الفصل الخامس عشر

النظرية العامة في القضايا

لقد حللنا الحكم تحليلًا يبين أنه عملية متصلة لتحويل موقف غير متعين وغير مستقر، إلى موقف متعين تعينًا يوحده، وذلك عن طريق إجراءات نجريها لنبدِّل بها مادة الموضوع التي كانت ماثلة لنا أول الأمر؛ وإذا قابلنا بين الحكم وبين القضايا التي قد تكون مفردة أو جمعًا أو جامعة أو كلية،١ وجدنا الحكم فرديًّا، لأنه ينصب على مواقف كيفية فريدة؛ وبناء على هذه الوجهة من النظر، تكون عمليتا المقارنة والمباينة هما الإجراء الرئيسي الذي نصطنعه لننزل تعديلًا في المواقف التي نجد أنفسنا إزاءها بادئ ذي بدء؛ وما «المقارنة» إلا اسم نطلقه على كافة العمليات التي نراكم بها مادة موضوعنا بعضها فوق بعض مراكمة تتصل على مر السير في البحث؛ ولقد أشرنا من قبل إلى أن عمليتي المقارنة والمباينة متضمنتان في عمليتَي الإثبات والنفي؛ وفي قياس الكم، سواء أكان هذا القياس كيفيًّا أم عدديًّا؛ وفي حديثنا عن الحوادث بوصفنا لها أو روايتنا عنها؛ وفي القضايا العامة بصورتيها: الجامعة والكلية؛ أضف إلى ذلك أن المقارنة والمباينة يتألفان من إجراءات مركبة نجريها لننشئ بها اقترانات تجمع بين طوائف معينة من سمات الوجود الخارجي، وحذوفًا (نحذف بها من الصفات ما لا يدخل في نوع معين)، بحيث ترتبط تلك الاقترانات بهذه الحذوف بعلاقة متبادلة بينهما؛ وأعني بهذا أن عمليتَي المقارنة والمباينة بين الأشياء ليستا من الأمور «العقلية».

ولقد كانت القضايا — من الوجهة المنطقية — متميزة من الحكم، إلا أنها الأدوات المنطقية الضرورية التي نتوسل بها لبلوغ قرار ختامي جائز القبول، أي لنصل إلى حكم؛ فلا سبيل إلى تسويف الفعل المباشر إلى أن نجري بحثًا في الظروف الخارجية وخطط السير إزاءها، إلا باستخدامنا لعملية الرمز (وهي الفصل الذي يميز القضايا تمييزًا يجعلها نوعًا قائمًا بذاته)؛ حتى إذا ما حان الحين آخر الأمر، لقيامنا بالفعل بصورة سلوكية مكشوفة، جاء عندئذٍ فعلًا بصيرًا لا فعلًا أعمى (كما كان ليكون لو أديناه بغير بحث)؛ وبناءً على ذلك فالقضايا — من حيث هي قضايا — أدوات وسلية مؤقتة تقع في مراحل الطريق الوسطى (بين قيام المشكلة أولًا وحلها أخيرًا)؛ ولما كانت موضوعات القضايا تتناول نوعين من الوسائل: وسائل مادية ووسائل منهجية، كانت تلك الموضوعات مندرجة في مقولتين رئيسيتين: (١) مقولة وجودية تشير مباشرة إلى الظروف الفعلية كما قد حددتها المشاهدة المبنية على تجارب، و(٢) مقولة عقلية أو فكرية، تتألف من معانٍ يتصل بعضها ببعض، وهي معانٍ لا تكون وجودية المضمون بإشارة مباشرة إلى العالم الخارجي، لكنها تكون مما يمكن أن يصْدق على الوجود الخارجي إذا نحن أجرينا الإجراءات التي تعرضها علينا تلك المعاني عرضًا على سبيل الإمكانات؛ وحين يزودنا هذان الضربان من القضايا بالوسائل المادية والوسائل الإجرائية على التوالي، فإنهما يكونان مكملين أحدهما للآخر، أي إنهما يكونان متقابلين في الأداء؛ فهما بمثابة تقسيم العمل في عملية البحث إلى قسميه الرئيسيين.

وهنالك حركة معاصرة في النظرية المنطقية — تعرف باسم الوضعية المنطقية — تجتنب استعمال كلمتَيْ «قضايا» و«حدود» لتستبدل بهما كلمتَيْ «جمل» و«كلمات»؛ وإننا لنرحب بهذا التغيير إلى الحد الذي يجعله تغييرًا يركز الانتباه فيما للقضايا من بناء ومضمون رمزيين؛ لأن تبين هذه الحقيقة يحرر النظرية المنطقية من تبعيتها للاعتمادات التي قد نسبق إلى اعتناقها عن الحقيقة الكونية وعن الميتافيزيقا؛ ويسمح للنظرية المنطقية أن تمضي في طريقها مستقلة بكيانها، على أساس مضمونات القضايا ومهماتها التي تؤديها كما تعرض لنا فعلًا لنحللها؛ وإن هذا التغيير إذ يبرز العنصر الرمزي في القضايا، يصلها باللغة صلة تردها إلى منبع واحد؛ هذا إلى أن اللغة ستُعَدُّ عندئذٍ مختلفة الكيان عن الأشياء التي تُقال تلك اللغة عنها، على الرغم من أنها تُقال عن تلك الأشياء إما بطريق مباشر أو طريق غير مباشر؛ أضف إلى ذلك أن صياغة موضوع المنطق في لغة الرموز، من شأنها أن تحرر النظرية المنطقية من اعتمادها على العالم الذاتي الذي قوامه «إحساسات» و«أفكار» حين يوضع هذا العالم ليقابل عالمًا آخر قوامه الأشياء، وذلك لأن الرموز واللغة أحداث موضوعية ترد على الخبرة الإنسانية.

وثمة اعتراض ثانوي على استعمال كلمتَيْ «جمل» و«كلمات» لتدلا على ما قد كان يُسمَّى بقضايا وحدود، وهو أنه ما لم نكن على حذر في فهمنا لتينك الكلمتين، أدى استعمالهما إلى تضييق نطاق الرموز واللغة بغير داعٍ؛ لأننا عندئذٍ سنحذف تعبيرات الوجه وسنحذف الرسوم (كالخرائط والرسوم التخطيطية … إلخ) إذ لم يجرِ العرف على أن نعامل هذه الأشياء معاملتنا للجمل أو الكلمات؛ ومع ذلك فهذه صعوبة يمكن أن نجتنب الوقوع فيها؛ أما الاعتراض الأهم فهو أننا إذا لم نحسن صياغة المصطلحين الجديدين، ألفيناهما لا يميزان بين اللغة التي اصطنعناها لأغراض التبادل الفكري (وهي ما أسماها «لُكْ» باللغة «المدنية») وبين اللغة التي لم تتقرر إلا خلال بحوث سابقة متصلة بأغراض البحث الذي نكون بصدده، واللغة بمعناها الثاني وحده هي ذات المضمون المنطقي؛ فهذه المشكلة الخطيرة لا يمكن التغلب عليها بالنظر إلى الجمل والكلمات وهي قائمة وحدها، لأن التفرقة تعتمد على نية المتكلم التي لا يمكن استخلاصها إلا من السياق كله.

ولا مناص من حدوث المغالطات في النظرية المنطقية، طالما كانت أمامنا حالة معينة لم نجد إزاءها إن كانت نية المتكلم أن ينقل فكرة معلومة من قبل، أو أن يستعمل ما قد ظن أنه معلوم، وسيلةً للبحث في أمر لبث حتى ساعة الكلام غير معلوم ومثار إشكال؛ فمثلًا خذ مسألة الموضوع والمحمول: فالموضوع في النحو هو مادة يُفرض فيها أنها معلومة، ومتفق عليها، و«مفهومة» — عند نقل الحديث — لمن ينقل فكرته ولمن تُنقل إليه؛ وأما المحمول في النحو فهو ذلك الذي يُفرض فيه أنه جزء مما لدى الشخص الذي ينبئ سواه بنبأ أو ينصحه بنصح، من معرفة وفكر، لكن لا يكون جزءًا من معرفة المستقبل وفكره؛ فافرض أن الجملة هي «الكلب قد ضاع» فمعنى «الكلب» معرفة مشتركة، أو مفروض فيها أنها مشتركة بين المتكلم والسامع؛ أما أنه «قد ضاع» فمفروض أن يكون ذلك معلومًا للمتكلم، لكنه لم يسبق للسامع علمٌ به، ولو أنه متصل بخبرته واعتقاداته.

فإذا كنا نستمد نظريتنا المنطقية الخاصة بالموضوع والمحمول من البناء النحوي، كان الأرجح، لا بل كان مما يوشك على اليقين، أن ينتهي إلى النتيجة الآتية، وهي أن مادة موضوع القضية في المنطق، هي أمر مسلَّم به من قبل تسليمًا كاملًا، بغض النظر عن عملية البحث، وعن الحاجة إلى عملية بحث، ولا نعود بحاجة — من الناحية المنطقية — إلا إلى الصفات التي نحملها على ذلك الموضوع، فهذه وحدها هي التي تكون بحاجة إلى نظر؛ لا بل إننا لا نسرف في الظن إذا ظننا أن الانتقال المباشر من البناء النحوي للجملة إلى بنائها المنطقي، هو أمر شديد الصلة بالطريقة التي صاغ بها أرسطو العلاقة المنطقية الكائنة بين الموضوع ومحمولاته؛ فقد أدت تلك الصياغة — من جهة — إلى النظرية القائلة بأن موضوع القضية لا بد أن يكون — في آخر التحليل — عنصرًا وجوديًّا قائمًا في الخارج،٢ كما أدت — من جهة أخرى — إلى النظرية الكلاسية الخاصة بالمحمولات؛ وكذلك قد لا نسرف في الظن إذا ظننا بأن المذهب — الذي تناولناه بالنقد — وأعني به المذهب القائل بأن مادة موضوع القضية هي ما ندركه إدراكًا مباشرًا، هو إرث ورثناه عن ترجمة الصورة النحوية إلى صورة منطقية، ترجمةً ساعد على حدوثها اتجاهٌ في علم النفس ينقصه التحليل النقدي، وهو الاتجاه الذي يجعل الصفات المحسة مادةً تقدم إلى الحواس مباشرة.

وعلى خطورة هذه الاعتراضات التي ذكرناها، فهنالك اعتراض آخر أخطر منها، وهو أن الوضعية المنطقية — كما تُصاغ عادة — واقعة تحت تأثير الصورية المنطقية المستمدة من تحليل الرياضيات، إلى الحد الذي يجعلها تفرق تفرقات حادة مسرفة في حدتها بين المادة والصورة، وتطلق على هذين الجانبين اسمَيْ «معاني الكلمات» و«علاقات البناء اللفظي»؛ نعم إنه لا جدال في أن النظرية المنطقية لا بد أن تميز بين الصورة والمادة، لكن ضرورة هذا التمييز لا تدل بذاتها إن كان هذان الجانبان المتميزان مستقلين أحدهما عن الآخر أو غير مستقلين، أي إن التمييز في ذاته لا يدل إن كانت الصورة والمادة — مثلًا — متعلقين أحدهما بالآخر تعلقًا نابعًا من صميم طبيعتهما الداخلية، عندما يتمثلان معًا في موضوع القضية المنطقية، وأنهما إن تميزا فلا يتميزان إلا في التحليل النظري وحده، أقول إن التمييز بين هذين الجانبين لا يدل بذاته إن كانت هذه هي حقيقة أمرهما أو لم تكن؛ فبينما طبيعة الجمل أو اللغة تغرينا بإقامة التفرقة بين معاني الكلمات التي هي قوام مادتها وبين الطرق التي نرتب بها تلك الكلمات في بنائنا للجمل؛ فما هذه التفرقة إلا أسلوب جديد نخرج به المشكلة الأساسية القديمة، مشكلة قيام أو امتناع العلاقة بين المادة والصورة، أو بين المعاني والبناء الفظي؛ فإذا جئنا نزعم — زعمًا مضمرًا أو صريحًا — بأن التمييز بين الجانبين ينهض برهانًا على استقلال كل من المادة والصورة عن الآخر، جاعلين اختصاص المنطق مقصورًا على الصورة وحدها، لم نكن بهذا الزعم إلا بمثابة من يسلم بالنقطة الأساسية التي هي نفسها موضع النزاع.

وعلى الرغم من رفض (الوضعية المنطقية) رفضًا اسميًّا المبادئ والمزاعم «الميتافيزيقية» كافة، إلا أن الفكرة القائلة بوجود فاصل حاد — إن لم يكن فصلًا تامًّا — بين الصورة والمادة، هي فكرة ترتكز آخر الأمر على تقليد خاص، هو تقليد ميتافيزيقي صِرف؛ فما للرياضيات من طابع صوري، مسلَّم بصورته، لا يقوم برهانًا على انفصال الصورة عن المادة، وكل ما يفعله هو أنه يضع تلك المشكلة وضعًا يجعلها مشكلة أساسية؛ وإنا لنضيف إلى اعتراضاتنا السابقة (على الوضعية المنطقية) اعتراضًا آخر هو أمس منها جميعًا بصميم الموضوع، وهو أن توحيدنا بين الصورة المنطقية والصورة البنائية في الجمل اللغوية، مضطر أن يفرض — كأنه حقيقةٌ معطاةٌ — وجودَ الفوارق التي تميز بين الأسماء والأفعال والصفات وحروف الجر وأدوات الوصل … إلخ؛ لكن أحدًا لم يحاول قط — ولست أرى كيف يمكن لمثل هذه المحاولة أن تتم بنجاح — أن يبين أي الكلمات يكون له القوة المميزة على أساس التصنيفات المذكورة (أعني أن يبين ما الذي يجعل الأسماء أسماءً والأفعال أفعالًا وهكذا) دون أن تؤخذ معاني الكلمات في الاعتبار، والمعاني إنما هي من قبيل المضمون المادي.

لقد كان يكون سخفًا منا — بطبيعة الحال — لو ذهبنا إلى أن التفرقة المذكورة آنفًا، هي تفرقة متضمنة في طبيعة استبدالنا لكلمتَيْ «كلمات» و«جمل» بكلمتَيْ «حدود» و«قضايا»؛ ولكن أما والنظرية المنطقية على حالتها الراهنة التي هي عليها، تربط بالفعل هذا الاستبدال بفكرة التفرقة المذكورة، فقد أصبح لدينا ما يسوغ استخدامنا للمصطلحات القديمة في الموضوع؛ وإن هذا المسوغ ليزيده الاستعمالُ اللغوي قوة بسبب حقيقة سبق لنا ذكرها، ألا وهي أن كلمة «جملة» كما هي مستعملة في اللغة الجارية، تدل على ختام البحث أكثر مما تدل على بدايته، أو على السير المستمر في طريق تنفيذه؛ على حين أن كلمة «قضية» — من جهة أخرى — توحي على الأقل بأن شيئًا يعرض علينا لنقضي في أمره، بحيث يمكن أن نضعه فيما بعد موضع الاعتبار، ولذلك فهو شيء يدخل دخول التكامل في مجرى البحث المستمر.

إن موضع النزاع الأساسي حول منطق القضايا، إنما يتصل بالنزاع الأصيل القائم بين النظرية القائلة بأن القضايا تردُ في المراحل الوسطى من السير في البحث، وبأنها أدائية في مهمتها التي تؤديها، وهي إقامة حكم نهائي نختم به سير البحث، وبين النظريات — تقليدية أو معاصرة — التي تعزل القضايا عن وضعها وعن مهمتها اللذَيْن يدل عليهما السياق، واللذَيْن يجعلانها تؤدي إلى تحديد الحكم النهائي؛ وإن إحدى هذه النظريات التي ذكرناها، لتذهب إلى أن الحكم وحده هو المنطقي، وأما القضايا فليست إلا عبارات لغوية تعبر عن الأحكام؛ وهي وجهة نظر تتسق مع الفكرة القائلة بأن المنطق هو نظرية الفكر، حيث يكون الفكر أمرًا عقليًّا؛ على حين تقول نظرية أخرى من تلك النظريات أيضًا بأنه ما دام الحكم وقفة عقلية — يقفها من يصدر الحكم — إزاء القضايا، إذن فالقضايا وحدها هي ذات الطبيعة المنطقية؛ وعلى الرغم من حدة الخلاف بين هاتين النظرتين، فإن كلتيهما تتفقان معًا على أن الحكم — أو «الفكر» بصفة عامة — هو شيء عقلي؛ وعلى ذلك فكلتاهما تقفان موقف المعارضة لوجهة النظر التي نأخذ بها في هذا الكتاب، ومؤداها أن البحث إنما يختص بتحويلات موضوعية تطرأ على مادة موضوعية؛ وأن مثل هذا البحث هو الذي يعرف لنا المعنى الوحيد الذي نجعل به «الفكر» أمرًا ذا صلة بالمنطق؛ وأن القضايا ليست سوى تقديرات وتقويمات مؤقتة نزن بها كائنات الوجود الخارجي وتصورات العقل، باعتبارهما وسيلتين لإقامة حكم أخير يكون بمثابة حل موضوعي لموقف مشكل؛ وبناء على ذلك فالقضايا تشكيلات رمزية، على أن هذا الرمز لا هو رداء خارجي، ولا هو شيء كامل ونهائي في ذاته.

وربما كانت أكثر وجهات النظر شيوعًا اليوم، هي وجهة النظر التي تعد القضايا مادة الرباط الذي يضم النظرية المنطقية كلها في كيان واحد؛ وللقضايا — بناءً على هذه النظرة — خصيصة تحددها، وهي أن تكون قابلة للحكم عليها بالصدق أو بالكذب من الناحية الصورية؛ وأما بناء على وجهة النظر التي نأخذ بها في هذا الكتاب، فالقضايا تتباين أو تتشابه على أساس المهمة التي يؤديها مضمون القضية من حيث هو وسيلة — إجرائية أو مادية — ثم نفرع عن الفروق بين القضايا المختلفة فروقًا فرعية أخرى تباين بين صورها، على أساس الطرق الخاصة التي نستخدم بها موضوعات تلك القضايا الفرعية استخدامًا يجعلها وسائل تؤدي إلى غايات؛ وهذه النقطة الأخيرة هي الفكرة الرئيسية التي نعرضها في هذا الفصل؛ لكنه جدير بنا في هذا الموضع أن نقول بأنه ما دامت الوسائل — من حيث هي مجرد وسائل — لا هي بالصادقة ولا هي بالكاذبة، إذن فليس الصدق أو الكذب هو الخصيصة التي تميز القضايا؛ فنحن إنما نقول عن القضايا إنها فعالة أو غير فعالة، وإنها تمس صميم الموضوع أو ليست لها به صلة، وإنها مضيعة أو مقتصدة؛ على أن معيار التفرقة في هذه الحالات كلها إنما يكون في العواقب التي كانت الوسائل وسائل لها؛ وعلى هذا الأساس نقول عن القضايا الخاصة إنها سليمة التطبيق (قوية وفعالة) أو غير سليمة التطبيق (ضعيفة وغير وافية)، أو نقول عنها إنها مهملة الأطراف أو محكمة الأطراف وهلم جرًّا.

وعلى هذا فليس ينبغي أن نفرق بين سلامة التطبيق وعدم سلامته وبين الصدق والكذب، فحسب، بل لا بد كذلك أن نفرق بينهما وبين الصحة الصورية؛ فما دام الشأن في أية قضية معينة هو أنها تقدم أو تعوق إنشاء الحل الأخير (للمشكلة التي نكون بصدد حلها) إذن فلا يمكن الحكم عليها منطقيًّا على أساس مجرد علاقاتها الصورية التي تصلها بغيرها من القضايا؛ فالقياس الذي نقول فيه: «كل التوابع مصنوعة من جبن أخضر، والقمر أحد التوابع، إذن فهو مصنوع من جبن أخضر» هو قياس صحيح من الوجهة الصورية؛ غير أن القضايا الداخلة فيه مع ذلك ليست سليمة التطبيق، لا لمجرد كونها «كاذبة من الناحية المادية» بل لأنها بدل تقديمها لعملية البحث، تعوقها وتضللها، لو أنها أُخذت مأخذ القبول واستُعملت.٣

لقد أسلفت القول بأن القسمة الأساسية للقضايا، إنما تقوم على مكانها الأدائي من الحكم، وها أنا ذا أعود إلى هذه النقطة؛ فالحكم المدعم يعتمد على إيجاد الوقائع التي (١) تحدد وضع المشكلة ومحيطها، أعني المشكلة التي خلقها موقف غير متعين، والتي (٢) تهيئ لنا الشواهد التي تختبر بها الحلول المقترحة والمعروضة وبهذا يكون لدينا قضايا، هي أحد قسمين رئيسيين للقضايا، وهو القسم الذي تدور قضاياه حول مضمونات الأشياء التي نجعلها موضوعات لتلك القضايا؛ لكن الحكم المدعم معتمد كذلك على معانٍ أو بناءات تصورية في الذهن (١) تمثل لنا الحلول الممكنة للمشكلة المطروحة بين أيدينا، و(٢) وترسم خطة للإجراءات التي لو نفذت لتولدت عنها معطيات جديدة تميل بنا نحو موقف متعين الحدود في العالم الخارجي؛ وهذه هي قضايا تدور حول مضمونات المحمول — وهي قضايا القسم الثاني من القسمين الرئيسيين.

أما القسم الرئيسي الأول من قسمَي القضايا، فتتألف مادة موضوعه أو يتألف مضمونه من المعطيات المشاهدة أو الوقائع؛ وهذه تسمى بالوسائل المادية؛ وهي — من حيث هي وسائل مادية — إمكانات من شأنها — في تفاعلها مع ظروف وجودية أخرى — أن تنتج — متأثرةً بفعل إجراء تجريبي نجربه — أن تنتج تلك المجموعة المنظمة من الظروف التي منها يتألف موقفٌ حُلَّ ما قد كان فيه من إشكال؛ ومثل هذا الموقف الذي يتحقق وجوده في العالم الخارجي، إنما تكون الوسيلة الصريحة لاستحداثه هي ما يتم بين الوقائع الخارجية من تفاعل؛ نعم إن ما قد كان مقتصرًا على مجرد الوجود بالقوة في لحظة معينة من الزمن، قد يتحول إلى وجود بالفعل في لحظة تالية من لحظات الزمن، لا لشيء سوى ما يطرأ على الظروف المحيطة به من تغير، دون أن يتدخل الإنسان بأي إجراء ينطوي على جانب منطقي أو عقلي؛ كما يحدث مثلًا حين يتجمد الماء بسبب تغير معين يطرأ على درجة الحرارة؛ غير أنه في البحث لا بد أن يتدخل الباحث بإجراء متعمد، أولًا باختياره للظروف التي يراها عوامل فعالة؛ وثانيًا بإقامته للظروف الجديدة التي تتفاعل مع الظروف التي كانت موجودة من قبل؛ وهذان الإجراءان ترسم لهما الخطة التي من شأنها أن تقرب الباحث بقدر الإمكان من أن يحدد على وجه الدقة ماذا يكون نوع التفاعل — حين نجمع الظروف المتشابهة معًا، ونباعد بين الظروف المتباينة — ماذا يكون نوع التفاعل الذي لا غناء عنه لإنتاج مجموعة محددة من النتائج؛ وإنما تكون العلاقة بين الظروف المتفاعلة من جهة والنتائج المتحققة من جهة أخرى، علاقة عامة، كما تكون علاقة صورية من حيث جانبها الأدائي، لأنها تكون علاقةً قد تحررت من كل إشارة إلى أية حالة جزئية من حالات الحدوث المتحقق في المكان والزمان.

وينبغي أن نفرق بين حالات الوجود بالقوة والإمكانات المجردة؛ فالأولى هي «قوى» وجودية تتحقق بالفعل في ظروف معينة من تفاعل الكائنات الموجودة في العالم الخارجي بعضها مع بعض؛ وأما الإمكان — على خلاف ذلك — فأمره أمر إجراء نجريه من حيث هو إجراء صرف؛ أي إن الإمكان هو قابلية الإجراء؛ ولا نقول عنه إنه قد تحقق وجوده بالفعل إلا حين ينصب الإجراء على كائنات فعلية، لا على رموز أو بوساطة رموز؛ والإجراء الممكن — بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة — هو الذي تتألف منه فكرة أو تصور ذهني؛ فإذا كان تنفيذ الإجراء منصبًّا على مادة فكرية حالة كونها مرموزًا لها برمز، فإنه لا يُنتج النتائج التي من شأنها أن تزيل حالة التوتر؛ إذ هو لا ينتج هذه النتائج — كما أشرنا في الفقرة السالفة — إلا بإضافة ظروف عن طريق الإجراء العملي، فتخلق تلك الظروف نوعًا محددًا من التفاعل؛ ففكرة اجتراع شراب من الماء — مثلًا — لا تؤدي إلى شرب الماء فعلًا إلا لأنها تحدث تغيرًا في الظروف التي كانت قائمة من قبل، وأقل ما يحدث في هذا الصدد أن يدار صنبور أو يصب الماء من إناء، لكي نصل بين الماء وبين مجموعة جديدة من الظروف؛ ومن هذه الملاحظات التمهيدية العامة ننتقل بالحديث إلى النظر في الأنواع المختلفة من القضايا، أعني الأنواع التي هي الأقسام الفرعية التي ينقسم إليها هذان النوعان الرئيسيان اللذان فرغنا الآن من وصفهما.

(١) القضايا الوجودية

(١-١) قضايا الإشارة إلى جزئي

إن القضايا التي هي من النوع الذي يُقال عنه إنه يشير إلى جزئي، لتمثل القضايا ذوات الموضوع ذي الفحوى، حين تكون هذه القضايا في أولى صورها الأولية؛ إذ هي قضايا تصف كائنًا مفردًا، يُشار إليه ﺑ «هذا» بصفة جاءتنا عن إجراء أجريناه بأحد أعضاء الحس؛ كأن نقول مثلًا: «هذا مر، أو لينٌ، أو أحمر … إلخ» (وفعل الكينونة is الذي يرد في العبارة الإنجليزية في أمثال هذه الحالات، والذي يربط بين الموضوع وصفته) يكون رابطة ذات قوة وجودية، لا رابطة خارجة عن مجرى الزمن (بسبب كونها منطقية بالمعنى الدقيق)؛ فقولنا «هذا مر» معناه إما أن عملية فعلية لتذوق باللسان قد أجريناها فعلًا فأحدثت تلك الصفة في عالم الوجود الفعلي كما وقع لنا في الخبرة وقوعًا مباشرًا، أو أن تنبؤًا نتنبأ به وهو أنه إذا أُجريَ إجراء معين، أَنتج ذلك الإجراء صفة المرارة؛ وقولنا «هذا لين» معناه أن شيئًا بالذات يتقبل الضغط بسهولة، وأنه لن يُلزمَ معظم الأشياء الأخرى بتقبل ضغطه إذا ما ضَغط عليها؛ وحين يُقال عن هذا «إنه لامع» كان معنى ذلك حدوث نتيجة فعلية، وهي حالة تفاعل الجسد مع الضوء؛ واختصارًا فالقضية لا تكون جزئية الإشارة لانطباقها على فرد واحد، بل تكون جزئية الإشارة لأنها تصف «شيئًا معيَّنًا حدث بالفعل في هذه النقطة المكانية المحددة وهذه اللحظة الزمنية المحددة»، أي إنها تصف تغيرًا مباشرًا؛ فمن القضية الجزئية الإشارة بمعناها الدقيق، لا يجوز لنا أن نستدل أن الفرد الذي نشير إليه فيها بكلمة هذا سيظل مرًّا، أو لزجًا، أو أحمر، أو لامعًا، أو ما شئت من صفات؛ فربط الصفة بموصوفها المفرد (بفعل الكينونة is في هذه الحالات)، إنما يشير إلى اللحظة الحاضرة بكل ما في هذه الكلمة من معنًى؛ أو إذا كنا نريد التنبؤ بما عساه أن يحدث في المستقبل، ففعل الكينونة is في هذه الحالة يشير كذلك إلى لحظة موقوتة من الزمن سترد في المستقبل.

فحين تسمى القضايا السالفة الذكر — كما تسمى أحيانًا — بقضايا الإدراك الحسي، يحدث خلط بين الظروف السببية التي تقع فيها الصفة المعينة، وبين الصورة المنطقية لهذه الصفة؛ فيهمنا أعظم الأهمية في شئوننا العملية أن نعرف الظروف السببية التي تجعل الشيء صلبًا أو مرًّا أو أزرق، إذ بغير هذه المعرفة لا نجد الوسيلة التي نضبط بها حدوث أمثال هذه الصفات؛ غير أن الدلالة المنطقية ﻟ «جزئي» ما إنما يُحددها حدوث الصفة التي نكون بصددها حدوثًا متعين المكان والزمان تعينًا دقيقًا؛ ومن ثَم كانت أمثال هذه القضايا هي التي تمثل أولى مراحل تحديد المشكلة؛ لأنها تزودنا بمعلوم أوَّلي، إذا ما أضفناه إلى غيره من المعطيات، فقد يدلنا على نوع المشكلة التي يقيمها الموقف الذي نحن إزاءه، وبهذا فهو يزودنا بشاهد من الشواهد التي تشير إلى حل مقترح لها، كما يكون أداة لاختبار ذلك الحل؛ على أن هنالك حالات تكون فيها للعبارة اللغوية الواحدة قوة القضية الدالة على تمثيل الفرد الجزئي لنوع ما، بالإضافة إلى دلالتها الإشارية، وهي صورة سنتناولها فيما بعد مباشرة؛ ففي سياق معين من البحث، قد لا يعني قولنا «هذا حلو» أن تغيرًا معلومًا هو في حالة الحدوث، وأنه لا بد من أخذه مأخذ الاعتبار في صياغة مشكلة ما؛ إذ قد يكون هذا القول في سياق خاص، علامةً على أن مشكلة معينة قد انتهت إلى حل؛ كما هي الحال مثلًا في مشكلة يكون هدفنا فيها هو البحث عن شيء ما من شأنه أن يحل شيئًا آخر، أما إذا فصلنا الصورة اللغوية عن مادة السياق التي هي مشكلةٌ معينة وبحثها، كان محالًا علينا أن نقرر ماذا تكون الصورة المنطقية التي جاءت تلك الجملة لتعبر عنها.

(١-٢) قضايا تمثيل الفرد لنوعه

قضايا تمثيل الفرد لنوعه هي تلك التي تحدد ما نشير إليه بقولنا هذا، على أنه أحد أفراد نوع معين؛ خذ المعنيين الممكنين لقولنا: «هذا حلو»؛ فإذا كانت القضية هنا قضية تشير إلى جزئي، كان معناها — كما قد أسلفنا القول — أن تغيرًا مباشرًا قد حدث أو هو على وشك الحدوث؛ وأما حين يقصد بهذه العبارة نفسها أن تقدم حل مشكلة قائمة، فمعناها يكون أن «هذا» هو أحد أعضاء نوع الأشياء الحلوة، أو أن هذا فيه صفات موجودة بالقوة، هي التي تكون خصائص أي شيء حلو؛ وعندئذٍ لا تكون صفة كونه حلوًا مجرد تغير قد حدث، بل تكون علامة على مجموعة مقترنة من النتائج التي ستحدث إذا ما حدثت تفاعلات معينة؛ خذ مثلًا هذه القضية «إنه قاسٍ» أو «إنه رحيم» فها هنا نجد الصفة التي تمثلها كلمة «قاسٍ» أو كلمة «رحيم» تدل على ميل نحو الفعل بطريقة معينة، وليست هي مقصورة على تغير يحدث في لحظة معينة من الزمن؛ بل إن ما يحدث في اللحظة الزمنية المعينة يتخذ شاهدًا على السمات الدائمة التي تصف نوعًا ما؛ وإن وجود هذه السمات التي تصف النوع ليتجلى في وضوح، إذا بدلنا من صيغة العبارة بحيث تصبح «إنه شخص قاسٍ».

أما قضايا كهذه؛ «هذه شجرة من شجر الدردار» أو «هذا سكر، أو حجر من الجرانيت، أو شهاب … إلخ» فلا ازدواج في تحديدها وفي تمييزها لفرد ما على أنه عضو في نوع معين؛ ولا حاجة بنا إلى أن نعيد هنا ما قد أسلفناه عن قوة فكرة النوع أو مقولة النوع في سهولة الحصول على نتائج استدلالية مدعمة؛ لكنه قد يكون من الضروري أن نذكر أنه حين تكون لكلمة وصفية مثل «محسن» و«ثديي» نفس القوة المنطقية التي تكون للاسم العام، فعندئذٍ يكون هناك افتراض مسلَّم به، وهو وجود خصائص وصفية أخرى تقترن بالصفة التي أعلن عن وجودها؛ فحين يُقال: «هذا حديد» فمن الواضح عندئذٍ أن كلمة حديد تشير إلى سمات ليست مشهودة الآن شهودًا مباشرًا، لكنها من حيث هي نتائج موجودة بالقوة، تتصل بصلة الاقتران مع الصفة الحاضرة حضورًا مباشرًا، كصفة اللون أو صفة الملمس؛ وكذلك قلْ في الفرق بين هاتين القضيتين: «إنه (ها هنا وفي هذه اللحظة) يسلك سلوك الرحيم» و«إنه رحيم»؛ فهو فرق قوامه أن القضية الثانية تتضمن استدلالًا يبدأ من المعطي المباشر الذي هو تغيرٌ تقرره القضية الأولى، وينتهي إلى مجموعة من السمات لا تكون بذاتها مشهودة في تلك اللحظة الزمنية وذلك المكان المعين.

وهكذا تعود بنا القضية التي تتحدث عن فرد من حيث هو عضو في نوع، إلى ما قلناه في الفصل السابق عن سير الحكم في طريق متصل الحلقات؛ فهذه القضايا الآتية: «هذا له لمعة الزجاج؛ ولا يمكن خدشه بسكين؛ وهو يخدش الزجاج؛ ولا ينصهر بنافث النار؛ ويتحطم في شظايا صدفية» هي قضايا — لو أخذت كل منها على انفراد — كانت أوصافًا لطرائق معينة من التغير؛ أما إذا طبقناها مقترنةً ومتجمعةً على شيء معين نشير إليه ﺑ «هذا»، فعندئذٍ نحصل منها على مجموعة من السمات المقترنة التي تصف نوع حجر الصوان (الكوارتز)؛ (١) فتغير واحد معين لا يكون من بين ما نلاحظه على أنه حقيقة واقعة فنشاهدها كما تقع؛ بل الذي نلاحظه عندئذٍ هو الظروف التي لا بد من توافرها لحدوثه؛ (٢) وهذه التغيرات يتبين لنا أنها مشتبكة بعضها مع بعض على نحو يجعل حضور إحداها علامةً مأمونة على أن سائرها سيمثلُ أمام أعيننا إذا ما حدثت تفاعلات من نوع معين، رغم تنوع الظروف التي قد تحيط بها في حالات مثولها؛ وكذلك قلْ في هذه القضية: «هذا يحيل الورقة الزرقاء حمراء» فهي في ذاتها وبذاتها لا تفعل أكثر من كونها تسجل ملاحظةً قائمة وحدها؛ لكننا إذا ما كنا في طريقنا من أبحاث يكمل بعضها بعضًا، ويجيء سابقها متبوعًا بلاحقها، وإذا ما وجدنا هذه الأبحاث تنتج لنا قضايا أخرى عن هذا (المشار إليه في القضية المذكورة)، فعندئذٍ تصبح قضية «هذا حامض» (أي إنه منتمٍ إلى نوع بعينه) قضية جائزة القبول (بفضل القضية المذكورة سابقًا)، وهكذا قد أصبح في مستطاعنا أن نحدد تحديدًا قاطعًا الفوارق المنطقية بين الصفة، والقَسْمة، والسمة، والخصيصة، وهي فوارق قد أثبتناها فيما سبق؛ ﻓ «تحويل الورقة إلى اللون الأحمر» — باعتباره موضوعًا لمشاهدة جزئية — يكون صفة؛ لكنه يكون سمة أو قسمة مميزة تعين حدود النوع، لو كان ذلك التحويل إلى اللون الأحمر يمكننا من الاستدلال المأمون من الخطأ بدرجة معقولة، فنستدل منه حدوث صفات أخرى في ظل ظروف معينة؛ ثم يصبح خصيصة إذا ما ثبت بأمثلة سلبية وأخرى إيجابية أنه علامة ثابتة يركن إليها في توقع قسمات أخرى نعلم أنها مقترنة بالقسمة المذكورة؛ فعندئذٍ تكون هذه الخصيصة منتمية إلى النوع كله بجميع حالاته، وبحكم طبيعته الأصيلة.

إنه يغلب أن تسمى القضايا التي هي من النوع الذي نحن الآن بصدد بحثه، يغلب أن تسمى هذه القضايا في المؤلفات المنطقية المعاصرة، بقضايا عضوية الفرد في نوع؛ غير أن العضوية تتضمن اعترافًا بأمر لا يدخل في طبيعة هذه القضايا؛ إذ القضايا التي تقول «هذا ينتمي إلى نوع بعينه» تجعل «هذا» حالة من حالات نوع أو ممثلًا لنوع أو عينة له أكثر مما تجعله عضوًا؛٤ فمن ناحية نرى تحديد الفرد على أنه واحد من نوع، يتضمن انتقاصًا من فردية الفرد الذي نشير إليه ﺑ «هذا»، إذ لا يعود منظورًا إليه بكل ما له من وجود كيفي، بل ينحصر في كونه قسمة من القسمات التي تفيدنا في تمييزه وتعيينه من حيث هو واحد من نوع؛ ومن ناحية أخرى، وأعني بها مدى الاستدلالات المدعمة التي يمكن انتزاعها، فإن لذلك الانتقاص (من فردية الفرد بجعله أحد أفراد النوع) يصاحبه شيء من التوسيع؛ فالصورة اللغوية المعتادة هنا — كما هي في حالات أخرى كثيرة جدًّا — ليست هاديًا مأمون الجانب؛ فقولنا: «كان بولس مواطنًا رومانيًّا» قد يقف عند حد تقريره لحقيقة تاريخية معينة، لكن هذه العبارة نفسها في السياق الذي قيلت فيه ذات مرة، كان معناها عندئذٍ أن بولس كان يمثل نوعًا من المواطنة يحمل معه حقوقًا معينة؛ إذن فمجرد تتابع الجزئيات لا يحدد انتماء كائن معين إلى نوع بذاته، فلا بد للتغيرات الخاصة التي تحدث أن تكون قادرة على تمثيل سواها؛ وهذه الحقيقة إنما تهدم الزعم الذي كثيرًا ما يزعمون به أن صفة مثل أحمر وصلب، هي في صميم طبيعتها عامة أو كلية؛ فهي تصبح عامة أو كلية بما يتجمع لدينا من خطوات استدلالية ينبني بعضها على بعض خلال السير في البحث المتصل؛ أي إنها تصبح عامة أو كلية حين نقرر لها أنها يمكن أن تصدق على عدد لا يحصى من الأفراد التي لم تكن حاضرة حضورًا فعليًّا، أما الصفة في ذاتها وبذاتها فجزئية إلى حد التفرُّد الفذ.

لقد أعدنا الإشارة مرارًا إلى «الظروف» السياقية، باعتبارها ضرورة لا غناء عنها في تحديدنا لمفهوماتنا عن قسمات الأشياء المميزة لها، وعن الوجود بالقوة، وعن الاستدلال؛ وحقيقة هذه الظروف التي تعين طبيعتها، كثيرًا ما «تُضْمَر» أي إنها تُؤخذ على أنها أمر مسلَّم به؛ فيستحيل أن تُساق في عبارة صريحة سياقًا كاملًا، حتى في البحث العلمي نفسه وفي عملية الاستدلال؛ وذلك لأن عرضها في تقرير كامل أمر محال، إذ إن ذلك يقتضي أن نستوعب كل شيء تقريبًا؛ ولهذا ترانا نأخذ مأخذ التسليم بالظروف التي نرى أنها مفروضة الوقوع، فإذا بسطنا هذه الظروف في عبارة صريحة فيما ذلك إلا حين تتباين في آثارها، فنبسطها في العبارة الصريحة بمقدار ما هي متباينة الأثر؛ فهنالك ظروف عضوية خاصة لا يكون طعم السكر فيها حلوًا، وظروف مادية معينة لا يحلي السكر فيها غيره من المواد؛ ففي حالات خاصة كهذه فقط، يتحتم علينا أن نبسط الظروف في عبارة صريحة، أعني الظروف التي تجعل النتائج مغايرة للنتائج التي نسلم بوقوعها في الحالات المعتادة؛ فمثلًا ليس بمأمون من الخطأ أن تستدل بأن شيئًا ما لزجٌ لأنه حلو؛ لكن إذا ما بسطت الظروفُ المغايرة بسطًا وافيًا، فعندئذٍ تصبح بمنجاة من الخطأ أن تستدل بأن «هذا الشيء الحلو هو من فئة الأشياء اللزجة»؛ فتسليمنا منذ البداية — تسليمًا مضمرًا أو صريحًا — بالظروف المحيطة المطلوبة في حالة معينة، مساوٍ لقولنا عن مجموعة تلك الظروف إنها قد أصبحت مقننة لشتى الحالات.

(١-٣) قضايا العلاقات بين الأنواع، أو القضايا الجامعة

إنه من المسلَّم به الآن بصفة عامة أن قضية «الأثينيون يونانيون» تختلف في صورتها المنطقية عن قضية «سقراط أثيني»؛ وأن قضية «هذا حديد» تختلف في صورتها المنطقية عن «الحديد معدن»؛ فالقضية الثانية في كل من زوجَي القضايا المذكورين،٥ تُدخلُ نوعًا أقل شمولًا في نوع أكثر شمولًا، باعتبار هذا الأقل نوعًا يدخل في جنس، بينما القضية الأولى في كل من الزوجين لا تدخل المفرد في فئة أو في نوع؛ فمهمة النوع في هذه الحالة — وهو نوع يوصف بسمات تخصصه — هي أن يميز وأن يوضح المفرد، بحيث نستطيع أن نستدل من المعالم المشاهدة شهودًا مباشرًا، معالمَ أخرى لم تكن عندئذٍ مشاهدة ولا ممكنة المشاهدة، لكننا نستدلها إذا توافرت لها ظروف معينة؛ فعضوية نوع في نوع آخر لا يقتصر أمرها على الزيادة الكبيرة في عدد المعالم التي يمكن استدلالها، بل تؤدي إلى ما هو أهم من ذلك، وهو أنها تنتظم السمات المشاهدة والمستدلة في نسق واحد؛ فمن القضية القائلة إن: «الورد بيضي البذور مفرد الفلقة». يمكن أن نستدل بأن كل شيء نقول عنه إنه وردة، له أوراق من ذوات البذرتين، وأن أجزاء زهوره لا تجيء في ترتيبها ثلاثة ثلاثة، وأن أوراقه تتعرق تعرقًا شبكيًّا … إلخ؛ وهذا المدى الواسع من الاستدلال، إنما ينبني على أساس مبادئ عامة، لا على مجرد مشاهدات خاصة.
فعلى الرغم من أن هذا التوسيع في نطاق الاستدلال ذو أهمية عملية كبيرة، إلا أنه لا يقتصر على هذا وحده، بل إنه لذو أهمية منطقية محددة كذلك؛ وذلك لأنه يعود فيقرر الأساس الذي نستخدم بناءً عليه ما قد يكون مقرنًا من مجموعة المعالم، لكي نصف بها أي فرد من أفراد النوع الذي نكون إزاءه؛ فلا يكفي أن نختار السمات التي تمكننا من الاستدلال داخل حدود النوع المعين الذي يرتبط ارتباطًا مباشرًا بتلك السمات؛ بل لا بد بعد اختيار السمات من ترتيبها ترتيبًا يخلق لنا بقدر الإمكان تسلسلًا من أنواع، كل منها يدخل فيما هو أشمل منه، حتى نصل إلى النوع الذي هو أوسعها شمولًا؛ فبهذا لا تزول الحواجز التي تحول دون الاستدلال الخاص فحسب، بل إن التوسيع في مدى الاستدلال يتوقف كذلك على تكوين الأنواع في علاقة نسقية بعضها ببعض؛ وتنسيق الأنواع على هذا المنوال هو أحد الفروق الرئيسية بين نظرة الذوق الفطري إلى الأنواع ونظرة العلم إليها؛ فهذه الصلة التسلسلية المنسقة، هي التي تجعل مقولة العضوية أو مقولة الاشتمال، تصدق على الأنواع المشمولة، ولا تصدق على الحالة التي يكون فيها الكائن المفرد ممكن التمييز والتوضيح من حيث هو واحد من نوع؛ وهكذا نستمد من قضية العلاقة بين الأنواع أساسنا المنطقي لقضية الفرد الذي يمثل نوعه؛ وذلك لأننا في القضية التي صورتها «هذا واحد من نوع» بمثابة من يصادر بفرض مضمر، وهو أن ثمة أنواعًا أخرى متصلة بالنوع الذي خصصناه، لأن المعالم التي تكفي أساسًا لإدخال هذا المفرد في نوعه، لا بد أن يكون من شأنها كذلك أن تفصل ذلك النوع عن غيره من الأنواع؛ وبناءً على ذلك كان الأساس الكافي لتدعيم مثل هذه القضية، يقتضي أن تكون الأنواع المتصلة لكنها خارجة عن النوع الذي نشير إليه، مقررة المعالم بدرجة حاسمة؛ ولا يتوافر هذا الشرط إلا إذا (١) حددنا نوعًا يشملها جميعًا، و(٢) تحققنا من المعالم الفاصلة التي تفصل الأنواع الداخلة في ذلك النوع الشامل فصلًا يميزها أحدها من الآخر، وبعبارة أخرى، لا بد من مجموعة من قضايا موجبة وقضايا سالبة تسير معًا جنبًا إلى جنب.٦

وإلا فالمعالم التي نستخدمها لنصف بها نوعًا معينًا قد تكون إما متداخلة (وفي هذه الحالة يصبح من الممكن أن ننسب الشيء أو الأشياء التي نكون بصدد التحدث عنها إلى نوع آخر) أو أن تكون المعالم المأخوذة غير كافية لنسبة الشيء إلى النوع الذي خصصناه له، أريد أن أقول إن المعالم عندئذٍ إما أن تكون أوسع مما ينبغي أو أضيق مما ينبغي (أي لا هي بالمانعة ولا هي بالجامعة)؛ مثال ذلك حين كانت الخفافيش تنسب إلى نوع الطيور، وكانت الحيتان تنسب إلى نوع الأسماك، فعندئذٍ كانت صفة الطيران وصفة السباحة على التوالي، أوسع شمولًا وفي الوقت نفسه أضيق حدودًا من أن تسوغ نسبة هذه الكائنات إلى هذه الأنواع؛ وإذن فالاستدلال لا يمكن أن يسير سيرًا مقبولًا في حالة القضايا التي تنسب فردًا إلى نوعه؛ إلا إذا حددنا مختلف الأنواع التي تندرج معًا في نوع أشمل منها، مع تحديدًا للفوارق التي تفصل كل نوع منها عن سائر الأنواع؛ فبهذا وحده تتحقق لنا الشروط المنطقية التي تجيز لنا السير في الاستدلال المذكور.

وهذا الذي نقوله من أن القضايا التي ننسب بها فردًا إلى نوعه، والقضايا التي نقرر بها العلاقة بين الأنواع، تتصلان كلتاهما بعملية الاستدلال، هو بمثابة القول بهزيمة النظام القديم الذي كانت تنسق به أنواع النبات والحيوان تنسيقًا جامدًا، وأعني به نظم «التصنيف»؛ فقد كان لا مندوحة لهم عن تصنيف أنواع الكائنات تصنيفًا جامدًا، ما دام المفروض في تلك الأنواع هو أنها أنواع ذوات حقيقة وجودية ثابتة، ينفصل بعضها عن بعض في الطبيعة الخارجية؛ ثم أحللنا محل هذه النظم مجموعات مرنة متصلًا بعضها ببعض، فكان ما نراه في علمَي الحيوان والنبات من ممالك وفصائل وأسر وأنواع وصنوف … إلخ؛ وكل هذا هو بمثابة تحديدنا للعلاقات الكائنة بين الأنواع على أساس صلاتها بالاستدلال النسقي المنظم؛ ومع ذلك فقد كان الأثر المباشر لهدم فكرة الأنواع الطبيعية الثابتة عاملًا على التفكك من الناحية المنطقية، لأنه أدى إلى فكرة لا تزال قائمة في النظرية المنطقية عند التجريبين التقليديين، وهي الفكرة القائلة بأن كل قسمة إلى أنواع يتصل بعضها ببعض، إن هي إلا وسيلة للسهولة العملية دون أن تكون لها دلالة منطقية متأصلة في طبيعتها؛ لكن الكشف عن تفرع الأنواع من أصل مشترك، تفرعًا تطرد خطاه بفضل التنوع الذي ينشأ عن اختلاف الظروف المحيطة، قد وضع لنا أساسًا موضوعيًّا؛ إذ إنه قد أعاد إلينا موضوعية التصنيف، كما كانت الحال في نظرية الأنواع الثابتة، لولا أن هذا الأساس الجديد يختلف عن أساس النظرية القديمة، وإن اتفقا في الموضوعية؛ ووجه الاختلاف — من ناحية الظاهر الخارجي — علامته إحلالنا لاعتقادنا في «أصل الأنواع» محل الزعم الذي كانوا يفرضون به أنواعًا طبيعية ثابتة.

وهذا التغير يساوي في مجال المنطق مصادرةً نفرضها لنعمل على أساسها، وأعني بها أن ترتيب الأفراد في الفئات التي من شأنها أن تفيد وأن توجه عملية الاستدلال التي ننتقل بها من كائن معلوم إلى كائن مجهول، هو نفسه الترتيب الذي نرتب به تسلسل الأحياء فرعًا عن أصل، حيث نقرن اختلاف الأنواع باختلافات الظروف المحيطة؛ فعلى هذا الأساس تكون الزواحف أقرب نسبًا إلى الطيور منها إلى الضفادع والتماسيح التي كانت توضع معها في صنف واحد بادئ الأمر؛ وهذا التحول إلى مبدأ للتصنيف يقوم على أساس تسلسل الأحياء، هو نفسه ما حدث في مجال المنطق من الانتقال من السوابق إلى اللواحق لتكون هي الأساس الذي نقيم عليه اقتران المعالم التي نميز بها نوعًا من الأنواع؛ وهو انتقال يتمشى مع الأهمية التي جعلناها لتفاعل الظروف بعضها مع بعض.

ويجمل بنا أن نرتد في هذا الموضع إلى الفرق الرئيسي بين القضايا الجامعة والقضايا الكلية؛ وليس بنا حاجة هنا إلى تكرار تفصيلي لما سبق أن قلناه عن ازدواج معنى كلمة «كل»، التي نشير بها آنًا إلى الكائنات الموجودة في العالم الخارجي، وهي في هذه الحالة تمثل استدلالًا له — على أحسن الفروض — درجة عالية من الاحتمال؛ ونشير بها آنًا آخر إشارة لا تنصرف إلى الموجودات الفعلية، وذلك حين نرمز بها إلى علاقة ضرورية تلزم — بحكم التعريف — عن تحليل فكرة ذهنية معينة؛٧ لكنه مما يناسب هذا الموضع من الحديث أن نقول هنا كلمة عن التباين بين التأويل المنطقي كما هو قائم اليوم وبين النظرية التقليدية التي تذهب إلى أن كافة القضايا — فيما عدا قضايا العلاقات — هي إما تصنيف للكائنات أو حمل للصفات على موصوفاتها، ويتوقف كونها من هذا القبيل أو ذلك حسب اختيارنا نحن — اختيارًا إراديًّا — هل ننظر إليها في «الماصدق» أو في «المفهوم»؛ وترتد هذه المباينة إلى أن وجهة النظر التي أخذنا بها في هذا الكتاب، تؤكد أن كل القضايا الوجودية مختصة بتحديد ما يطرأ من تغيرات، وبخاصة تلك التغيرات التي من شأنها أن تحول موقفًا غير متعين وغير مستقر إلى موقف وجودي متعين الحدود موحد الأجزاء؛ فالقضايا التي نشير بها بادئ ذي بدء إلى كائنات جزئية، تختص — كما رأينا — بالتغيرات الجزئية التي نحددها لنستعين بها على تعيين وضع المشكلة التي يثيرها لنا موقف يكتنفه الشك؛ وهذه التغيرات هي التي تعبر عنها في اللغة بكلمات الأفعال، مثل: يذوق، ويلمس، ويسمع، ويضرب، ويجري، ويحب، ويتحرك، وينمو، ويقيم … إلخ؛ ثم نعبر عنها بعد ذلك بكلمات الصفات التي تدل على عواقب التغير الحادث نتيجة للفعل الذي عبرنا عنه بكلمة الفعل بمعناه الحق؛ وهذه التغيرات التي نتناولها الآن بالحديث، لو صببناها في الصورة التي نقرر بها العلاقة بين الأنواع، لأصبحت ضروبًا من التفاعل؛ وأما التفسير التقليدي لما للقضايا من طبيعة التصنيف، فيرتكز على تجاهل علاقة ذلك بالتغير؛ فكانوا يحلون محل التغير علاقة يرمزون إليها بكلمة «يكون is» بالمعنى الذي يجعل هذه الكلمة رابطة منطقية (أي رابطة لا تشير إلى وجود فعلي)؛ فعندئذٍ «زيد يجري» (التي تعبر عن التغير) تصبح «زيد هو (أو يكون) جارٍ»؛ على حين أن قولنا «زيد يجري» حتى إذا ما وضعناه في صيغة الفعل الحاضر المستمر فأصبح «زيد هو قائم بفعل الجري» إنما هو قول يشير إلى زمن محدد ومكان محدد، إذ إن الفعل is (يكون) في قولنا is running (قائم بفعل الجري) هو فعل دالٌّ على سلوك له زمن وله إشارة يشير بها إلى مكان؛ فكأنما نقول إنه قائم بفعل الجري الآن وهنا؛ وأما التفسير التقليدي (الذي يحول عبارة «زيد يجري» إلى عبارة «زيد هو جارٍ») فيخضع الكائن المفرد — الذي هو زيد — إلى نوع يشمله؛ ومثل هذه العبارة يكاد لا يعد قضية سليمة في صدقها على الخارج، اللهم إلا إذا كان زيد بحكم المهنة شخصًا مشتغلًا برياضة السباق، أو كان — على الأقل — قد أبدى ميلًا إلى الجري في كل فرصة مناسبة.

ثم خذ هذه القضية: «زيد يعطي تفاحة إلى خالد» فهو يؤدي هذا الفعل في زمان ومكان معينين، وإذن فالقضية تشير إلى تغير وجودي قائم في ذلك الزمان وذلك المكان؛ وقد لا يكون هذا التغير حدث قط من قبل، وربما لن يحدث قط في المستقبل؛ ومع ذلك فكثيرًا ما تفسر القضية على الوجه الآتي: «زيد هو واهب لتفاحة إلى خالد» وليس هذا الاختلاف بين الصورتين اختلافًا لفظيًّا فحسب، بل إنه اختلاف ينقل الأمر من صورة منطقية إلى صورة منطقية أخرى، لأن العلاقة بين الواهب والموهوب إليه علاقة جامعة، ومن ثَم فهي متحررة من قيود الزمان المعين والمكان المعين؛ ولو فهمنا هذه العبارة الثانية فهمًا حرفيًّا، كان معناها هو أن زيدًا يضطلع بمهمة دائمة وهي إعطاء تفاح إلى خالد، أو أنه — على الأقل — يميل نحو أن تكون هذه هي مهمته؛ وخذ مثلًا قضيةً كهذه: «إبراهيم قد أوصى بوصية لصالح إسماعيل»، فهذا فعل (أي تغير) يحدث في زمان ومكان معينين، ولا بد أن يكون على حدوثه شهود ومشاهدون؛ إلا أن العلاقة بين الموصي والموصى له هي علاقة جامعة لأن العبارة التي تقرر هذا الفعل الخاص في حدود هذه العلاقة، تدرج الفعل في نسق من مقولات لها تعريفها في مجال القضاء، وهي مقولات تتنوع عواقبها عند تطبيقها؛ ولو أبعدنا ذلك الفعل الخاص عن كونه فعلًا من النوع الذي تحدده مقولات القانون، لما صح وصفه بأنه وصاية بوصية، لكنه سيظل مع ذلك فعلًا حدث في زمان ومكان معينين، غير أنه قد لا يختلف عندئذٍ عن كتابة كاتب لاسمه — لغير غاية مقصودة — على قطعة من الورق.

وعلى خلاف القضايا التي فرغنا لتونا من مناقشتها، نرى القضايا التي تُثبت علاقة بين الأنواع، بحيث تدل على أن نوعًا ما يدخل مع أنواع أخرى في نوع يشملها جميعًا، أقول إن هذه القضايا هي — بالبداهة — «تصنيفية»؛ لكنه يكون خلطًا منطقيًّا خطيرًا، لو أننا مددنا في نطاق هذه الصفة التصنيفية حتى تشمل القضايا التي تنسب الفرد إلى نوعه في مفهومها، كما تشملها في ماصدقها، على حين أن الجانب التصنيفي مفروض هنا — بالبداهة — أن يقتصر على مجال المفهوم وحده دون الماصدق؛ فنحن نخلط بين الصور المنطقية إذا استنتجنا من المعالم التي نحدد بها علاقة بين الأنواع، معتمدين في ذلك على الجانب العقلي من تلك المعالم، أقول إننا نخلط بين الصور المنطقية إذا استنتجنا من ذلك أن «حلو» في قضية «هذا حلو» صفة عقلية تحمل على «هذا»، لأن هذه الصفة ليست صفة محمولة عقلًا على «هذا» بأي معنًى من معاني الضرورة؛ وكل ما تشير إليه هذه الصفة في هذه الحالة هو أن تغيرًا جزئيًّا معينًا قد حدث، أو في طريق الحدوث، أو سيحدث في زمان ومكان معينين؛ وإلى هنا لا نقول شيئًا أكثر من أن نعيد — في عبارة أخرى — نقطةً أشرنا إليها من قبل؛ لكننا نضيف نقطة جديدة ذات أهمية منطقية، حين نذكر هنا أن تفسير كافة القضايا على أساس تصنيف الأفراد أو على أساس حمل الصفة على موضوعها (وتفسيرها على أساس الماصدق وعلى أساس المفهوم) إنما هو تفسير يُبهم طبيعتها الوسلية والأدائية.

إنه لا شك في أن قضية «الحديد معدن» معناها أن النوع الذي نرمز إليه بلفظ «الحديد» يندرج في النوع الذي نرمز إليه بلفظ «المعادن»؛ أو إذا أردنا أن نعبر عن هذا بعبارة تتناول الأمر من جانب صفاته العقلية، قلنا إن تلك القضية تعني بغير شك أن العلاقات القائمة بين المعاني التي نعرِّف بها كون الشيء معدنيًّا، تصدق كذلك على العلاقات القائمة بين الصفات التي نعرِّف بها كون الشيء حديدًا؛ لكن على أية حال من هاتين الحالتين اللتين قد نفهم بهما القضية المذكورة، فالقضية وسلية بالنسبة إلى الاستدلال؛ والأساس المنطق الوحيد لتمييز الصورة المنطقية التي تتمثل على هذا النحو، من الصورة المنطقية التي تنتمي إليها قضايا مثل «هذا حديد»، الأساس المنطقي الوحيد لهذا التمييز هو في نوع الاستدلال المراد خدمته؛ فإذا قرر صانع أن «هذا حديد» أمكنه أن يستدل النتائج التي ستترتب إذا هو عالجه على نحو معين؛ فمثلًا إذا أحماه أصبح لينًا إلى الدرجة التي تمكنه من صياغته؛ أما هاتان القضيتان «الحديد معدن» و«إذا كان الشيء معدنيًّا كان عنصرًا كيمويًّا». فهما — كما أشرنا — أساسان لاستدلال من طبقة تختلف عما ذكرنا.

(١-٤) القضايا الشرطية عن الحقائق العرضية

هنالك طراز من القضايا، هو شرطي في صورته اللغوية، لكنه مع ذلك يشير إلى أفراد؛ فالقضية؛ «إذا استمر هذا الجفاف فسيجيء المحصول غاية في القلة» والقضية: «إذا سقط هذا، فربما أعقب سقوطه انفجارٌ» تشير كل منهما إلى تغيرات وجودية يفرض في بعضها أنه متضمنٌ في بعضها الآخر؛ ويصدق هذا نفسه على قضية مثل «إذا استمر المطر فسترجأ مباراة الكرة عن موعدها المقرر»؛ فقضايا كهذه تمثل طرازًا من القضايا واسع الشيوع، وهي قضايا تظهر فيها كلمتا «إذا – إذن»؛ غير أنه في مثل هذه الحالات — كما لاحظنا في فصل سابق — هنالك فروض أولية مسلَّمة، وهي وجود رابطة وجودية بين ظروف وجودية يكون فيها لكلمتي «مقدم» و«تالٍ» معناهما الحرفي، أي يكون لهما معناهما الوجودي؛ فالجفاف والقنبلة قائمان الآن في الوجود الخارجي؛ فإذا حدث شيء ما (نرمز إليه بكلمتي «استمر» و«سقط») تبعته نتائج مادية معينة، بالمعنى الزمني لكلمة «تبع»؛ والرابطة هنا عرضية وللقضايا درجة معينة من الاحتمال؛ وهي — فضلًا عن ذلك — بمثابة التمهيد لما يجيء بعدها، إذ هي من قبيل النصح أو التحذير من حيث إنها تعد لحوادث محتملة الوقوع في المستقبل؛ فكأنما قائلها يقول: «استعد لنقص في محصول الغلة» و«لا تسقط ذلك الشيء إلا إذا كان مرادك أن يحدث انفجار» و«لا تذهب إلى ملعب الكرة حتى تستيقن من حالة الجو»؛ وإذن فهي قضايا متميزة من القضايا الشرطية الكلية المجردة من حيث صورتها، وذلك لما فيها من إشارة إلى مكان وزمان معينين.

وأمثال هذه القضايا — من الناحية المنطقية — وسائل لتحديد مشكلة ما؛ فخذ مثلًا هاتين القضيتين اللتين هما أهم في مغزاهما مما ذكرنا، وهما: «لو كانت محاورة «فيدون» تاريخية، لكان سقراط قد آمن بخلود الروح» و«إذا كانت تلك المحاورة جدلية، لما لزم بالضرورة أن يكون سقراط قد التزم شخصيًّا بتلك العقيدة»؛٨ فالقضيتان لا تقرران شيئًا، لكنهما تثيران مشكلة، فإلى أي حد كان أفلاطون في محاوراته بصفة عامة وفي هذه المحاورة بصفة خاصة، قد أراد أن يروي ما دار من حديث فعلًا في تواريخ معينة وفي أمكنة معينة؟ إلى أي حد قد استخدم شخصية سقراط ليبسط على لسانه أفكارًا معينة من أفكاره هو؟ وهكذا توجه تانك القضيتان البحث إلى نواحٍ يرجى أن توجد فيها الشواهد على حل هذا الإشكال؛ وبهذا تكون المشكلة وحلها معًا — إذا وجد الحل — مشيرين إلى كائنات في الوجود الفعلي.٩

(١-٥) قضايا الأمر الواقع، أو القضايا الانفصالية عن الحقائق العرضية

قد أسلفنا الإشارة إلى ضرورة تحديد المعالم — بوساطة النفي والعزل — التي تصف سائر الأنواع الداخلة مع النوع الذي نحن بصدد الحديث عنه في نوع يشملها جميعًا؛ ومن مراعاتنا لهذا الشرط تتولد قضايا وجودية انفصالية؛ فعبارة «الحديد معدن» ليست قضية تتأيد بمجرد الكشف عن سمات معينة يتسم بها الحديد، كما يتسم بها مع الحديد الصفيحُ والنحاس والرصاص والزئبق والزنك وغيرها؛ إذ هي لا تتأيد إلا إذا حددنا السمات المميزة التي تفصل الحديد كله من حيث هو نوع، وفرقنا بينها وبين السمات التي تصف المعادن الأخرى؛ وإلا لجاز أن يكون الحديد مزيجًا مثل النحاس الأصفر أو البرونز؛ فبغير القضايا السلبية، أي القضايا التي تعزل الحديد عما عداه، لا نكون قد استوفينا كافة الشروط التي يشترطها تعريف الشيء بكونه معدنًا، كتعريفه مثلًا بكونه عنصرًا كيمويًّا؛ فقبولنا إدخال نوع ما في نوع آخر إنما يعتمد — إذا تحقق له المثل الأعلى عند المنطق — على تكوين مجموعة من قضايا انفصالية تستوعب شتى الأنواع الفرعية الداخلة في نوع يشملها جميعًا، كأن نقول مثلًا: «المعادن هي إما … أو … أو … أو … وهذه الأنواع هي كل أنواع المعادن الموجودة» وقد أردنا بالنقط (…) التي في الجملة الأخيرة أن نشير إلى أن أمثال هذه القضايا الانفصالية مشروطة بالظروف المادية، ومن ثَم فهي عرضية إذ ليس هنالك ما يضمن لنا استيفاء الشرط الذي يشترط استيعاب كافة الأنواع الفرعية الداخلة في النوع الذي يشملها؛ فلئن كان الاسيكتروسكوب قد وسع نطاق مشاهدتنا، إلا أننا يستحيل أن نوقن بأن قائمة المعادن قد كملتْ لنا، حتى نشاهد مشاهدة تحليلية كل شيء في شتى الأكوان والمجرات؛ وحتى إذا استوفينا هذا الشرط، فسيظل الأمر أمرَ حقيقة واقعة، لا أمر قطع نظري، بأن بدائل الانفصال قد شملت كل ما هنالك من حالات؛ فلن تكون القضايا الانفصالية غير عرضية إلا على أساس التفكير النظري الذي يقيم لنا البرهان على أن وجود معادن أخرى (غير التي ذكرناها) مستحيل منطقيًّا، لما يقتضيه وجودها من تناقض.

(٢) القضايا الكلية

(٢-١) القضايا الشرطية

إن الشرط العضوي الذي لا بد منه لكي يتم حملنا صفة ما على موضوعها، هو ضرب من الفعل — فطري أو مكتسب — كما هي الحال مثلًا في عادة من عاداتنا؛ ذلك أن الضرب من ضروب الاستجابة السلوكية — إذا ما حيل بينه وبين ظهوره في سلوك علني، ثم عبر عنه برمز — هو بمثابة المعنى الذي يعرض لنا على سبيل الاقتراح، ممثلًا لنا طريقًا ممكنًا لحل مشكلة قائمة؛ وإنه ليظل محتفظًا بوشيجة القربى التي تربطه بمصدره العضوي، بأن ينوب لنا عن طريقة من طرق الاستجابة الفعلية، أي عن طريقة نتناول بها الظروف القائمة؛ وهو لا ينتقل من حالة المعنى المقترح، إلى حالة يصبح فيها فكرة (بالمعنى المنطقي للفكرة) إلا إذا نمت روابطه مع غيره من الرموز؛ أي إنه لا ينتقل تلك النقلة إلا إذا تطور معناه في علاقته بسائر المعاني؛ وأولى مراحل السير في هذا الطريق، هي أن نصوغ المعنى المقترح في عبارة صريحة، أي أن نحوله إلى قضية؛ حتى إذا ما اتخذ صورة القضية اتسعت الفكرة فأصبحت شبكة مترابطة من معانٍ؛ ولا يتم هذا التوسع بمجرد إضافة أو إلحاق معنًى جديد إلى الإيحاء الأصلي، على حين يظل هذا الإيحاء الأصلي على صورته بغير تغيير؛ بل إن هذا التوسع ليتألف من تحليل لما كان قد أوحى به بادئ ذي بدء؛ ففي موقف لم نتبين معالمه، قد يوحي شيء نشاهده بأن رجلًا هناك على مبعدة، يشير بأصبعه؛ فلو اكتفينا عندئذٍ بأن أضفنا إلى ذلك المعنى معنًى آخر (دون أن يتغير المعنى الأول) كانت نتيجة ذلك أننا نقبل المعاني كما تقع لنا، مع أن هذا هو الطريق المؤدي إلى خيالات الواهمين؛ أما البحث أو التمحيص النقدي — الذي يقتضيه تحويلنا للشيء الموحى به إلى فكرة منطقية أو معنًى — فلا بد أن يمس تكوين أو بناء المعنى الموحى به؛ ولسنا بهذا نقول إلا تحصيل حاصل؛ وحين يمس البحث المعنى الموحى به، فإنه يحله إلى حدود متصل بعضها ببعض، فتصبح هكذا: إذا كان ما أراه رجلًا، إذن فذلك يستتبع أشياء أخرى معينة مما نعلم أنه مقومات أصيلة في كون الشيء رجلًا؛ أي إننا بذلك إنما نحول فكرة ما إلى تعريف.١٠

ولا نكاد نتناول معنًى من حيث هو معنًى، حتى يدخل عضوًا في نسق من معانٍ؛ وهذا القول متضمنٌ في الملاحظة التي ذكرناها في الفقرة السابقة، بأن المعنى من المعاني لا بد أن يتطور في علاقته مع المعاني الأخرى؛ ومن هذا التطور يتألف التدليل أو التفكير العقلي، حين نقصد بالتفكير انتقالًا متتابعًا من فكرة إلى فكرة تلزم عنها، أكثر مما نقصد به نقلًا لشيء سبق لنا أن احتويناه كاملًا؛ وبعبارة أخرى فإن القضية الكلية يكون لها معناها باعتبارها عضوًا من نسق، لا وهي قائمة وحدها؛ وما علاقة اللزوم إلا تعبير عن هذه الحقيقة، حتى إن الذي يحدد ماذا عسى أن يكون ذلك المعنى، هو تطويرنا للمعنى الذي تناولناه بالتوسيع، أو للمعنى الكلي الفرضي، تطويرًا يستخرج منه القضايا التي تلزم عنه؛ فإذا انبثق لنا عنه متناقضات — كما يحدث في برهان الخلف — كان ذلك برهانًا على أن المعنى الأصلي لم يكن المعنى الذي حسبناه؛ وها هنا عند هذه النقطة يتبين الفرق المنطقي الحاسم بين القضية الكلية والقضية الجزئية؛ فالقضايا الجزئية هي التحديدات التي نحدد بها معطياتنا تحديدًا يبرز المشكلة التي تتطلب حلًّا؛ فالجزئيات المختلفة، التي هي مستقلة بفحواها المادي بعضها عن بعض، ترتبط إحداها بالأخرى برباط اشتراكها جميعًا في أداء مهمة واحدة، ألا وهي تحديدها لمشكلة ما تحديدًا منطقيًّا؛ ففي المثل الذي سقناه فيما سلف عن حجر الصوان، كان قرارنا «هذا حجر صوان» قد تم على خطوات يضاف بعضها إلى بعض، من إجراءات أجريناها في مشاهداتنا، حين كان كل إجراء منها مستقلًّا عن غيره من حيث مادته، مثل «هذا له بريق الزجاج؛ وهو يخدش الزجاج لكنه لا ينخدش بسكين … إلخ»؛ فقوة هذه القضايا لا تزداد على التوالي تأييدًا برهانيًّا إلا إلى الحد الذي تكون به مضموناتها مستقلًّا أحدها عن الآخر من حيث مادته، وبحيث لا يكون بينها مضمون مشترك إلا أنها جميعًا تشير إلى «هذا»؛ ولكن نقيض هذا تمامًا هو الحال بالنسبة إلى القضايا الكلية، ففي هذه إذا انفصمت عراها الرابطةُ لها في مجموعة واحدة من المعاني، كان ذلك انفصامًا في صرامة التدليل العقلي.

لقد سبق لنا أن بينا أن القضايا الكلية هي صياغات لإجراءات يمكن أداؤها؛ وما دامت هذه الإجراءات باقية بغير تنفيذ، ظلت مادة القضايا الكلية مجردة، أي ظلت مادة لا تتصل بالوجود الخارجي؛ خذ القضية «إن اللوم لا يوجه إلى الناس عدلًا، إلا إذا كان الناس أحرارًا»، فها هنا لا إثبات لقيام الحرية فعلًا، ولا لتوجيه اللوم العادل فعلًا؛ بل إن وجود الناس نفسه ليس مثبتًا لا على سبيل التضمين ولا على سبيل التصريح، ولو أنه يمكن لقائل أن يقول إن وجودهم فرضٌ أولٌ مسلَّم به؛ أما العلاقة المثبتة هنا بين الحرية وبين اللوم العادل — إذا كانت علاقة صادقة على الإطلاق — فستظل صادقة حتى لو محونا كافة بني الإنسان من الوجود؛ فالحرية والعدل واللوم كلمات تدل هنا على معانٍ مجردة؛ ومع ذلك فالقضية تصوغ لنا ما يمكن أداؤه من إجراءات، لو أجريناها بالفعل، ألفيناها تنطبق على السلوك الذي يسلكه الناس فعلًا، بحيث يؤدي هذا التطبيق إلى توجيه مشاهداتنا إلى حالات اللوم الحقيقية من حيث ظروفها ونتائجها؛ وأما ونحن بمعزل عن مثل هذا التطبيق، فإن القضية عندئذٍ لا تصور لنا إلا إمكانًا مجردًا، متوقفًا على تعريف للحرية والعدالة، وهو تعريف قد يكون — بالقياس إلى الوجود الحقيقي — اعتسافًا؛ وإذا كان أمره كذلك، أمكن لمن شاء أن يعارض القضية المذكورة بأضدادها، فيقول مثلًا: «إن اللوم لا يثمر ثمرته إلا إذا كانت أفعال الناس مكيفة تكييفًا سببيًّا؛ ثم لا يكون للوم ما يسوغه إلا إذا كان مثمرًا».

ولو غضضنا النظر عن استعمال القضيتين المذكورتين لتوجيه البحث نحو ملاحظة حقائق السلوك الإنساني ملاحظة منظمة (بالنسبة إلى ظروف توجيه اللوم ونتائجه) لما بقي لنا أي أساس نقرر به تفضيل إحدى هاتين الحالتين المجردتين — وكلتاهما ممكنة — دون الأخرى؛ وهكذا ترى أن التدليل أو الجدل النظري (وسنترك موضوع الرياضة إلى مناقشة نوردها فيما بعد) له مهمة يؤديها وهي أن يوجه إجراءات المشاهدة نحو تحديد المعطيات الوجودية التي نختبر بها الحلول الممكنة المقترحة، مع جعل القضايا المتضادة (كما رأينا) وسيلة لتحديد الأطراف القصوى لمجال البحث.١١
بل إن هنالك حالة أقطع حسمًا لما نحن بصدده مما ذكرنا، وهي الحالة التي نراها في الكليات الشرطية التي تكون مضادة للواقع، كتلك التي لا ننفك نستعملها في العلم؛ مثال ذلك القضية التي نقول بها: «إذا تفاعلت الأجسام بغير احتكاك، إذن …» أو «إذا تحرك جسم بصدمة يتلقاها من جسم واحد آخر، دون أن يتأثر بغيره من الأجسام، إذن …» فهذه القضايا وأمثالها تظهر قيمتها باستعمالها الذي لا ينقطع في العمليات العلمية؛ فإذا اصطنعنا أية نظرية أخرى غير النظرية التي ترد الأمر في النهاية إلى رابطة تصل الكليات الشرطية بتوجيه إجراءات المشاهدات والتجارب، وجدنا أن الفائدة المحققة التي نستفيدها من القضايا المضادة للواقع تخلق لنا مفارقة لا نجد لها حلًّا؛ ولقد حاول من حاول أن يحل هذه المفارقة بقوله إنه بينما هذه القضايا لا تثبت لنا شيئًا عن الوجود الفعلي، إلا أنها «تعزو إلى الحقيقة الخارجية صفة نجعلها أساس الرابطة التي تعبر عنها في الحكم الاشتراطي»؛ ولقد سئل بحق هذا السؤال فيما يتعلق بطريقة التفسير المذكورة، فقيل: «كيف يمكن أن يكون في القضية الكلية الحقيقية أساسٌ لشيء لا يكون ذا وجود فعلي رغم ذلك؟»١٢ لكن هذه المفارقة الظاهرة تزول تمامًا إذا ما تبين لنا أن أمثال هذه القضايا لا تستهدف ولا تقصد إلى أن تشير إلى الوجود الفعلي، بل المراد بها أن تكون على صلة بالبحث في الوجود الفعلي، وهو أمر جد مختلف.

والحق أن في التعريفات كافة شيئًا من صفة التضاد مع الواقع؛ لأنها مثلٌ عليا كما أنها فكرية؛ فشأنها شأن المثل العليا في أنها لا يُقصد بها هي نفسها أن تتحقق بالفعل، بل يُراد بها أن توجه سيرنا نحو تحقيق ما هو موجود بالقوة ليصبح موجودًا بالفعل في الظروف القائمة، ولقد كانت تلك الموجودات بالقوة لتغيب عن أنظارنا لولا هداية المثل الأعلى، أو التعريف؛ فنحن لا نعلي من شأن الدائرة الرياضية بسبب أننا لا نجد ما يناظرها في الأشكال ذوات وجود الفعلي، كلا ولا نحط من شأن الأشكال الموجودة بالفعل بسبب أن ليس بينها شكل له الاستدارة كما يعرفها لنا التصور الرياضي؛ فتقديس المثل الأعلى وازدراء ما هو موجود وجودًا فعليًّا لأنه لا يطابق المثل الأعلى قط، طريقتان متصلة إحداهما بالأخرى تخفيان عن أبصارنا جانب المهمة الأدائية التي يقوم لنا بها المثل الأعلى والموجود الفعلي: فالأمر ها هنا كالرؤية لا تكون هي نفسها منظرًا، لكنها هي التي تمكننا من تكوين المناظر التي ما كان ليكون لها وجود بغيرها؛ أما أن نفرض أن الرؤية ليست بذات قيمة ما لم تصبح — مباشرة — منظرًا من المناظر، فطريق عريض يسوق إلى التشاؤم أولئك الذين يأخذون الفكرة مأخذ الجد، كما يسوق إلى خيالات الأوهام عند الآخرين؛ فتجاهل المثل الأعلى أو ازدراؤه، لاستحالة ترجمته ترجمة حرفية إلى وجود فعلي، ليس هو بمثابة الاستسلام للأشياء «كما هي واقعة» — كما يُقال أحيانًا — فحسب، بل هو كذلك استسلام للأشياء «كما لا تكون قائمة»، وذلك لأن كل الأشياء القائمة تنطوي على إمكانات موجودة فيها بالقوة.

ويجوز لنا في هذا الموضع أن نشير — بغير معاودة ارتياد المجال الذي سبق لنا ارتياده — إلى أن الصورة اللغوية إذا ما جردت عن مضمونها، لا تقرر لنا إن كانت الجملة هي من الناحية المنطقية جملة عن علاقات قائمة في الوجود الخارجي، أم أنها جملة عن إمكانات لم تتحقق بالفعل؛ وعلى هذا فقد تعني هذه الجملة: «إذا قلت الغلال ارتفع ثمنها» أنه في الحالات المعروفة كافة هنالك ارتباط بين صفتي القلة في المحصول والأسعار المرتفعة (والصفتان كلتاهما تشيران إلى حوادث مما يقع بالفعل)، أو قد تعني أن هنالك علاقة ضرورية بين المعنيين المجردين «قلة» و«غلاء»؛ وإن سهولة توحيدنا لهاتين الصورتين من صور القوة المنطقية (وجعلهما صورة واحدة) ليفسرها أن بينهما علاقة متبادلة أو تجاوبًا في الأداء، قد سبق لنا أن ذكرناه؛ فما لم نستطع أن نبين أنه لا بد من الوجهة النظرية أن تكون هنالك علاقة نابعة عن طبيعة الأمور نفسها بين القلة والغلاء، فإن ما نشاهده من اقتران بين القلة في محصول الغلال وبين الأثمان المرتفعة قد يكون من مقتضيات الظروف ونتيجة لالتقاء عرضي بينهما؛ وإذا أعدنا التعبير عن هذا المعنى من الوجهة الأخرى، قلنا إن اطراد ما نشاهده من اقتران، يحفز على البحث عن علة الاقتران، وهي علة — إذا وجدناها — نصوغها في قضية تدل على علاقة قائمة بين معانٍ مجردة، كالعلاقة القائمة — في المثل الذي نحن بصدده الآن — بين القلة والغلاء.

وهكذا تفيدنا العلاقة المتبادلة بين القضايا الكلية والقضايا الجامعة في توضيح الغموض الذي يكتنف معنى كلمة «تجريبي empirical»، وفي إلقاء الضوء على العلاقة المنطقية بين التجريبي من ناحية والعقلي من ناحية أخرى؛ فالتجريبي بمعنًى من معانيه — وهو أشمل معانيه — هو نفسه ما يمكن أن نقيم البرهان على أنه من كائنات الوجود الخارجي (بما نجريه من إجراءات موجهة في عمليات المشاهدة)؛ وهو بهذا المعنى يضاد الفكري الذي يقتصر على الفكر وحده، ويضاد النظري الذي يقتصر على النظر وحده؛ وﻟ «التجريبي» معنًى أضيق من المعنى المذكور، وذلك حين يعني أن مادة قضية معينة مما يشير إلى كائنات الوجود الخارجي، لا تزيد على كونها تمثل مجموعة من اقترانات مطردة بين السمات، شوهدت مرارًا بين الموجودات الفعلية، دون أن نفهم لماذا حدث هذا الاقتران بينها، أي دون أن يكون لنا علم بنظرية تقرر لنا علة ذلك الاقتران؛ وبهذا المعنى وحده يكون ثمة تضاد بين التجريبي والعقلي؛ فإذا ما قام بينهما هذا التضاد، أثار لنا إشكالًا يتطلب خطوة جديدة من خطوات البحث؛ إذ يكون علامة تدل على أن القضايا التي فرغنا من تكوينها لا تستوفي الشروط التي لا بد من استيفائها لتدعيم الحكم النهائي؛ فالنظريات المنطقية التي يفوتها أن تلحظ نسبية القضايا للمرحلة المعينة التي نكون قد بلغناها من مراحل البحث، تجعل الفاصل الذي يميز التجريبي من العقلي فاصلًا جامدًا له ما يقابله في الحقيقة الكونية من اختلاف بين طبيعتيهما؛ ويتبين بطلان هذا التفسير من أن ما نلاحظه من اقتران مطرد للسمات، هو في كل حالة من حالات البحث العلمي، حافز يحفزنا إلى تكوين مدركات عقلية (نعبر عنها بالقضايا الشرطية) تفسر لنا ما قد شاهدناه من اقتران مطرد، بذكر علة حدوثه؛ لكن هذا التعليل المقترح — من جهة أخرى — يقتصر على كونه مجرد احتمال، إلى أن نرى للصيغة التي صغناه بها أثرها فيما ينجم عنها من نتائج في الوجود العقلي، وذلك بفضل الإجراءات التجريبية التي نتوسل بها خلال المراحل التي تؤدي بنا إلى تلك النتائج؛ ونحن إذ نجري هذه الإجراءات الوسلية، فإنما نجريها من وجهة نظر تختلف عن وجهة النظر التي كنا قد أجرينا على أساسها تلك الإجراءات الأولى التي كانت قد أنتجت لنا اقترانات السمات في كائنات العالم الخارجي، لأننا هذه المرة نوجه إجراءاتنا نحو تغيير الظروف التي كانت الاطرادات السابقة قد شوهدت فيها؛ ولهذا فحتى لو جاءت النتائج التي نصل إليها متفقة مع الظواهر التي سبق لنا أن شاهدناها، فدرجة الاحتمال تزداد زيادة كبيرة بأن السمات التي شوهدت مقترنة، إنما كان اقترانها أصيلًا في طبائع الأمور، وليس هو نتيجة عابرة للأحوال القائمة؛ وذلك لأن النتائج الجديدة قد نتجت في ظروف خضعت لضبط تجريبي سرنا به وفق مدركات عقلية؛ وبمقدار ما نوفق — بما نقوم به من حذف سائر الاحتمالات، أعني بما ننشئه لأنفسنا من حالات النفي — أقول إنه بمقدار ما نوفق إلى استبعاد سائر الإمكانات المجردة، نكون قد وفقنا إلى الشاهد الحاسم على صدق الإمكان المجرد الذي بقيَ لنا بعد الحذف.١٣

(٢-٢) القضايا الكلية الانفصالية

إنه لا ينبغي لنا أن نوحد بين صورة الانفصال في حالة القضايا الكلية، وصورته في حالة القضايا الجامعة؛ فالقضية القائلة بأن المثلثات إما أن تكون متساوية الأضلاع أو مختلفة الأضلاع أو متساوية الساقين، ليست من نفس صورة القضية القائلة بأن المعادن إما أن تكون صفيحًا أو زنكًا أو حديدًا أو زئبقًا … والفرق بينهما له صلة بازدواج معنى كلمتي «مشمول في» و«شامل ﻟ» الذي سبق لنا أن ذكرناه؛ فالأشياء المفردات إنما تدخل في مجموعة تحتويها؛ وإذا كانت الأشياء المفردات لا حصر لعددها، كدخول كافة الأشياء التي تتميز بخصائص معينة أعضاءً في فئة بعينها (بالمعنى الذي نفهم به كلمة فئة في مجالَيْ علم النبات وعلم الحيوان) فعندئذٍ تتكون من تلك الأشياء المفردة فئة تكون المفردات أفرادها؛ فإذا قلنا عن المفردات في هذه الحالة إنها محتواة أو مشمولة في تلك الفئة، فما ذاك إلا أسلوب آخر نقول به إن تلك المفردات هي قوام هذه الفئة؛ إذ لا شك أنها لا تكون محتواة فيها احتواءً وجوديًّا كما تكون قطع النقود محتواة في صندوق، أو كما تكون الأبقار منحصرة في حقل؛ كلا ولا هي محتواة فيها على نحو ما تكون الأنواع الفرعية محتواة منطقيًّا في نوع أعم منها ويشملها؛ فإذا قلنا إن السيد فرانكلن د. روزفلت «مشمول» في فئة رؤساء الولايات المتحدة، كان ذلك القول طريقة ملتوية لما نستطيع أن نقوله من أنه أحد رؤساء الولايات المتحدة، ماضيهم، وحاضرهم، ومقبلهم، الذين منهم تتكون مجموعتهم؛ فأية فئة (من حيث هي نوع) هي آخر الأمر مؤلفة من عدد لا نهاية له من مفردات.

فيحق لنا أن نقول عن نوع إنه محتوًى في نوع آخر أوسع منه، كلما كانت الخصائص المميزة للنوع الأعم جزءًا لا يتجزأ من مجموعة الخصائص التي تميز كل نوع فرعي من الأنواع الداخلة فيه، ثم كانت أيضًا مما يمكننا — بوساطة سلسلة من قضايا سالبة ومنفصل بعضها عن بعض (إما … أو …) — من الفصل التام بين شتى الأنواع الداخلة فيه؛ ومما يبرز التباين بين دخول الأنواع الفرعية في نوع أعم، وبين دخول المفردات في مجموعة تضمها سخفُ القول بأن المفهوم العقلي لنوع «الرؤساء» يمكننا من تلقاء نفسه من التفرقة بين أفراد الرؤساء؛ فالعلاقة بين الأنواع الفرعية والنوع الشامل الذي يحتويها، ثم بين الأنواع الفرعية نفسها بعضها ببعض، تتبين في وضوح كافٍ بمجموعة الدوائر التي جرى العرف على توضيحها به؛ إذ توضح علاقة الجنس الشامل بغيره من الأجناس، بدوائر ترسم كلها خارج حدود الدائرة التي نمثل بها ذلك الجنس؛ وأما المعنى الذي يصدق به «الشمول» على التعريفات والمفهومات الفعلية، فذو صورة منطقية مختلفة عما ذكرنا؛ فلا يمكننا توضيحه برمز الدوائر، بل يوضحه أن نرمز إليه بأقواس أو بغيرها من العلامات الفاصلة؛ فافرض أن المسألة المطروحة هي تعريف الثروة في الاقتصاد السياسي، فماذا ينبغي «اشتماله» في مفهومها؛ أنعرِّف الثروة على أساس المنفعة، باعتبار المنفعة كل ما يشبع الرغبة أو ما يساعد على تحقيق الأهداف؟ أم نعرف الثروة بأنها إعفاء من «العمل» بمعناه الذي يجعله تكليفًا وتضحيةً؛ أم نعرِّفها بأنها قدرة السيطرة على سائر السلع والخدمات؛ فلسنا في كل هذه التعريفات إزاء أنواع، لكن المفهوم أو التعريف الذي نختاره — عند تطبيقه من الخارج — هو الذي سيقرر أي الأشياء يدخل في وأيها يخرج من أنواع الأشياء التي هي ثروة؛ وعلى نحو شبيه بهذا يمكننا تصنيف الأشكال الهندسية القائمة في الخارج تصنيفًا يقسمها إلى أنواع من الأشكال المستوية أو من المثلثات؛ غير أن «المثلث» — بالمعنى الرياضي — معناه صفة المثلثية، وهذه الصفة هي معنًى كلي مجرد، أو مقولة؛ فكما قلنا مرارًا، ليس هنالك ثلاثة أنواع من المثلثات، بل هنالك ثلاثة طرق يكون بها الشكل مثلثًا؛ ومن هنا كان أي تقسيم لكون الشيء كذا وكذا، في حالة ذكرنا لما هو «مشمول» في فكرة أو في تعريف، لا بد أن يكون شاملًا بالضرورة لشتى الأنواع، على حين أنه في حالة تقسيم نوع أعم إلى أنواع أخص، فالتقسيم عندئذٍ يكون ذا طبيعة عرضية؛ أما في حالة الكليات، ﻓ «الاشتمال» معناه أن يكون المشتمل جزءًا لا يتجزأ من قاعدة يمكن العمل بمقتضاها، وعند تطبيق هذه القاعدة، فإنها ستقرر أي الأشياء يقع داخل نطاق إجرائها؛ وعندئذٍ يكون إخراج شيء من ذلك النطاق معناه استبعاده عن مدى انطباق القاعدة، أو إقامة حائل يحول دون دخوله؛ فكأنما إخراج الشيء عما ليس يقع في نطاقه هو بمثابة مبدأ نقرر به عدم جواز الدخول بمعناه المجرد؛ وهكذا يكون التخارج بين القضايا الانفصالية (إما … أو …) جانبًا ضروريًّا من جوانب القضايا المجردة، ولذلك وجب أن يتكون منها نسق مترابط الأجزاء.

(٣) قضايا العلاقات

إن أصحاب النظريات المنطقية الذين يحتفظون بأكثر ما يمكن الاحتفاظ به من المنطق الأرسطي (ولو أنهم يحتفظون به بتفسير صوري صرف) يوجهون النقد إلى ذلك المنطق، لأنه لا يعترف إلا بصورة القضية ذات الموضوع والمحمول؛ وقد بيَّنوا أهمية قضايا العلاقات وأهمية منطق المتضايفات؛ على أن قضايا العلاقات، كالقضايا التي تتخذ صورة «إذا – إذن» تجيء على إحدى صورتين، فلا بد من التفرقة بينهما؛ فمن قضايا العلاقات أن نقول: «هذه (المدينة) جنوبي تلك»؛ «ذلك النضد أبعد من هذه القائمة»؛ «الكتاب الذي تريده على يمين المكان الذي تبحث عنه فيه» لكن هذه القضايا كلها مفردة الموضوع، وذات إشارة إلى كائنات الوجود الخارجي؛ وفعل الكينونة is الوارد في هذه القضايا هو فعل مضارع دالٌّ على زمن الحدوث، وليس هو الرابطة المنطقية المجردة عن معنى الزمن؛ وإذن فالعلاقة فيها هي إحدى الحقائق الواقعة في مكان وزمان؛ فالنضد والقائمة والكتاب التي نتحدث عنها، ربما كانت بالأمس موضوعة أوضاعًا مختلفة عن أوضاعها اليوم بالنسبة إلى ما هو أقرب من غيره أو ما هو على يمين غيره، ثم قد تعود فتتغير أوضاعها غدًا؛ نعم إن وضع المدن بعضها بالنسبة لبعض ليس مما يتغير بسهولة كبقية الأشياء، إلا أنه ليس هنالك ما يجعل علاقاتها المكانية الحاضرة ضرورة منطقية؛ ويصدق هذا المبدأ على كل القضايا المفردة الموضوع الدالة على علاقات؛ فمثلًا في القضية القائلة إن «جورج أثقل (أو أطول أو أقتم لونًا … إلخ) من جيمس» فإن كلمة «أثقل» معناها أكثر وزنًا، «وأطول» معناها أنه يشغل حيزًا أكبر من المكان إذا أخذناه في اتجاه رأسي، وهكذا؛ وفعل الكينونة is في هذه القضية ليس هو الرابطة المنطقية، لأنه — شأنه هنا شأن كل أفعال الحركة — يعبر عن طريقة فعل أو تفاعل في زمن معلوم، كما أن علاقة «الشمال، والجنوب» و«اليمين، واليسار» ذات صلة بالحركة؛ فمن الناحية المنطقية لا فرق هناك بين صورة قضايا كهذه وصورة قضايا من قبيل «هذا دافئ أو أحمر أو لين أو لامع» (لأننا في هذه الحالات كأنما نقول إنه سائرٌ أو صائرٌ إلى دفء أو احمرار … إلخ)؛ فهي قضايا تشير الواحدة منها إلى جزئية معينة.

وبعبارة أخرى (وهذه هي النقطة الهامة)، كل القضايا الجزئية هي قضايا علاقيةٌ، وليس لها من صورة الموضوع والمحمول إلا في الصياغة النحوية؛ فقولنا «هذا أحمر» معناه — إذا حللناه من وجهة نظر منطقية — أن شيئًا قد تغير عما كان عليه، أو هو الآن في سبيله إلى التغير إلى شيء آخر؛ فهو قول يعبر عن رابطة زمانية مكانية بنفس الدقة التي تعبر عنها الأقوال الدالة على علاقات بصورة نحوية صريحة؛ والعبارة القائلة: «هذا حديد» معناها أن هذا — في ظروف خاصة — سيتفاعل بطرق معينة وسينتج نتائج معينة؛ فليس «هذا» موضوعًا و«حديد» محمولًا إلا من الناحية النحوية وحدها؛ ويتضح الجانب العلاقي في هذه الجملة من كون مضمونها يمكن التعبير عنه بصيغة المبني للمجهول، فنقول: «ستُخلق نتائج خاصة معينة بفعل «هذا» إذا أحاطت به ظروف معينة»؛ وهكذا نستطيع أن نغير من الصورة النحوية دون أن نغير المعنى، كأن يتساوى المعنى تمامًا بين قولنا «زيد يضرب خالدًا» و«خالد يُضرَب من زيد».

وكذلك القضايا عن العلاقات بين الأنواع، هي قضايا علاقية، وليس لها الصورة المنطقية ذات الموضوع والمحمول؛ فإذا كانت القضية التي من قبيل «الحديد معدن» لا تبدو قضية علاقيةً في ظاهرها، لاستحالة عكسها بحيث تصبح «المعدن حديد»، فالقضية على صورتها هذه ليست من الناحية المنطقية قضية كاملة، لأنها لا تدل، بل لا تشير مجرد إشارة إلى الأسس التي تبررها؛ فهي على أحسن الفروض إما أن تكون جملة تنقل نبأً، أو قضية تمهد الطريق إلى بحث يعقبها؛ وأما القضية الكاملة فهي: «الحديد معدن متسم بكذا وكذا من السمات التي تميزه»، وكل معدن له هذه الخصائص المعينة هو حديد، وبهذا تكون القضية — من الناحية المنطقية لا من الناحية اللفظية — قضية خاصة بعلاقة بين أنواع.

وكذلك ينبهمُ الجانبُ العلاقي في القضايا الكلية الشرطية، بسبب كونها في أغلب الحالات لا تكون كاملة التحديد، عندما نصل إليها ونصوغها؛ وتبعًا لذلك لا يكون إثباتنا ﻟ «التالي» أساسًا يسوغ إثباتنا ﻟ «المقدم» ولا نفينا للمقدم أساسًا يسوغ نفينا للتالي؛ وواضح أن ذلك راجع إلى أن ظروفًا معينة ضرورية ليتم التبادل المنطقي الكامل والتساوي المنطقي الكامل (بين المقدم والتالي في القضية الشرطية) تنقصنا عندئذٍ؛ لكنه نقص لا يعزى إلى صورة القضية الشرطية الكلية، بل هو نقص يدل على قصور مضمون القضية دون استيفائه للشروط المنطقية؛ وإنما تتوافر الخاصة الصورية — بأدق معاني هذه الكلمة — لأمثال هذه القضايا (أعني أنها تستوفي مقتضيات المنطق استيفاءً كاملًا) حين تبلغ القضية من التدعيم حدًّا يجعل كلمة «فقط» نعتًا ملائمًا؛ على أن القضية إذا اتخذت صورة كهذه: «فقط إذا … إذن …» اتضح لنا عندئذٍ أنها قضية علاقية بالمعنى الدقيق.

وقد يحسن بنا أن نختم هذا الجزء من البحث بأن نعود إلى التفرقة بين القضايا الشرطية العرضية، والقضايا الشرطية الكلية (الضرورية)؛ فخذ هذه القضية: «إذا كانت أ على يمين ب، وكانت ب على يمين ج، وكانت ج على يمين د، إذن ﻓ د على يسار أ» فإذا كانت أ، ب، ج، د أفرادًا جزئية فقد تكون هذه القضية باطلة، فهي باطلة — مثلًا — إذا كانت أ، ب، ج، د أشخاصًا أو مقاعد وضعت حول نضد؛ أما إذا فهمنا القضية على أنها تعني «على فرض أن ثمة ترتيبًا في خط مستقيم، إذن فالعلاقات هي من القبيل الذي يجعل أي شيء مرموز له ب د على يسار أي شيء نرمز له ب أ» فالقضية عندئذٍ تصبح في حقيقتها تعريفًا لصورة معينة من العلاقة المكانية، وبالتالي فهي تصبح ضرورية الصدق، لأن أ، ب، ج، د عندئذٍ لا تشير إلى أفراد جزئية، بل تشير إلى معانٍ مجردة.

الأهمية الخاصة لهذا الفصل بالنسبة إلى النظرية المنطقية، هي أننا قد بينا أن الصور المختلفة للقضايا إنما تشير إلى مراحل في طريق السير بالبحث؛ على حين أن النظرية السائدة اليوم تميل إلى النظر إلى الصور المختلفة للقضايا على أنها هكذا توجد، وكل ما على النظرية أن تفعله إزاءها هو أن تضع على كل صورة منها بطاقة تحمل اسمها: جزئية، عامة، شرطية … إلخ؛ أما إذا نظرنا إليها من جوانبها الأدائية — كما قد نظر إليها في هذا الفصل (وخلال هذا الكتاب كله) — فعندئذٍ يظهر في جلاء أن القضايا التي نشير بها إلى جزئيات، إنما تؤدي مهمتها من حيث هي أدوات نتوسل بها لنقرر المشكلة المتضمنة في موقف غير متعين، على حين تمثل الصور الأخرى التي ذكرناها، مراحلَ نجتازها لبلوغ الوسائل المنطقية التي تؤدي بنا إلى حل المشكلة؛ فلا يمكن للقضايا أن تكون أعضاء من نسق منطقي متماسك الأجزاء، إلا إذا كان بعضها متصلًا ببعض اتصالًا يجعلها جوانب لتقسيم العمل بينها في السير بالبحث إلى غايته؛ أما إذا حذفنا المهمة التي يؤديها كل منها، بحيث يسهم كل منها بمهمته في إقامة الحكم النهائي، أقول إننا إذا حذفنا ذلك من تفسيرنا النظري للقضايا، كان الحاصل أن يظهر لنا الموقف وكأنما هنالك عدد من صور القضايا، كل منها يقوم بذاته ويستقل بنفسه؛ وثمة نقطة أخيرة نذكرها، وهي أننا وإن كنا لم نبسط نتائج هذا الفصل فيما يتعلق بالجانب العلاقي الكائن في القضايا كافة، لنستعين بها على تأييد مذهبنا بأن كل صور القضايا إن هي إلا وسائل نتذرع بها للوصول إلى حكم (والحكم وحده هو الذي تكون له صورة الموضوع والمحمول)؛ إلا أن النتائج التي انتهينا إليها في هذا الفصل هي نفسها النتائج التي كنا لنتوقعها على أساس النظرية العامة التي بسطناها عن القضايا والحكم.

١  سبق الحديث في مواضع متفرقة من الفصول السابقة عن هذه الأنواع المختلفة من القضايا؛ فالقضية المفردة هي التي موضوعها فرد واحد؛ والقضية الجمع هي التي موضوعها مجموعة من أفراد، لا تتسع بحيث تشمل كل أفراد النوع؛ والقضية الجامعة هي التي تتحدث عن نوع بأسره كما قد شاهدنا خصائص أفراده؛ والقضية الكلية هي التي لا يقصد بها التحدث عن كائنات الوجود الخارجي مباشرة، بل هي قضية شرطية في حقيقتها، تعلق فكرة على فكرة، حتى وإن لم تكن الفكرتان متقابلتين لأشياء خارجية، كأن تقول مثلًا: «كل شكل مستوٍ محوط بثلاثة خطوط مستقيمة فزواياه تساوي قائمتين» فهذا بمثابة أن نقول: «إذا كان هنالك شكل مستوٍ … إلخ، إذن فزواياه تساوي … إلخ» وهو قول يصدق بالضرورة صدقًا عقليًّا، لأنه عبارة عن تحليل فكرة المثلث إلى عنصرَيها، حتى ولو لم يكن في العالم الخارجي مثلث واحد.
ز. ن. م
٢  نذكر القارئ بالأساس الذي بنى عليه أرسطو منطقه، وهو أن وحدة الفكر — أي القضية — قوامها «موضوع» و«محمول» وما بينهما من رابطة تصل بينهما؛ وقد لاحظ رجال المنطق حديثًا خطأ هذا التحليل، كما لاحظوا أن ما قد أدى إلى الوقوع فيه، هو الخلط بين الطريقة النحوية في تركيب الجملة، والطريقة المنطقية في تركيبها، إذ ظن أن التركيب النحوي دال على التركيب المنطقي؛ فإذا كانت الجملة عند النحو مؤلفة من مبتدأ وخبر، أو من مسند ومسند إليه، فكذلك هي تتألف من الناحية المنطقية من موضوع — وهو ما يسميه النحو بالمبتدأ أو بالمسند إليه — ومحمول، وهو ما يسميه النحو بالخبر أو بالمسند؛ وكان لهذا الخلط بين النحو والمنطق نتائج خطيرة في الفلسفة، من أهمها توهم الفلاسفة بأن كل موضوع في قضية منطقية لا بد أن يكون حقيقة قائمة في الوجود الكوني، وإلا لما صح أن ننسب إليه الصفات التي يدل عليها المحمول؛ حتى الكائنات المستحيلة، مثل «المربع الدائري» — في رأيهم — لا بد أن تكون ذات وجود حقيقي في العالم، وإلا لما أمكن فهم عبارة تكون هذه الكلمة موضوعها، مثل «المربع الدائري مستحيل» أما الذي أصفه بالاستحالة — هكذا يقولون — إذا لم يكن هناك الكائن الذي أصفه بهذه الصفة؟ وواضح أن هنالك موضوعات كثيرة جدًّا مما يرد في القضايا المنطقية، لا وجود لها في العالم المحسوس، وإذن فلا بد أن يفرض لها هؤلاء الفلاسفة عوالم أخرى غير عالم الحس؛ وهنالك نتائج أخرى كثيرة تترتب على الغلطة الرئيسية التي نخلط بها بين ما هو مقبول عند النحو وما هو مقبول عند المنطق؛ وهي غلطة أساسها الفرض الذي جعله أرسطو أساسًا لمنطقه كما ذكرنا.
ولكننا نعجب إذ نرى المؤلف يتهم الوضعية المنطقية بالوقوع في هذا الخطأ نفسه، في الوقت الذي ينتهي التحليل بهذه الوضعية إلى إنكار القضية الحملية إطلاقًا، وردها إلى قضية دالة على علاقات بين أطراف، وليس هذا هو مجال القول المفصل في ذلك.
ز. ن. م
٣  ليس المفروض أن أستوعب بهذه الملاحظات موضوع العلاقة بين الصورة والمادة من أوله إلى آخره، فسأتناول هذا الموضوع فيما بعد بتفصيل أوسع.
٤  سننظر فيما بعد في أثر هذا التمييز على فكرة الماصدق – انظر الفصل الثامن عشر.
٥  نقلنا الزوج الأول على ترتيبه كما هو في الأصل، والواضح أن القضية الثانية منه كان ينبغي أن تكون هي الأولى، لكي يصدق هذا التعليق.
ز. ن. م
٦  انظر الفصل العاشر. وانظر كذلك فيما يلي مناقشتنا لعمليتي الاتصال والانفصال، في الفصل الثامن عشر.
٧  إنه ليس من العسير — مع ذلك — أن نبين بأن المؤلفات التي يعترف فيها أصحابها بهذا الازدواج في المعنى، ويقررونه في عبارة صريحة، تميل رغم ذلك نحو أن تنقل نوع التعميم الذي يميز الموضوع في حالة القضايا اللاوجودية. إلى الموضوع في حالة التعميمات الوجودية؛ وفي هذه الحالة تراهم ينظرون إلى درجات الاحتمال التي تتسم بها هذه التعميمات، نظرتهم إلى التقصير دون الوصول إلى المنزلة المنطقية بمعناها الصحيح؛ إذ إن الصورة المنطقية الصحيحة عندهم تعرف على أساس تلك الضرورة التي هي خصيصة يتسم بها التفكير العقلي، أو تتسم بها المدركات العقلية في اتصالاتها بعضها ببعض؛ ومن هنا كان الاستقراء عندهم فضيحة منطقية، لأنه ضروري من الناحية العملية، وغير مشروع من الناحية النظرية.
٨  أخذنا أولى هاتين القضيتين من Joseph في كتابه «تمهيد للمنطق»، ص١٨٥.
٩  إن اختلاف هاتين القضيتين في الصورة المنطقية عن قضايا «إذا – إذن» الكلية، يشير إلى ضرورة إيجاد رموز مختلفة حين نستخدم الرموز في حالتها الصورية؛ فقولنا: «إذا كانت أ كانت إذن ب» لا يدل على شيء إطلاقًا في هذا الصدد.
١٠  من بين ما تؤديه لنا هذه الصياغة، أنها تقينا من فكرة شائعة وهي أن علاقة المقدم بالتالي هي علاقة لزوم، مع أن اللزوم يكون بين القضايا، ولا يكون بين المقومات؛ فالعلاقة الضرورية القائمة بين «المقدم» و«التالي» في القضية الشرطية الكلية، هي تعبير عن حقيقة أن هنالك معنًى واحدًا فقط منبثًا في شطري القضية، وهذان الشطران اللذان هما مقوما القضية هما «المقدم» و«التالي»؛ فإذا كان «أخذنا» للشطرين معًا على أنهما فكرة واحدة صوابًا كانت العلاقة بينهما (بداهة أو تحصيلًا للحاصل) علاقة ضرورية.
١١  تكوين البدائل التي تكون أضدادًا — كما في المثل السابق — مطلوب لكي نوجه به المشاهدات التي من شأنها أن تخلق لنا حالات النفي أو الحذف، إذ إننا لو أهملنا القضايا السالبة، تعرضت القضية النهائية إلى مغالطة إثبات المقدم تبعًا لإثبات التالي؛ ومن شأن التدليل العقلي، على شرط أن يسير في خطوات نقول في كل منها: إما … أو … أن يوضح، بل لا بد له أن يوضح الأفكار الداخلة فيه؛ لكن المشاهدة المنظمة وحدها للحالات التي يوجه فيها اللوم، هي التي تقرر أي القضيتين المجردتين المتضادتين في قولنا عنهما إما هذه أو تلك، يمكن تحويلها إلى قضية صادقة.
١٢  Joseph في كتابه السابق الذكر، ص١٨٥.
١٣  لا أظن أن بي حاجة إلى أن أذكِّر بأن ثمة ازدواجًا في معنى كلمتي «عقلي» و«نظري» وهو ازدواج يقابل الازدواج في معنى كلمة «تجريبي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤