الفصل العشرون

الاستنباط الرياضي

إن ما لأية نظرية منطقية من قدرة على تفسير الخصائص المنطقية المميزة للمدركات والعلاقات الرياضية، لهو اختبار حاسم لصدق دعواها؛ ونظرية كالتي نعرضها في هذه الرسالة، مضطرة بصفة خاصة إلى ملاقاة هذا الاختبار والنجاح فيه؛ لأنها نظرية تؤدي مهمة ذات وجهين: فهي تنصف ذلك الجانب من القضايا الرياضية الذي يجعل البرهان على صدقها صوريًّا كما أنها تبين اتساق هذا الجانب الصوري مع بقية جوانب البحث في نمطه الذي يشتمل على شتى عناصره، ثم هي لا تقتصر على بيان هذا الاتساق، بل تجاوزه إلى بيانها بأن موضوع دراسة الرياضة إن هو إلا حاصل تتمخض عنه التطورات الداخلية التي تحدث داخل النمط المذكور (الذي يصور طريقة البحث في شتى عناصره) وللأسباب التي ذكرناها في الجملة الختامية من الفصل الماضي، يتحتم على تفسير الشروط المنطقية للمدركات والعلاقات الرياضية، أن يجيء تفسيرًا يشرح صورة الاستنباط الذي يكون — بحكم طبيعته — متحررًا من ضرورة أن يكون له ما يقابله في الوجود الخارجي، بينما يزودنا — في الوقت نفسه — بإمكان أن تكون له دلالة وجودية يتسع مداها إلى غير حد معلوم، كالاستنباط الذي نراه متمثلًا في الفيزياء الرياضية.

(١) التحويل باعتباره مقولة أساسية

الغاية من عملية البحث (بالمعنى الذي تكون به «الغاية» هي الهدف الماثل نصب العين، أو الهدف المرجو الذي يوجه البحث، والختام الذي هو نهاية السير) هي خلق موقف موحد محمول الإشكال؛ وإنما تتحقق هذه الغاية بإيجاد مواد تكون على التوالي هي الوسائل المادية وهي الوسائل الإجرائية في آنٍ معًا، أعني مواد من الواقع ومواد قوامها المعاني الذهنية؛ وهذه المواد الوسلية إنما تنشأ لنا عن عمليات إجرائية من شأنها أن تحور المادة القائمة في الخارج مكونة موقفًا مشكلًا معينًا، تحورها بالتجارب تحويرًا يسير بها في اتجاه معلوم؛ وفي الوقت نفسه تكون المواد الدهنية التي منها تتألف الحلول الممكنة، قد أقيمت على نحو يوجه العمليات التي نختار بها ونرتب، اختيارًا وترتيبًا تجريبيين من شأنهما أن يحدثا تحويرًا في مادة الوجود الخارجي لتنحو نحو الغاية، والغاية هي إيجاد موقف محلول الإشكال؛ أضف إلى ذلك أن التصورات الذهنية التي تمثل سبل الحل الممكنة، لا بد لها — إذا كان البحث موجهًا توجيهًا يضبط سيره — أن تُصاغ على صورة قضايا؛ ثم لا بد لهذه القضايا أن تبسط في سلسلة مرتبة الحلقات، بحيث يتولد عنها قضية عامة أخيرة، في وسعها توجيه الإجراءات العملية التي لا شك في إمكان انطباقها على مادة المشكلة الخاصة التي بين أيدينا؛ وإلا لكان ما لدينا هو استدلال الحقائق الواقعية بعضها من بعض، استدلالًا فجًّا لا ينتج لنا إلا قضية غير قائمة على أساس سليم.

واختصارًا، فإن التفكير الاستنباطي المرتب، هو نفسه سلسلة تحويلات نسير فيها بناءً على قواعد تنظم إحلالنا لمختلف المعاني بعضها محل بعض، إحلالًا فيه الدقة الصارمة (أو ضرورة اللزوم) وفيه الخصوبة المنتجة؛ ولا يكون مثل هذا التحويل مستطاعًا إلا إذا أقمنا نسقًا من معانٍ مجردة يتعلق بعضها ببعض، وعلى ذلك فمدركات الذوق الفطري — مثلًا — لا تحقق شروط هذه الصلة المتبادلة (بين المعاني) التي يأتلف منها البناء النسقي؛ ومن هنا كانت ضرورة تغييرنا لمضمونات هذه المدركات — مدركات الذوق الفطري — إذا ما أدخلناها في العلم، إذ إننا نعدل منها تعديلًا يجعلها مستوفية لهذا الشرط؛ وهكذا نرى أن تحويل المضمونات الذهنية — وفق قواعد المنهج التي تحقق الشروط المنطقية المحددة — أمر متضمن في سيرنا بالتفكير الاستنباطي، كما هو متضمن أيضًا في تكويننا للمدركات الداخلة في ذلك التفكير، حتى حين نقصد بذلك التفكير الاستنباطي أن يكون في نهاية الأمر ذا تطبيق على الوجود الفعلي.

ونستطيع أن نعيد ذكر المبدأ المنطقي المتضمن في هذا، بالطرق الآتية:
  • (١)

    إن مادة الموضوع، أو المضمون، الذي نعالجه بالتفكير الاستنباطي يتألف من إمكانات؛ ومن هنا كانت المضمونات في هذه الحالة غير وجودية، حتى حين نوجدها ونرتبها بقصد انطباقها على الوجود الفعلي.

  • (٢)

    وما دامت إمكانات، فهي تتطلب صياغة في رموز؛ وليست عملية الرمز هذه وسيلة نصطنعها للسهولة، حين نجدها في حكم الضرورة التي لا غناء لنا عنها في التفكير الاستنباطي، كلا ولا هي مجرد ثوب خارجي لأفكار كانت قد كملت — بالفعل — في حد ذاتها؛ بل هي جزء من جوهر التفكير الاستنباطي ذاته، ما دام هذا التفكير منصبًّا على إمكانات؛ ومع ذلك، فالرموز — في جانبها الأدائي — تنزل نفس المنزلة المنطقية التي تنزلها المعطيات الوجودية، ولهذا كانت هي نفسها خاضعة لعمليات التحويل؛ ومن الوجهة التاريخية، كانت الإجراءات العملية التي نستعين بها على تحويل معاني الرموز، قد استعيرت أول الأمر من الإجراءات التي نعالج بها الأشياء المادية، ولهذا فقد كانت تلك الإجراءات ذات صلة وثيقة بهذه، كما هو واضح في الكلمات التي لا نزال نستخدمها لندل بها على عمليات عقلية، مثل كلمات من هذا القبيل بصفة عامة؛ تدبر، وروية، وتأمل؛ ثم بصفة أخص مثل كلمتي العد، والحساب فلما أن عدلت المعاني تعديلًا يمكنها من تحقيق الشروط المفروضة عليها، بحكم كونها قد أصبحت أجزاءً من نسق متعلق بعضها ببعض، عدلت الإجراءات أيضًا لتحقق مقتضيات المادة الذهنية في شكلها الجديد، فأصبحت الإجراءات مجردة تجريد المواد التي ستنصب عليها، وعلى هذا فقد أصبحت تلك الإجراءات ذات طابع يمكن التعبير عنه، بل لا يمكن التعبير عنه إلا بمجموعة جديدة من الرموز.

لقد كنا في الفصول السابقة على هذا الفصل، ننصرف بعنايتنا إلى العلاقة القائمة بين المعاني والقضايا في التفكير الاستنباطي، حين ينساق هذا التفكير بقصد الوصول في نهايته إلى شيء يمكن انطباقه على الوجود الخارجي، وفي تفكير من هذا الطراز، يؤجل التطبيق، أو يظل معلقًا، لكن الصلة بالتطبيق لا تنمحي بالنسبة إلى مضمون المدركات التي نتناولها عندئذٍ؛ أما حين نسير بالتفكير الاستنباطي سيرًا لا نراعي فيه شيئًا قط، سوى أن يجيء هذا التفكير محققًا لشروطه المنطقية التي يسنها لنفسه، أو حين نسير به من أجل نفسه — كما يُقال — فعندئذٍ لا يقتصر الأمر على أن تكون مادة الموضوع الذي نفكر فيه غير ذات صلة بالوجود الفعلي بالمعنى المباشر، بل إننا لنكون تلك المادة نفسها على أساس تحررها من الإشارة إلى الموجودات الخارجية حتى حين تكون تلك الإشارة غير مباشرة إلى أقصى الحدود، أو تكون مؤجلة أو من النوع الذي يُنتظر وقوعه فيما بعد؛ وفي مثل هذه الحالة يكون التفكير الاستنباطي تفكيرًا رياضيًّا؛ فمادته مجردة وصورية إلى الدرجة القصوى، بسبب تحررها الكامل من الشروط المفروضة على المادة الذهنية حين تكون هذه المادة مصوغة على النحو الذي ينتهي آخر الأمر إلى تطبيق على الوجود الخارجي؛ في حالة التفكير الرياضي يصبح التحرر الكامل والتجرد الكامل حدين مترادفين.

وإذا طرأ تغير في سياق الظروف التي تحيط بالبحث، أحدث هذا التغير تغيرًا في هدف البحث ومضموناته؛ فالمدركات الفيزيائية تختلف عن مدركات الذوق الفطري، لأن سياقها ليس هو كسياق هذه متصلًا بمسائل النفع والمتعة، بل سياقها هو السياق الذي نوجد فيه شروطًا تتحقق في الاستدلال المتسق حين يتم على نطاق واسع؛ وحين نغض النظر عن كل إشارة إلى التطبيق الفعلي، نحصل على سياق آخر جديد؛ فليست النتيجة هي مجرد الحصول على درجة أعلى في التجريد، بل هي الحصول على طبقة جديدة من التجريدات، وهي طبقة لا تنشأ ولا ينضبط سيرها إلا بمقولة العلاقات المجردة؛ ومع ذلك فضرورة تحويل المعاني بعضها إلى بعض في مجرى التفكير الاستنباطي، لكي يقرر لنا قضايا وجودية مقبولة، هذه الضرورة تزودنا بالحلقة الرابطة التي تصل الرياضة بالنمط العام للبحث.

إن بعض الأمثلة التي قدمناها في الفصل السابق يوضح أثر تغير سياق الظروف المحيطة على الإجراءات التي نجريها، من حيث هدفها ومضموناتها: فمقولتا اختيار المعطيات وترتيبها، بما لهما من كيفية ذوقية مضمرة فيهما، متضمنتان في كتابة التاريخ؛ فلما أن تحررت المقولتان من سياقهما الأصلي، نتج عن تحررهما القصة التاريخية؛ ثم لما خطتا في ذلك التحرر من السباق خطوات أخرى، نشأت القصة «الخالصة» بما لها من مضمونات تميز طبيعتها؛ وعلى نحو شبيه بهذا، لم تخلق الموسيقى لا في الطبيعة ولا في الكلام أصواتًا وتنظيماتها المرتبة؛ إلا أن الموسيقى — رغم ذلك — طورت إمكانات الأصوات وترتيبها المنغم في أوجه أخرى من النشاط لها مادتها المميزة؛ فإذا شبهنا الرياضة بهذا لم يكن في التشبيه اعتساف؛ فقد نشأت التحديدات العددية أول ما نشأت وسيلة اقتصادية وعملية في تكييف الوسائل المادية للنتائج المادية التي تنجم عنها في مواقف ذات صفات كيفية خاصة، طابعها نقص وزيادة؛١ ولكن لم يكن ثمة — في العمليات الإجرائية المتضمنة — ما يعوق تطور تلك التحديات العددية تطورًا يجيء بطبيعة الحال، لا بل إنها قد استحثت مثل ذلك التطور.
وقد تم تنفيذ هذا التجريد تنفيذًا كاملًا في سير تاريخي بطيء؛ فمما لا شك فيه أن الأعداد كانت أول الأمر مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأشياء؛ فمثلًا «٢» كان معناها إصبعين أو غنمتين؛ كما كانت المدركات الهندسية مرتبطة بإجراءات مادية تجري في قياس مساحات أرضية، كما تدل كلمة الهندسة بالإنجليزية إلى اليوم، وهي geometry أي قياس الأرض، وجاء الرياضيون والفلاسفة اليونان، فحرروا هذه المدركات بعض التحرر من الدلالة الوجودية؛ إلا أن تجريدها على أيديهم لم يكن كاملًا؛ إذ إنهم وإن يكونوا قد حرروا مدركات الحساب والهندسة من علاقتها بالأشياء الجزئية، إلا أنهم لم يحرروها من الدلالة الوجودية بأسرها؛ إذ ظن أنها تشير إلى تقسيمات كائنة في الطبيعة نفسها، وهي التي جعلت الطبيعة بناءً مقبولًا عند العقل، ثم هي التي وضعت الحدود القصوى للتغيرات تحدث في إطارها؛ ولما كانت الهندسة هي العلم الذي يختص بهذه «المقاييس» الكونية القائمة في الحقيقة الخارجية، فقد تصوروا العدد تصورًا هندسيًّا؛ وإن قصة تحرر مادة الرياضة من أي ضرب من ضروب الدلالة الوجودية، لهي نفسها قصة تطورها المنطقي خلال سلسلة من الأزمات، كالأزمات التي أثارتها الأعداد اللامقيسة، والأعداد السالبة، والأعداد الوهمية … إلخ.

(٢) نموذجان للقضايا الكلية

لقد أردنا بالملاحظات التمهيدية السابقة أن نقول إن مقولة التحويل تمتد فتشمل نمط البحث كله من:

(١) التحويلات الوجودية المطلوبة لكي يجيء الحكم النهائي جائز القبول، إلى (٢) المعاني في مجرى التفكير الاستنباطي، ثم إلى (٣) العلاقات الصورية التي تربط المواد المجردة تجريدًا كاملًا، وها هنا يتخذ التحويل من حيث هو إمكان مجرد صورة «إمكان التحويل» بالمعنى المجرد؛ ونتيجة لهذا التطور الأخير، لا بد لنا من التفرقة بين طرازين منطقيين للقضايا الكلية؛ فلقد ذهبنا في غضون مناقشتها السابقة، إلى أن القانون الطبيعي — كذلك الذي نعبر عنه بعلاقة قائمة بين معانٍ مجردة — هو عبارة عن قضية شرطية كلية؛ فمثلًا قانون الجاذبية هو صياغة للعلاقة المتبادلة بين المعاني المجردة: كتلة، ومسافة، و«جاذبية»؛ غير أنه وإن تكن مضمونات القضية تجريدات، إلا أنه ما دامت القضية قد صِيغت بقصد أن تكون آخر الأمر ممكنة التطبيق على الوجود الفعلي، فمضموناتها تتأثر بهذا القصد؛ فقضايا كلية شرطية كهذه لا تستوعب الأحوال الوجودية الممكنة كلها، أعني تلك الأحوال التي يجوز لتلك القضايا أن تنطبق عليها، ولهذا فإنه يجوز لهذه القضايا أن تنبذ لتحل محلها قضايا كلية شرطية أخرى، تكون أوفى منها أو أكثر ملاءمة للموضوع الذي بين أيدينا؛ ويوضح هذا ما قد حدث من تغير انتقلنا به من قانون نيوتن للجاذبية إلى الصياغة التي صاغها أينشتين لذلك القانون؛ فعلى الرغم من أن كلا القانونين قضية كلية شرطية بهذا المعنى، إلا أن كلًّا منهما له دلالة تجريبية تضاد دلالة الآخر؛ في قضايا كهذه (بما في ذلك قضايا الفيزياء الرياضية كلها) يكمن الجانب الرياضي بمعناه الدقيق في العلاقة الضرورية التي ترتبط بها القضايا بعضها ببعض، لا في مضمونات تلك القضايا.

أما في القضية الرياضية، مثل ٢ + ٢ = ٤، فالتأويل الذي نفهم به المضمونات لا يكون ذا شأن على الإطلاق بأي اعتبار مادي كائنًا ما كان؛ فإمكان تطبيق القانون من قوانين الفيزياء تطبيقًا يجيء في ختام الشوط، حتى إن كان هذا القانون مساقًا في صورة قضية كلية شرطية، يتطلب منا أن نفهم الحدود أو المضمونات المتعلق بعضها ببعض في تلك القضية، بأي معنًى نفضله، وما دمنا قد فضلناه فهو يصبح لنا بمثابة نهاية قصوى نهتدي بها؛ لكن مضمونات القضية الرياضية متحررة من الضرورة التي يحتمها تفسير واحد مفضل؛ فخذ مثلًا القانون الفيزيائي عن متوازي القوى، باعتباره يهيئ لنا أساس الحساب الذي قد يلتمس سبيله إلى التطبيق — آخر الأمر — على موجودات العالم الخارجي في صورها المحددة؛ فالموقف الذي تكون عليه «القوى» المشار إليها في ذلك القانون، يكون له أثره في معنى «متوازي الأضلاع»، لأن ذلك الموقف هو الذي يضع الحدود للتصور الذهني — الذي لولا تحديده لأصبح تصورًا رياضيًّا طليقًا — بحيث يلائم مواد معينة لها خاصة الاتجاه وخاصة السرعة؛ ومعنى ذلك أنه يتطلب ما قد أسميناه بالتفسير المفضل أو المستحسن، وهو تفسير يقيد الحدود بنطاق معين، على حين أن مضمونات القضية الرياضية — من حيث هي رياضية — حرة من الشروط التي تتطلب أي تفسير مقيد بحدود؛ فليس لتلك المضمونات معنًى وليس لها تفسير إلا ما تفرضه عليها — من الناحية الصورية — ضرورة تحقيق الشرط الذي يستوجب إمكان تحويل المعاني بعضها إلى بعض داخل النسق الواحد، دون أن يكون لما هو بداخل النسق أية دلالة يشير بها إلى شيء خارج النسق؛ فبالمعنى الذي نقصده من كلمة «معنى» بالنسبة إلى أي مدرك ذي دلالة وجودية — حتى إذا كانت الدلالة غير مباشرة — لا يكون للحدود معنًى (حين ترد في قضية رياضية) — وهي حقيقة ربما فسرت لنا وجهة النظر القائلة بأن مادة الرياضة لا تزيد على كونها علامات جزافية يتبع بعضها بعضًا؛ لكنها ذات معنًى — بالمعنى المنطقي الأوسع — قوامه الذي لا قوام لها سواه، هو علاقاتها بعضها بالنسبة إلى بعض، وهي علاقات لا يحددها سوى استيفائها لشرط إمكان تحويلها؛ وإذن فهذا الطراز من القضية الشرطية الكلية، يستند في إثباته إثباتًا منطقيًّا، إلى علاقات صورية؛ إذ إن العلاقات الصورية تحدد كذلك الحدود أو المضمونات — أي إنها تحدد «مادة النظر» — بالوجه الذي لا تستطيع أن تحدد به أية قضية كلية يكون لها تطبيق وجودي آخر الأمر؛ فنوع العلاقة الذي يكمن بين القضايا في الفيزياء الرياضية هو وحده الذي يعمل على تحديد المضمونات.

ونلخص ما أسلفناه فنقول: إن تحويل المعاني وما بينها من علاقات أمر ضروري في التفكير الاستنباطي الذي نسير به سيرًا ينتهي به إلى استحداث أثر في تحويلاتنا لموجودات العالم الخارجي؛ إلا أن عمليات التحويل الداخلة في هذا، هي مما يمكن تجريده، فإذا ما جردناها وسلكناها في صياغة رمزية، زودتنا بطبقة جديدة من المادة يصبح التحويل الفعلي فيها مجرد إمكان التحويل؛ وفي مثل هذه الطبقة الجديدة من مادة البحث، لا يشترط لتوجيه التحويلات في سيرها المطلوب إلا استيفاء شروط إمكان التحويل بمعناه المجرد.

(٣) مقولة الإمكان

في هذه النظرية عن المادة الرياضية، استمرار لإبراز النقطة التي ظللنا نؤكدها خلال الفصول السابقة، ألا وهي فعل الإجراءات العملية في تحديد مواد البحث؛ والفحوى المنطقي لهذا التحديد الإجرائي في هذا السياق الذي نحن الآن بصدده، إنما يتضح بموازنة تفسيرين للإمكان في حقيقة معناه، التفسير الإجرائي (بالنسبة إلى إمكان التحويل) وتفسير نظري آخر؛ وأما هذا التفسير الآخر فتختلف نظريته في أنها تفرق بين معنى الإمكان الذي ينصرف إلى الحقيقة الوجودية، ومعناه حين ينصرف إلى ما نؤديه من إجراءات؛ وذلك أن هذه النظرية ترد الصور الرياضية (والمنطقية) إلى «عالم الإمكان» الذي يتصوره أصحاب هذه النظرية عالمًا ذا وجود خارجي قائم؛ وعالم الإمكان هذا هو أوسع مدًى من عالم التحقيق الفعلي بدرجة لا تنتهي عند حد؛ ولما كان يتحتم على ما هو متحقق بالفعل أن يكون ممكنًا قبل تحققه، كان عالم الإمكان هو الذي يحدد الأساس المنطقي النهائي الذي يتم التحقق الفعلي داخل نطاقه؛ ولهذا فُسِّر انطباق الرياضة والمنطق على الوجود الفعلي، بأنه حالة خاصة تتمثل فيها العلاقة العامة التي تربط عالم «الوجود» الممكن بعالم «الوجود» الفعلي؛ ولقد تناولنا هذه النظرية هنا بالبحث، لأنها تهيئ لنا الفرصة — عن طريق الموازنة — لإبراز ما ينطوي عليه تفسيرنا للإمكان تفسيرًا أدائيًّا إجرائيًّا، إبرازًا يجعل ما قد انطوى عليه ذلك التفسير أكثر علانية.

وليس أمرًا يسيرًا أن نجد مادة نوضح بها ما نريده، بحيث نخرج المناقشة من المجال الذي تصطرع فيه النظريات الفلسفية اصطراعًا مباشرًا، لندخلها في مجال المنطق بمعناه الضيق؛ ومع ذلك فقد نجد نقطة تنتقل عندها من ذلك المجال إلى هذا، وهي علاقة المصور الجغرافي لبلد ما، بالبلد نفسه الذي جاء ذلك المصور الجغرافي ليصوره؛ وليس هذا المثل التوضيحي أكثر من نقطة ننتقل عندها، لأنه من الواضح أننا لا نستطيع أن نفترض فيها بأنها حالة من حالات التماثل المباشر؛ إذ البلد المصور إن هو إلا مثل يمثل «عالم الوجود» الذي هو واقع بالفعل؛ والمصور الجغرافي يشير إلى البلد الذي يصوره من حيث هو أحد الموجودات الفعلية؛ لكن القوة التشبيهية في هذا المثل التوضيحي، تكمن في موضع غير كونه تماثلًا مباشرًا بين الحالتين، وأعني به الموازاة الصورية التي تتم بها المقابلة بين المصور الجغرافي وبين البلد المصور، بغض النظر عن الطبيعة الوجودية التي تتسم بها العلاقات الفعلية الكائنة بين أجزاء البلد المذكور.

أما أن هذه الموازاة الصورية المذكورة، موازاة بين علاقات، فواضح من أنها لا تقوم بين نقطة مرموقة على المصور من ناحية وأحد عناصر البلد المصور من ناحية أخرى، كمدينة أو نهر أو جبل؛ بل هي موازاة قائمة بين العلاقات التي تصل أجزاء المصور الجغرافي، والعلاقات التي تصل أجزاء البلد؛ فعلاقة «فوق – تحت» في المصور الجغرافي، توازي صوريًّا علاقة «شمال – جنوب» في البلد المصور؛ وعلاقة «يمين – يسار» توازي علاقة «شرق – غرب»؛ وكذلك قل عن علاقات البعد والاتجاه على المصور الجغرافي، إنها موازية صوريًّا لمثيلاتها على أرض البلد المصور؛ وليست الأولى نسخة حرفية من الثانية بحيث يكون الموجودان الفعليان (الخريطة والأرض) متشابهين في كل شيء؛ وسنستغل هذا المثل التوضيحي في بيان أن علاقة الموازاة الصورية كائنة بين مجموعة العلاقات على الخريطة، ومجموعة العلاقات بين أجزاء البلد الذي تصوره الخريطة، أي إن العلاقة بين هذين الطرازين من العلاقات، لا بد أن يفهم بمعنًى أدائي إجرائي.٢
ولنا أن نبدأ بذكر تعدد المعاني لكلمة «علاقة»؛ فهي لا تعني فقط الروابط الوجودية، والعلاقات المنطقية بين حدود القضية الواحدة، ودلالة القضية الواحدة على واقعة وجودية، أعني انطباقها على الوجود الخارجي، بل إنها تعني كذلك الرابطة بمعناها المجرد؛٣ وليست المجموعة الأولى من المعاني مما يتصل بمناقشتنا الخاصة بالموازاة الصورية في حالة الرياضة؛ وذلك لأنه بينما تقتضينا المبادئ المنطقية العامة أن نفرق بين الروابط الوجودية الكائنة بين أجزاء البلد المصور والعلاقات المنطقية الكائنة بين أجزاء الخريطة باعتبارها قضية من القضايا؛ ثم تقتضينا أن نميز هذين النوعين معًا في ناحية، من الدلالة التي تحملها الخريطة بالنسبة إلى البلد المصور من ناحية أخرى، أقول إنه بينما تقتضينا المبادئ المنطقية العامة أن نراعي هذه التفرقات، إلا أنها تفرقات لا شأن لها بما نحن الآن بصدده، إذ إن عالم «الوجود» الذي يُقال إن بينه وبين العلاقات الرياضية موازاة صورية، هو عالم من وجود مجرد؛ ومع ذلك فلا بد من ذكر نقطتين عن «العلاقة» (الدلالة) بين المصور الجغرافي وبين البلد المصور، لما لهما من تأثير على طبيعة الموازاة الصورية:
  • (١)

    إن العلاقات بين أجزاء الخريطة، شبيهة (بالمعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة) بالعلاقات بين أجزاء البلد المصور؛ لأن مجموعة الإجراءات التي تنشئ إحداهما هي هي بذاتها مجموعة العلاقات التي تنشئ الأخرى؛ فإذا كان هذا التشابه هو المثل الذي يوضح الموازاة الصورية، كان مثلًا لا يلقي ضوءًا على الموازاة الكائنة في الحقيقة الوجودية، والتي يُقال إنها قائمة بين الرياضة من جهة وعالم الإمكان من جهة أخرى؛ لأن القائلين بهذه الموازاة لا يعتقدون بأن الإجراءات التي نحدد بها العلاقة بين أجزاء المادة الرياضية، تحدد في الوقت نفسه العلاقات بين الحقائق في «عالم الإمكان»؛ على حين أننا نذهب هنا إلى أن إجراءات إمكان التحويل، التي نحدد بها مادة الرياضة، هي نفسها التي تكون «عالم الإمكان» بالمعنى المنطقي الوحيد الذي يمكن أن نفهم به هذه العبارة.

    فما أيسر أن ندرك صدق قولنا بأن العلاقات التي تربط أجزاء الخريطة شبيهة بالعلاقات التي تربط أجزاء البلد الذي تصوره الخريطة، لكونهما معًا نتيجة مجموعة واحدة من الإجراءات، هي هي نفسها في كلتا الحالتين، ما أيسر أن ندرك صدق هذا القول إذا ذكرنا أن كلتيهما تنتجان عن القيام بإجراءات معينة يمكن تلخيصها بكلمة «مسح»؛ فليس من شك في أن عناصر البلد المصور مرتبط بعضها ببعض في الوجود الخارجي، لكن هذه العلاقات التي تربطها تظل غير محددة حتى يتم لنا مسح ذلك البلد، هذا لو نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر علمنا به، أعني لو نظرنا إلى الأمر من ناحية القضايا التي يمكن تكوينها عن الروابط التي تربط أجزاءه؛ فإذا ما مسحناه، وإلى الحد الذي نبلغه في مسحه، ظهرت الخريطة التي تصوره في عالم الوجود؛ وعندئذٍ — بطبيعة الحال — يكون بين الخريطة من جهة والبلد كما صورته الخريطة من جهة أخرى، نمط من العلاقات مشترك؛ وكل ما نقع فيه من أخطاء في رسمنا للخريطة، نتيجة لنقص إجراءات المسح، سنراه أيضًا ماثلًا في القضايا التي نؤلفها عن العلاقات الكائنة بين أجزاء البلد؛ وأما المذهب القائل بوجود تشابه في البناء (وأقصد بالبناء هنا انعدام الجانب الإجرائي) بين علاقات الخريطة وعلاقات البلد المصور، فقد جاء نتيجة لأخذ الخرائط التي بلغت درجة كمالها — في حقيقة أمرها — خلال ما قد أديناه فيها من إجراءات مسحية منظمة، أخذ تلك الخرائط الكاملة بمعزل عن الإجراءات التي عملت على بنائها؛ وإن هذا المثل ليوضح لنا المغالطة التي تحدث دائمًا، كلما أخذنا القضايا أخذًا بغض النظر عن الوسائل التي مهدت السبيل لتكوينها.

  • (٢)

    ولو سلمنا بأن الخريطة نمط من علاقات، وجدنا أن «العلاقة» بين نمطها هذا وبين نمط العلاقات في البلد المصور، هي علاقة أدائية؛ فهي علاقة تتكون خلال ما يتم في مراحل السير التي تتوسط بين البداية والنهاية، من إجراءات جديدة تمليها هذه العلاقة نفسها، ثم تجيء نتائج هذه الإجراءات فتصبح لنا بمثابة الوسيلة التي نستعين بها على اختبار صدق الخريطة؛ فالخريطة أداة وسلية لإجراءات نجريها وفق إرشادها، مثل السفر، وتخطيط الطرق للرحلات، وتتبع حركات البضائع والناس؛ ولو كنا لنأخذ هذا الاعتبار عندما ننظر إلى مادة الرياضة، كان لا بد لنا — بطبيعة الحال — أن نلاحظ بأن الإجراءات الجديدة التي ترشدنا فيها مادة الخريطة من جهة ومادة الرياضة من جهة أخرى، تختلف من حيث الصورة في حالة منهما عنها في الأخرى؛ في حالة الرياضة لا تكون الإجراءات وعواقبها أمورًا واقعة في الوجود الفعلي، كما هي الحال في علاقة الخريطة بالسفر وما إليه، وبما يترتب على ذلك من عواقب أما إذا نظرنا إلى تطور المادة الرياضية من حيث هي كذلك، ألفينا الشبه كاملًا بين الحالتين من ناحية قيامنا بالإجراءات قيامًا أدائيًّا؛ فليست المادة الرياضية التي تتهيأ لنا في أية لحظة من الزمن، تشير إلى شيء في الحقيقة الوجودية الخارجية، فهي لا تشير إلى «عالم الإمكانات» كما يظن، بل تشير إلى إجراءات جديدة يمكن أداؤها في تحويل عناصرها بعضها إلى بعض.

وما دمنا نتخذ من الخريطة مثلًا يوضح لنا طبيعة الرياضة، فعلاقة الموازاة الصورية نراها بغير شك ماثلة في علاقة الخرائط المختلفة التي رسمت وفق أسس مختلفة من التصوير؛ فنمط العلاقات في خريطة رسمت على طريقة «مركيتور» mercator توازي من حيث الصورة خريطة رسمت على الطريقة المخروطية، أو على الطريقة الأسطوانية، أو على طريقة التجسيد، كما أنها توازي — من الوجهة النظرية — خريطة رسمت على أية طريقة أخرى غير الطرق المذكورة مما يجوز ابتكاره فيما بعد؛ ففي الخرائط التي رسمت على طريقة «مركيتور» تمط الأجزاء في المناطق القطبية؛ بينما يشوه الشكل في الخرائط الأسطوانية مع بقاء المساحات صحيحة؛ وفي الخرائط التجسيدية تكون المساحات صحيحة في تخطيطها لكن مقياس الرسم لا يظل ثابتًا في أجزاء الخريطة كلها … إلخ؛ فإذا نحن غضضنا النظر عن المهمة الإرشادية للخريطة، كان لا بد لنا أن نقول إنه ليس ثمة خريطة واحدة «صحيحة»، لا بسبب «التشويهات» الخاصة بكل نوع من الأنواع المذكورة لرسم الخرائط فحسب، بل كذلك لأن الخريطة — على أية حال — تمثل شكلًا كرويًّا على سطح مستوٍ؛ وأما على الأساس الأدائي فكل خريطة من أي طراز هي خريطة «صحيحة» (أعني أنها تنطبق على الواقع) ما دام استعمالها استعمالًا عمليًّا يؤدي إلى النتائج المراد تحقيقها بمعونة الخريطة؛٤ فإذا لم ننظر إلا إلى علاقة أنماط الرسم وحدها، ألفينا بين الأنماط المختلفة موازاة صورية، لأن العلاقات التي تميز إحداها، يمكن نقلها بحذافيرها — نقلًا جامعًا مانعًا — إلى العلاقات التي تميز سائرها.

إن ما تتضمنه الفقرة السالفة — فيما يختص بتوضيحنا للمادة الرياضية — هو بمثابة التمهيد لموضوع تعدد المعاني لكلمتي «علاقات» و«علاقي» عند تمييزنا للصورة في حالتي «الحدود المتعلقة» — وقد تسمى المتضايفات — و«العلاقات التي تصل الحدود» — وقد يُسمَّى التضايف؛ فالحدود تكون متعلقة بعضها ببعض بالمعنى الذي يجعلها مضافة إحداها إلى الأخرى، حيثما تتضمن تلك الحدود — علاوة على العلاقة الخاصة التي تدل عليها تلك الحدود — مفردات أو أنواعًا تتسم بسمات أو تتعلق بعلاقات غير العلاقة الخاصة المذكورة؛ أعني حيثما لا تكون العلاقة المذكورة مستوعبة لدلالة الحدود المتعلقة استيعابًا يستغرقها جميعًا، فكلمتا «والد» و«ابن» حَدَّان متضايفان، سواء أطلقناهما على فردين معينين أو على نوعين؛ لكن الأفراد الذين هم آباء وأبناء، يتسمون بسمات كثيرة أخرى ويتعلقون بعلاقات كثيرة أخرى؛ لا بل إنهما ليتعلقان أحدهما بالآخر بهذه العلاقة المعينة لأنهما يتصفان بصفات أخرى؛ أما «الأبوة – والبنوة» (بالمعنى المجرد) فحَدَّان يتعلقان «بعلاقة» تستنفد معنى الحدين بأكمله؛ والفرق بين الحالتين، هو الفرق الذي نعبر عنه في اللغة بهاتين اللفظتين الآتيتين على التوالي: «اسم عيني» و«اسم مجرد»؛ هذا إلى أنه ليس هنالك علاقة ضرورية تحتم أن يكون الرجل المتعلق بغيره على أنه والد، متعلقًا أيضًا بغيره على أنه أخ؛ فلأن يكون أخًا أو لا يكون، مسألة تتصل بالواقع، وتقررها المشاهدة؛ لكنه يجوز أن يكون هنالك «نسق من علاقات القربى» يقتضي أن تكون الأبوة والأخوة — داخل النسق — متعلقين بالضرورة، بينما يكون كلاهما متعلقين — بحكم تكوين النسق نفسه — بالعمومة وبنوة العمومة، وهكذا؛ كما هي الحال في قائمة مجردة للأنساب توضع لتشمل شمولًا جامعًا كل ضروب العلاقة في نسق من ممكنات القربى؛ فلو نظرنا إلى المناطق القطبية على خريطة «ميركيتور» المألوفة، على أنها متضايفة (بالمعنى الذي حددناه) مع الأقاليم الاستوائية، نتج عن ذلك أن تكون الخريطة باطلة في تمثيلها للواقع؛ لكننا إذا سلمنا بالإحداثيات التي تعرف هذه الطريقة المعينة من طرائق الرسم، وجدنا بين المناطق القطبية والمناطق الاستوائية علاقة ضرورية داخل هذا النسق الخاص؛ وإذن فحين يُقال عن المادة الرياضية إنها تتألف من علاقات بين علاقات، لا يكون هذا القول محدد المعنى؛ ففي حالة الأفراد والأنواع، تتضمن «علاقات العلاقات» دائمة إشارة إلى المواد المتعلقة — إشارة مضمرة أو صريحة — (وأعني بالمواد المتعلقة الأفراد والأنواع) التي لا يمكن أن نقرر وجودها أو عدم وجودها إلا عن طريق المشاهدة وحدها؛ إذ إنه بغير إشارة كهذه للعناصر من حيث هي حدود للعلاقات المتعلق بعضها ببعض، تكون (أعني علاقات العلاقات) تصورًا ذهنيًّا أجوف؛ لكن روابط العلاقات — بحكم طبيعتها نفسها — يتعلق بعضها ببعض في نسق — وطبيعة النسق تتقرر في الرياضة على أساس مجموعة المصادرات (أي الفروض الأولية المسلَّم بها بادئ ذي بدء).

وبناءً على ذلك فنسق الروابط العلاقية — إذا حددناه على أساس معلوم — كما هي الحال في رسم خريطة على طراز من الرسم خاص، أو كما هي الحال في قائمة للأنساب نتصورها تصورًا مجردًا، يؤلف لنا أساس الإجراءات التي نجريها عند تحويلنا للمعاني الداخلة في ذلك النسق بعضها إلى بعض، لا بل إن هذا القول لأضيق مما ينبغي، إذ يفوته أن يذكر أن نسق المعاني المتعلق بعضها ببعض، إنما يعرف التعريف الذي يمكننا من إجراء مجموعة التحويلات التي يتحتم على أي تحويل منها، من الوجهة الصورية — وهي الوجهة التي تحددها صادرات النسق — أن يكون ضروريًّا من الناحية المنطقية؛ فبالمعنى الضيق الذي تعبر عنه العبارة الأولى، نقول إن الروابط العلاقية التي تربط الخرائط المرسومة بطرق مختلفة، والتي تربط أجزاء نسق الأنساب حين نتصوره تصورًا مجردًا، هي روابط رياضية في طبيعتها؛ غير أن الرياضة بمعناها الصحيح، إنما تتألف من تجريد العملية الإجرائية التي نجري بها التحويلات الممكنة (لا الفعلية) (أي نجري بها عملية إمكان التحويل)، تجريدًا يعمم مادتها على نحو لا نجده ماثلًا في المثلين المذكورين؛ فلئن كنا لا ندعي بأن تفسيرنا للموازاة الصورية القائمة بين الأنماط المتناظرة من الروابط العلاقية، وهو تفسير يفسرها بجانبها الإجرائي الأدائي، أقول إننا وإن كنا لا ندعي أن هذا التفسير يبطل تفسير الرياضة تفسيرًا يردها إلى أساس وجودي؛ إلا أننا نزعم أن تفسيرنا يجعل هذا التفسير الأخير غير ضروري للنظرية المنطقية، ويضعه موضع أية نظرية ميتافيزيقية أخرى، مما ينبغي أن تؤيد أو تفند على أسس ميتافيزيقية.

(٤) طريقة فرض المصادرات

لقد أردنا بالمناقشة السالفة أن نبين أن النمط العام لعملية البحث، يتمثل في الرياضة، وأن نبين كذلك كيف يجيء هذا التمثيل، وذلك أن عملية التجريد التي تدخل في كل بحث نعالج به الموجودات الخارجية، هي نفسها تعود فتتجرد وتعمم؛ وسنمضي في مناقشة أخرى نحاول بها أن نبين بطريقة أكثر تعينًا، كيف أن نمط البحث يتمثل في منهج الرياضة القائم على فرض المصادرات.

  • (١)

    إن بداية أي بحث تنبثق من مثول أمر مشكل معين؛ فالمشكلات المتصلة بأمور وجودية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، قد هيأت لنا — في أولى مراحل تاريخها — فرصة تنشأ فيها العمليات والمدركات الرياضية، من حيث هي وسائل لحل تلك المشكلات؛ فلما تطورت الرياضة، أخذت المشكلات تصور بالمادة الرياضية بمقدار ما يسع هذه المادة الرياضية في حالتها التي تكون عندئذٍ عليها؛ ولا تناقض بين أن تكون المضمونات الرياضية تصورية ولا وجودية في طبيعتها، وبين أن تكون للمادة الرياضية حالة خاصة في زمان ومكان معينين، تجعل لها وضعًا خاصًّا بين سائر الموجودات الفعلية؛ لأن هذه الحالة الخاصة نتاج تاريخي وحقيقة واقعة من حقائق التاريخ؛ فالمادة الرياضية كما هي قائمة في زمن معين، تكون بمثابة «المعطى» بمعناه النسبي؛ وإن حالتها كما تكون حقيقة قائمة بالفعل لتثير — عند تمحيصها — مشكلات يؤدي حلها إلى إعادة بناء تلك المادة؛ فلو لم يكن في المادة الرياضية كما هي «معروضة» أمامنا مواضع متناقضة، أي فجوات بين مكوناتها، لما كانت الرياضة أمرًا يستدعي العناية المستمرة، ولكانت موضوعًا فرغنا منه وختمناه.

  • (٢)

    والوسائل المادية والوسائل المنهجية — كما قد ذكرنا في موضع سابق — تعملان جنبًا إلى جنب بحيث تكمل إحداهما الأخرى؛ وفي حالة الرياضة هنالك وسائل مادية، لها صفة المعطيات من الناحية الأدائية، على الرغم من كون الرياضة غير وجودية في طبيعتها؛ وهذه الوسائل المادية في الرياضة هي «العناصر» أو «الموجودات» التي تنصب عليها قواعد الإجراء؛ على حين تقوم هذه القواعد الإجرائية بمهمة الوسائل المنهجية؛ مثال ذلك العدد «٢» والعدد «٣» — في المعادلة ٢ + ٣ = ٥ — عنصران مما ينصب عليه الإجراء؛ على حين أن العلامة «+» والعلامة «=» هما الإجراءات نفسها التي تؤدى؛ ولا تناقض في قولنا إن المهمة الأدائية المنطقية في حالة المعطيات الوجودية، هي نفسها المهمة الأدائية المنطقية في حالة العناصر أو الرموز الرياضية، مع قولنا في الوقت نفسه إن هذه الأخيرة ذات طابع لا وجودي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إذ إن شروط إمكان التحويل، التي لا بد للمضمونات الرياضية من استيفائها، لتتطلب أن يكون هنالك «معطيات» تتحدد على أساس الإجراءات وقواعد إجرائها، مما نقوم بتنفيذه فعلًا، أو مما يُراد لنا أن نقوم بتنفيذه بوساطة تلك المعطيات، وعليها، أقول إن تلك «المعطيات» تتحدد على أساس الإجراءات وقواعد إجرائها فقط، وهي تتحدد على ذلك الأساس تحديدًا يستوعبها جميعًا.

وكذلك الحال في أي بحث وجودي، إذ نختار ونرتب المعطيات المادية. ونصب أعيننا الإجراءات التي يُنتظر أداؤها؛ وما هذه الإجراءات إلا الإمكانات التي صِيغت في القضايا الشرطية (التي نعبر بها عن الفروض المراد تحقيقها)؛ غير أن الصفات التي نختارها ونرتبها لتكون هي السمات التي نستشهد بها، إنما تختار من موقف وجودي بأجمعه، فضلًا عن أنها هي نفسها وجودية؛ ومن ثَم كانت تلك الصفات مما يستحيل تفسيره إلا تفسيرًا متعينًا بظروف خاصة، ويضع لها نهاياتها القصوى التي تتفاوت في نطاقها، وذلك لأن أي شيء ذي وجود فعلي يكون محاطًا بظروف مكانية وزمانية معينة، خاصة بموضع وجوده وزمان وجوده؛ وتبعًا لهذا — كما قد رأينا — تتحدد مضمونات التعميمات اللاوجودية التي هي من النوع الذي ينطبق على الوجود المادي، تتحدد على أساس مدى انطباقها على الموجودات الخارجية في نهاية الأمر؛ ولا يتنافى كونها مصوغة على النحو الذي يجعلها شاملة بالقدر المستطاع (أعني أن إمكان تطبيقها يتسع لأوسع نطاق ممكن من الموجودات الفعلية) أقول إن ذلك لا يتنافى مع كونها تتحدد في ختام السير على أساس إمكان تطبيقها تطبيقًا فعليًّا؛ نعم إن التعميمات التي نصوغها من شأنها أن تغض النظر عن أية إشارة إلى كافة الصفات وكافة الأحوال الكائنة في الوجود الخارجي، إذ لو أشارت إلى صفات وأحوال وجودية معينة، لأدى ذلك إلى انحصار النطاق الذي يمكن أن ينطبق التعميم في حدوده؛ إلا أن مثل هذا التجرد من الموجودات الخارجية، يعوضه، لا بل إنه ليتألف من اختيارنا السمات وجودية أوسع نطاقًا في شمولها للأنواع القائمة في الخارج؛٥ فمعنى قولنا إن المعطيات المادية في الرياضة ذات طبيعة تصورية، هو أن تلك المعطيات لا يحددها بأجمعها إلا إمكان الإجراءات التي نجريها في عملية التحويل، على أن هذه الإجراءات هي التي تتألف منها الوسيلة المنهجية في تفكيرنا الرياضي؛ وما هذه الخاصة إلا ذلك التحرر الذي تتجرد به التعليمات الوجودية من الوجود الجزئي المتعين، والذي كان يكون من شأنه أن يحصر نطاقها في مدًى ضيق، كما قد سبق لنا أن ذكرنا.

وهكذا انتهى بنا البحث إلى ذكر صريح لمنهج الرياضة الذي يقوم على فرض مصادرات معينة؛ فكل نسق علمي كائنًا ما كان — إذا ما حُلل ورُتب منطقيًّا — وُجد أنه منطوٍ على قضايا معينة، تكون لهذا النسق قضاياه الأولية؛ وهذه القضايا الأولية هي المصادرات لكونها تقرر الشروط التي يجب أن تحققها القضايا التي ستنتزعها داخل ذلك النسق؛ ففي نسقات العلم الطبيعي، تتضمن الشروط الواجبة الاستيفاء (١) عناصر قررتها المشاهدة الموجهة أي المشاهدة التجريبية، و(٢) إجراءات في مستطاعها أن تنفذ على مادة الوجود الخارجي؛ وأما القضايا الأولية التي هي المصادرات في النسق الرياضي — فهي — كما قد بيَّنا مطلقة من هذين الشرطين؛ لأن مضموناتها بالنسبة إلى العناصر التي نجري عليها إجراءاتنا، وإلى المنهج الذي نتبعه في تلك الإجراءات، لا يحددها سوى قابلية التحويل.

وبعبارة أخرى فإن مصادرات النسق الرياضي تقرر العناصر، والطرائق التي نتناول بها تلك العناصر، في علاقتها أحدها بالآخر، حيث ترتبط العناصر ارتباطًا متبادلًا دقيقًا، خذ — مثلًا — مصادرة كهذه: إذا كانت «أ» و«ب» عنصرين في المجال «ك» كانت «أ ب» (أ × ب) عنصرين في نفس المجال «ك»؛ فها هنا العناصر التي نصادر بها هي «أ» و«ب»؛ والإجراءات التي نصادر بها تتمثل في «واو العطف» وفي العلامة «×» أو في «أ ب»؛ فالقضية الأولية لا تصادر بادئ ذي بدء بعناصر معينة، ثم تعقب على ذلك بالمصادرة — بوساطة قضية أولية أخرى — على إجراء معين، بمصادرتين منفصلتين؛ بل إن العناصر والإجراءات توضعان معًا في مصادرة واحدة، بحيث تعتمد فيها العناصر والإجراءات كل على الأخرى من الوجهة المنطقية؛ فالعنصر «أ» يعرف تعريفًا من شأنه أنه إذا كانت العملية المرموز لها ﺑ «واو» العطف ممكنة التطبيق، كانت العملية المرموز لها بالعلامة «×» ممكنة التطبيق بالضرورة فالعناصر تقام منسوبة إلى الإجراءات التي ستعمل على ربطها بعضها ببعض، كما تتقرر الإجراءات وقواعد إجرائها منسوبة إلى العناصر؛ فالإجراءات التي تقررها المصادرات، لا تتعين إلا على أساس التكوينات التي يباح لتلك الإجراءات أن تدخل فيها وفق ما تقرره المصادرات؛ فمثلًا العملية الإجرائية التي تدل عليها العلامة «×» هي أية عملية إجرائية كائنة ما كانت، لا يشترط فيها سوى أن تحقق شروط تبادل الحدود وترتيبها وتوزيعها فيما يختص بالإجراء الذي تدل عليه العلامة «×».

ولهذا السبب يتلاقى الوصف والتعريف — وهما شيئان مختلفان من حيث الصورة المنطقية في حالة المادة الوجودية — يتلاقيان بالنسبة إلى عناصر المادة الرياضية أو معطياتها المادية، كما يتلاقى الاستدلال (استدلال شيء من شيء) واللزوم (لزوم قضية من قضية لزومًا استنباطيًّا)؛ فالعناصر هي كما يقرر لها تعريفها أن تكون، فالتعريف هو الذي يؤلف كيانها، ولا شيء سوى التعريف وأما طرائق الإجراء، التي تقرر المصادرات علاقتها المتبادلة مع العناصر، فهي — من جهة أخرى — حلول أكثر منها تعريفات؛ لكن لا التعريفات ولا الحلول يمكن الخلط بينها وبين البديهيات بالمعنى التقليدي الذي يجعل البديهيات حقائق واضحة بذاتها؛ فالحل من الحلول إنما يختص بطرائق المنهج التي لا بد من التزامها التزامًا دقيقًا، والتعريف من التعريفات يقرر العناصر التي يُنتظر أن تؤدَّى الإجراءات بها وعليها، بهذه المناهج المخصصة التي تتبع في بناء تكوينات من العناصر، مما من شأنه أن يتمخض عن تحويلات ترد في النظريات التي تستدل من المسلَّمات الأولى؛ هذا هو الضابط الذي لا ضابط سواه في تحديد معنى العناصر الرياضية، ومعنى ذلك أن الضابط صوري بالمعنى الدقيق؛ فليس ضابط معناها هو — كما كانت تزعم النظرية المنطقية القديمة في فلسفة الرياضة — مصدر كائن خارج النسق الرياضي ذاته، إذ كانت تلك النظرية تزعم أن العناصر الرياضية تشير إلى «ماهيات» خارجية.

إن كل نسق علمي يتألف من مجموعة مصادرات مستقلة — في المثل الأعلى المنطقي — إحداها عن الأخرى، أو هي لا تتدخل إحداها في الأخرى من حيث الإجراءات التي تؤدى بناءً عليها؛ وذلك لأن تآلف الإجراءات هو الطريق الوحيدة التي يمكن بها أن يحدث استطراد في مجرى التفكير الاستنباطي؛ وهذه المصادرة التي ذكرناها هي سبيل لإبراز مبدأ يقول إن أي عنصر يخضع لشرط الجمع المنطقي، يخضع أيضًا لشرط البدائل (إما … أو …) ومصادرة أخرى، هي: إذا كانت «أ» عنصرًا في المجال «ك» كانت «أ» هي الأخرى عنصرًا في ذلك المجال؛ فهذه مصادرة تقرر أن أي عنصر مما يرد في السياق، إذا كان يستطاع إثباته، كان بالتالي قابلًا لعملية النفي؛ وبهذا يتحقق الشرط المنطقي الذي يجعل عمليتي الإثبات والنفي على صلة متبادلة إحداهما بالأخرى؛ ولما كانت القضايا الأولية التي تؤلف مجموعة المصادرات من شأنها أن تملي عددًا كبيرًا من العمليات، تؤدي إلى جواز أن تتآلف نتائج أحد إجراءاتها مع نتائج الإجراءات الأخرى، كان من الجائز للمصادرات في نسق ما أن تكون هي النظريات في نسق آخر، والعكس صحيح؛ لأن الشرط المنطقي النهائي الوحيد، الذي يتطلب الاستيفاء، هو أن تُعَرِّف المصادرات عناصر النسق وترسم طرائق تناول تلك العناصر حين ترد في إجراءات عدة متآلفة كالتي تستلزم النظريات لتكون نتائج لها، وهي الإجراءات التي تحقق الشروط كافة التي يشترطها اتصال القضايا وانفصالها.

ولو أخذت أي إجراء بمفرده، وجدته يعاود الحدوث مرات لا حصر لعددها، أي إنه إجراء لا ينتهي عند ختام معين؛ وإن هذا ليصدق حتى على العمليات المادية مثل المشي وتقطيع الخشب؛ فالعمليات المفردة لا تزودنا من تلقاء نفسها بمرحلة اختتامها، بل هي لا تبلغ مرحلة الختام إلا إذا تدخل فيها إجراء آخر من وجهة مضادة، فقطع عليها طريق سيرها؛ وبعبارة أخرى، مجموعة الإجراءات المتآلفة ونتائجها قد تسمى بالإجراءات المتقاطعة، ومن أمثلتها النموذجية — ولو أنه مثل يضع لها نهاياتها القصوى — مثل العلاقة بين الإثبات والنفي الذي سبق أن ذكرناه؛ على أننا معنيون في هذا السياق، بالصفة المميزة لطبيعة الإجراء العملي من حيث تكراره تكرارًا لا ينتهي مما تقتضيه طبيعته نفسها؛ فهذه الخاصة فيه هي التي تهيئ الأساس الذي يرتكز عليه ما قد أسموه «بالاستقراء الرياضي»، وطبيعة هذا الاستقراء تتمثل فيما يلي: مجموع الأعداد الفردية الأولى حتى العدد ن هو ن٢؛ وهي خاصة تصدق على الحالة التي تكون فيها ن تساوي ١؛ ونستطيع أن نبين أن هذه الخاصة لو صدقت على ن = ك، فهي تصدق كذلك على ن = ك + ١؛ وإذن فهي تصدق على أية قيمة من قيم ن، ما دامت أية قيمة ﻟ «ن» يمكن الحصول عليها من العدد ١ بتكرار العملية التي نضيف بها ١؛ ولما كنا لا نستطيع أن نشتق هذا المبدأ من قضايا أخرى، قيل — كما قال «بوانكاريه» مثلًا — إنه «حدس من العقل» والواقع أنه صياغة لما لأي إجراء من صفة التكرارية المنبثقة من طبيعته نفسها، إذ يظل يتكرر إلى أن يقطع عليه طريق التكرار اجتماعه بإجراء آخر، أو إلى أن يسد عليه طريق التكرار مجال كمجال الأعداد اللانهائية التي لا تكون للإجراءات العملية فيها تلك الخاصة الاستقرائية؛ فالمبدأ المذكور لا هو مصادرة ولا هو حدس، بل هو جزء من الوصف الذي نصف به طبيعة الإجراءات التي تصدر عن مصادرات معينة في نسق معلوم.
إن تآلف العمليات الإجرائية التي تجتمع بغيرها فتتكامل معه في كيان واحد، والتي يقطع عليها طريق السير إجراء آخر فيسده، هذا التآلف ينتج لنا — في حالة نسق الأعداد — أعدادًا تكون حواصل جمع (أو ضرب أو طرح) كما تكون — بفضل تكامل الإجراءات — أعدادًا صحيحة؛٦ وعلى ذلك فالعدد ٧٤٨ الذي هو حاصل جمع، أو باقي طرح أو ناتج ضرب بالنسبة إلى العمليات التي أوجدته، هو كذلك عدد يمكن معاملته باعتباره هو نفسه عددًا صحيحًا يدخل في عمليات أخرى؛ ولولا المبدأ الذي يتمثل في هذا المثل الساذج، لما توافر للمادة الرياضية طابعها من حيث هي غير منتهية عند حد معلوم بسبب قابليتها للتحويل قابلية مجردة؛ فالأعداد الآتية: ١، ، ١ × ١، ، ١١، ، هي نواتج عمليات مختلفة، وهي متميزة بعضها من بعض على أساس العمليات التي أوجدتها؛ وهو أمر ربما كان أوضح ظهورًا في حالة العدد ١ باعتباره الحد الذي تنتهي عنده السلسلة اللانهائية: ١ / ٢، ١ / ٤، ١ / ٨   لكن عمليات أخرى قد تؤدى بأية واحدة من هذه النتائج، إما بالنسبة إلى، أو بغض النظر عن النسبة إلى العمليات التي كانت أنتجتها تبعًا لمقتضيات المسألة التي بين أيدينا، ولا يشترط هنا إلا شرط واحد، وهو ألا نخرج على مصادرات النسق الذي نكون بصدده؛ ولو لم يكن الأمر كذلك، لاستحال أن تتحقق شروط قابلية التحويل المجردة، لأن الحوائل عندئذٍ تحول دون ذلك، كالحوائل التي كانت ذات يوم يظن أنها قائمة في حالة «الأعداد اللامقيسة».
هذا المبدأ هو أساس عمليات الاختصار (التبسيط) والتوسيع (التأليف) التي تلعب دورًا خطيرًا في الرياضة؛ فالخط الأفقي الذي نرسمه فوق أرقام مختلفة لنربطها معًا في مقدار واحد، أو الأقواس التي تدمج ما بداخلها في مقدار واحد، تمثل لنا كيف تتآلف مجموعة منوعة من العمليات في أداء مشترك؛ ونستطيع أن نمثل نتيجة تآلف العمليات بعبارة بسيطة نصب إجراءنا عليها وبها، دون الرجوع إلى مركب العمليات التي نرمز لها بما يقع بين الأقواس من مضمونات وإن هذا التبسيط لمثل آخر يوضح المبدأ القائل بأن قابلية التحويل هي المقولة المنطقية النهائية، وبأن العمليات الرياضية كافة لا بد أن تكون بحيث تحتفظ بالتحويلات كما هي، أو تتقدم بها، وذلك في ظل صادرات النسق الذي نكون بصدده.٧

وبناءً على ذلك فالتعادل داخل نسق معلوم، هو دائمًا غاية مقصودة أو هدف يُراد بلوغه؛ وتمشيًا مع وجهة النظر التي سبق أن بسطناها، فهذا التعادل من حيث هو غاية مقصودة، يقوم أيضًا بمهمة هي أن يكون وسيلة نهتدي بها في ترتيبنا للظروف التي تهيئ لنا سبيل بلوغها ترتيبًا ينطوي على اختيار طائفة من العناصر دون أخرى؛ والتعادل في الرياضة يتخذ صورة المعادلة؛ فإذا كان التعادل وقابلية الإبدال، في البحث الذي ينصب على الموجودات الخارجية، يتأثران بقابلية انطباق نتيجة البحث الأخيرة على كائنات الوجود الخارجي، ومن ثَم فهما خاضعان للشروط المفروضة عليها لتحقيق هذه النهاية؛ ففي الرياضة — ما دام التعادل (أو المعادلات) هي الغاية المقصودة المراد بلوغها داخل نسق معلوم وفي ظل قاعدة فعالة في اختيار العناصر ثم ترتيبها — لا يكون بنا حاجة إلى تنويع العمليات التي نحدد بها مضمونات النسق الذي نحن إزاءه، لا يكون بنا حاجة إلى هذا التنويع من أجل القيام بعمليات أخرى (إذ لا يقصد بها في التفكير الاستنباطي أن تنتهي إلى قضايا كلية يمكن تطبيقها تطبيقًا عمليًّا على موجودات العالم الخارجي)، على شرط أن تجيء نتائجها مستوفية للشروط التي يقتضيها وصولنا في النهاية إلى تعادل أو إلى معادلة، حتى لنستطيع أخذها إما على صورة مبسطة أو على صورة موسعة، لنجعل منها مادتنا فيما نقوم به بعدئذٍ من عمليات التحويل.

فحين نكون داخل النسق الذي حددته لنا مجموعة معينة من المصادرات، يكون التعادل هو هدفنا المقصود؛ فإذا ما كان هنالك مجموعات مختلفة من مصادرات، كل منها تحدد نسقًا غير النسق الذي تحدده الأخرى، لم يكن ثمة شروط لتحقيق التعادل بينها؛ فإن كانت قابلية التحويل على إطلاقها تتطلب أن تكون النظريات في أي من هذه النسقات، ممكنة التحويل بحيث نستطيع ترجمتها إلى نظريات في النسقات الأخرى، فإن هذا التحويل المتبادل بينها إنما يتحقق بما نوجده بينها من موازاة صورية؛ أعني أن الموازاة الصورية (كالتي تكون بين الخرائط التي رسمت وفق أنماط من الرسم مختلفة) هي بالنسية لقابلية التحويل بين النسقات، كالتعادل بالنسبة إلى التحويل كما يحدث فعلًا داخل نسق معين؛ غير أن إيجاد قابلية التحويل بين مختلف النسقات، يتطلب إيجاد نسق جديد ليكون حلقة الوصل بينها؛ فالأمر هنا شبيه بما لو كانت الترجمة من اليونانية أو اللاتينية أو الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية … إلخ إلى بعضها، يتطلب إيجاد لغة جديدة أو مجموعة من رموز جديدة؛ مثال ذلك ما قد يحدث عندما جعلت النتائج المميزة للجبر والنتائج المميزة للهندسة، موازية إحداهما للأخرى بإيجاد هندسة تحليلية؛ فمن الخصائص التي تطبع مقولة قابلية التحويل في صورتها الشاملة المجردة، حين نُعَرِّف بهذه المقولة مادة الرياضة، أن إقامتنا لنسق رياضي معين، من شأنه — عاجلًا أو آجلًا — أن يقيم مشكلة خاصة بإقامة فرع جديد من الرياضة، يمكن بوساطته أن تترجم النظريات الخاصة بالنسق الجديد إلى نظريات النسقات الأخرى، وهو جانب يساعدنا على تفسير الخصوبة التي لا حد لها في تقدم الرياضة.

وفي الرياضة مقولة هامة، هي مقولة «الدورية» أو «التجمع» والذي يحددها هو تآلف العمليات تآلفًا يجعل الواحدة منها تحد من الأخرى؛ وليس من شك في أن المصدر الأصلي في التاريخ للترتيب الدوري، كان في موجودات العالم الخارجي؛ فيذهب الظن ببعضهم — مثلًا — إلى أن أول اسم للعدد «٢» كان قد استمد من تجمع طبيعي، كجناحي الطائر؛ وأن اسم العدد «٣» قد استمد — مثلًا — من الترتيب التماثلي لأوراق الشجر في مجموعات ثلاثية؛ ومهما يكن من أمر في هذا الشأن، فليس من شك في أن التجمع الدوري الذي يؤلف نظامنا العشري قد استمد بإيحاء من الحقيقة الواقعة التي هي أصابع اليدين العشر و/أو أصابع القدمين العشر؛ فلئن كان النظام العشري قد جاء اتفاقًا في أصله التاريخي، إلا أن ثمة صورة ما من صور التجمع الدوري (مستقلة بالطبع عن الاعتبارات الوجودية) أمر ضروري، لا اتفاقي؛ وذلك أنه ما لم تكن المجموعات المتآلفة قد اتخذت صورة التكرارية في العمليات الإجرائية في حالة تجمعاتها (أي إنه لو كانت تلك الصورة مقصورة على تكرار حدوث العمليات وهي فرادى) لما كان هنالك تكامل في العمليات التي تم أداؤها بالفعل؛ والتجمع ظاهر ظهورًا جليًّا في تكرار موضع العدد ١٠ في نظامنا العشري، لكن المبدأ يتمثل في أي عدد آخر، كالعدد «٢» مثلًا وإلا لما كان هناك سوى تتابع لا عددي كدقات الساعة المتتابعة حين لا يرتبط بعضها ببعض في وحدة تضمها؛ والدورية في سلسلة الأعداد اللانهائية، تعتمد على طبيعة العمليات التي توجدها، وهي طبيعة تتميز بعدم التكامل إلى حد ما؛ والعكس صحيح بالنسبة للأعداد الصحيحة الكاملة، فأي عدد منها هو تكامل لعمليات تحدد وتعبر عن دورية في الترتيب على وجه ما؛ ومفاهيمنا عن الخط والسطح والحجم — وما يتبعها من مقولات فرعية — هي أمثلة من التجمعات المتكاملة؛ وإذا كان هذا القول في ظاهر الأمر لا يصدق — فيما يبدو — على فكرتنا عن النقطة، فإن اندراج النقطة مع غيرها من التجمعات المتكاملة ليظهر حين نلحظ اعتماد فكرتنا عن النقطة اعتمادًا كاملًا على فكرتنا عن الخطوط والأسطح والأحجام؛ لا بل إنه ليصح أن يُقال بأن النقطة الرياضية — كاللحظة الرياضية — تُخرج إلى العلن الصريح فكرة الفترية المجردة المتضمنة في الدورية المجردة.

ونستطيع أن نطبق النتائج التي وصلنا إليها على تفسيرنا للصفر واللانهاية؛ فقد ذكرنا مرارًا فيما سبق أن بسطناه من موضوعات منطقية مختلفة، العلاقة المتبادلة بين الإثبات والنفي (أو تحديد ذاتية الشيء وتمييزه عن سواه، أو جمع أفراد النوع معًا ومنع ما عداها من الدخول معها)؛ ولما كان هذا الشرط مستحيل التحقق تحققًا كاملًا في البحث الوجودي، لأن ظروف الوجود الخارجي، بالنسبة إلى أي قضية مستدلة لا تقيم نسقًا مقفلًا، نشأ عن ذلك أن كانت قضايانا عن الوجود الفعلي ذات طبيعة احتمالية، بالقياس إلى ما هو صادق بالضرورة؛ وأما المادة الرياضية فلها من التكوين الصوري الصرف ما يستوفي هذا الشرط؛ أي إن المثبت والمنفي يكونان في هذه الحالة من التكامل التام أحدهما مع الآخر، حتى ليجوز أن يُقال إن إحدى القواعد الأولية الثابتة هي استحالة أن تتصف عملية معينة بصفة لا يمكن لعملية أخرى أن تنفيها؛ وإذن فالصفر ليس رمزًا لمجرد انعدام العمليات الإجرائية، كلا ولا هو — كما هي الحال في الفئة الفارغة التي قد ترد في القضايا الوجودية — رمز لنوع خالٍ من المفردات في لحظة زمنية معينة؛ بل هو رمز يشير إلى التوازن التام والضروري، الذي تتسم به عمليات تحديد ذاتية الشيء المصحوب بتميزه مما عداه، أي تتسم به عمليات جمع مفردات النوع في نوعها، ومنع ما عداها من الدخول معها؛ وإن معادلة من قبيل قولنا «أ – ب = صفر» لتعبر تعبيرًا بسيطًا عن هذا التكامل بين العمليتين.

على أن المهمة المنطقية الإيجابية التي يؤديها الصفر، هي أنه بغير الصفر تضيع منا العمليات التي تحدث قابلية «للتحويل كاملة»؛ فالأعداد السالبة في سلسلة الأعداد — مثلًا — لا يكون لها مسوغ مشروع بغير الصفر، لأن الصفر — من حيث هو أحد الأعداد — هو الذي يحدد الاتجاه؛ وفي الرياضية التحليلية مثل أفضل، حين يكون الصفر هو نقطة ابتداء الموجهات داخل النسق؛ إذ إن الصفر عندئذٍ — باعتباره مركزًا لنسق من إحداثيات — هو الذي يتيح لنا إمكان إجراء عمليات في شتى الاتجاهات، إمكانًا فيه تجرد وتعميم؛ وهذا من شأنه أن ينتج لنا نتائج، لها من التحديد ما يجعلها مضمونات متعلقًا بعضها ببعض داخل نسق من التحويلات معلوم الحدود؛ هذا إلى أن الصفر — باعتباره رمزًا يشير إلى مركز النسق المحدد بوساطة الإحداثيات — هو الرمز الدالُّ على تلك العلاقة التامة التكامل التي تقوم بين عمليات الإثبات والنفي إحداهما إزاء الأخرى.

وأما اللانهائي — بمعنى غير المنتهي عند خاتمة معينة — فهو رمز نرمز به إلى ذلك الجانب في طبيعة أية عملية إجرائية — كائنة ما كانت — وأعني به صفة التكرارية المتأصلة فيها، ما دمنا نأخذ العملية المعينة قائمة وحدها؛ وإذن فلانهائية العدد أو لانهائية الخط (متميزة من الخطوط حين تكون أجزاء مقتطعة من خط معين، وهي طابع يميز هندسة إقليدس) ليست تعني عددًا لانهائيًّا معينًا، أو خطًّا لانهائيًّا معينًا؛ وإن الفلسفة الرياضية الحديثة، لتخلع معنًى آخر أكثر تعميمًا على فكرة اللانهائي؛ ألا وهو معنى التقابل، وبخاصة ذلك التقابل الذي يكون بين الجزء والكل الذي يكون ذلك الجزء جزءًا منه؛ ولما كانت مقولة التقابل متضمنة في إمكان التحويل (وذلك في الحالتين: حالة التعادل الذي يكون بين أجزاء النسق الواحد، وحالة التوازي الصوري الذي يكون بين مختلف النسقات) نشأت مشكلة منطقية، وهي هل نفسر التقابل الوارد في تعريفنا للانهائي بهذا التعريف، تفسيرًا إجرائيًّا، أم نفسره تفسيرًا آخر؛ فإذا فسرناه تفسيرًا إجرائيًّا، أدى بنا المذهب القائل بأن اللانهائية معناها هو أن المجموعات «مساوية» لأجزائها، إلى إيجاد تقابل بين شيئين يكون بينهما موازاة صورية، بعمليات نجريها؛ وعندئذٍ نكاد نستطيع تفسير التقابل في مثل هذه الحالة المعينة، تفسيرًا يجعله دالًّا على «التقابل» بمعناه المجرد.

وليس معنى لفظ «يساوي» في هذه الحالة هو التعادل الذي نجعله — داخل نسق معلوم — غاية مقصودة وضابطًا يوجه عملياتنا الإجرائية؛ فمثلًا العدد ٧ من سلسلة الأعداد الفردية يقابل العدد ٤ في سلسلة الأعداد كلها زوجية وفردية؛ والتقابل هنا حقيقي، كما هو حقيقي في تقابل ٩ مع ٥، وتقابل ١١ مع ٦ … إلخ؛ ولئن كان من الصواب أن نقول إن الأعداد الفردية المذكورة إن هي إلا «جزء» من مجموعة «الكل» التي تشمل الأعداد الزوجية الفردية معًا، إلا أنه لا يلزم عن ذلك أن تكون العلاقة بين المجموعتين، هي نفسها العلاقة بين الكل والجزء، بالمعنى الذي تتمثل به علاقة «الكل» و«الجزء» داخل مجموعة الأعداد كلها؛ نعم إن تتابع الأعداد الفردية هو جزء من مجموعة الأعداد كلها، ما دام يحدث بنفس العملية الإجرائية ذاتها التي تحدد المجموعة لكننا إذا نظرنا إليها على أنها مجموعة قائمة بذاتها، هي مجموعة الأعداد الفردية، وجدنا العملية التي تحدد هذه الأعداد مختلفة عن العملية التي نحدد بها سلسلة الأعداد كلها، وإذن فبهذا الاعتبار لا تكون الأعداد الفردية جزءًا من المجموعة الأخرى؛ إذ لو أخذنا العلاقة بينهما على أنها علاقة «الكل بالجزء» بمعناها المألوف، كان ذلك شبيهًا بقولنا إن خريطة إنجلترا حين تكون موجودة داخل إنجلترا، هي «جزء» من «الكل» الذي هو إنجلترا؛ مع أن العلاقة ذات الدلالة بينهما هي علاقة الموازاة الصورية بين النظائر؛ وإنه لمما نسوقه على سبيل التمثيل الواضح لقابلية التحويل، هو استطاعتنا أن نوجد علاقة التقابل الذي يقابل جانبًا من هنا مع جانب من هناك من مكونات المجموعتين؛ فعدد العمليات التي نؤديها في ترتيبنا الأعداد الفردية، هو نفسه دائمًا عدد العمليات المتضمنة في أي عدد من مجموعة الأعداد الفردية والزوجية معًا، كما هي الحال في ٧ و٤، وفي ٩ و٥، وهكذا؛ لكن في حالة ١، ٢، ٣، ٤ … إلخ — باعتبار هذه الأعداد أجزاء من الكل الذي هو ١٠ مثلًا — فعلى الرغم من أن الفرق بينها من حيث هي أجزاء مرهون بتكامل العمليات التي نجريها، إلا أن منهج العملية الإجرائية هنا ليس هو نفسه المنهج الذي نميز به الأعداد ١، ٣، ٥، ٧ من مجموعة الأعداد الفردية؛ ولهذا فهذه الأعداد مختلفة من ناحية الإجراء الذي نجريه في استخراجها، عن الأعداد ١، ٣، ٥، ٧ التي تقع في المجموعة العددية الأخرى، ويجوز لنا أن نعد التقابل بينهما (ولو أنه ليس تقابل التعادل) تقابل الموازاة الصورية التي تكون بين النظائر؛ إذ هو تقابل يجعل في حدود الإمكان إيجاد طبقة جديدة من المفاهيم الرياضية، كما هو الشأن في الحالة التي أسلفنا ذكرها عن النظائر بصفة عامة؛ وهكذا يمكننا أن نعد مقولة اللانهاية بمثابة الصياغة التي نعبر بها عن صفة التقابل في حالتها المجردة.

وأختم هذا الجزء من المناقشة بالإشارة إلى معنى «الدالات» في البحث الفيزيائي وفي البحث الرياضي على التوالي؛ فحين يُقال: «إن حجم الغاز هو دالة الحرارة والضغط» يكون المعنى المراد إثباته هو أن أي تغير في الحجم يحدث في الوجود الفعلي، مرتبط بالتغيرات التي تحدث في الحرارة و/أو في الضغط؛ وهي صيغة نصل إليها ونختبر صدقها بعمليات المشاهدة التجريبية؛ ومن ثَم فالصيغة مرهونة في صدقها بما يعرض خلال التجربة؛ ولهذا طرأ على صياغة «بويل» Boyle (المذكورة أعلاه) تعديل يزيدها دقة لتقابل الوقائع الجديدة التي ثبت وقوعها، وهو التعديل الذي نراه في صياغة «فانت هوف» Van’t Hoff فإذا سلمنا بالصياغة التي تصوغ لنا الدالة، أمكننا أن نحدد قيم الحجم والضغط والحرارة، على ألا يتم لنا ذلك إلا بوساطة عمليات مستقلة نشاهد بها ما هو واقع بالفعل؛ إذ القيم لا «تلزم» عن الصيغة بالمعنى الذي يجعل القيم متضمنة في الصيغة نفسها؛ وأما في حالة قضية مثل ص – س٢ فكل عملية تعطي قيمة معينة إما ﻟ «س» أو ﻟ «ص» تحدث بالضرورة تعديلًا يقابلها في قيمة الشطر الآخر من شطري المعادلة؛ والعملية التي تحدد بها قيمة ما، تتوقف توقفًا تامًّا على النسق الذي تكون المعادلة جزءًا منه، وليست تتوقف على عمليات مما يجرى خارج النسق، كعمليات المشاهدة مثلًا، ومن ثَم استحال منطقيًّا أن نفسر صور التعميمات الفيزيائية (وهي تعميمات يمكن صياغها في ارتباطات دالية) بأن ننقل إليها صورة الدالات الرياضية ودالات القضايا.

ونستطيع أن نسوق مثلًا يوضح ما تتضمنه الفقرات السالفة، نستمده من تفسير النقط المكانية واللحظات الزمانية بطريقة «التجريد من عالم الأشياء الواقعة»؛ فيستحيل أن «نجرد» النقطة بمعناها الرياضي تجريدًا يكون معناه اقتطاع جزء معين نختاره من العلاقات القائمة فعلًا بين ما في العالم الطبيعي من خطوط أو أمكنة أو أجسام؛ لأن النقطة من طراز منطقي مختلف عن أي رقعة مكانية في الطبيعة مهما تبلغ من ضآلة الحجم، كلا ولا هي مجرد انتهاء الامتداد المكاني؛ وذلك لأنه بغض النظر عن الصعاب المنطقية التي تكتنف ما هو سالب بحت، أو على الأقل تكتنف ما هو سالب في «لانهائيته»، فالنقطة تؤدي لنا مهمة إيجابية؛ فهي ليست مجرد امتناع الامتداد المكاني، كما أن الصفر ليس مجرد امتناع العدد؛ إذ النقطة حد علاقي (ولا أقول حدًّا نسبيًّا) بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ فلا يمكن استخراجها بالتجريد من الموجودات المكانية — بالمعنى الحرفي لما هو ممتد في المكان — مهما تبلغ الرقعة المكانية من درجة الامتداد؛ فالنقطة تعني رابطة علاقية؛ والرابطة العلاقية التي تربط الشامل بالمشمول لا يمكن الحصول عليها منطقيًّا بأية عملية نختار بها جانبًا من بين علاقات الأشياء المشمولة بعضها في بعض والشاملة بعضها البعض؛ على الرغم من أن هذه العلاقة قد توحي لنا بفكرة الرابطة العلاقية بمعناها المجرد؛ فالرابطة العلاقية بمعناها المجرد تنطبق على الأجسام الطبيعية المشمولة في غيرها والشاملة لغيرها، انطباق الأبوة على من هم بين الناس آباء؛ فقولنا: «الخط مؤلف من نقط» ليس سوى طريقة للقول بأن عمليات التدخل الذي يقطع طريق السير، قد تتآلف مع العملية التي نرسم بها خطًّا رياضيًّا، تآلفًا من شأنه أن يحدد النقط؛ على حين أن قولنا: «إن الخط مؤلف من عدد لانهائي من النقط» ليس سوى طريقة للقول بأن العملية المركبة المذكورة من شأنها — كأية عملية أخرى في هذا المجال — ألا تضع خاتمة يقف الخط عندها.

(٥) إمكان الدلالة الوجودية

لقد قلنا في فاتحة هذا الفصل إن نظرية منطقية عن الرياضية لا بد لها أن تفسر أمرين معًا: فتفسر امتناع الضرورة في دلالة الرياضة على ما هو موجود في العالم الخارجي، وهو الامتناع الذي يجعل القضايا الرياضية قابلة لأن يبرهن على صدقها برهانًا صوريًّا؛ كما تفسر إمكان أن يكون للقضايا الرياضية دلالة وجودية إمكانًا يتخذ صورة التعميم؛ وقد شغلنا حتى الآن بأول هذين الأمرين؛ (وأما الأمر الثاني) فاستعمال الحساب في المعاملات التجارية العادية، والدور الذي تقوم به الرياضة في العلم الفيزيائي، ليكفيان لبيان أن قابلية التطبيق ممكنة، وأن الإمكان متحقق على نطاق واسع؛ وسأذكر نقطتين خاصتين بموضوع الإمكان.

  • (١)
    النقطة الأولى هي أن قابلية التطبيق تمتد في نطاق لا تحده حدود، وما ذلك إلا بسبب التحرر من ضرورة التطبيق؛ فكون مدى قابلية تطبيق المادة الرياضية على الموجودات الخارجية يتناسب تناسبًا طرديًّا مع تجرد تلك المادة، ظاهر من تاريخ العلم الفيزيائي في علاقته بتاريخ العلم الرياضي؛ فطالما كان المفروض في هندسة إقليدس أنها ذات دلالة وجودية مباشرة، كان تطبيق الهندسة في علم الفيزياء محدودًا إلى درجة كبيرة، وحتى حين كانت تطبق، كانت عادة تجر الفيزياء إلى سبل مؤدية إلى خطأ؛ فلما جاءت هندسة «ريمان» Riemann وهندسة «لوباتشفسكي» Lobachewski، لم تكتفيا بتحرير الهندسة من دلالتها الوجودية المزعومة (وهي دلالة لم يزعمها لها الأقدمون وحدهم، بل زعمها لها كانط في نظريته عن ارتباط الهندسة بالمكان، ثم ارتباط المكان بصورة قبلية من صور الإدراك العقلي)، بل إنهما بتحريرهما لها على هذا النحو، أصبحت مصدرًا يزودنا بأدوات وسلية لتطوير النظرية الفيزيائية الخاصة بالنسبية العامة؛ وهنالك تطورات غاية في الأهمية في نظرية النسبية الخاصة، وفي نظرية الكوانتا quanta ما كانت لتدخل في حدود الإمكان دون أن يسبقها تطور قائم بذاته لفروع من الرياضة لم يكن لها عند أول نشأتها أية علاقة بالفيزياء يتصورها الخيال، شأنها في ذلك شأن الجبر الوتري وجبر الثوابت.

    أمثلة كهذه — وهي أمثلة يمكن مضاعفتها إلى حد كبير — ليست من قبيل المصادفات العابرة؛ فبغير أن تكون لدينا فكرة ما — والفكرة في ذاتها بمثابة الإمكان، ومن ثَم فهي مجردة بقدر ما هي دالة على ما يمكن حدوثه — أقول إنه بغير أن تكون لدينا فكرة ما، لما كان هنالك من سبيل لإحداث التحويلات الوجودية إلا بأدوات عضوية؛ فذلك ظاهر من المدى المحدود الذي تقتصر عليه الحيوانات الدنيا في أوجه نشاطها؛ وكلما اتسع نطاق المدركات المجردة، ثم كلما اتسع مجال العمليات وازدادت تجريدًا، أعني العمليات التي بوساطتها تتطور تلك المدركات في مجرى التفكير الاستنباطي، كثرت بين أيدينا الأدوات الوسلية التي يمكن أن نؤدي بها العمليات الإجرائية في الطبيعة الخارجية، والتي من شأنها أن توجد لنا من المعطيات ما يصلح أن يكون أساسًا ملائمًا لاستدلال منظم واسع المدى؛ وأما إلى أي حد يمكن لهذه الإمكانات أن تتحقق بالفعل في لحظة زمنية معينة، فيتوقف على حالة العلم الفيزيائي في تلك اللحظة، ويتوقف بصفة خاصة على ما يكون بين أيدينا عندئذٍ من آلات مادية وتقنيات؛ على أن الإمكانات تظل قائمة تنتظر الفرصة التي تتيح لها أن تظهر ظهورًا عمليًّا.

    لقد كان لدى علماء الرياضة الإسكندريين — كما قد قيل — كافة المدركات العقلية التي كانت مطلوبة في زمانهم لمعالجة مشكلات سرعة الحركة وعجلتها؛ ولذلك فقد كان يمكن — من الوجهة النظرية — أن يسبقوا الفيزياء الحديثة إلى إدراك بعض مفاهيمها الرئيسية؛٨ لكن هندسة إقليدس قد أحدثت تضييقًا إجباريًّا قيدت به اتساع المجال، وكان تأثيرها هذا مرتكزًا على ضرورة مزعومة لتفسير المدركات الرياضية على أساس الماهيات الوجودية؛ فما قد نتج عن ذلك من قصر الأعداد على النسب الهندسية خلع مضمونات خاصة على البديهيات والتعريفات، وكذلك خلعها على جميع النظريات المستنبطة من تلك البديهيات والتعريفات، حتى لم يعد سبيل لتصور المكان والزمان والحركة ذلك التصور الذي يحررها من الاعتبارات الكيفية، وهو تحرر لا مندوحة عنه إذا أردنا أن نجعل هذه المفاهيم قابلة لمعالجة رياضية حرة، معالجة قد أدت إلى توسيع في مجال تطبيقها توسيعًا عظيمًا.
  • (٢)

    وليست دلالة المدركات الرياضية على موجودات العالم الخارجي — حتى حين يكون لها مثل هذه الدلالة — أمرًا مباشرًا؛ فمن المبادئ الأساسية في هذا الكتاب أن الدلالة إنما تتم بوساطة إجراءات تنصب على الوجود الخارجي على صورة تمليها وتوجهها المدركات العقلية؛ وما نريد إضافته هنا هو أن المدركات الرياضية في حالات كثيرة، أدوات لتوجيه العمليات الحسابية التي من شأنها أن تقدم بنتائجها طريقة تفسيرنا وترتيبنا للمعطيات الوجودية؛ وفي مثل هذه الحالات لا يكون ثمة تطبيق مباشر — حتى ولا من النوع الإجرائي — نوجد به المعطيات فلسنا نحصل على الأعداد اللامقيسة — مثلًا — بأية عملية لا تتضمن سوى القياس المادي المباشر؛ فأمثال هذه الأعداد ليست نتائج مباشرة لعمليات قياسية من هذا القبيل، بغض النظر عما إذا كانت هذه العمليات تتم داخل إطار المدركات العقلية التي تتضمن الأعداد اللامقيسة أو لم تكن؛ إذ إن الأعداد اللامقيسة ليست تصف النتائج المباشرة التي تتولد عن عمليات القياس؛ لكنها تُدخل في حدود الإمكان استخدام طرائق من الحساب تنتهي بنا إلى يسر في ترتيب النتائج التجريبية؛ وهذا القول نفسه يصدق على الدالات المتصلة؛ فلا هذه ولا الأعداد اللامقيسة تتيح لنا التفسير على أساس التطبيق الإجرائي المباشر، حتى في تلك الحالات التي تدخل فيها تلك الدالات المستمرة والأعداد اللامقيسة — عن طريق العمليات الحسابية التي تصبح ممكنة بفضلها — في الصياغة الختامية التي نصوغ بها قضايانا عن الوجود الخارجي؛ فأمثلة كهذه واضحة الدلالة على الجانب الدالي اللاوصفي من المدركات الرياضية حين تستخدم هذه المدركات في العالم الطبيعي فهي ذات مغزًى من الوجهة المنطقية، باعتبارها شاهدًا خاصًّا على أن القضايا الكلية (المجردة) أدوات وسلية وخطوات تمهيدية لما عساه أن يأتي بعدها؛ فما لم نفهم نتائج عمليات حسابية كثيرة مثل هذا الفهم، كان لزامًا علينا أن ننكر الصدق على القضايا التي تنتج لنا عن تلك العمليات الحسابية، لأننا لن نجد في الموجودات الخارجية ما يقابل مضموناتها.

إن للملاحظات التي قدمناها هنا صلة واضحة بطبيعة اختبارنا لصدق القضايا وتحقيقها (انظر ما سبق [الفصل الثامن – الفهم والتصور الذهني])؛ إذ إنها تبرهن على أن التحقق من صدق فكرة أو نظرية مما يرد أثناء ممارستنا لعملية البحث ممارسة عملية، ليس مرهونًا بالعثور على كائن معين في الوجود الخارجي تتحقق فيه مقتضيات الفكرة أو النظرية، بل هو مرهون بترتيب منظم لمجموعة مركبة من المعطيات نعتمد فيه على الفكرة أو النظرية باعتبارها أداة وسلية.

١  انظر ما سبق في [الفصل الحادي عشر].
٢  بعبارة أخرى، فالمسألة المطروحة هنا تختص بمعنى الموازاة الصورية التي تقوم بين طرازين، ولا تختص بالوجود الفعلي لهذه الطرز ولا بأهميتها.
٣  عن المعاني الأولى انظر ما سبق: [الفصل الثالث]، وعن المعنى الأخير انظر ما سبق [الفصل السابع عشر – التعدي وللاتعدي].
٤  إن تفسيرنا «للصدق» على أنه تطابق، بمعنى أن يكون الشيء الصادق نسخة حرفية، يقتضي أن يكون «التمثيل الصادق» في هذه الحالة كرة أرضية أخرى شبيهه بأرضنا أتم شبه؛ وحتى لو ظفرنا بنسخة حرفية كهذه، كانت عديمة النفع للغرض الذي يحققه التمثيل؛ بل إنها لن تفعل — في الحقيقة — سوى أن تضاعف مشكلات الكرة الأصلية.
٥  سنبحث فيما بعد الأثر العيني لهذا التحديد، بالنسبة إلى «الكتلة» و«الزمن» و«المسافة» باعتبارها وسائل عقلية مقبولة، نستعين بها على اختيار المعطيات وترتيبها. انظر الفصل الثالث والعشرين.
٦  أنا مدين للدكتور جوزف راتنر Joseph Ratner بفكرة أن العدد «اللانهائي» هو لانهائي بسبب أن الإجراءات التي يتكون منها هي عمليات يستحيل تكاملها. فهو بحكم التعريف ليس عددًا صحيحًا؛ لكن هذا لا يعني أن عمليات التحويل لا يمكن إجراؤها على الأعداد اللانهائية وبوساطتها.
٧  ربما يكون القارئ الذي يألف ما يجري بيننا اليوم من كتابات في المنطق. قد لاحظ أن القوانين التي ناقشناها في الفصل السابع عشر، مقتصرة على الذاتية والتناقض والثالث المرفوع؛ مع أنه من المعتاد اليوم أن نضيف إلى هذه القوانين: التكرار وتبادل الحدود وتوزيع الحدود وتبسيط الحدود وامتصاص الحدود وتأليفها … إلخ، ولقد تعمدنا حذف هذه القوانين الأخيرة، إذ إن القوانين الثلاثة الأولى تمثل الشروط التي لا بد أن تستوفى في الحكم الختامي، على حين أن القوانين الأخرى تخص حساب القضايا، فهي التي تقرر القواعد التي نتبعها في قابلية تحويل القضايا بعضها إلى بعض قابلية مجردة؛ ومن هنا كان جواز انطباقها منسوبًا إلى مصادرات النسق المعين؛ فتبادل الحدود بالنسبة إلى تآلف الموجهات — مثلًا — له مضمون رياضي خاص.
٨  الإشارة هنا إلى مقال كتبه جورج ﻫ. ميد George H. Mead عن «المنهج العلمي» في كتاب «الذكاء الخلاق» Creative Intelligence ولا بد من مراجعة الفقرة كلها الواردة في ص١٨٨–١٧٩، لأنها تزودنا — في حدود ما أعلم — بأول صياغة صريحة للرابطة بين امتناع ضرورة الدلالة الوجودية، وسعة مجال الإمكان بالنسبة لهذه الدلالة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤