الفصل السابع عشر

العمليات والقوانين الصورية

بناءً على المذهب الذي بحثنا تفصيلاته في الفصول السابقة، كل حد (أي كل معنًى) يكون هو ما هو بفضل عضويته في قضية (أي علاقته بحد آخر)؛ وكل قضية تكون بدورها هي ما هي بفضل عضويتها إما في مجموعة القضايا التي ندعم بها استدلالًا (خاصًّا بالأشياء الخارجية) أو في سلسلة القضايا التي تؤلف تفكيرًا نظريًّا؛ ويلزم عن هذه الوجهة من النظر أن يتحدد المضمون والقوة المنطقيان للحدود وللقضايا — آخر الأمر — على أساس موضعها من مجموعة القضايا التي نجدها إما في حالة الاستدلال الخارجي أو في حالة التفكير الداخلي؛ وعلى ذلك فالترتيب هو المقولة المنطقية الأساسية، التي بها نحدد معنى الحدود تحديدًا مباشرًا في القضايا، وغير مباشر في مجموعات القضايا وسلاسلها.

(١) العلاقات الصورية بين الحدود

تعرف القواعد الأساسية لترتيب الحدود ترتيبًا منطقيًّا — اصطلاحًا — بهذه الأسماء: التعدي، والتماثل والارتباط، واقتران هذه العلاقات بعضها ببعض تنشأ عنه حالة هامة يطلق عليها اسم الترابط؛ وأما إذا لم تستوفِ الحدود الشروط المنطقية المطلوبة الخاصة بالترتيب، فإنها تصبح لا متعدية ولا تماثلية؛ فإن كانت جائزة التعدي وجائزة التماثل،١ كانت بذلك في منزلة ما لم يتحدد بعد، وبالتالي فهو مشكل؛ وسنرجئ القول في تسويغ ما قلناه هنا عن اللاتعدي واللاتماثل إلى مناقشة تجيء فيما بعد؛ وأما ما قلناه عن جواز التعدي وعن جواز التماثل فهو واضح بالبداهة، لأن هاتين العلاقتين — بحكم تعريفهما — تربطان حدودًا يجوز لها أن تكون من هذا النمط أو ذلك، ومن ثَم فهي مزدوجة المعنى من حيث صورتها المنطقية.

إنك لترى هذه القائمة — التي ذكرناها لتونا — قائمة الأنماط المختلفة للعلاقات التي تربط الحدود بغيرها من الحدود في المؤلفات المنطقية الحديثة كافة؛ ومع ذلك فالتفسير النظري الذي يفسرونها به عادة، جد مختلف عن التفسير الذي نعرضه ها هنا؛ ذلك أن الطريقة السائدة في معالجتها، طريقة يزعمون بها أن الحدود ترتبط بهذه العلاقات في ذاتها وبذاتها، بحكم طبيعتها المتأصلة في مضموناتها الذاتية؛ فإذا كان أصحاب هذا الزعم لا يبسطونه دائمًا في عبارة صريحة، فهو مضمر في إخفاقهم في تأويل الحدود على أساس قوتها الأدائية التي تستوفي بها ما يشترطه المنطق من ترتيب لها، وهي شروط تفرضها مقتضيات سلامة الاستدلال الخارجي والتفكير الداخلي على السواء، وإذا وضعنا هذا المعنى في عبارة موجبة، قلنا إن الموقف المذهبي الذي نعرضه هنا، يتطلب أن تفسر العلاقات الصورية التي تربط الحدود، على أنها شروط يتحتم على الحدود أن تستوفيها في أي بحث من شأنه أن ينتج نتائج جائزة القبول، لا أن تفسر على أنها كامنة في طبائع تلك الحدود نفسها.

ولست بحاجة إلى أن تذهب بعيدًا لتجد العلة في أن العلاقات المذكورة، توضح عادةً بحدود منعزلة بعضها عن بعض؛ فحدود كثيرة قد تحدد استعمالها خلال البحوث السابقة، تحديدًا جعل في مستطاعنا الآن أن نقبل معانيها العلاقية أمورًا مسلَّمًا بها، فنعالج تلك المعاني وكأنما هي تنتمي إلى الحدود التي تعنيها، بغض النظر عن منزلة تلك الحدود وقوتها في تسيير البحث المتصل؛ وإن هذا ليصدق في حالة الحدود الرياضية صدقًا يستوقف النظر، وهو كذلك يصدق في حالة الحدود التي من قبيل «والد فلان» و«زوجة فلان» و«زوج فلانة» وما إليها، لأن معاني هذه الحدود قد استقر الآن بأوضاعها في نسق من التصورات، ذي ترتيب (أو سياق) خاص؛ وهو نسق نألفه إلفًا يجعلنا نأخذه بادئ ذي بدء مأخذ التسليم، ثم نتجاهل وجوده تجاهلًا كاملًا يحملنا على إنكاره آخر الأمر؛ مع أنه يُقال إن ثمة قبائل أسترالية ليس لديها فكرة التناسل، ولذلك ففكرة «والد فلان» توشك ألا يكون لها وجود عندها؛ وهنالك قبائل كثيرة تفهم من عبارة «والد فلان» نفس العلاقة التي نعبر عنها نحن في نظامنا بقولنا «عم فلان»؛ فحقائق كهذه تشير إلى نسبية هذه الحدود التي تفهم بالقياس إلى نسق من معانٍ متصل بعضها ببعض، سواء كانت تلك المعاني بيولوجية أم قانونية أم كليهما معًا.

وقبل أن نتناول صور العلاقات المختلفة كلًّا على حدة، يحسن بنا — التماسًا لاجتذاب الخلط المذهبي — أن نعود إلى التفرقة المنطقية الأساسية بين الحدود ذوات المضمون الوجودي، والحدود ذوات المضمون اللاوجودي؛ فكلمتا «علاقة» و«متعلق» متعددتا المعاني إلى درجة كبيرة؛ فهنالك حدود متضايفة لكن معانيها ليست مستغرقة في العلاقة التي تختص بها تلك الحدود؛ فلفظ «والد فلان» حد متضايف بغير شك، لأن معناه متوقف على ارتباطه بحد آخر، وهو «نسل فلان»؛ ويصدق هذا نفسه على حدود مثل قصير، وصغير، وغني، وقريب، وتالٍ، وبين … إلخ، بل إنه ليصدق على الحدود الوجودية كافة التي أعدت لكي تؤدي مهمة ما في الإجراءات الاستدلالية؛ لكن الفرد الذي هو والد فلان، له سمات تفيض عن كونه والدًا، وهي — علاوة على ذلك — سمات لا بد من وجودها مستقلة عن «العلاقة» المذكورة، وسابقة عليها؛ فأي فرد يدخل في النوع «والدون» — مثلًا — يتحتم أن تكون له هذه السمات القائمة بذاتها: أن يكون حيوانًا، ذكرًا، له قدرة جنسية … إلخ؛ وكذلك قل عما نصفه بأنه قصير، أو صغير، أو قريب … إلخ، إذ يكون له وجود مستقل عن مضمون هذه الحدود المتضايفة؛ أما الحدود المجردة مثل أبوة؛ وطول، ومقدار كمي، وقرب، وتُلُوٌّ، فهي حدود علاقية خالصة، لا يدخل فيها من السمات ما ليس متضمنًا في معنى العلاقة؛ وخلوصها بالعلاقة على هذا النحو هو الذي يجعلها حدودًا مجردة وكلية؛ ويصدق هذا نفسه على الكلمات التي هي أدوات وصل خالصة، مثل أدوات العطف، وحروف الجر، وبصفة عامةً ما يطلق عليه النحويون الصينيون بحق «الكلمات الفارغة»؛ وكذلك يصدق بصورة تستوقف النظر على كافة الحدود الرياضية من حيث هي كذلك؛ فلكي نجتنب الخلط الكامن في طبيعة كلمتَيْ «متضايف» و«متعلق»، سأستعمل هنا كلمة «المتضايفات» لتدل على الحدود الوجودية التي لها كثرة من روابط مع كثرة من أشياء غير ما هو مخصص لمعنى حد متعلق معين، فالوالد يكون بالإضافة إلى هذه الصفة المعينة — مثلًا — مواطنًا، ومؤيدًا للحزب الجمهوري، وتابعًا للكنيسة المنهجية (مثودست) ومزارعًا … إلخ؛ وهي كلها كلمات تدل على علاقات مستقلة منطقيًّا عن العلاقة التي تدل عليها كلمة «والد»؛ وسأستعمل كلمة «علاقي» — من جهة أخرى — لتدل على الحدود المجردة التي تستغرق بحدودها كل معناها.٢

(١-١) التعدي واللاتعدي

إنه لكي يكون الاستدلال مدعمًا في انتقاله من مجموعة سمات إلى مجموعة أخرى، أو من نوع إلى آخر، ولكي تكون القضايا في التفكير العقلي مرتبة على النحو الذي يجعل التالية لازمة عن سابقتها، وجب أن يجيء ترتيب الحدود المستخدمة في ذلك الاستدلال أو في هذا التفكير العقلي، بحيث تكون العلاقة القائمة بينها هي العلاقة المعروفة باسم التعدي؛ فخذ مثلًا حدودًا كهذه: «أكبر سنًّا من» (أو أعظم أو ألمع … إلخ) أو أية صفة أخرى مما يعبر عنه في اللغة بأفعل التفضيل؛ فإذا كانت «أ» أكثر (أو أقل) في أية سمة معلومة من «ب»، و«ب» ترتبط بنفس العلاقة ﺑ «ج» و«ج» ﺑ «د» وهكذا؛ إذن ﻓ «أ» ترتبط بالعلاقة نفسها بآخر حد من السلسلة، مهما يكن من أمر هذا الحد الأخير؛ وهكذا تستوفي الحدود شروط التعدي؛ وحيثما تقام الحدود على نحو يحقق هذه الصورة من صور الترتيب، جاز لنا أن نتخطى الحدود الوسطى؛ وإننا لنجد هذه العلاقة نفسها كذلك في الحدود التي ترتب على صورة تسلسلية باستعمال كلمة «بعد» أو كلمة «قبل» بالمعنى المكاني والمعنى الزماني معًا لهاتين الكلمتين؛ ونستطيع أن نوضح فيما يلي أهمية الترتيبات التسلسلية المعدة مقدمًا في حالة العلاقات التي تعبر عنها حدودٌ تحمل معنى المقارنة، وحدودٌ تدل على التجاور في المكان أو في الزمان، مضافًا إليها حاجتنا إلى مبدأ يعمل على عمل المنهج أو القاعدة في تقريرنا لأمثال الحدود المذكورة: إنه لمن الممكن نظريًّا أن نقتطع من مجموعة أشخاص ازدحمت كما اتفق، عددًا من أفرادها بحيث نستطيع أن نرتب هؤلاء الأفراد حسب أعمارهم من أكبرهم سنًّا إلى أصغرهم سنًّا؛ وعندئذٍ تتحقق عملية التعدي التي نعبر عنها بعبارة «أكبر سنًّا من»؛ غير أننا لن نفيد من هذه العملية شيئًا، إذ لن يكون في مقدورنا أن نستدل شيئًا يتصل بأية سمة أخرى مما يتسم به الأفراد الذين رتبناهم هذا الترتيب؛ وشبيه بهذا أن تأخذ صفًّا من الكتب الموضوعة كما اتفق على رف، فكل كتاب منها بعد الكتاب الأول، هو «بعد» الكتاب السابق عليه في الترتيب، بحيث يجيء آخر كتاب على الرف بعد سائر الكتب جميعًا؛ غير أن شيئًا لا يلزم عن قولنا هذا؛ لكننا — من جهة أخرى — لو رتبنا أفراد الناس المؤمن عليهم في إحدى شركات التأمين على الحياة، على أساس أطوال أعمارهم، بحيث يكون الفرد المعين في الترتيب «أكبر سنًّا من» تاليه، وجدنا أن ترتيبًا كهذا يستلزم نتيجة ما؛ كأن يمكن استدلال مدى المجازفة المحتملة من جانب الشركة، ومن ثَم نقرر مقدار الأقساط التي يدفعها هذا أو ذلك من الأشخاص حسب أوضاعهم المختلفة من سلسلة الأعمار.

وخذ حالة نقول فيها «بعد» بمعناها الزمني؛ ففي اللحظة التي أكتب فيها الآن، يأتيني صوت سيارة بعد صوت تحدثه آلة كاتبة، ثم يأتي بعد ذلك صوت حفيف أوراق، ثم بعد ذلك صوت إنسان؛ وإذن فآخر صوت يأتي «بعد» صوت الآلة الكاتبة؛ وواضح أن المغزى المنطقي لعلاقة التعدي لا يتحقق بهذا التتابع، فهو تتابع مفتعل وتافه؛ ومن أهم مسائل البحث العلمي أن يفرق الحالات التي يكون بينها مجرد تتابع، من الحالات التي يكون فيها تلاحق سببيٌّ؛ فقد تحدد لنا المشاهدةُ المكررة ترتيبًا تتابعيًّا، لكننا لو بنينا عليه استدلالًا، وقعنا في المغالطة التي يسمونها «حدث بعد سابقه وإذن فهو يلزم عن سابقه»، اللهم إلا إذا كان لدينا مبدأ — نصوغه صياغة قضية كلية — نعلل به لماذا جاء التتابع على نحو ما جاء، حين نطبق ذلك المبدأ تطبيقًا عمليًّا؛ فهذه الأمثلة التوضيحية تزودنا بالشهادة المقنعة الدالة على الضرورة المنطقية التي تحتم علينا أن نفسر علاقة التعدي تفسيرًا يجعلها شرطًا لا بد من استيفائه في مُتصل البحث، بدل أن نفسرها بأنها خاصة علاقية تصادف لها أن تتعلق ببعض الحدود.

وكذلك تتضح علاقة التعدي في الحدود الدالة على أنواع، في حالة واحدة فقط، في حين يتحدد نوع يحتوي على أنواع، أو شامل لأنواع فرعية، حين يتحدد ذلك النوع بالنسبة إلى الأنواع المشمولة فيه، تحديدًا يجيء على ترتيب المتوالية؛ ولنأخذ لهذا مثلًا بسيطًا: حين كانت الحيتان مقررًا لها أن تكون ثدييات، والثدييات أن تكون فقريات، كان هنالك علاقة ثابتة تتعدى من الحيتان إلى الفقريات؛ ومثل هذا الانتقال لا يجوز منطقيًّا إلا إذا كانت الصفات المقترنة التي تصف كل نوع، قد تحددت من قبل تحديدًا جامعًا مانعًا خلال عمليات الإثبات والنفي؛ وليس منا من لا يعلم أن البحث الطبيعي العلمي مختص بتمييز الأنواع المتعلق بعضها ببعض؛ غير أن هذه العناية الخاصة ليست مرحلة ختامية في ذاتها، بل تستهدف غرضًا، هو أن تنشئ حدودًا تحقق شروط التعدي، حتى ليصبح في مستطاعنا أن نقدم الاستدلال العلمي إلى الأمام وأن نضبط طريق سيره.

لقد انصرفنا بعنايتنا حتى الآن إلى التعدي حين يتناول الحدود — مفردة أو عامة — التي تشير إلى الوجود الخارجي؛ لكنه قد تبين لنا أثناء المناقشة شيء آخر، وهو أن الحدود المرتبة ترتيبًا تسلسليًّا بوساطة مبدأ عام، هي وحدها التي يمكن أن ترتبط حقًّا بهذه العلاقة المذكورة؛ وهذا المبدأ يكون بمثابة قاعدة للترتيب، ونعبر عنه بقضية كلية؛ وهذه القضية الكلية لا بد بدورها أن تكون عضوًا من سلسلة قضايا ترد في تفكير عقلي منظم؛ والأمثلة النموذجية للحدود اللاوجودية المنشأة لكي تضمن التعدي في خطوات التفكير العقلي، هي الحدود الرياضية؛ فهي حدود علاقية بالمعنى الدقيق، وليست هي مجرد حدود متضايفة؛ وإنما تختلف الحدود العلاقية المجردة «أبوة» و«بنوة» و«عمومة» و«علاقة أبناء الأخ بعمومتهم» … إلخ عن الحدود المتضايفة: «أب وابن؛ عم وابن أخيه» في أن الأولى تدل على علاقات مستقلة عن الحدود المتعلقة بها؛ فأنت لا تستطيع أن تستدل من الحد المتعلق «والد» حدًّا متعلقًا مثل «حفيد» أو «ابن أخ» إذ إن نسل الوالد المذكور قد لا يكون هو نفسه ذا نسل، وقد لا يكون له إخوة، وحتى إن كان له إخوة فقد لا يكون لهؤلاء الإخوة أبناء؛ وإذن فالعلاقة هنا غير متعدية؛ لكن الأبوة والجدودة والأخوة والعمومة وبني العمومة … إلخ تؤلف نسقًا من علاقات من شأنه أن يجعل كل حد منها متصلًا بكل حد آخر بعلاقة متعدية.

وفي الفقرة السالفة ما يوضح طبيعة اللاتعدي؛ والحدود التي تتمثل فيها هذه العلاقة تؤلف — كما هي قائمة — ما عساه أن يكون مثارًا لمشكلة؛ إذ إنها توحي أو تشير إلى حاجتنا إلى إجراءات عملية من شأنها أن تحولها إلى حدود تتحقق فيها مقتضيات التعدي؛ فهي تشير — من جهة — إلى نقص البحث في حالة بعينها، ومن جهة أخرى، إلى الإجراءات العملية التي يمكن بها أن ترتب الحدود المذكورة ترتيبًا يجعل معانيها مما يمكن سياقه في ترتيب معلوم؛ فكل الحدود الدالة على أفعال معينة وتغيرات جزئية هي من الناحية المنطقية حدود غير متعدية، فخذ مثلًا معنى «أ» ومعنى «ب» باعتبارهما معنيين متعلقين أحدهما بالآخر في القضية القائلة: «أ قتل ب» حين نعني بكلمة «قتل» فعلًا أداه شخص مفرد في مكان معين وزمان معين، فأحدث تغيرًا في شيء آخر؛ نجد أن كل قضية جزئية الموضوع (بالمعنى المنطقي لكلمة «جزئي») هي من هذا القبيل؛ وكل قضية من هذا القبيل تعبر عن مشكلة أو تعبر عن جانب خاص لا بد منه لتحديد جوانب مشكلة.٣

ومن ثَم لم تكن حدودٌ كهذه غير متعدية بسبب ناحية خاصة في طبيعتها الذاتية، فينشأ لها اللاتعدي من تلقاء نفسه؛ بل هي غير متعدية لسبب واحد فقط، وهو أنها على صورتها التي هي قائمة بها، لا تكون مرتبة بالنسبة إلى تحديد علاقة معينة زمانية أو مكانية، ولا إلى تحديد علاقة معينة بين أنواع، تحديدًا يجيز لنا أن نحصل على نتائج استدلالية؛ ففعل القتل إذا ما تحدد تحديدًا يرتبه في سلسلة من أنواع متدرجة، كما هو محدد في النظام القضائي، فيكون القتل إما حادثًا عرضيًّا، أو قتلًا للدفاع عن النفس، أو اغتيالًا على تفاوت الدرجة في أنواع الاغتيال، فهو عندئذٍ يكتسب معنًى تتحقق فيه شروط التعدي، وعندئذٍ أيضًا يكون في وسعنا أن نستدل استدلالًا قائمة على أساس سليم، إذ نستدل من السمات ما لم يكن قد وقع لنا في مجال المشاهدة، كما نستدل من النتائج ما عساه أن يقع وقوعًا فعليًّا في الوجود الخارجي؛ وإنما يتم لنا هذا التحول — كما قد بينا فيما سبق — بأن نستيقن من وجود سمات مما يترتب على ضروب معلومة من التفاعل، ثم نستخدم هذه السمات — بدل استخدامنا لصفات نشاهدها مشاهدة مباشرة — أساسًا لاستدلالنا؛ وذلك لأن الضرب من ضروب التفاعل أمر عام، على حين أن تغيرًا معينًا لا يكون كذلك، ولذلك فالتغير المعين لا يزودنا بأساس الانتقال من حالة إلى حالة (كالذي يحدث في حالة قيام علاقة التعدي)، على حين أن نوعًا ما من أنواع التغير، مما يكون ضربًا معينًا مندرجًا تحت ضرب أشمل منه من ضروب التفاعل، تتمثل فيه العلاقة المرتبة التي هي شرط ضروري لقيام علاقة التعدي؛ والذي يقابل هذا الشرط في مجال البحث العلمي، هو ما يقتضيه البحث العلمي من ضرورة تحديد الباحث لكل تغير معين تحديدًا يجعل ذلك التغير أحد المقومات في مجموعة معينة من تغيرات بينها ارتباط.

(١-٢) التماثل واللاتماثل

تنتسب الحدود بعضها إلى بعض نسبة تماثلية حين يكون بين أحد الطرفين المتعلقين بهذه العلاقة وبين الطرف الآخر، نفس الصلة التي تكون بين هذا الطرف الآخر وبينه؛ فالعلاقة بين «الشركاء» — مثلًا — علاقة تماثلية؛ فإذا كان «أ» شريكًا ﻟ «ب» كان «ب» شريكًا كذلك ﻟ «أ»؛ وكلمة «زوج» حد نطبقه على كائنات يكون كل منها منسوبًا إلى الطرف الآخر بعلاقة تماثلية؛ وأما بالنسبة إلى سائر الازدواجات، فالعلاقة بينها تكون تماثلًا عكسيًّا؛ فعلاقة «الزوج بزوجته» في ذاتها لا تماثلية، لكن العلاقة بين الحدين هي علاقة التماثيل العكسي؛ وكلمتا «مورث ووارث» حَدَّان بينهما هذه العلاقة تربط أحدهما بالآخر؛ فعلاقة التماثل العكسي قائمة في كافة الحالات التي تحدث فيها أفعال جزئية وتغيرات جزئية، كما هي قائمة في الأمثلة التي أسلفناها عن اللاتعدي؛ وهي علاقة يعبر عنها النحو بصورتَي الفعل المبني للمعلوم والفعل المبني للمجهول؛ فإذا كان «أ قتل ب» إذن «ب قد قُتِلَ على يدَي أ»؛ وتصدق العلاقة نفسها في حالات الفعل إيجابًا وحالات كون الشيء منفعلًا بفعل ما يتجه نحوه (وإن لم يكن منصبًّا عليه) وهو ما تعبر عنه اللغة بالأفعال اللازمة (غير المتعدية)؛ وأهمية علاقة التماثل من الناحية المنطقية كائنة في اقترانها بعلاقة التعدي؛ والصيغة الآتية تعبر عن هذا الاقتران في صورته النموذجية: «الأشياء التي يساوي كل منها شيئًا معينًا، تكون مساوية بعضها لبعض»؛ ومن اقتران التماثل والتعدي تتألف المعاني التي نقيس إليها صحة استبدالنا لحد بحد آخر في عملية الاستدلال بين الأشياء، وفي عملية الانتقال الاستنباطي في مجرى التفكير النظري؛ وتساوي المقادير الكمية حالةٌ واضحةٌ تمثل الحدود التي يتصل بعضها ببعض بعلاقتي التماثل والتعدي معًا.

ولا يقتصر مجال هذا الاقتران (بين علاقتي التماثل والتعدي) على الكميات التي نكونها بإجراءات عملية لها مدلولها في عالم الأشياء الخارجية؛ فمن يقيس مسطح الأرضية في غرفة معينة قاصدًا إلى تحديد مقدار ما ينبغي شراؤه من بساط، إنما يفعل ما يفعله لينشئ حدودًا تربطها بعضها ببعض علاقتا التماثل والتعدي؛ والمعادلات الجبرية مثلٌ للحدود التي بينها هذه العلاقة المزدوجة في نواحٍ غير المقدار الكمي؛ والدالات في العلوم الطبيعية هي تعميمات تجيز لنا أن نستبدل شيئًا بشيء في الإشارة إلى أمور العالم الخارجي، وذلك لما يتوافر في تلك الدالات من اقتران لعلاقتي التماثل والتعدي معًا؛ واختصارًا فإن أهمية ما نقدمه من معانٍ يرتبط بعضها ببعض بهذه الرابطة المزدوجة، هي أن تلك المعاني تصبح الأساس المنطقي للمقولة المنطقية الأساسية؛ وأعني بها مقولة التساوي؛ وهذا الاعتبار وحده يبرر لنا ألا نطيل وقوفنا عند الحقيقة القائلة بأنه ليس هنالك حد يتصف بهذه العلاقة باعتبارها خاصةً نابعةً من طبيعته الأصيلة إذ إن هذه العلاقة إنما تعبر عن شرط لا بد من تحققه في تكويننا للمعاني التي يجوز لها أن تؤدي عملًا في البحث الموجه.

(١-٣) الارتباط

إنه من أجل تحقيق الغاية من الاستدلال ومن حركة التفكير العقلي المنظم، كان من المهم في مشكلات كثيرة أن تكون العلاقة القائمة بين العناصر المرتبط بعضها ببعض، محددة من حيث نطاقها، أي من حيث مداها ودرجة شمولها؛ وكلمة «الارتباط» هي التي تطلق اصطلاحًا على هذه الصورة من ترتيب المتعلقات؛ ففي النظام التشريعي الذي يأخذ بوحدانية الزوجة للزوج الواحد، تكون العلاقة بين الأزواج من ناحية والزوجات من ناحية أخرى هي علاقة واحد بواحد؛ أما في النظام الذي يأخذ بتعدد الزوجات، فالعلاقة هي علاقة واحد بكثير؛ وفي النظام الذي يأخذ بتعدد الأزواج للزوجة الواحدة، تكون العلاقة هي علاقة كثير بواحد؛ ومن أبسط الأمثلة التي نسوقها للدلالة على قوة مبدأ الارتباط في البحث، حالةٌ يحاكمُ فيها رجلٌ أو امرأةٌ بتهمة الزنا؛ لأن حالةً كهذه توضح كيف أن نوع «الارتباط» الذي تتعلق به مجموعة معينة من الحدود، مشروط بالمدى الذي حدده البحث فيما مضى لمجال معين من مجالات مواد البحث، بحيث تتخذ المادة في مجالها نسقًا معلومًا؛ وإذا كان البحث فيما مضى هو الذي حدد للمادة المعينة مجالها الحاضر، فما ذاك إلا نتيجة لم تكن لتنشأ إلا باستخدامنا لقضايا مجردة كلية، استخدامًا يجعل منها قواعد يسير الإجراء العملي على منوالها؛ ففي المثل المذكور — مثلًا — لا يحدد مغزى علاقة معينة إلا القواعد التشريعية الخاصة بالزواج، فهذه القواعد هي التي تحدد العلاقات تحديدًا يمكننا من استدلال ما نستدله من نتائج.

وعلاقة الصديق بالصديق تماثليةٌ في حالة معلومة أو متعينة، لكنها في الحالات الأخرى تكون علاقة كثير بكثير؛ فلئن كان «أ» و«ب» صديقين بالمعنى الذي يجعل الصداقة متبادلة بينهما، فقد يكون ﻟ «أ» ج، د، ﻫ … من الأصدقاء الآخرين، كما قد يكون ﻟ «ب» ك، ل، م … من الأصدقاء فلسنا نستطيع أن نستدل إذا كانت علاقة الصداقة، أو عدم المبالاة، أو العداوة، هي القائمة بين هذه الحدود الأخرى التي هي أصدقاء «ب» وأصدقاء «أ»؛ غير أنه في الحالات التي نستطيع أن نضرب لها مثلًا قولهم: «إذا أحببتني فأحب كلبي»، تكون علاقة الصديق بالصديق مشروطة على النحو الذي لا يجيز أن يكون «ب» صديقًا ﻟ «أ» ما لم يكن «ب» صديقًا كذلك ﻟ «ج» الذي هو صديق ﻟ «أ»؛ وتتمثل العلاقة التي من هذا الطراز في بعض حالات القربى، وحالات الإخوة الأشقاء، والعلاقات التي بين أعضاء الجمعيات السرية حيث يلتزم كل عضو بالدفاع عن كل عضو آخر وتأييده، بغض النظر عما يكون بينهم من معرفة سابقة؛ فالعلاقة ها هنا ما تزال علاقة كثير بكثير، لكنها مع ذلك تنسق على صورة تجعل علاقة التعدي قائمة بين عناصر النسق التي يكون بينها — لو أخذتْ فرادي — علاقة كثير بكثير؛ وأما إذا لم تتحدد العلاقة بكون العناصر قائمة معًا جنبًا إلى جنب في نسق ما، كانت علاقة كثير بكثير من عدم التحديد بحيث لا تسمح لقيام علاقة التعدي؛ والعلوم الرياضية هي النموذج البارز لنسق تكون فيه الحدود مرتبطًا بعضها ببعض بعلاقة كثير بكثير، ومع ذلك يكون لنا من قواعد الإجراءات العملية التي تحدد لنا النسق، ما يمكننا من إنشاء علاقة واحد بواحد حيثما تنشأ الضرورة لذلك.

(١-٤) الترابط

تستوفي الحدودُ العلاقية شرطَ الترابط إذا كانت الحدود التماثلية في الوقت نفسه متعدية؛ فلقد رأينا أن التساوي هو حالة من حالات التعدي التماثلي، ولذلك فهو يدعم حركة الاستدلال وحركة التفكير النظري في سيرهما إلى الأمام أو إلى الخلف، إذا صح هذا التعبير؛ فلفظة «ترابط» يمكن توسيعها لتشمل حالات كهذه؛ وأما التعدي حين لا يكون تماثليًّا فأمثلته حدود كهذه: «أعظم من»، «أكثر حرارة من» وهو بصفة عامة يتمثل في الكلمات الدالة على المقارنة، حيث تكون العلاقة بين الحدود هي علاقة التماثل العكسي؛ وليس الترابط علاقة بين إحداثيين بقدر ما هو مركب من علاقات، وحالة التعدي هي دائمًا أساسية في شتى ضروب العلاقات المنطقية.

لقد سرنا بالمناقشة على أساس تمايز صور الحدود المتضايفة والحدود العلاقية، التي يألفها الناس؛ إلا أننا قد فسرنا هذه الصور على الأساس المذهبي الذي يذهب إلى أن العلاقات المذكورة تدل إما على (١) شروط صورية يتحتم على الحدود (المعاني) أن تحققها، لكي يتسنى لها أن تعمل في البحث عملها الذي تتولد منه نتائج جائزة القبول، أو على (٢) أنها تحذيرات لنا بأن الشروط المطلوبة لم تتحقق؛ والمثل الذي نوضح به هذه الحالة الثانية هي حالة تكون فيها العلاقة لا تماثلية ولا متعدية، أو تكون فيها العلاقة علاقة كثير بكثير، حيث لا تكون العناصر قد تحدد لها أن تكون عناصر في نسق مرتب؛ وإنه لمن العسير علينا أن نقرأ بعض المؤلفات المنطقية (حتى تلك التي تؤكد ضرورة قيام الصورية الجازمة) دون أن تعرض لنا الفكرة بأن المعاني (الحدود) وإنما تؤخذ كما يتصادف لها أن تَمْثُلَ أمامنا، كل منها بمعزل عن سواها، وبعدئذٍ توضع عليها بطاقات تحدد أنواعها.

(٢) العلاقات الصورية بين القضايا

قد سبق لنا أن لاحظنا أن (١) الحدود لا تكون — منطقيًّا — متعلقة بعضها ببعض في قضية، إلا إذا كانت القضية نفسها، التي تكون الحدود التي نعنيها هي مقدماتها المتعلق بعضها ببعض، متصلةً بغيرها من القضايا صلةً ذات ترتيب خاص، وأن (٢) حدودًا معينة لها من القوة العلاقية الخالصة ما يجعل معناها كله يستنفدُ في قيامها بمهمة الصلة العلاقية التي تربط حدودًا أخرى بعضها ببعض؛ والحدود التي من هذا القبيل المذكور هي تلك الكلمات التي تعد عند النحو أدوات للوصل، مثل «و» و«أو» و«الذي»، و«لا شيء إلا …» وهذه الحدود التي هي حدود علاقية بالمعنى الدقيق، وإن تكن تظهر في قضايا، إلا أن قوتها ومهمتها المنطقيتين في قضية ما — مأخوذةً هذه القضية في حد ذاتها — أمران متصلان بمهمة تلك القضية من حيث هي عضو في مجموعة قضايا، أو عضو في سلسلة من قضايا، متعلق بعضها ببعض، وهذه هي الخاصة المنطقية التي يعبرون عنها في المنطق المعاصر بأن يطلقوا على القضايا التي تردُ فيها تلك الكلمات الواصلة بالقضايا «المركبة»؛٤ وبعبارة أخرى فإن الأدوات الواصلة تمثل استيفاء الشروط المنطقية التي لا بد من توافرها لتصبح أية قضية معينة عضوًا في مجموعة منظمة أو في سلسلة مرتبة من قضايا.

ولقد بينا في الفصل العاشر أن المقارنة والمباينة هي الوسيلة التي نستعين بها على تحديد المضمونات تحديدًا يربطها بعضها ببعض تلك الرابطة التي تجعل منها قضية؛ كما بينا كذلك أن المقارنة والمباينة لا يمكن أن تعرفا إلا بلغة نستخدم فيها ألفاظًا تدل على إنشاء قضايا موجبة وقضايا سالبة يكون بينها صلة متبادلة، وهي القضايا التي نسوق فيها نتائج العمليات التي نؤديها لجمع أعضاء النوع معًا، ومنع ما ليس من أعضاء النوع من الدخول فيه؛ وإن هذه العمليات — من حيث مداها وضرورتها — في مسايرتها بعضها لبعض مسايرة دقيقة، لتتصف بالصفة التي توجب على القضايا المتعلقة منطقيًّا بعضها ببعض (في مجموعات وسلاسل) أن تحقق الشروط الصورية، وهي قيام علاقة متبادلة بين عمليات جمع أعضاء النوع، ومنع ما ليس من أعضاء النوع، أعني أنها توجب على تلك القضايا أن يتصل بعضها ببعض صلة تعطف قضية على قضية، أو تفصل قضية عن قضية؛ والحدود العلاقية الصرف، وهي «و» و«أو» و«الذي» و«لا شيء إلا …» مضافًا إليها حدود علاقية صورية أخرى، مثل «إذا» و«إذن» و«إما هذا أو ذاك لكن ليس كلاهما معًا» و«شيء ما» و«يكون» و«لا يكون»، هذه الحدود المذكورة هي الرموز التي نرمز بها إلى عمليات الوصل والفصل، التي تجعل قضية ما معدة من الوجهة الصورية لأن تكون عضوًا متعلقًا بغيره من أعضاء مجموعة أو سلسلة من القضايا ذات الترتيب المعين؛ ومع ذلك فليست كل هذه الحدود العلاقية المذكورة متساوية في منزلتها المنطقية، أو متعادلة في قوتها؛ بل إن بعضها ليدل على علاقة تستوفي (أو نفرض فيها أنها تستوفي) عمليات الوصل والفصل، بينما يدل بعضها الآخر على مضمونات لا تزال في سبيلها إلى التحديد الكامل بالنسبة إلى استيفاء تلك العمليات، وأعني بذلك المعاني التي لا تزال قوتها موضع إشكال؛ وكلمة «أي» هي من النمط الأول، وأما أداة التنكير، كقولنا «شيء ما» أو «أحد أفراد النوع الفلاني» (حين لا نقصد بهذه العبارة أن تكون مرادفة لكلمة «أي») فهي من النمط الثاني، وكذلك من النمط الثاني كلمتا «هذا» و«أل» في الحالات التي لا تكون فيها «أل» مرادفة ﻟ «هذا».

وعلى ذلك فيمكن أن نصوغ النتيجة المذهبية التي انتهينا إليها كما يلي: إن مجموعات القضايا وسلاسلها لترتب على النحو الذي يجعلها تقيم بما بينها من تقابل أدائي (أعني العلاقة المتبادلة) نسقًا علميًّا (أعني نسقًا يحقق الشروط الصورية الضرورية) في حالة واحدة فقط، وهي الحالة التي لو أخذنا فيها تلك القضايا وهي فرادى، كانت بدائل متساوية الاحتمال (أي كانت متخارجة بعضها عن بعض)، وإذا أخذناها معًا، كانت متعاطفة ببعضها مع بعض، أو كانت جامعة ومانعة؛ وإننا لنقصد بهذه الصياغة — من جهة — أن نقرر بأن العمليات الأدائية المشار إليها، ليست خصائص نابعة من طبيعة القضايا نفسها، بل هي شروط منطقية لا بد من استيفائها؛ ونقصد من جهة أخرى، أن نقرر بأن تلك العمليات الأدائية هي «مبادئ هادية» بلغت حدًّا بعيدًا من التعميم المنطقي، لأنها تعرض نوع الإجراءات التي تؤدى والتي هي أساسية من الناحية المنطقية.

ولا يبقى أمامنا الآن سوى أن نضيف بعض الفوارق الأخرى، التي أهمها فوارق نرمز إليها بكلمات نستعيرها من الرياضة، ثم نخلع عليها معنًى منطقيًّا، وأعني بها عبارتَي: «إضافة الجمع» و«مضاعفة الضرب»؛٥ فالوصل والفصل عمليتان فيهما إضافة الجمع حين تنطبقان على مادة الوجود الخارجي، سواء كانت تلك المادة مفردًا أو جمعًا، وفيهما مضاعفة الضرب حين تنطبقان على العلاقة المتبادلة بين الأطراف المعنوية التي منها تتكوَّن القضايا المجردة الكلية؛ ويتضح فحوى هذه العبارة بأمثلة موضحة؛ فنحن نرمز إلى الوصل الضام الذي فيه إضافة الجمع، بواو العطف (وكثيرًا ما تكون الشولة معادلة لها من الناحية المنطقية)، ونرمز إلى الوصل المفرق الذي فيه إضافة الجمع أيضًا بكلمة «أو»؛ ففي حالة المفردات، تكوِّن «واو العطف» — من حيث هي أداة وصل فيه إضافة الجمع — مجموعةً، كقولنا: «هذه الفرقة من فرق الجيش مؤلفة من هذا وهذا وذلك من الأشخاص الذين نستطيع إحصاءهم» حتى نأتي على قائمة كاملة بأسمائهم؛ والمثل الآتي يوضح وصل المفردات على الصورة المفرقة من صورتي إضافة الجمع: «أي عضو من أعضاء وزارة الحكومة الاتحادية هو إما وزير الخارجية، أو وزير للخزانة، أو وزير الداخلية، أو …» حتى نستوعب كافة أعضاء المجموعة.

وتختلف القوة المنطقية لكلمتي «و» و«أو» حين تنطبقان على الأنواع، عنها في حالة المفردات التي أسلفناها؛ فمثلًا قضيةٌ كالتي ذكرناها لتونا (الخاصة بالمفردات التي تؤلف مجموعة) تنتفي بإنكارنا لوجود أي فرد من الأفراد الذين أحصيناهم في قائمة المفردات؛ بينما ينتفي تمامها بأن نثبت أن فردًا آخر ينبغي أن يضاف إلى القائمة؛ وأما في حالة الأنواع، فالانتفاء ينصب على علاقة الاقتران في ذاتها؛ فصدق القضية القائلة إن «جيمس، وجون، وروبرت، وهنري، كانوا حاضرين في مناسبة معينة» يتعرض للبطلان إذا ما تبين أن أي واحد من هؤلاء الأربعة كان غائبًا؛ على حين أن القضية الجامعة: «الطيور والخفافيش والفراشات، أنواع فرعية تندرج في نوع واحد يشملها جميعًا» تتعرض للبطلان كلما تبين أن سمة الطيران ليست مجموعة من قسمات مقترنة تكفي لتحديد نوع شامل، وأن الفوارق في ضروب الطيران لا تكفي للتفرقة بين الأنواع الفرعية المشمولة في ذلك النوع الشامل؛ فالانتفاء هنا لا ينصب على الأنواع مأخوذةً وهي فرادى، بل ينصب على علاقة الشامل والمشمول؛ أو بعبارة أدق، إنه ينصب على مجموعة القسمات النشوئية المميزة، التي نقرر بها إن كانت الأنواع شاملة لغيرها أو مشمولة في غيرها.

إن القضية التي نقول بها إن «الطيور والأسماك والزواحف والقردة العليا والإنسان … فقريات» هي قضية اقترانية تجمع أنواعًا بعضها إلى بعض، فهي تنصرف إلى العلاقات الكائنة بين الأنواع الفرعية حين يتألف منها نوع شامل لها؛ وأما هذه القضية حين تتخذ الصورة المفرقة من صورتي الاقتران الجمعي، فهي: «الفقريات هي الطيور أو الأسماك أو الزواحف أو القردة العليا أو الإنسان أو …» ولربما بدا أن الفرق بين الصورتين هو فرق لغوي لا أكثر، وليس هو بالفرق المنطقي؛ وأن الفرق لا يعدو أن يكون ناشئًا عن كوننا في حالة إضافة الجمع التي تضم الأنواع بعضها إلى بعض (وهي الحالة التي تعبر عنها بواو العطف) نذكر الأنواع الفرعية أولًا، على حين أننا في حالة الجمع المنطقي بذكر البدائل (وهي الحالة التي نعبر عنها بكلمة أو) نذكر النوع الشامل أولًا؛ إلا أن بين الصورتين فرقًا منطقيًّا حقيقيًّا؛ فليس في حالة إضافية الجمع التي تضم الأنواع — إذا عزلت عن الصورة الأخرى التي نفرق فيها بين البدائل — ما يضمن لنا استيعاب (أي كفاية) الأنواع المشمولة بالنسبة إلى النوع الشامل، ولا ما يضمن لما فيها صفة عدم تداخل الأنواع بعضها في بعض؛ وأما كلمة «أو» فقوتها المنطقية — متميزةً من صورتها اللفظية — كائنة في استيفاء الشرط الذي يشترط ألا تكون الأنواع الفرعية المعطوفة بعضها على بعض داخل نوعها الشامل، متداخلة، بسبب ما نكون قد ذكرناه من خصائصها التي تفصلها بعضها عن بعض؛ فخذ — مثلًا — هذه القضية: «الطيور والحيتان والثدييات هي فقريات» فما دامت الحيتان والثدييات تعرفان بمجموعة بذاتها من السمات، فإن «واو العطف» هنا لا تحقق عزل أحد النوعين عن الآخر؛ فالقوة المنطقية لكلمة «أو» معناها ضرورة تعيين الأنواع الفرعية التي تحدد تحديدًا وصفيًّا بذكر سماتها التي تبلغ من التمايز حدًّا يجعلها متخارجة بعضها عن بعض، ولو أنها تدخل معًا ضمن مجموعة السمات التي تميز النوع الشامل لها جميعًا؛ فالأنواع المعطوفة بالواو قد تنشئ قضايا صادقة إلى حد معلوم، لكنها لا تكون قضايا شاملة بما فيه الكفاية.

إلى هنا نحن أقرب إلى الزعم منا إلى البيان بأن أداءنا لإضافة الجمع بصورتيها الضامة والمفرقة، لا ينصب إلا على علاقة الحدود داخل القضايا ذوات الإشارة إلى الوجود الخارجي؛ وأبسط الطرق لبيان سلامة موقفنا في هذا الصدد، هو أن ننظر إلى علاقة الأطراف المعنوية التي منها يتألف مضمون قضية كلية لا وجودية: ففي حالة السمات التي تحدد لنا الأنواع — سواء أكانت الأنواع شاملة لغيرها أم مشمولة في غيرها — يتحتم أن تكون السمات المستخدمة مستقلًّا بعضها عن بعض استقلالًا ماديًّا، ولكنها تكون مع ذلك متشابكة بعضها في بعض في اقتران يراكمها، بحيث تتكون منها مجموعة سمات تكفي لتحديد الأنواع تحديدًا جامعًا ومانعًا؛ وأما العلاقة بين الأطراف المعنوية في قضية مجردة، فهي — من جهة أخرى — علاقة متبادلة؛ فالقضية الكلية لا تحقق الشروط المنطقية إلا إذا كان كل طرف معنوي من أطرافها معتمدًا اعتمادًا متبادلًا على سائر الأطراف المعنوية الأخرى الداخلة في تلك القضية؛ وهذه الصورة من صور العلاقات هي التي نطلق عليها كلمة «مضاعفة الضرب» لنصفها بها؛ ذلك لأن اقتران المعاني في هذه الحالة ليس اقترانًا لمضمونات في وسعها أن تستقل بمشاهدات خاصة بها، أو بتحديد خاص بها؛ بل «الاقتران» هنا هو اقتران «طبائع» لا اقتران سمات؛ فضرورة الصدق التي تتميز بها القضايا الكلية — متميزةً بذلك من عرضية القضايا الوجودية — إنها تجيء نتيجة لاقتران أطرافها المعنوية المتعلق بعضها ببعض، اقترانًا فيه صفة التضاعف في عملية الضرب.

فكون الحيوان ثدييًّا — مثلًا — يتقرر باقتران ضَرْبيٍّ لهذه المعاني: حار الدم، وولود، ومرضع للصغار؛ فإذا كانت هذه القضية الكلية صادقة من حيث هي تعريف، كانت (١) مستقلة عن الوجود الفعلي للكائنات المتميزة بما يقابل هذا التعريف من سمات كيفية، مع أنها (٢) تتضمن الفكرة الذاهبة إلى أن هذه الأطراف مرتبط بعضها ببعض ارتباطًا ضروريًّا حتى ليكون كل من هذه الأطراف الثلاثة بغير معنًى في التعريف إذا غضضنا النظر عن تأثيره في الطرفين الآخرين وتأثره بهما؛ وبعبارة أخرى، إذا كان الحيوان حار الدم، إذن هو ولود … إلخ؛ ولكن افرض — مع ذلك — أن القضية التالية قيلت عن علاقة قائمة بين الأنواع: «الثدييات حارة الدم، وهي (أو هي) ولود، وهي (أو هي) مرضعة لصغارها» فالواضح من ظاهر الأمر أن مثل هذه القضية تعريف مُقَنَّع لكون الحيوان ثدييًّا.

والضرب في صورته المفرقة للبدائل، ضروري لنقرر به حالة الكفاية حين نكون إزاء علاقة قائمة بين الأطراف المعنوية (في قضية كلية)، كما هو ضروري في حالة اقتران السمات التي تقيم الحدود بين الأنواع المتعلق بعضها ببعض؛ إذ لا بد من استبعاد المفاهيم المعنوية التي تكون غير ذات صلة بموضوع بحثنا، أو تكون زائدة عن حاجتها، فمثلًا في حالة نظرنا إلى فكرة المثلث، يستبعد المقدار الكمي من التعريف؛ بينما يصبح الشكل خارجًا عن فكرة المثلث، حين نجاوز بها الحدود التي تقررها العلاقات التي تربط مفهوم المثلث القائم الزاوية بمفهوم المثلث المتساوي الأضلاع، وبمفهوم المثلث المختلف الأضلاع؛ ولقد اعتدنا التفكير في مفهوم المثلث بغض النظر عن حجمه، حتى ليبدو حذفه من مفهوم المثلث أمرًا أتفه من أن يستحق منا الذكر؛ لكن قد جاء يوم كان فيه البحث في العلاقات الهندسية معوقًا، لأن الحجم كان يظن عندئذٍ أنه خاصة ضرورية في المثلثات؛ إذ ما دام الإنسان يفرض عند تفكيره في المثلثات، أنها تشير إلى مسميات في الوجود الفعلي، فالحجم يصبح سمة لا تنفصل عن فكرة المثلث؛ أما إذا أخذنا العلاقات القائمة بين معانٍ معينة لنُعَرِّف بها — مثلًا — كون الشيء معدنيًّا، فعندئذٍ لا يمكننا أن نقرر بأننا قد أكملنا كل المعاني المطلوبة، إلا إذا فصلنا تلك المعاني عن معانٍ أخرى تكون العلاقة المتبادلة بينها تعريفًا لكون الشيء داخلًا من الناحية الكيماوية بما يخرج به عن كونه معدنيًّا، وبما يجعله متميزًا من غيره من الأنواع؛ وسأعيد هنا نقطة ذكرتها في مواضع أخرى وهي أنني إذا أثبت أن صفة المثلثية إما أن تكون قائمة الزاوية، أو مختلفة الأضلاع، أو متساوية الساقين، فقد أثبت بذلك (١) أن هذه الصور التي يكون بها الشيء مثلثًا، تستنفد كل الاحتمالات الممكنة للعلاقة التي تربط الأضلاع والزوايا في المثلث، و(٢) أن العلاقات التي تجعل الشيء مثلثًا، إنما تكون على تبادل بعضها مع بعض، بحيث تصبح هذه الصور التي يكون بها الشيء مثلثًا ضرورية لفكرة المثلث.

ولكي نصل إلى حكم نهائي مقبول، لا بد من تقابل في الأداء بين القضايا التي تستوفي — على التوالي — شروط حالتي الإضافة بالجمع والإضافة بمضاعفة الضرب، عندما نصل القضايا بعضها ببعض أو نفصلها بعضها عن بعض؛ وليس في مستطاعنا أن نقرر بأن القضايا الكلية المستخدمة — من جهة — ذات صلة إجرائية بموضوع بحثنا، وأن السمات المقترنة المستعملة في تحديد الأنواع — من جهة أخرى — مانعة جامعة بسبب قيامها على أساس أو علة، إلا إذا ربطنا القضايا التي تحدد مضمونات الموضوع، بمضمونات المحمول؛ وإلا كان أساس ربطهما لا يعدو أن يكون تكرارًا لمشاهدات تعاود الحدوث، حتى ليصبح هذا الاقتران المشاهد مدار إشكال؛ والحدود العلاقية الآتية هي التي تعبر عن الصورة المنطقية للتقابل المتبادل بين الجانبين: «إما هذا أو ذلك، لكن كليهما لا يجتمعان معًا»؛ وخذ القضية الآتية مثلًا: «تتألف البشرية من أوروبيين وأفريقيين وأستراليين وأمريكيين …» والنقط هنا تشير إلى أن الإضافة تستغرق كل ما هنالك من أنواع البشر استغراقًا جامعًا؛ فليس في القضية — على صورتها هذه — ما يمنع عضوية الفرد في أكثر من نوعين، ولا ما يمنع أن تكون هنالك أنواع مثل نوع «الأمريكيين الأوروبيين»؛ فالقاعدة التي نسوقها في قضية كلية هي وحدها التي تحدد الأنواع تحديدًا يجعل مثل هذا الإمكان مستبعدًا؛ نعم إن مثل هذا التحديد للأنواع ليس بذي أهمية خاصة في المثل الذي اخترناه، ولو أن مسألة التبعية المزدوجة في انتماء الفرد الواحد لقوميتين في آنٍ واحد، قد تكون في هذه الحالة مشكلة فعلية؛ لكن ثمة أبحاثًا علمية لا يكون لنا فيها بد من التحديد بأن الأنواع يتصل بعضها ببعض على الصورة التي توجب أن ينتمي الفرد الواحد إلى هذا النوع أو ذلك، لكنه لا ينتمي إلى أكثر من نوع واحد في الوقت الواحد؛ فتحقيق هذا الشرط أمر ضروري لأية مجموعة سليمة من القضايا المفصول بعضها عن بعض (بأداة إما … أو …) ولا يمكن تحقيق هذا الشرط إلا على أساس مجموعة من القضايا الكلية الشرطية الانفصالية، التي من شأنها أن تحدد — بتطبيقها الإجرائي — الأنواع التي يمنع بعضها بعضًا، مع اجتماعها معًا اجتماعًا يستوعبها كلها في نوع شامل.

  • (١)

    ويلزم عن هذا نتائج؛ فمن المعتاد في مؤلفات المنطق أن تجد القضايا التي هي من قبيل القضايا التي تناولناها بالبحث، موسومة باسم «المركبة»؛ حين ينبني على «المركبة» فرض بقيام قضايا «بسيطة» سابقة على عملية وصل القضايا بعضها ببعض أو فصلها بعضها عن بعض، ومستقلة عن هذه العملية؛ أما من وجهة نظرنا (وهي أن أية عبارة رمزية لا يكون لها المكانة المنطقية التي تجعلها قضية إلا إذا كانت عضوًا في مجموعة منظمة أو في سلسلة منظمة من قضايا) فيلزم بالبداهة ألا يكون هنالك قضايا «بسيطة» بالمعنى المزعوم؛ نعم إن هنالك — بالطبع — قضايا بسيطة نسبيًّا، لكنها لا تكتسب الصفة المنطقية إلا من حيث هي تكوِّن ما يسمونه بالقضايا «المركبة»؛ مثال ذلك قضية جزئية (تشير إلى جزئي واحد) تُقال عن إحدى حالات التغير، التي كانت في لحظة معينة مستعصية على التحليل إلى كثرة من عناصر متفاعلة، مثل هذه القضية يكون قضية بسيطة أو أولية؛ لكنها (١) لا تكون كذلك إلا وهي مشروطة بشروط، إذ إن تحديدها يتوقف على ما بين أيدينا من تقنيات المشاهدات التجريبية؛ فإذا تحسنت هذه التقنيات، فقد نستكشف عناصر أكثر أولية، هذا إلى أن (٢) طبيعتها البسيطة أدائية على كل حال؛ لأن مضمونها — من حيث هو مضمون بسيط — يتقرر بقدرتها على أداء مهمتها باعتبارها شرطًا يحدد معالم مشكلة معينة؛ ومن هنا كانت درجة «البساطة» المطلوبة تختلف باختلاف المشكلة التي بين أيدينا.

  • (٢)

    إذا غضضنا النظر عن طبيعة العلاقة المتبادلة بين عمليتي الجمع (التي نضيف بها الأنواع بعضها إلى بعض في مجموعة واحدة) والضرب (الذي نصل به الأطراف المعنوية المجردة في قضية كلية) اللتين نؤديهما حين نعطف القضايا بعضها على بعض أو نفصلها بعضها عن بعض، لما بقي لنا أساس منطقي للتفرقة بين القسمة من جهة والتصنيف من جهة أخرى؛ فالعملية تكون عندئذٍ «قسمة» حين نسير بها من النوع الشامل إلى الأنواع الفرعية المشمولة فيه، بينما تكون «تصنيفًا» إذا سرنا بها في الاتجاه المضاد؛ وأما مادة البحث نفسها فهي هي في كلتا الحالتين؛ لكننا إذا خصصنا «القسمة» بمعناها المنطقي للتفرقة بين السمات المتميزة التي تقيم الحدود الفاصلة بين الأنواع المتخارجة بالنسبة بعضها إلى بعض، والتي تندرج معًا في دائرة أشمل، والسمات المقترنة التي تصف نوعًا شاملًا لها، كان للقسمة معناها المنطقي الذي يميزها؛ ويكون «التصنيف» عندئذٍ دالًّا على ما نستطيع تمييزه من العلاقات المتبادلة بين المفاهيم المعنوية التي تفرق «الفئات» وبعضها عن بعض (ونستعمل كلمة «فئات» بمعناها الذي يخلو من الازدواج، وهو المقولات) داخل المفهوم الذي يكون للمقولة التي هي أوسع المقولات نطاقًا في التطبيق؛ أي إن «القسمة» تنصب على الأنواع في ماصدقاتها، بينما ينصب «التصنيف» على التصورات الذهنية في مفاهيمها.

  • (٣)

    كانت النظرية الكلاسية عن الجنس وما ينطوي تحته من أنواع ثابتة، تضع للتعريف أساسًا وجوديًّا؛ إذ كان قوام التعريف ذكر الجنس والفصل اللذَيْن يتعاونان على تمييز النوع الذي نريد تمييزه من سواه، وعلى إبراز ماهيته؛ فلما نبذنا الأساس الكوني لهذه الفكرة عن التعريف، أصبحت المكانة المنطقية للتعريف قائمة في الهواء؛ فنظر إليه — مثلًا — على أنه أمر لغوي صرف، يحدد به معنى اللفظ الواحد بموضعه بين مجموعة ألفاظ يفرض فيها أنها معلومة المعاني من قبل، كل منها مأخوذة على حدة؛ ولو فهمنا هذه الفكرة عن التعريف فهمًا حرفيًّا، وجدناها تترك اشتراك الألفاظ المعَرَّفة في تكوين بناء واحد، بغير تفسير وعلى غير أساس؛ ومع ذلك فهي تشترك في تكوين التعريف بفضل اقترانها معًا اقتران جمع أو اقتران ضرب، إما بالمعنى الذي يجعل التعريف وصفًا لنوع معين، أو بالمعنى الأدق الذي يجعل التعريف تحليلًا لفكرة مجردة؛ وإنه لمذهب سديد أن نجعل الرموز — وما الكلمات بمعناها المألوف إلا أحد أنواع الرموز — ضرورية للتعريف، وأن نجعل الرمز الواحد في تعريف ما، أعني الرمز ذا المعنى المتكامل، ينحل إلى معانٍ بينها صلات متبادلة.

لكن الفحوى المنطقي للتعريف يختلف عن ذلك اختلافًا جوهريًّا؛ فالمعاني الذهنية إنما تقوم بمهمتها من حيث هي صور تمثل طرقًا ممكنة لحل مشكلة قائمة؛ ولا تستطيع أن تؤدي مهمتها تلك إلا إذا انحلت إلى عناصر معنوية يتصل بعضها ببعض بصلة ضرورية؛ لا لشيء إلا لأنها تحليل الفكرة ذهنية واحدة؛ وقيمة أي تحليل معين (أعني صحته) نحلل به أية فكرة ذهنية معينة (وهو التحليل الذي عنه نقول إنه التعريف) إنما تتحدد آخر الأمر بقدرة العناصر المعنوية المتبادلة الصلة فيما بينها، على تكوين سلسلة من خطوات يمكن إحلال بعضها محل بعض في مجرى التفكير النظري، إحلالًا يلتزم الدقة الصارمة؛ وبغير هذا التصور للتعريف، لا نستطيع أن نفسر الدور الذي لا غناء لنا عنه، أعني الدور الذي تقوم به التعريفات في البحث، ولا أن نفسر كيف ولماذا تعد مجموعة مختارة من الحدود، ينضم بعضها إلى بعض فتكون تعريفًا مدعمًا من ناحية المنطقية، بدل أن تكون قد اجتمعت جزافًا.

(٣) القوانين الصورية للعلاقات بين القضايا

إن عمليتي إضافة الأنواع بجمعها معًا، والمضاعفة بالضرب (التي نربط بها الأطراف المعنوية الداخلة في قضية كلية) أقول إن هاتين العمليتين اللتين نؤدي بهما وصل الأنواع وفصلها، لترتدان — كما قد رأينا — إلى العلاقة المتبادلة بين عمليتي الإثبات والنفي، أي بين عمليتي إدخال الأنواع المشتركة في نوع يشملها، وإخراج الأنواع عما ليس يشملها؛ ولهذا فهما عمليتان يمكن أن نمعن بهما في درجات أعلى من التعميم؛ وعندما نبلغ بتعميمهما هذه الدرجة العليا، تتخذ الجوانب الأدائية المتضمنة فيهما صورة المبادئ المنطقية التي جرى العرف التقليدي على تسميتها بالقوانين؛ وهذه القوانين هي قانون الذاتية، وقانون التناقض، وقانون الثالث المرفوع؛ وبناءً على الأساس الذي اصطنعناه في هذا الكتاب، ننتهي — بالبداهة — إلى أن تلك القوانين تعبر عن شروط أولية معينة، لا بد من استيفائها؛ بدل أن نقول عنها إنها خصائص تصف القضايا من حيث هي كذلك؛ ولقد كان مذهبًا منطقيًّا سديدًا أن تعد الذاتية … إلخ خصائص بنائية ضرورية، ما دام الأساس هو ما قد زعمه المنطق الكلاسي من مبادئ كونية وجودية؛ إذ على هذا الأساس تكون الأنواع — وهي وحدها التي كانت تعد قابلة للتعريف — ويكون التصنيف ويكون البرهان العلمي أمورًا لا يطرأ عليها تغير، ومن ثَم فهي أمور تتصف بثبات ذاتيتها بحكم طبيعتها المتأصلة فيها؛ فأي نوع كائنًا ما كان لا بد أن يكون دائمًا وبالضرورة هو ما هو لا أكثر ولا أقل؛ ولهذا كان قانون الذاتية، الذي نعبر عنه تعبيرًا رمزيًّا بهذه الصورة: أ هي أ، هو الصورة الصحيحة التي لا بد أن تُصاغ فيها أية قضية لها مكانة علمية؛ وكذلك كانت الأنواع بحكم ماهيتها الوجودية متميزة بعضها من بعض؛ فلم يكن هنالك وسيلة ممكنة ننتقل بها من نوع إلى نوع، أو نشتق بها نوعًا من نوع، بسبب ما هو قائم بينها من فواصل ضرورية بحكم حقائقها الوجودية؛ ومن ثَم نشأ المبدأ الذي لا يجيز الجمع بين نوعين في ثالث.٦

(٣-١) الذاتية

من وجهة النظر التي تحتم على القضايا أن تحقق الشروط التي تشترطها عليها عضويتها في مجموعة أو في سلسلة من قضايا، يكون معنى الذاتية هو الشرط المنطقي الذي يقتضي أن تثبت المعاني على حالة واحدة طوال متصل البحث؛ والمعنى المباشر الواضح لهذه العبارة، هو أن يظل المعنى المعين من المعاني ثابتًا خلال بحث معين، إذ إن أي تغير يطرأ على مضمونه، يغير قوة القضية التي كان ذلك المعنى واحدًا من مقوماتها؛ وبهذا التغير نصبح على شك: على أي المعاني، وعلى أي علاقة بين المعاني، اعتمدت النتيجة التي وصلنا إليها في ختام البحث؛ غير أن تحقيق هذا الشرط لا يعني أن رمزًا معينًا لا بد أن يحتفظ بمعنًى واحد في البحوث كافة؛ لأنه لو احتفظ الرمز بهذا المعنى الواحد، لاستحال على المعرفة أن تتقدم؛ لكن الحكم الذي هو آخر ما ينتهي إليه البحث، يعدل إلى حد ما — وقد يعدل تعديلًا جوهريًّا — من الفحوى الدلالي لواقعة معينة شاهدناها، وفي المعنى الذي كان من قبل المفهوم ذهني معين؛ فما لم يكن للذاتية قوة أدائية بالنسبة إلى مادة الموضوع الذي يخضع للبحث، لكان قانون الذاتية معرضًا للانهيار في كل خطوة من خطى العلم في تقدمه.

وبناء على ذلك، كان مغزى مبدأ الذاتية — أعني مغزاه الأعمق والذي هو الأساس الذي ينطوي عليه المبدأ كله — يتم تكوينه خلال متصل الحكم ذاته؛ فكل نتيجة نصل إليها في البحث العلمي، سواء أكانت نتيجة خاصة بواقعة خارجية أم بفكرة عقلية، تظل معرضة لتعديل معالمها وفق نصيبها فيما هو آتٍ بعد ذلك من أبحاث؛ فثبات المعاني، أو «ذاتيتها» هو بمثابة الحد الأعلى الذي نصبو إليه، والذي نجعله أمامنا شرطًا نسعى إلى تحقيقه بدرجات متزايدة؛ وإنك لترى النقاد أحيانًا يتخذون من المنزلة النسبية التي تنزلها النتائج العلمية، (وأعني أنها نسبية بمعنى أنها معرضة للمراجعة في بحث مستقبل) ذريعة للحط من شأن «الحقائق» العلمية، بالقياس إلى تلك الحقائق التي يزعمون لها الأزلية وعدم التغير؛ والواقع أن هذه النسبية شرط ضروري للتقدم المستمر في فهمنا للحقائق وإدراكها.٧

(٣-٢) التناقض

الشرط المنطقي الذي لا بد من استيفائه لقانون التناقض، مستقل عن الشرط الذي يقتضيه قانون الذاتية، ولو أن الشرطين يسيران — بالضرورة — جنبًا إلى جنب؛ فلئن كان الخروج على مبدأ الذاتية قد يؤدي إلى تناقض، إلا أن الحالات ذات الأهمية المنطقية هي تلك التي تؤدي مراعاتنا لمبدأ الذاتية فيها إلى تناقض، ذلك لأن تكوين القضايا التي إذا كذبت إحداها تحتم أن تصدق الأخرى، هو خطوة لا بد منها للوصول إلى نتيجة مدعمة الأساس؛٨ وإذن فليس التناقض مجرد حادث عرضي يعوزه التوفيق، تشاء له المصادفة أحيانًا أن يقع؛ بل إن عزلنا الكامل لما ليس يندرج في نوع ما، عزلًا ينتهي إلى قضية انفصالية (تقول إما … أو …) يستحيل أن يتم إلى أن نحدد القضايا تحديدًا يجعلها أزواجًا أزواجًا، بحيث إذا صدقت إحدى القضيتين في زوج منها، كذبت الأخرى، وإذا كذبت إحداهما صدقت الأخرى؛ وعلى هذا فمبدأ التناقض يمثل شرطًا يتطلب الاستيفاء؛ وإنعام النظر مباشرة في قضيتين لا يقرر لنا أهما متعلقتان أم غير متعلقة إحداهما بالأخرى بعلاقة تجعلهما نقيضتين، كما كانت الحال لتكون لو كان التناقض خاصة علاقية نابعة من طبيعة القضايا نفسها؛ غير أن المذهب المضاد لما نأخذ به في هذا الصدد كثيرًا ما يجد من يُثبته، كما يحدث حين يُقال إن القضيتين «أ هي م» و«أ ليست هي م» تناقض إحداهما الأخرى تناقضًا مباشرًا، مع أنه ما لم تكن أ قد سبق لها أن تحددت في بحوث سابقة، تحديدًا تم بوصل ما يتصل من القضايا وفصل ما ينفصل، لأمكن أن يكون جزء من أ، أو أن تكون أ في بعض علاقاتها، هي م، ولأمكن أيضًا أن يكون جزء آخر من أ، أو أن تكون أ في علاقة أخرى من علاقاتها، ليست هي م؛ فعلاقة أ ب م وعلاقتها بما ليس م، لا يمكن تحديدها إلا بإجراءات العزل التي تبلغ قصاراها من الناحية المنطقية في علاقة التناقض.

(٣-٣) الثالث المرفوع

لقد ذكرنا من قبل أن التحقيق التام للشروط التي تستلزمها عمليات الفصل والوصل بين القضايا، أي العمليات التي نفصل بها الحدود بعضها عن بعض، أو ندخل بها الحدود بعضها في بعض، أقول إن التحقيق التام للشروط اللازمة لهذه العمليات، يتمثل من الناحية الصورية بالصورة التي تكون أداتها هي «إما هذا أو ذاك ولكن كليهما لا يجتمعان»؛ ومبدأ الثالث المرفوع يحقق لنا أكمل درجات التعميم في صياغة عمليات وصل القضايا وفصلها، وصلًا وفصلًا يتعلقان أحدهما بالآخر بعلاقة متبادلة؛ ولربما كانت الفكرة القائلة بأن القضايا هي، أو يمكن أن تكون — في ذاتها وبذاتها — على نحو يجعل مبدأ الثالث المرفوع منصبًّا عليها انصبابًا مباشرًا، أقول إن هذه الفكرة ربما كانت مصدرًا للتدليل المغلوط في التفكير الفلسفي، وفي البحوث الأخلاقية والاجتماعية، أكثر من أي مصدر آخر للمغالطة؛ فقد كان ينبغي أن تكون القضايا المنفصلة التي ظن بها ذات يوم أنها تستوعب الحالات الممكنة كافة، وأنها ضرورية الصدق، ثم وجد بعد ذلك أنها ناقصة (بل ربما وجد أنها غير ذات صلة بالبحث إطلاقًا)، أقول إن هذه الحقيقة كان ينبغي أن تكون تحذيرًا لنا منذ زمن طويل، بأن مبدأ الثالث المرفوع إنما يضع لنا شرطًا منطقيًّا يُراد له أن يتحقق خلال سيرنا المتصل في عملية البحث؛ فهو مبدأ يصوغ لنا آخر هدف نستهدفه بالبحث، حين تتحقق الشروط المنطقية تحققًا كاملًا، فأشق مهمة يضطلع بها البحث هي أن يحدد مادة البحث تحديدًا يجبُّ كل إمكان آخر بعد الذي نكون قد ذكرناه.

إنه كثيرًا ما يحتج المحتجون اليوم بأن المبادئ الثلاثة المذكورة، قد عفى عليها الزمان تعفية تامة، حين نبذ الناس صياغاتها كما وردت في المنطق الأرسطي؛ لكن إن كان تفسير أرسطو لهذه المبادئ على أنها متحققة في الوجود الخارجي، وإن كان أي تفسير آخر مما يعدها خصائص علاقيةً متأصلة في طبيعة القضايا نفسها، أقول إنه إن كان هذا التفسير أو ذلك قد أصبح مما لا بد من نبذه بغير شك؛ إلا أن هذه المبادئ الثلاثة لو عدتْ صياغات نصوغ بها الشروط المنطقية (في وصل القضايا وفصلها) التي يُراد لها أن تستوفى، فإنها عندئذٍ تكون سليمة من حيث هي مبادئ توجه طريق السير، أو من حيث هي مُثلٌ عليا تضع أمام البحث حدًّا أعلى يصبو إليه فينتظم بذلك طريق سيره؛ فثمة مَثلٌ يُساق أحيانًا ليبين خلاء مبدأ الثالث المرفوع من أي معنًى، وهو عدم قابلية هذا المبدأ للانطباق على كائنات الوجود الخارجي وهي في حالة انتقالها من وضع إلى وضع؛ ولما كانت شتى كائنات الوجود الخارجي في حالة من صيرورة التغير دائمًا، لزم أن يكون مبدأ الثالث المرفوع مستحيل التطبيق؛ فمثلًا يستحيل علينا أن نقول عن الماء الذي هو في طريقه إلى التجمد، وعن الثلج الذي هو في طريقه إلى الذوبان، إن الماء إما أن يكون صلبًا أو سائلًا؛ فإذا أردت أن تجتنب هذه المشكلة بأن تقول إن الماء إما صلب أو سائل أو في حالة انتقالية، كنت بمثابة من يصادر على المطلوب، وهو: تحديد الحالة الانتقالية الوسطى؛ وهذا اعتراض لا شك في سلامته لو أقمته على أي أساس شئت، إلا إذا سلمتَ بأن مبدأ الثالث المرفوع يعبر عن شرط يُراد له التحقق؛ غير أننا لو أخذناه بهذا المعنى الأخير، أظهر لنا عدم الكفاية العلمية لتصورات الذوق الفطري، مثل فكرتي صلب وسائل؛ فبعد أن أصبح البحث العلمي في الموجودات الفعلية، مشغولًا بالتغيرات، وبما بين أوجه التغير من ارتباطات، لم يعد ثمة مكان للأفكار الكيفية الشائعة، وأعني بها أفكارنا عن حالات الصلابة والسيولة والغازية؛ إذ قد أحللنا محلها اليوم ارتباطات بين وحدات من الكتلة والسرعة والمسافة واتجاه الحركة، بعد أن نصوغ تلك الارتباطات بلغة المقاييس العددية؛ وقد كانت ضرورةُ تكوين القضايا المنفصلة التي يعاند بعضها بعضًا، محققةً بذلك شرط استبعاد الحالات الوسطى، عاملًا من العوامل التي أحدثت هذا التغير العلمي.

قد عنينا في هذا الفصل بالشروط الصورية التي لا بد للقضايا أن تستوفيها، لكي تؤدي مهماتها في البحث؛ والشروط المنطقية المذكورة تتناول — من جهة — مجموعات القضايا في علاقاتها التي تدعم نتيجة استدلالية، كما تتناول — من جهة أخرى — سلاسل القضايا في علاقاتها التي تكوِّن تفكيرًا نظريًّا مرتب الخطوات؛ ففي كلتا هاتين الحالتين، يُقال عن القضية الختامية إنها «تلزم» عن القضايا التي سبقتها، بينما يُقال عن طريق السير المضاد إنه «انتقال» أو «سير من النتيجة فصاعدًا»؛ لكن طبيعة «اللزوم» تختلف في الاستدلال عنها في التفكير النظري؛ وقد جرى التقليد على وصف الفرق بينهما (وهو وصف اتفاقي في جوهره) بأننا في حالة الاستدلال ننتقل من القضايا الجزئية إلى قضية عامة، وفي حالة التفكير النظري ننتقل من العام إلى الجزئي؛ ولمثل هذا القول مغزاه الحقيقي، كما أن له أساسًا من المنطق الأرسطي؛ لكنه قول يعوزه المبرر كما يعوزه المعنى المنطقي في البحث العلمي كما هو قائم اليوم؛ فالنتيجة في التفكير النظري الرياضي لا تقل تعميمًا (ما دامت قضية مجردة شرطية) عن القضايا التي لزمت تلك النتيجة عنها؛ فإذا كان من الجائز أن تكون هذه النتيجة أقل مجالًا في مفهومها، أو أقل نطاقًا في تطبيقها، فكذلك من الجائز أن تكون أوسع أو أضيق في هذا النطاق أو ذلك المجال، تبعًا لما تقتضيه المشكلة التي نحن بصدد حلها؛ وأما الفكرة القائلة بأننا نصل إلى القضايا العامة «بانتقالنا» من القضايا الجزئية إليها، فهي فكرة أكثر قبولًا، لأن القضايا الجزئية لا غناء عنها في صياغتنا للمشكلات التي تتطلب القضايا العامة لحلها؛ لكن صياغة الإجراءات التي نحدد بها تعميمًا يؤخذ من الجزئيات، عمليةٌ أكثر جدًّا في تركيب عناصرها من أن نشملها جميعًا بكلمتي «لزوم» أو «انتقال»؛ فتكوين القضية العامة يشمل — مثلًا — أداء إجراءات تمليها فكرةٌ عن حل محتمل، بحيث يتولد عنها وقائع لم تكن من قبل واقعة في مجال المشاهدة؛ وأما طبيعة «الانتقال» و«اللزوم» المتضمنين (في الاستدلال وفي التفكير الاستنباطي) فمثار مشكلة منطقية تنقل مناقشتنا المنطقية إلى موضوع طبيعة المنهج العلمي؛ إذ هي تتضمن بصفة خاصة مشكلة طبيعة الاستقراء والاستنباط، وعلاقة أحدهما بالآخر؛ ومجال هذا الموضوع هو مدار الحديث في الجزء الرابع، الذي سنتناوله بعد أن نفرغ من مناقشتنا «للحدود» في الفصل الآتي.

١  راجع شرح هذه العلاقات كلها في كتاب «المنطق الوضعي» للدكتور زكي نجيب محمود، الفصل السادس.
ز. ن. م
٢  هذه التفرقة هي نفسها التفرقة بين «التضمن» و«اللزوم».
٣  انظر ما سبق، [الفصل الحادي عشر].
٤  القضايا «البسيطة» التي تجعل غيرها قضايا «مركبة» بالقياس إليها، هي — من وجهة النظر التي نبسطها في هذا الكتاب — قضايا ناقصة من الوجهة المنطقية، إذ إنها لا تنشأ إلا بغية الوصول إلى القضايا الكاملة التي نسميها مركبة.
٥  أخذ المنطق الرياضي الحديث هاتين الكلمتين من الرياضة، ليطلق كلمة «الجمع» على عملية تضم فردًا إلى فرد أو نوعًا إلى نوع، كأن نقول — مثلًا — الكتب والأوراق على هذه المنضدة … وليطلق «الضرب» على عملية تلحق فكرة بفكرة تلزم عنها، كأن نقول — مثلًا — الحديد يتمدد بالحرارة، لأننا في هذه الحالة كلما تصورنا فكرة الحديد وجدنا فكرة التمدد بالحرارة متضمنة فيها؛ وحالة الجمع تتحقق في قضايانا عن الوجود الفعلي، وحالة الضرب تتحقق في قضايانا الكلية التي هي بمثابة فرض شرطي نقول به: إذا كان كذا كان كذا لازمًا عنه.
ز. ن. م
٦  كثيرًا ما لاحظ الشارحون المحدثون لمذهب أرسطو المنطقي، أن صياغته لمبدأ التناقض يكتنفها شيء من ازدواج المعنى؛ فقد يظهر أنها صياغة تجمع بين فكرتين: الأولى هي أن كل تناقض من شأنه أن يخرج على مبدأ الذاتية الضرورية لنوع ما؛ والثانية هي أن القضايا المتضادة قائمة، لا في حالة التغيرات فحسب، باعتبارها علاقات تدل على نقص في كمال «الوجود»، بل إنها ضرورة لا مفر منها، ما دام المذهب الأرسطي في حقيقة الكون، يذهب إلى أن الحار هو الذي يصبح باردًا، والرطب هو الذي يتحول إلى جاف … إلخ، ولقد احتج أفلاطون — دون أن يصوغ مبدأً للتناقض — بعدم تحقق الحقيقة تحققًا كاملًا فيما هو متغير، مقيمًا حجته على أساس أنه لو كان للتغير درجة كاملة من «الوجود» لما كان لنا مفر من قبول القضايا المتناقضة، لأنه كان سيلزم عن ذلك أن شيئًا ما موجود وغير موجود في آنٍ واحد؛ وعلى وجه الجملة فالظاهر أن التناقض قد استخدم شاهدًا يؤيد مبدأ الذاتية، أكثر مما استخدم مبدأً قائمًا بذاته.
٧  إن أفضل تعريف ﻟ «الحقيقة» أعرفه — من وجهة النظر المنطقية — هو التعريف الذي أخذ به بيرس، وهو: «إن الرأي الذي قدر له أن يكون آخر الأمر موضع اتفاق عند كل الباحثين، هو ما نعنيه بكلمة الحقيقة، والشيء الذي يمثله هذا الرأي، يكون عندئذٍ هو حقيقة الواقع الخارجي» المرجع المذكور سابقًا، مجلد ٥، ص٢٦٨؛ ولبيرس أيضًا عبارة أوفى (وأكثر إيحاءً) وهي ما يأتي: «الحقيقة هي ذلك الاتساق بين عبارة مجردة وبين مثل أعلى نضعه أمامنا لنخطو نحوه بأبحاث لا تنتهي، من شأنها أن تخلق عندنا اعتمادًا علميًّا؛ ومثل هذا الاتساق قد يتوافر للعبارة المجردة بفضل ما فيها من عدم دقة ومن نظر إلى الأمور من جانب واحد، نفصح عنهما، فيصبح هذا الإفصاح عن ذلك النقص فيها مقومًا جوهريًّا من مقومات الحقيقة.» (نفس المرجع ص٣٩٤–٣٩٥).
٨  انظر ما سبق، ص٣٣٢–٣٣٧، ٥٣٣–٥٤٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤