأولى، فقد يكون ممكنًا في خطواته الأخيرة البعيدة.

فهنالك من أوجه النشاط العضوي — على المستوى البيولوجي — ما نختار به ونرتب الظروف الوجودية بطريقة نساير بها الواقع؛ فلو كان أحد الكائنات العضوية الدنيا مزودًا بالقوى التي تمكنه من عملية الرمز، لنتج عن ذلك قدرته على إدخال بعض الأشياء في تعميمات شاملة تضمها مع غيرها، أي إدخال بعض الأشياء في أنواع تشملها — كأن يصنفها مثلًا إلى أطعمة، ومواد لا تؤكل، ومواد سامة؛ وإلى أشياء ضارة ومعطلة، وأشياء مُعِينة ومساعدة — أي إلى أعداء وأصدقاء؛ وإن ينبوع الثقافة ليزود الإنسان — بوساطة اللغة — ليس فقط بالوسيلة التي يصوغ بها الأنواع صياغة صريحة، بل إنه ليزيد كذلك زيادة كبيرة من الأنواع تنوعًا وعددًا؛ وذلك لأن الثقافة تخلق — كما أنها تتألف من — طرائق كثيرة العدد جدًّا هي الطرائق التي نعالج بها الأشياء؛ فضلًا عن أن طرائق سلوكية معينة تُصاغ لتكون أمام الناس قواعد نموذجية ومعيارية، يحتذونها في سلوكهم وفي أحكامهم، ما داموا أعضاء من جماعة ثقافية معينة؛ فكما بيَّنَّا من قبل، يتألف ذوقنا الفطري — في مرحلة تعميمه — من مجموعة من أمثال هذه المفاهيم المقننة، التي يلجأ إليها الناس في تنظيم أفعالهم واعتقاداتهم (أعني أنها تكون قواعد الأفعال والاعتقادات) بحيث يميزون على أساسها المقبول وغير المقبول، والمطلوب منهم أداؤه، وما يحل لهم وما يحرم عليهم، بالقياس إلى أشياء البيئة الطبيعية والاجتماعية؛ وهكذا تصنفُ الأشياء ويصنفُ الناس أنواعًا، على أساس ما يُسمحُ به وما لا يسمح به من ضروب التصرف في تلك الأشياء وإزاءها؛ وما هذا إلا سابقةٌ في المجال العملي، تسبق وتنبئ بما يتلوها من نشأة عمليتي إدخال الأنواع بعضها في بعض، وإبعادها بعضها عن بعض، بالمعنى المنطقي لهاتين العمليتين.

لكنها سابقةٌ من حيث الظهور فحسب، تنبئ بأن تاليًا سيتلوها؛ وذلك لأن الكائنات البشرية أكثر اهتمامًا بحكم «طبيعتها» بالنتائج وبالحواصل وبالثمرات طيبها ورديئها، منها بالشروط — المادية منها والمنهجية — التي تؤدي بها إلى تلك النتائج والحواصل والثمرات؛ أضف إلى ذلك أن المفاهيم والقواعد المقننة هي — إلى حد كبير — وليدة العادة والعرف التقليدي؛ ومن ثَم كانت من الثبات بحيث لا توضع هي نفسها موضع الشك والنقد؛ فهي تعمل — في مجال الحياة العملية — على تسوير الأنواع لتحديدها، لكن الأسس أو المسوغات التي تسوغ تحديد الأنواع المعترف بها في الحياة العملية، لا توضع موضع البحث والتقدير — فيكفي أن القواعد المرعية هي ما هي؛ فها هنا — من الناحية المنطقية — وقوعٌ في الدوْر، وذلك لأن ما يحدد الأنواع المعترف بها هو قواعدُ ثابتة لا يجوز عليها الشك؛ بينما القواعد تثبت الأنواع تثبيتًا لا يجعل هذه الأنواع أداة لاختبار وتعديل المفاهيم التي جعلناها قواعد في تثبيت الأنواع، بل إن هذه الأنواع لتتخذ أمثلة توضح القواعد وتؤيدها؛ وإذن فعملية البحث محصورة — على أحسن الفروض — في تحديدها لأشياء معلومة إن كانت تلك الأشياء متسمة أو غير متسمة بالصفات التي تدخلها في نطاق مفهوم معين من المفاهيم المقننة، كما لا يزال يحدث إلى حد كبير في أحكام «العامة» على أمور الأخلاق والسياسة.

فطريق السير في البحث — من حيث هو بحث — مؤلف، إذن من اعتبارنا للقضايا العامة التي صِيغت فيها طرائق الفعل السلوكي، على أنها فروض، وهو اعتبار يساوي قولنا بأن طرائق الفعل السلوكي المتضمنة في القضايا العامة، مساقةٌ على سبيل افتراض ما هو ممكن، لا على سبيل ذكرنا لما هو محتوم أو ضروري؛ وهذه النظرة التي ننظر بها إلى أفكارنا (التي نجعلها بمثابة فروض لما يمكن أن نؤديه من فعل سلوكي إزاء الأشياء) أثرها المباشر أيضًا على تكويننا للأنواع؛ لأنها نظرة تتطلب منا البحث عن أسس نقيم عليها تكويننا للأنواع، وهي أسس لا بد لها من الوفاء (عن طريق إدخال الأنواع بعضها في بعض أو إخراجها بعضها عن بعض) بما يقتضيه الفرض الذي كنا قد فرضناه واستخدمناه؛ فما دام الوجود الخارجي هو الوجود الخارجي، ووقائعه عنيدة (لا تتغير وفق ما نشتهيه لها) كانت وقائع العالم الخارجي التي يثبتُ قيامها، وسيلة لاختبار صدق الفرض الذي استخدمناه؛ بمعنى أنه حين تتكرر المفارقة التي تباين بين الوقائع المشاهدة، وبين مقتضيات فكرتنا (وهي الفرض أو النظرية) فعندئذٍ يتهيأ لنا أساس مادي يقتضينا أن نغير من الفرض؛ وها هنا أيضًا وقوع في الدوْر، لكن الحركة الدائرية هنا تتم داخل نطاق البحث، وتضبطها الإجراءات التي نصطنعها لفضِّ المواقف المشكلة.

(١) استدلال حالة من حالة

يحسن أن نبدأ المناقشة بالإشارة إلى رأي «مل»، لأنه يذهب إلى أن التعميمات تبدأ من مفردات ثم تنتقل إلى غيرها من المفردات، وأن البرهان على صدق التعميمات هو عدد كافٍ من الحالات الجزئية؛ ثم تراه يقر كذلك بأن لدينا «ميلًا نحو التعميم» متضمنًا في سيرنا من مشاهدتنا لأحد المفردات إلى مشاهدتنا لغيره من المفردات؛ إذ يقول: «إننا نستدل الحالات المجهولة من الحالات المعلومة، مدفوعين في ذلك بدافع الميل نحو التعميم»؛١ وقد يكون من الصواب أن نقول عن هذا الميل الدافع إلى التعميم إنه هو نفسه طريقة الفعل السلوكي — عضويًّا كان أو مكتسبًا — التي قد أسلفنا الإشارة إليها؛ غير أن «مل» في شرحه للتعميم، لا يتبين حاجتنا إلى القضايا التي نصوغها لنعبر عن ميلنا الذي يحفزنا إلى التعميم؛ فجاء شرحه للقضايا العامة، من حيث تكوينها وطبيعتها — نتيجةً لإغفاله لحاجتنا إلى القضايا التي نصوغ بها ميلنا إلى التعميم — شرحًا يصف أدق الوصف ما يحدث في حالة تلك التعميمات التي ينقصها استيفاء الشروط المنطقية: أعني تلك التعميمات (التي أشرنا إليها في الفقرات التمهيدية) والتي لا ترتكز على أسس تحققت، ولهذا فليست هي مما يجوز قوله.

وإن مثله المعروف الذي ساقه للتوضيح، وهو مثلُ القروية وابنة جارتها، لينهض برهانًا — إذا ما حللناه — على صدق عبارتنا الأخيرة؛ فالقروية تستدل حالة من حالة، بفضل ما لديها من ميل نحو التعميم؛ فما دام هذا العلاج قد شفى ابنتي، فسيشفي ابنتك كذلك؛ وليس من شك في أن هذه الطريقة هي نفسها التي نتبعها في حالات كثيرة؛ ولو لم يكن الأمر كذلك، لما شاعت شهرة دواء على أساس ما قد سجله صاحبه له من شهادات الشاهدين بصلاحيته، كما تشيع على النحو الذي نراه؛ غير أن حقيقة كون الميل نحو التعميم يعمل فينا من حيث هو مجرد ميل، لا عن طريق قضية عامة ننشئها على صورة «إذا – إذن» (فيمكن بناءً على ذلك مراجعتها على النتائج التي تترتب على عمليات تنفيذها) هي بالضبط علة الضعف النسبي الذي يفسد ما ينتج عن ذلك الحين من استدلالات؛ فالميل هو سبب الاستدلالات التي ننتزعها، لكن ليس مبررًا لصدقها بأية حال من الأحوال.

فليس هنالك (١) مسوغ أو أساس يستند إليه زعم القروية بأن الدواء الذي تقترحه (لجارتها) هو الذي كان في حقيقة الأمر قد شفى ابنتها؛ وليس هنالك (٢) مسوغ لزعمها بأن مرض ابن جارتها شبيه — أي من نفس النوع — بالمرض الذي كان قد أصاب ابنتها «لوسي»؛ ومع ذلك فقد زعمت القروية هذا الزعم، ما لم تكن قد اندفعتْ «بميلها نحو التعميم» إلى الحد الذي حَدَا بها أن توصي بالدواء نفسه لكل حالة من حالات المرض في القرية؛ فإذا أعدْنا ما قلناه في عبارة إيجابية، قلنا إن السير بالاستدلال من حالة إلى غيرها من الحالات (وهي صورة غاية في الأهمية من صور الاستدلال، لأنها — كما سنبين فيما بعد — تتصل بجوهر العملية الاستقرائية)٢ أقول إن السير بالاستدلال من حالة إلى غيرها من الحالات، لا يكون قائمًا على أساس سليم إلا إذا تدخلت، وتوسطت مراحل السير، قضايا عامة؛ فلا بد لنا من فحص حالتَي المرض المذكورتين، لنستوثق من أنهما شبيهتان أو أنهما من نوع واحد؛ ويتم لنا هذا الفحص بطريقة المقارنة التحليلية للحالتين، مقارنةً تؤكد ما بينهما من أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف، وذلك بأن نلجأ إلى إجراءات عملية نقيم بها قضايا موجبة وأخرى سالبة، بحيث تسير هذه مع تلك في ارتباط دقيق؛ أضف إلى ذلك أن هذه المقارنة التحليلية تنجم أيضًا (حين تنتج لنا نتيجةً قائمة على أساس سليم) عن استخدامنا بالفعل لجهاز عقلي قوامه قضايا من صورة «إذا – إذن» كأن نقول مثلًا: إذا كانت دفتريا، إذن فالسمات المميزة هي كذا وكذا؛ وإذا كان التيفود إذن فسماتٌ أخرى هي كذا وكذا؛ وإذا كانت الحصبة إذن فسماتٌ ثالثة هي كذا وكذا، وهكذا؛ على أن الجهاز العقلي المذكور، لا يعنى بالمطلوب إلا إذا كانت قضايا «إذا – إذن» التي استخدمناها، تكوِّن مجموعة كاملة من القضايا الشرطية المنفصلة، التي تستوعب نظريًّا (ولو أنها لا تستوعب عمليًّا) حالات المرض الممكنة كافة، استيعابًا يهيئ لنا الوسيلة المنهجية التي تعيننا على تحديد وتمييز أية حالة من حالات المرض كائنة ما كانت؛ فلهذه الأسباب قد أسلفنا القول بأن سير الاستدلال من إحدى الحالات إلى غيرها، لا يمكن أن يتم إلا إذا توسطتْ قضايا عامة مراحل السير، لا قضية عامة واحدة؛ وذلك لأن ثمة القضية التي نقول بها بأن هذه الحالة المعينة هي عضو في النوع الفلاني؛ كما أن ثمة التعميم الذي يتخذ صورة «إذا – إذن» والذي لا غناء عنه لتدعيم القضية التي نقولها عن نوع ما.

فليلحظ القارئ أنني لا أنكر بأننا نستدل بالفعل استدلالًا نسير به من حالة إلى حالات أخرى، لكن الذي أثبته هو أن أمثال هذا الاستدلال لا تكون لها مكانة في المنطق — أي إنها لا تقوم على أساس سليم — إلا إذا سار الاستدلال خلال مراحل وسطى قوامها قضايا من ذوات الصورة الجامعة، وقضايا من ذوات الصورة الكلية.

(٢) طبيعة القضايا الجامعة

كل قضية تتضمن فكرة نتصورها عن نوع معين، هي قضية قائمة على أساس مجموعة من السمات والقسمات المتعلق بعضها ببعض، والتي هي الشروط الضرورية والكافية لوصفنا لذلك النوع المعين؛ وهذه السمات إنما نميزها بالمشاهدة تمييزًا ينتقيها من بين مجموعة المجال الإدراكي؛ فبأي معيار نلتقط من المجال الإدراكي طائفة من سمات ونحذف وننبذ ما عداها؟ إنه لا معيار هناك من ناحية الوجود الخارجي نفسه، إذا نظرنا إليه من حيث هو قائم قيامًا يستقل به عن خضوعه لعملية البحث؛ فكل شيء في العالم يشبه كل شيء آخر من بعض الوجوه، ويختلف عن كل شيء آخر من وجوه أخرى؛ فمن وجهة النظر الوجودية، يمكن للمقارنة أن تنشئ عددًا لا نهاية له من الأنواع؛ وليس هنالك من أساس قط، في أي موقف من المواقف، يسوغ لنا أن ننشئ هذا النوع دون ذاك؛ فمثلًا هنالك من الأشخاص من يتصفون بالحوَل، ويتصفون بالصلع، ويتصفون بكونهم صناع أحذية؛ فلماذا لا ننشئ نوعًا قائمًا على أساس هذه الصفات؟ الجواب هو أن مثل هذه المجموعة من السمات المقترنة عديم النفع تقريبًا بالقياس إلى هدف الاستدلال؛ أي إن هذه المجموعة من السمات ليست بذات قيمة من حيث هي شواهد تؤدي بنا إلى استدلال سمات أخرى تكون هي الأخرى مقترنة بتلك المجموعة، دون أن تكون قد وردت في مجرى المشاهدة عندئذٍ، وإذن فهي سمات لا تفضي بنا إلى شيء في عملية البحث.

لكننا من جهة أخرى نستخدم اقترانًا لصفات مثل كون الكائن الحي ولودًا ودافئ الدم وذا تنفس رئوي، لنصف به نوعًا نطلق عليه اسم الثدييات، معتمدين في ذلك على سبب واحد فقط، وهو أن اقتران هذه الصفات من شأنه أن يفيد ويوجه الاستدلال في عالم الموجودات الخارجية، وهو يجيز لنا انتزاع نتائج مدعمة تتعلق بالكائنات الأفراد؛ وذلك لأننا ندخل هذه الأفراد في نوع الثدييات، أو نخرجها من ذلك النوع، تبعًا لما نجده في البحث على أساس المشاهدة، إن كان هذا الاقتران للسمات موجودًا أو غير موجود؛ فلولا فكرة السمات المتعلق بعضها ببعض، لما عرف الباحث عن أي شيء يبحث، ولا كيف يقدر ما عساه أن يجده في بحثه؛ وكذلك تمكننا مجموعة السمات من تكوين استدلالات عن العلاقات القائمة بين الأنواع؛ وذلك لأن السمات التي اخترناها سنجدها مندرجة — لوجود خصائص إضافية فيها — ضمن مجموعة السمات التي تصف نوع الفقريات، ومن شأن تلك الصفات المختارة أن تعيننا على إقامة الفواصل التي تفصل بين نوع الثدييات، وبين غيره من الأنواع (الداخلة معه في مجموعة الفقريات) كالأسماك مثلًا؛ فقد كان الاعتقاد ذات يوم فيما مضى أن صفات المشي والسباحة والزحف والطيران، هي التي تقدم لنا الأساس الذي نقيم عليه تمييزنا لمختلف أنواع الكائنات الحية، والفصل بينها؛ لكننا وجدنا هذا الأساس — كما تبين خلال البحث الخِبْري المتصل — هو أوسع مما ينبغي وأضيق مما ينبغي في آنٍ معًا؛ لأنه أساس يضع الحشرات والطيور والخفافيش في نوع واحد بعينه؛ ويضع الأسماك وعجول البحر في نوع آخر؛ ويضع الزواحف والديدان في نوع ثالث؛ فجاء البحث العلمي وأظهر — على خلاف ما ذكرنا — أن عجول البحر والطيور والزواحف يجب أن تدخل كلها في نوع يشملها جميعًا؛ وذلك لأن السمات التي تصف ذلك النوع بما يميزه من سواه، تجعل عملية الاستدلال ميسرةً ومأمونة الجانب، حين تنتقل من حالة إلى حالة، ما دامت المشاهدة المباشرة قد دلت على وجود تلك السمات؛ وهي في الوقت نفسه تسد الطريق أمام الاستدلال في حالة عدم وجودها.

لقد كانت أوسع النظريات شيوعًا (أو على الأقل أكثرها قبولًا) في تكوين المفاهيم العامة، هي أن تلك المفاهيم تتكون بعمليات من المقارنة نجريها لنستخلص بها العناصر المشتركة بين حالات كثيرة، ولنطرح بها الصفات التي تختلف من حالة إلى حالة؛ ولقد أسلفنا الإشارة إلى أن تكوين الأنواع بناءً على هذه النظرية يصبح أمرًا جزافًا؛ لأن كل شيء يشبه سائر الأشياء ويختلف عن سائر الأشياء؛ وها نحن أولاء نثير اعتراضًا أهم، يتصل بما نحن الآن بصدده من حديث، وهو أن هذه النظرية تضع العربة أمام الحصان، لأنها تسلم بادئ ذي بدء بنفس الشيء الذي يُراد تعليله؛ إذ الصفات المشتركة هي بدورها صفات عامة؛ فمثلًا يُقال إننا نكوِّن الفكرة العامة عن الجواد بمقارنة أفراد الجياد، لنستخلص ما يتبقى لدينا (بعد حذف أوجه الاختلاف بينها) من صفات تكون مشتركة بينها؛ لكننا قبل أن نبدأ في المقارنة نكون قد أنشأنا تعميمًا، وذلك حين نقول عن الأفراد (المختارة للمقارنة) إنها جياد.

إنه لو كان في مستطاعنا أن نكوِّن تعميمات سليمة، بأن نضع — في الذهن — عددًا من الأفراد في صف واحد، ثم نأخذ في اطراح الصفات المتباينة، حتى يتبقى لدينا عدد من الصفات «المشتركة»، لكان تكويننا الأنواع والمفاهيم العامة عملية سهلة وآلية مسرفة في آليتها؛ وما عليك إلا أن تنظر إلى الخصائص التي تصف بها نوعًا ما في البحث العلمي، لترى أن تكوين تلك الأنواع عملية شاقة، ولا تسير على النحو الذي نحن الآن بصدد نقده؛ فالأنواع في المجال العلمي — كنوع المعادن مثلًا — إنما تتكون بإجراءات تكشف عن الخصائص غير الحاضرة أمام المشاهدة العادية، بل هي خصائص تخلق خلقًا بما نجريه من تجارب، لكي نتخذ منها دلالة ظاهرة على ما يحدث من ضروب التفاعل؛ وذلك لأنه لا ييسر الاستدلال ويوجهه إلا الصفات التي يمكن أن نعدها علامات دالة على تفاعلات معينة.

وهكذا نكون قد عدنا مرة أخرى إلى الفكرة القائلة بأن السمات التي تحدد الأنواع تحديدًا وصفيًّا، إنما هي سمات يتم اختيارها وترتيبها على أساس مهمتها التي تؤديها في تقوية وفي توجيه الاستدلال في عالم الموجودات الخارجية؛ وبعبارة أخرى، فلئن كانت كل سمة مميزة صفةً فليست كل صفة هي من السمات؛ فلا تكون الصفةُ سمة، بذاتها وفي ذاتها، أو لمجرد كونها قائمة في الوجود الفعلي والصفات كائنة في الوجود الخارجي، وهي تنشأ وتفنى بفعل ظروف وجودية؛ أما إذا أردنا للصفة أن تكون سمةً، فلا بد من استخدامها من حيث هي علامةٌ أو مميزٌ دال؛ ولذلك فلأننا نستخدم الصفات — حين تكون سمات — لتوجهنا وتضبط لنا عملية الاستدلال، كانت هذه الحقيقة نفسها سببًا يجعل صلاحية الصفات — من حيث هي سمات — لقيامها بمهمتها في الدلالة، أي مهمتها في أن تكون لنا شواهد دالة، أمرًا يقتضينا، أو يجب أن يقتضينا تمحيصًا دقيقًا.

إننا في العادة نستخدم الصفات علامات، لكننا لا نمحص في العادة أو «بحكم طبائعنا» أهلية تلك الصفات لأن تؤخذ وتستخدمَ على أنها علامات؛ فالفنانون وأصحاب الميول الذوقية القوية وحدهم — على وجه الإجمال — هم الذين يعنون عناية كبيرة بالصفات من حيث هي صفات؛ فاللون الأحمر عند مفترق الطرق هو علامة للمرور؛ وفيما عدا مهمته هذه، لا ترى بين الناس من يلتفت إلى صفته الذاتية، وإن التفت أحد إلى صفته تلك، فبمقدار قليل؛ هذا إلى أن الصفة من حيث هي شيء كائن في الوجود الخارجي، لا تنفك تتغير؛ فهي تختلف باختلاف الظروف الجوية، وبتغيرات ضوء الشمس، وبالمسافة بينها وبين الشخص المدرك، وكذلك بما لهذا الشخص من جهاز بصري … إلخ؛ وأما ما هو ثابت ومطرد في الصفة فهو مهمتها التي تؤديها؛ ولا تتأثر مهمة اللون الأحمر في الطريق من حيث هو إشارة للمرور، بتغيرات صفة الاحمرار فيه كما هي كائنة فعلًا في الوجود الخارجي، اللهم إلا إذا جاوزت هذه التغيرات حدًّا معلومًا.

ويلزم عن ذلك أن وجهة النظر القائلة بأن الصفات هي نفسها عامة، ولا تقل تعميمًا عن العلاقات والصلات، خاطئة من الناحية المنطقية؛ شأنها في خطئها هذا شأن المذهب القائل بأن الأفكار العامة تتحدد بما نختاره لها من صفات «مشتركة»؛ فلن يسع خيال الإنسان أن يتصور شيئًا أمعن في فرديته الأصيلة وفي عدم عموميته، من صفة تؤخذ من حيث هي كائن قائم في الوجود الخارجي؛ فالأحمر كما هو قائم فعلًا في ضوء المرور، لا ينقطع عن التغير، لأنه — من حيث هو جزء من الوجود الخارجي — مظهر له ما وراءه من ظروف متغيرة تتشابك في نسيج كثير الخيوط؛ وليس ثمة ما هو ثابت وما هو عام إلا المهمة، والمهمة وحدها التي تؤديها الصفة في تدعيمها للاستدلال.

(٣) طبيعة القضايا الكلية

إن الأساس الوجودي الذي ترتكز عليه القضية الكلية هو — كما سبق لنا القول — طريقة فعل، ومع ذلك فليست القضية الكلية مجرد صياغة للطريقة التي يفعل بها الإنسان ما يفعله أو يجري بها ما يجريه؛ بل هي من قبيل الصياغة التي من شأنها أن توجه الإجراءات العملية التي بوساطتها يتم اختيار المادة الوجودية اختيارًا يميز أجزاءها بعضها من بعض، ثم يصل (أو يرتب) هذه الأجزاء بحيث تقوم بمهمة الأساس الذي يبرر لنا بناء النتائج الاستدلالية الجائزة القبول؛ وبعبارة أخرى فمضمون قضية ما يتسم بالكلية بفضل المهمة التي يتميز دون غيره بأدائها في عملية البحث؛ وإنما تكون طرائق الفعل — كما أشرنا إلى ذلك مرارًا — عملية وفعلية في بادئ أمرها؛ ثم يحدث بعدئذٍ أن ترمز تلك الطرائق بما نصوغه لها من قضايا، فتصبح ممثلة لطرائق الفعل الممكنة؛ ثم نحتفظ بهذه الطرائق الممكنة ونقويها باعتبارها إمكانات لطرائق من الفعل، ونجعلها عامة بالنسبة إلى حالات الوجود الفعلي (وهي عامة عندئذٍ لأنها طرائق للفعل، وليست أفعالًا مفردة أو حالات من الأداء جزئية) أقول إننا نحتفظ بتلك الطرائق ونقويها باعتبارها إمكانات لطرائق الفعل، فتكتسب بذلك صورة منطقية.

ويتم التعبير في القضية الكلية عن إمكان حدوث ضرب معين من ضروب العمل، حين نصبها في صورة «إذا – إذن»؛ فإذا توافرت مضمونات معينة، إذن تتحقق معها مضمونات أخرى معينة؛ ولقد جرى التقليد على أن تسمى العبارة البادئة بكلمة «إذن» بالمقدم، والعبارة البادئة بكلمة «إذن» بالتالي؛ غير أن العلاقة بينهما هي علاقة منطقية بحت، ولفظتا «مقدم» و«تال» ينبغي أن تفهما بمعنًى منطقي لا بمعنى وجودي؛ وإن معنى هاتين الكلمتين ليزداد حرفية في القضية المصبوبة في صورة «إذا – إذن» إذا ما صِيغت أثناء تدبرنا لأمر معين يتصل بحياتنا السلوكية؛ كأن أقول مثلًا: «إذا ما بدأت بفعل هذا العمل المعين، فقد أتوقع للنتائج الفلانية أن تحدث» فها هنا نرى العلاقة علاقة أسبقية وتبعية في الزمن؛ وأما حين أقول: «إذا ما انتهكتْ حرمة ملكية خاصة، إذن لتعرضَ المنتهك للعقوبة» فالحدود هنا مجردة، والعلاقة بينها ليست بالزمنية ولا هي بالوجودية، على الرغم من أن المضمونات — أعني فكرة الانتهاك وفكرة العقوبة — تشير بطريق غير مباشر إلى الوجود الخارجي؛ وأما في قولنا: «إذا كان الشكل المستوي مثلثًا، إذن فمجموع زواياه الداخلية الثلاث يساوي زاويتين قائمتين» فالعلاقة عندئذٍ لا تقتصر على كونها لا وجودية، بل إن المضمونات لتتخلص من أية إشارة وجودية مشروطة، مهما جعلنا هذه الإشارة من نوع غير مباشر إلى أقصى حدود عدم المباشرة؛ ففي قضية كهذه، لا يكون ثمة شبهة من مقدم وتالٍ حتى ولا بالمعنى المنطقي؛ وإن المعنى ليظل بغير تغيير، إذا جعلنا القضية هكذا: «إذا كان مجموع الزوايا الداخلية الثلاث لشكل مستوٍ، مساويًا لزاويتين قائمتين، كان الشكل المستوي مثلثًا».

ففي كلتا هاتين الحالتين المذكورتين، لا يلزم تالٍ عن مقدم ولا مقدم عن تالٍ لزوم التبعية في الزمن؛ لأن المقدم والتالي معًا في علاقة الواحد منهما بالآخر علاقةً ضروريةً، إنما يمثلان العنصرين اللذَيْن تنحل إليهما فكرةٌ معينة، قوامها ذانك العنصران في تكاملهما، وفي شمولهما للفكرة بأسرها؛ ومن هنا كان مما يعرضنا للخطأ أن نقول إن أحد الشقين يستلزم الآخر، لا لأن علاقة اللزوم لا تكون إلا بين القضايا دون الجمل الداخلة في تكوين القضية الواحدة، فحسب، بل كذلك لأن مثل هذا القول يُبهم أمام النظر الجانب المنطقي الأولي، وأعني به أن جملتَي القضية الشرطية تمثلان تحليل فكرة واحدة إلى مقوماتها المنطقية المتعلق بعضها ببعض، والجامعة لكافة أجزاء الفكرة، والمانعة لكل ما هو غريب عن الفكرة من الدخول فيها؛ ولهذا السبب كان للقضية الشرطية الكلية صورة التعريف بمعناه المنطقي؛ وعلى هذا فالقضية القائلة: «إذا كان شيء ما جسمًا ماديًّا، فإنه يجذب غيره من الأجسام المادية بنسبة تطرد مع كتلته، وتكون عكسية بالنسبة إلى مربع المسافة». يمكن أن نضعها في الصورة اللغوية الآتية بحيث لا يتغير شيء من معناها: «كل الأجسام المادية … إلخ»، فالقضية تعريف (جزئي) لكون الشيء ماديًّا، إذ هي تنص على شرط لا بد من توافره في أي شيء مشاهد، إذا أردنا أن ننعته بصفة «المادية» نعتًا يقوم على أساس سليم؛ ومن جهة أخرى، إذا وجدنا الأشياء تنهض شاهدًا على غير ما تقتضيه قضية مأخوذ بها، ثم كانت تلك الشهادة قائمة على أسس زودتنا بها قضايا كلية أخرى؛ فلا مندوحة لنا عندئذٍ من مراجعة إحدى القضيتين المتعارضتين، لتعديل صياغتها.

لقد أردنا بالفقرات السالفة أن نبين (١) ماذا نعني بالطابع الأدائي الذي تتميز به القضية الكلية، و(٢) على أي نحو خاص هي أدائية؟ ويمكننا أن نعيد التعبير عن هذا النحو الخاص (لأدائية القضية الكلية) كما يأتي: إن القضية الكلية تضع الشروط التي لا بد من تحققها في المادة الوجودية، بحيث إذا كانت تلك المادة الوجودية فردًا من الأفراد، تعين أن يكون هذا الفرد عضوًا في نوع معين؛ أما إذا كانت المادة الوجودية نوعًا، كان ذلك النوع داخلًا في و/أو مشتملًا على أنواع أخرى معينة محددة؛ والقضية الكلية تؤدي مهمتها هذه بتنفيذها تنفيذًا فعليًّا لذلك الضرب من ضروب الإجراءات العملية، الذي جاءت القضية — بحكم كونها قضية — لتعبر عنه؛ وذلك لأن الإجراء ما دام قد خرج إلى نطاق الفعل، فلا مفر من أن ينصب فعله على ظروف وجودية، كما لا بد أن يكون له النتائجُ التي تعقبه بالمعنى الحرفي أو بالمعنى الوجودي لهذه الكلمة؛ ولو جاءت هذه النتائج الفعلية متفقة مجرد اتفاق مع مضمون الجملة التالية من جملتي القضية الشرطية الكلية، لما عددنا اتفاقها ذاك — كما قد شرحنا من قبل — اختبارًا كاملًا لصدق الفرض الشرطي، بل لا بد من إقامة الدليل — بقدر المستطاع — على أن تلك النتائج الفعلية هي النتائج الوحيدة التي تستوفي مقتضيات الفرض الشرطي؛ ولكي يتسنى لنا الدنو من كمال الاستيفاء المذكور، يلزم أن تكون القضية الكلية التي نكون بصددها، واحدة من نسق من قضايا كلية متعلق بعضها ببعض؛ إذ القضية الكلية التي لا تكون واحدة من نسق من قضايا، لا يمكنها — على أكثر تقدير — أن تنتج إلا النتائج التي تتفق مع الشروط التي تشترطها هي، دون أن تستبعد إمكان أن تكون تلك النتائج عينها متفقة أيضًا مع شروط تشترطها تصورات عقلية أخرى.

(٤) العلاقة المتبادلة بين القضايا الكلية والقضايا الجامعة: اللزوم والاستدلال

قلنا في الفصل السابق إننا نريد أن نستخدم كلمة «مقولة» لندل بها على التصورات التي نصوغها في القضايا الكلية، بدل كلمة فئة، لأن هذه الكلمة الثانية تُستعمل لتدل أيضًا على العموميات التي تتخذ صورة الأنواع؛ فيمكننا أن نطلق اسم «مقولة» على كل فكرة تؤدي مهمتها من حيث هي نموذج لضرب من ضروب الإجراءات العملية الممكنة؛ فعلى الرغم من أن الكلمة قد استعملت في تاريخ الفلسفة لتدل — إلى حد كبير — على الأفكار وحدها التي نُظر إليها على أنها نهائية، (ومع ذلك فلم يحسبوا إلا قليلًا حساب طبيعتها الأدائية)؛ إلا أن اللغة الجارية تستعمل الكلمة استعمالًا أوسع من ذلك، فحين يُقال مثلًا (والمثل مأخوذ من عبارة وردت في أحد المعاجم) إن «هذا الشيء يندرج تحت مقولة الآلات» فالمقصود من ذلك هو أكثر من كون ذلك الشيء داخلًا في النوع «آلات»، إذ المعنى المقصود هنا هو أن الشيء المذكور يمثل المبدأ، أو مجموعة المبادئ، التي نعرف بها كون الشيء آلة؛ فالمقولة هي في المنطق مساوية لما نسميه في الجانب العملي «وقفة»، لأنها تكون وجهة للنظر، أو خطة، أو برنامجًا، أو عنوانًا، أو عبارة مفسرة، أو توجيهًا، أو ضربًا ممكنًا من ضروب نسبة المحمول إلى موضوعه؛ إذ إن وضع الشيء تحت مقولته — عند أرسطو — هو أن تحمل صفة على موضوعها؛ فلئن كان القانون المدني والقانون الجنائي نوعين مختلفين، إلا أن كون القانون مدنيًّا أو جنائيًّا مقولتان؛ لأنهما وجهتان للنظر نتناول منهما صورًا معينة من السلوك وننظمها؛ فالقانون صيغة ترسم حدود التعامل؛ لأنه يقرر إن كان أشخاصٌ بأعينهم يُستَدْعوْن أمام المحكمة، ثم كيف ينبغي أن تكون معاملتهم إذا ما استدعوا وعندما يستدعون؛ فالمبادئ التشريعية والخلقية مقولات، لأنها قواعد تضبط السلوك؛ فبينما القواعد نفسها قد تندرج في فئات، حين نعني بهذه الكلمة أنواعًا، لا يعد كون الشيء مبدأً، نوعًا من الأنواع؛ إذ هو اشتراط لكيفية تكوين الأنواع، أي لتحديد الوضع بالنسبة لفعل معين أو لخطة سلوكية معينة، أهي تقع في نوع معلوم أو لا تقع.

ولا نكاد نتبين أن القضية الكلية صيغةٌ ترسم طريقة للعمل الممكن فعله، حتى تتحول المشكلة المنطقية الرئيسية الخاصة بالقضايا الكلية، بحيث تصبح مشكلة خاصة بعلاقة تلك القضايا بالقضايا الجامعة؛ وأعني علاقتها بتحديد السمات المميزة التي تضع للأنواع حدودها؛ وهي علاقة بناءً على وجهة النظر التي نأخذ بها في هذا الكتاب متبادلةٌ؛ فالقضايا الكلية والقضايا الجامعة يتعلق بعضها ببعض في عملية البحث بنفس العلاقة التي تقوم بين الوسائل المادية والوسائل المنهجية عند تكويننا للحكم؛ فالقضايا التي نقولها عن الأنواع، أو نقولها عن الأفراد من حيث هي أعضاء في نوع بذاته، تزودنا بالمادة التي تكوِّن لنا موضوع الحكم النهائي؛ وأما القضايا التي نقولها عن الإجراءات التي لا بد من اصطناعها لكي نعمل على تحويل ما قد كان أول الأمر مشكلًا، إلى موقف في الوجود الخارجي موحد ومتصل، أقول أما القضايا التي تُقال عن هذه الإجراءات فهي التي تزودنا بمادة المحمول.

فالإجراء الذي لا نصوغه في قضية، هو إجراء بغير ضابط من الوجهة المنطقية، مهما يكن مدى نفعه في جانب الحياة العملية المعتادة؛ إذ لن يكون أمامنا أساس نحدد به أي النتائج، أو أي الجوانب من النتائج الناجمة، يرجع إلى ذلك الإجراء، وأي النتائج يرجع إلى ظروف خارجية غير مصوغة في صورة القضايا، أقول إنه لن يكون أمامنا أساس نحدد به كل ذلك إلى أن نصوغ الإجراء (الذي نصطنعه في القيام بالبحث) في قضية تعبر عنه؛ فالقضية الشرطية الكلية تقرر العلاقة بين الإجراء ونتائجه؛ على أن هذه النتائج نفسها ينظر إليها على أنها ذات قوة إجرائية في مجرى الخبرة المتصل، لا على أنها نتائج ختامية (نقف عندها) فتكون إذن منعزلة عما يأتي بعدها؛ وهكذا تكون العلاقة بين هذه النتائج والقضايا المرتبة في عملية التدليل، أو في عملية النقاش المنظم، هي نفسها العلاقة التي تقوم بين القضايا التي تُقال عن الأنواع وبين تقوية الاستدلال وتنظيمه؛ نعم إن هذه النتيجة المعينة أو تلك، لا تؤدي بذاتها إلى نتائج تنجم عنها بعد ذلك؛ بمعنى أنني حين أتدبر أمرًا، فستكون كلمة «إذا» التي أقدم بها فعلًا مقترحًا على أنه فعل ممكن، متبوعة بجملة «إذن» التي تحمل نتائج معينة هي في حسابي تترتب على حدوث الفعل المشترط حدوثه، إلا أن النتائج التي ستتولد عن هذه النتائج، ستظل مشكلة قائمة وحدها، وهي مشكلة سرعان ما تغيب عن النظر، لا سيما إذا كانت النتائج الأولى محببة إلى النفس؛ أما حين تكون «النتائج» هي نفسها بمثابة إجراءات ممكنة، فإن صياغتها في قضايا ستؤدي بطبيعة الحال إلى قضايا تُقال عن إجراءات أخرى تتصل بتلك النتائج، أو تؤدي إلى انتقال في الذهن من فكرة إلى فكرة تلزم عنها، إلى أن نصل — في حالة الاستنباطات الرياضية — إلى مرحلة لا يحول عندها حائل دون المضي إلى غير حد معلوم في الإجراءات التي يمكن أن تنشأ نتيجة للمراحل السابقة.

ونعود إلى موضوع الصلة المتبادلة بالنسبة إلى العلاقة القائمة بين القضايا الجامعة والقضايا الكلية، فنجد أول ما نجد، حقيقةً (ذكرناها فيما مضى) هي أن الإجراءات التي منها تتكون مادة المحمول هي إجراءاتٌ من القبيل الذي يحدد المعطيات التي تكون لنا بمثابة الشواهد؛ وهذه المعطيات التي تتكون على هذا النحو، تصبح — ثانيًا — هي الاختبارات التي نختبر بها الإجراءات التي فرغنا من تنفيذها، كما تكون هي الأسس التي نقيم عليها إجراءات جديدة (أو تعديلات في إجراءات قديمة) مما يعرض لنا لنقوم بتنفيذه بعدئذٍ؛ فالعملية الإجرائية التي ننفذها من شأنها أولًا أن تحول مادة كانت من قبل موجودة، تحويلًا يجعل المادة في صورتها الجديدة أكثر دلالة أو أوضح إشارة؛ ثم تستدعي المادة بعد أن يطرأ عليها التحول المذكور، إجراءات أخرى، وهكذا دواليك حتى ينشأ لنا آخر الأمر موقف مستقر؛ وباختصار فإن مسوغ قيامنا بإجراء معين، هو أن ذلك الإجراء من شأنه أن يدنينا نحو نتائج في الوجود الخارجي تكوِّن لنا موقفًا محلول المشاكل؛ وصياغتنا لقضية نصف بها الإجراء قبل أن نجريه، هي شرط لا بد منه لكي يتسنى للإجراء أن يقوم بالمهمة التي ذكرناها؛ ومن جهة أخرى، فإن مشاهدتنا للنتائج التي تترتب فعلًا على تنفيذ الإجراء، مشاهدةً دقيقة في تمييزها لتلك النتائج عما عداها، مضافًا إليها مقارنة لهذه النتائج بما كنا قد قررنا له الحدوث بحكم الفرض الذي بدأنا به، أقول إن تلك المشاهدة وهذه المقارنة هما سبيلنا إلى اختبار الصدق (والدخول في الموضوع وقوة الدلالة) الذي تستحق أن توصف به صياغتنا التي صغنا بها القضية لنصف إجراء ما؛ وهكذا تعود تلك المشاهدة والمقارنة فتؤثر — عند الحاجة — في تعديل الإجراء وتغيير القضية اللذَيْن سنستخدمهما في الخطوات التالية.

ونضع هذه النتيجة في حدود صورية فنقول: إنه لا سبيل إلى تكوين قضايا جامعة مدعمة الأساس، إلا من حيث تجيء هذه القضايا وليدة أدائنا لإجراءات كانت القضايا الكلية قد أشارت إلى إمكان حدوثها؛ وإذن فشكلة الاستدلال هي أن نميز وأن نقرن تلك الصفات التي نصادفها في مادة الوجود الخارجي، والتي تؤدي مهمة السمات المميزة (إدخالًا للفرد في نوعه وإخراجًا له من غير نوعه) التي تعين نوعًا بذاته؛ فالسمات المميزة التي كان يظن فيما مضى أنها تصف النوع «معادن» كانت هي درجة خاصة من البريق، والإعتام، والمرونة والكثافة العالية، والصلابة؛ وهذه كلها سمات من قبيل الصفات التي يمكن مشاهدتها، والتي تنشأ عن قيام الجسم بعملياته العادية، كالرؤية واللمس … إلخ؛ مقرونًا بها ما ينشط به الصانع من ضروب الفعل التي يعالج بها الأشياء تحقيقًا لأغراض النفع والمتعة؛ وعلى الرغم من قيمة نتائج هذه المناشط للأغراض العملية البحتة، إلا أنها لم تستطع هداية البحث في سيره من حيث هو بحث؛ لأنها لم تساعد قط على التنقيب عن معادن أخرى غير التي كانت مألوفة الاستعمال (وقد كانت كلها سبعًا أو ما يقرب من السبع)؛ وكذلك لم تساعد قط على ربط المعادن بغير المعادن في نسق مشترك من نتائج استدلالية؛ بل إنها لم تضمن دقة التحديد الذي تميز به المعدن الخالص من المعدن المخلوط؛ فكانت النتيجة النهائية لهذا كله، أن فن التعدين — حتى من وجهة نظر الاستعمال العملي — قد انحصر في نطاق ضيق الحدود.

وقد حدث الانتقال إلى الفكرة العلمية القائمة اليوم، عن كون الشيء معدنيًّا كما تم تحديد السمات التي يوصف بها نوع المعادن وما ينشعب إليه من أنواع فرعية (وهي أكثر من ستين)، أقول إن ذلك الانتقال قد حدث حين تغيرت وجهة النظر؛ إذ تغيرت من النظر إلى النتائج في ارتباطها بالنفع والمتعة المباشرين، إلى النظر إليها باعتبارها قد نتجت من تفاعلات الأشياء بعضها ببعض؛ وهي تفاعلات يخلقها الإنسان خلقًا بتدخله في الأمر بما يجريه من إجراءات التجارب؛ وكان حاصل هذا التغير هو أن فقدت الصفات المحسة المباشرة ما قد كان لها قبل ذلك من دلالة، حين كانت تعد هي السمات المميزة (للأنواع التي تتصف بها)؛ مثال ذلك أن عنصرًا هامًّا في التعريف الحديث لكون الشيء معدنيًّا، هو «التآلف الكيموي» أي قدرة المعدن على التفاعل مع طائفة معينة من العناصر غير المعدنية، وبخاصة الأوكسجين والكبريت والكلورين؛ مضافًا إليها قدرة الأوكسيدات التي تتولد من ذلك التفاعل على أن تتفاعل بدورها مع الحمضيات فتكوِّن الأملاح؛ وعنصر آخر (من عناصر تعريف المعدن) هو القدرة الكهربية الإيجابية العالية؛ وواضح أن سمات كهذه كان مستحيلًا عليها أن تستمد — كما كانت تستمد صفتا البريق والإعتام — من الصفات الحسية المباشرة، كما كان مستحيلًا عليها أن تستمد من الإجراءات التي يجريها الصناع في أدائهم لصناعاتهم، كما كانت تستمد صفتا الصلابة والمرونة من تلك الإجراءات؛ فالسمات (التي تدخل اليوم في تعريف المعدن) هي من القبيل الذي يفيد في (١) تحديد خصائص المعادن التي لم تكن معروفة من قبل، و(٢) تحديد الأنواع الفرعية تحديدًا دقيقًا، و(٣) فيما هو أهم من ذلك، وهو ربط الاستدلالات التي نحصل عليها من المعادن، بالاستدلالات التي نحصل عليها عن التغيرات الكيموية كافة التي تشتمل عليها تلك المجموعة الكبرى من الاستدلالات، وهي المجموعة التي منها يتكون علم الكيميا.

لقد بسطنا القول في هذا المثل التوضيحي بسطًا فيه بعض الإطناب، لأنه يوضح لنا في جلاء تام شيئين في آنٍ معًا، وهما التمييز الذي يفصل، ثم العلاقة التي تربط (١) التعريف بالوصف، و(٢) المقولات بالأنواع، و(٣) الأطراف بالقسمات؛٣ ففي هذه التمييزات، يشير الحد الأول في كل من هذه الأزواج الثلاثة، إلى إجراء عملي يمكن إجراؤه، وهو إجراء يتسم في طبيعته بصفة التفاعل؛ على حين يشير الحد الثاني إلى النتائج الوجودية التي تنجم عن تنفيذنا لذلك الإجراء تنفيذًا فعليًّا؛ ولكن هذه التمييزات — من حيث هي كذلك — يرتبط بعضها ببعض بحكم طبائعها الأصيلة؛ والرابطة بينها هي نفسها الرابطة التي تصل الإجراءات باعتبارها وسائل منهجية، بالظروف الوجودية باعتبارها نتائج تنجم عن تلك الوسائل؛ «فإذا كان الشيء معدنيًّا، إذن تترتب مفاهيمُ خاصةٌ معينة؛ وإذا كان ذلك المعدن حديدًا أو صوديومًا أو طنغستانًا (المعدن الذي تصنع منه خيوط المصابيح الكهربية) … إذن لنجم عن ذلك نتائج إضافية تفصل حقائق هذه المعادن بعضها عن بعض»؛ وهكذا يكون التعريف قاعدةً نلتزمها في أدائنا (١) لإجراء تجريبي، و(٢) لتوجيه إجراءات أخرى نجريها تمييزًا للأشياء بعضها من بعض؛ وهذه الإجراءات هي أداة لاختيار صفات خاصة نبني على أساسها إدخال الأنواع بعضها في بعض، أو إخراجها بعضها من بعض، إدخالًا وإخراجًا يجعلان من تلك الصفات المختارة علامات نستشهد بها في تحديدنا للأنواع الفرعية المندرجة تحت نوع يشملها.

لقد ركزنا الاهتمام في هذا المثل التوضيحي حتى الآن، في اعتماد القضايا التي تُقال عن الأنواع على التعريف الذي نستقيه من القضايا الكلية الشرطية؛ ولو كان المناطقة قد تعقبوا التطور التاريخي الحقيقي الذي طرأ على القضايا الكلية الشرطية، إبَّان تقدم البحث الفيزيائي الكيموي، لكان الدور الذي تقوم به القضايا الوجودية التي تُقال لتصف الأنواع، في اختبار ومراجعة المفاهيم الكلية التي نبدأ بها، قد اتضح هو الآخر (وضوح الدور الذي تقوم به القضايا الشرطية الكلية في تحديد وتوجيه القضايا الوجودية)؛ فتصوراتنا الحديثة عن كون الشيء معدنيًّا، أو كونه حديدًا … إلخ، لم تنشأ لدينا من العدم؛ بل قد عرَضَتْ لنا بفضل النتائج التي كان الإنسان قد ظفر بها فعلًا عن أمور الواقع؛ ثم جاء تحويلنا لهذا الذي عرَضَ لنا بحيث جعلناه قضية، فرسم الطريق أمام إجراءات جديدة أثمرت لنا أمورًا جديدة من أمور الواقع؛ ومن ثَم نشأت لدينا أفكار جديدة في مجرى البحث المتصل؛ وهكذا حتى بلغنا — من جهة — ما قد بلغناه اليوم من أفكار عقلية وتعريفات، وحتى بلغنا — من جهة أخرى — هذا الذي حصَّلناه اليوم من مجموعة الأوصاف والأنواع التي نميز بعضها من بعض؛ وباختصار، فإن العلاقة بين القضية الكلية من جهة والقضية الجامعة من جهة أخرى، هي علاقة أدائية: وهي شبيهة أتم شبه — من حيث منزلتها ومهمتها في المنطق — بالعلاقة بين الموضوع المنطقي والمحمول المنطقي اللذَيْن يكونان في الحكم الختامي (الذي ينتهي عنده البحث مؤقتًا).

إذن فهذه التفرقة بين صورتي القضية التي ناقشناها، هي تفرقة بين القضايا التي تيسر وتنظم سير الاستدلال، والقضايا التي منها يتألف التدليل العقلي باعتباره انتقالًا منظمًا من فكرة إلى فكرة؛ فانتقالنا من قضية وجودية إلى قضية وجودية أخرى، بوساطة الاستدلال، يعتمد — كما رأينا — على قضايا كلية غير وجودية المضمون، إذ نتخذ من هذه القضايا وسيطًا وَسليًّا، وهو اعتبارٌ يقتضينا أن ندقق في توجيه انتباهنا إلى تكوين القضايا الكلية التي نستخدمها في التدليل العقلي؛ لكنه لا يجوز لنا أن نوحد بين انتقالنا الاستدلالي (من حالة واقعة إلى حالة واقعة أخرى) وبين انتقالنا من فكرة عقلية إلى فكرة عقلية أخرى، إذ لو فعلنا لخلطنا خلطًا مذهبيًّا جوهريًّا؛ كلا ولا يجوز أن نوحد بين أي من هذين الانتقالين المنطقيين بين تطبيق القضية الكلية على مادة الوجود الخارجي؛ فمهما أسرفنا في خط التدليل العقلي، فلن يفيدنا هذا شيئًا أكثر من إخراج مكنون القضية الكلية؛ لكننا لن نستطيع بذلك وحده أن نقرر شيئًا عن أمور الواقع؛ إذ إن هذا التحديد الأمور الواقع لا يتولد إلا من عملية التطبيق العملي؛ وكذلك محال على المعطيات الوجودية — من جهة أخرى — أن تبرهن وحدها على صدق قضية كلية؛ نعم قد توحي لنا تلك المعطيات الوجودية بالقضية الكلية، لكن البرهان لا يتم إلا (١) بصياغة الفكرة الموحى بها في قضية شرطية، و(٢) بتحويل المعطيات إلى موقف موحد، بفضل تنفيذ الإجراءات التي تعرضها علينا القضية الشرطية لنتخذ منها قاعدة نلتزمها في الفعل الذي نؤديه.

والشرط الذي لا بد من استيفائه في عملية التدليل العقلي، أي في الانتقال الذهني من فكرة إلى فكرة، قوامه علاقة اللزوم؛ فلا بد لمشكلات الانتقال الذهني من فكرة إلى فكرة أن تكون متصلة بتحقيق الصدق في انتزاعنا للنتائج من المقدمات التي تلزم عنها تلك النتائج، انتزاعًا ندقق في صحته، ويكون من شأنه أن يأن يلد لنا النتائج المثمرة؛ وأما الاستدلال، فهو — من جهة أخرى — مشروط بالعلاقة بين واقعة وواقعة، وهي علاقة يجوز لنا أن نسميها بالتضمن؛ ولا بد لمشكلات الاستدلال (الانتقال من حالة واقعة إلى حالة واقعة أخرى) أن تكون متصلة بالكشف عن أي الظروف يكون الظرف منها متضمنًا للظرف الآخر، وكيف يكون هذا التضمن في الظروف بعضها لبعض؛٤ فالشخص الذي يتصدى لمشروع تجاري أو صناعي، يدخل في علاقة تتضمنه مع غيره في ظروف الموقف الذي يُنتظر للمشروع أن ينفذ في نطاقه؛ وفي مؤامرة جنائية ترى شخصًا متضمنًا مع شركائه في طائفة معينة من أوجه النشاط وما يترتب عليها من نتائج؛ غير أن مدى التضمن لا يقتصر على الحالات الشخصية وحدها؛ فزيادة المعروض من الذهب يتضمن — عادة — هبوطًا في ثمنه، وارتفاعًا في أثمان سائر السلع الأخرى والارتفاع المفاجئ المسرف في ماء نهر عن مستواه المعتاد، أمرٌ متضمنٌ في هبوب العواصف الممطرة العنيفة، ويتضمن بدوره — مع حدوثه في الواقع — أخطارًا تلم بالحياة وبما يملكه الناس، وبجعل السير متعذرًا في الطرق … إلخ؛ وتفشي طاعون دملي يتضمن ارتفاعًا في نسبة الوفيات، مع حملة يجوز أن يقوم بها الناس لاستئصال الفئران؛ ولا حاجة بنا إلى الإكثار من هذه الأمثلة؛ فكل حالة من حالات العلاقة السببية ترتكز على تضمن ما تشتبك به الظروف الوجودية بعضها مع بعض في تفاعل مشترك؛ ومبدأ الارتباطات البدائية بين التغيرات، إنما يرتكز كله على حالات التضمن؛ كما يحدث مثلًا — بالنسبة إلى عناصر كثيرة — أن يكون ارتفاع الحرارة أساسًا لنتيجة نستدلها، وهي تمدد الأجسام؛ أو كما هي الحال حين يُقال عن حجم الغازات إنه دالة قوامها الضغط والحرارة؛ والنقطة الجوهرية هنا هي أن العلاقة علاقة وجودية بأدق معاني الكلمة، وهي في النهاية مرهونة بكيفية تكوين الأشياء وهي في حالاتها الطبيعية.
والتدليل (الذي نستنبط به فكرة من فكرة) والحساب العقلي أداتان ضروريتان نستعين بهما على تحديد حالات التضمن المتعينة؛ غير أن العلاقات التي تربط الحدود بعضها ببعض والقضايا بعضها ببعض داخل عمليتي التدليل والحساب العقلي (ومعناه الانتقال الذهني من فكرة إلى فكرة)، هي علاقات لزومية، وغير وجودية (أي إنها بذاتها لا تدل على ما هو كائن في الواقع الخارجي) على حين أن وصفنا للأنواع هو من قبيل التضمن؛ فلأن القضايا الشرطية الكلية التي هي قوام الانتقال المنظم من فكرة إلى فكرة، تنشأ من تحليلاتنا للمعاني المفردة أو للتصورات الذهنية المفردة (أي بتحليلنا لكل معنًى أو تصور عقلي ذهني على حدة) فإن مقومات المعنى الواحد أو التصور الذهني الواحد تظل متعلقة بعضها ببعض بعلاقة ضرورية، ولا كذلك القضايا التي نقولها عن الأشياء الخارجية وعن السمات التي تكون متضمنة بعضها مع بعض في تفاعل ما، إذ هي تشير إلى ما يطرأ من كائنات في الوجود الخارجي، ومن ثَم فهي تكون من حيث الصدق على درجة معينة من الاحتمال؛ ولهذا كان تحديدنا لدرجة الاحتمال الماثلة في أية حالة معينة، عاملًا لا غناء لنا عنه في البحث؛ فنحن نزعم للسمات أو للقسمات التي تصف نوعًا ما، أنها مقترنة الحدوث في العالم الخارجي، فلئن كان أساس اختيارنا لمجموعة السمات المقترنة منطقيًّا، فأساس اقترانها نفسه وجودي؛ وهذا الأساس مؤداه أنه من حقائق الوجود كما هو قائم فعلًا، أن تلك السمات المعينة مقترفة بالفعل، أي إنها في وجودها الخارجي مقترنة على نحو يقتضي التغير في بعضها إذا تغير بعضها الآخر؛ وحين لا ندري سببًا يفسر لنا لماذا يجب على تلك السمات أن تجيء مقترنة، (وهي الحالة التي نقيم عليها مضمون قضية كلية شرطية) فعندئذٍ يجوز لنا أن نسمي الأساس الذي اخترنا عليه اقترانًا معينًا للسمات، بكلمة «تجريبي» empirical، فتكون تسمية ملائمة؛ وبالدرجة التي يتم بها تحديدنا لما نختاره من السمات المقترنة، وفق تطبيق إجرائي نطبق به قضية كلية (وهذه القضية بدورها هي إحدى قضايا نسق من قضايا كلية، كانت كل واحدة منها قد حققتْ على حدة بتطبيق تجريبي) أقول إنه بالدرجة التي يتم بها هذا التحديد يكون ارتفاع درجة الاحتيال في صحة قضية وجودية معينة؛ لكن القضية الوجودية يستحيل عليها أن تبلغ المنزلة التي تكون فيها قضية ضرورية الصدق منطقيًّا بحكم طبيعتها المتأصلة في تكوينها؛ بل تظل حقيقةً واقعةً، لأنها هكذا تقع، حتى بعد أن نجد القانون الذي يبين لماذا وكيف تكون القضية التي نقولها عن هذه الحقيقة الواقعة مثمرة في تقديم البحث وتوجيهه.

وعلى أساس تفرقتنا ثم وصْلنا للتضمن الوجودي باللزوم المنطقي، يمكننا أن نسوق المثل الآتي لنوضح به النقطة التي ذكرناها فيما سبق من الرابطة المتبادلة بين القضايا الجامعة من جهة والقضايا الكلية من جهة أخرى: شخص متهم باشتراكه في جريمة اشتراكًا يجعله متضمنًا مع مدبريها على نحو يجعله متضمنًا في عواقب الجريمة؛ غير أن التضمين في العقوبة المترتبة — مثلًا — إنما ينتج فقط على أساس التعريفات التي تعرف بها «جريمة» و«مدبر» و«شريك» في مجموعة معينة من الأفكار القضائية؛ وهذه التعريفات مقولات توضع في قضايا صورتها «إذا – إذن»؛ وبتطبيق هذه المقولات يتقرر قيامُ أو امتناعُ اقتران السمات الذي يدل على أن فعلًا معينًا هو من القبيل الذي يتضمن عواقب معينة؛ على أنه من الواضح — من جهة أخرى — أن هذه التعريفات والمقولات التي نتحدث عنها، لم تنشأ لدينا من العدم؛ بل تطورت وصِيغت صياغة صريحة بألفاظ تبين الشروط التي اشترطتها ضرورة مواجهتنا لأفعال الناس كما تقع في الواقع؛ ونسوق مثلًا آخر، شخصًا يخط اسمه على قطعة من الورق، فلا يتبع ذلك شيء من عواقب، لكنه في ظروف تتحدد بتعريف مجرد، قد يطالب بدفع مبلغ معين من المال إذا ما وقع باسمه؛ وأخيرًا فإن التعريفات والتصورات القضائية تتطور وتتعدل بالنسبة إلى المهمة التي تؤديها في تنظيم المواقف التي تنشأ في الوجود الخارجي، في مجال العلاقات البشرية؛ ويكون المعيار النهائي الذي نقيس به صحتها، هو نجاحها الفعلي في تنظيم السلوك الإنساني.

ونلخص ما سبق فنقول: إن ما هنالك من تقابل دالي، أو من علاقة متبادلة بين التضمن واللزوم، وبين الأنواع والمقولات، وبين قسمات الأشياء الواقعة وأطراف الفكرة العقلية، وبين القضايا الجامعة والقضايا الكلية، يدل على أن هذه التقسيمات تمثل أقسامًا متعاونة بين أجزاء العملية الأدائية الواحدة التي نجري بها البحث على نحو يحوِّل الموقف المشكل إلى موقف موحد محلول الإشكال؛ وستظل الحرب الضروس في ميدان المنطق قائمة بين التجريبيين الذين هم من قبيل «مل» وبين مدرسة المذهب العقلي، ما دام أتباع كل من المدرستين لا يتبينون ما للقضية في صورتيها في (الكلية والجامعة) من طبيعة أدائية وسلية، باعتبار هاتين الصورتين وجهين متعاونين لعملية البحث؛ لكن ما نطالبهم بتبينه لا يتحقق لهم إلا إذا نظروا إلى مجال المنطق نظرة توسعه بحيث يتطابق مع مجال البحث الموجه في سعته؛ نعم إن العلاقات بين الحدود وبين القضايا في حالة التفكير العقلي، هي من النوع الذي يمكننا من صياغة عبارات صورية خالصة — ونعني بقولنا صورية خالصة أن طبيعة الحركة الفكرية المنظمة نفسها تقضي عليها بأن تعالج إمكانات مجردة من كل مادة وجودية؛ لكن النظرية — كائنة ما كانت — التي تُقال عن المنطق «الخالص» ثم تزعم أن صور التفكير العقلي هي بالضرورة كل ما يتناوله المنطق بالبحث، هي نظرية تعسفية؛ لأنها عندئذٍ تكون نظرية منبنية أساسًا على جعل الاهتمام الشخصي الذي يغلب على رجل معين من رجال المنطق، أو يغلب على جماعة معينة من هؤلاء الرجال، هو المعيار الذي نقيس به ما يجوز أن يكون موضوعًا للبحث المنطقي؛ أضف إلى ذلك أن مثل هذه النظرية لا تزودنا بالأساس المنطقي الذي يقوم عليه التدليل العقلي وصوره، ولا تزودنا كذلك بتفسير معقول لانطباق صور التدليل العقلي على الوجود الخارجي، وهو انطباق يظل (على أساس النظرية المذكورة) مرهونًا بتناسق أزلي يكتنفه الإلغاز، نفرض وجوده بين ما هو ممكن — لا يجاوز حدود الإمكان إلى الحدوث الفعلي — وبين ما هو متحقق في الواقع.

١  «المنطق»، الكتاب الأول، الفصل الثالث، القسم الثامن.
٢  انظر الفصل الحادي والعشرين.
٣  الأطراف ترجمة لكلمة Characters لأن المقصود بها عند ديوي هو طرفا القضية الكلية، وهما المقدم الشرطي الذي يبدأ بكلمة «إذا» والتالي الذي هو جواب الشرط البادئ بكلمة «إذن». و«القسمات» ترجمة لكلمة charactereistics والمقصود بها عند ديوي هو الصفات المحسة في الشيء الخارجي، التي على أساسها نضع ذلك الشيء في نوعه.
ز. ن. م
٤  إنني مدين بكلمة «تضمن» involvement، وبيان مضمونه المنطقي بيانًا صريحًا، باعتباره القسيم الذي يكمل «اللزوم» implication للدكتور «برسي هيوز Percy Hughes»، فارجع إلى مقالته «التضمن واللزوم» في «المجلة الفلسفية» المجلد ٤٧ (١٩٣٨م) ص٢٦٧ إلى ص٢٧٤؛ وقد تفضل بإطلاعي على مخطوط المقالة قبل نشرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤