الفصل السادس

أسلوب البحث

في الفصل الأول عرضنا الفكرة الرئيسية لهذا الكتاب، وهي أن الصور المنطقية لا تنشأ بالنسبة للموضوع الذي ندرسه، إلا بعد أن يخضع هذا الموضوع لبحث نملك وسائل ضبطه؛ وكذلك عرضنا في ذلك الفصل بعض ما تتضمنه هذه الفكرة بالنسبة لطبيعة النظرية المنطقية؛ وفي الفصلين الثاني والثالث بسطنا الأسس — التي لا يَعتمد بعضها على بعض — من بيولوجية وثقافية مما يسوغ لنا أن نذهب إلى أن المنطق نظرية تقوم دراستها على موضوع مستند إلى الخبرة وإلى الطبيعة؛ وفي الفصل الرابع فصَّلنا الحديث في موضوعنا من جانبه الذي يتصل بالعلاقات القائمة بين منطق الذوق الفطري والعلم، ثم ناقشنا في الخامس المنطق الأرسطي من حيث هو صياغة منظمة لِلُغة الحياة اليونانية، حين نأخذ هذه اللغة من الناحية التي تجعلها تعبيرًا عن معاني الثقافية اليونانية وعن الدلالة التي نعزوها إلى الوجود الطبيعي في مختلف صوره؛ وقد كان رأينا خلال هذه الفصول كلها، هو أن البحث له هيكل مشترك أو نمط مشترك، رغم اختلاف الموضوعات التي تناولها، وما ترتب على هذا الاختلاف من اختلاف آخر في الوسائل التقنية التي استخدمها؛ كما ذهبنا كذلك إلى أن هذا الهيكل المشترك يصدق على الذوق الفطري وعلى العلم على حد سواء، على الرغم من أن الجوانب التي يُوليها كل منهما باهتمامه تختلف اختلافًا بعيدًا في أحد الوجهين عنه في الآخر، بسبب ما بين طبيعة المشكلات التي يتعرض لها كل منهما من تباين؛ وها نحن أولاء نتناول بالنظر ذلك النمط المشترك.

وإن قولنا عن الخصائص الصورية إنها تنشأ للموضوع الذي نكون بصدد دراسته بفضل خضوع ذلك الموضوع لضروب معينة من الإجراء العملي، أقول إن قولنا هذا أمر مألوف لنا في ميادين معينة، وإن لم تكن الفكرة المقابلة لهذه الحقيقة مألوفة في المنطق؛ وإنا لنسوق مثلَيْن واضحَيْن نستمدهما من الفن ومن القانون؛ ففي الموسيقى والرقص والتصوير والنحت والأدب وسائر الفنون الجميلة، نرى موضوعات خبرتنا اليومية تتحول من حيث صورتها بتطوير الصور التي يتولد عنها نتائج معينة لطرق الأداء وطرق الصناعة في مواد الفن الجميل؛ وكذلك نرى أن المواد الخام التي تصوغها القوانين القضائية في المعاملات التي يصادفها الناس أفرادًا وجماعات في أوجه نشاطهم اليومي، وهي معاملات يدخل فيها الناس بغض النظر عن القانون؛ حتى إذا ما تناول التشريع نواحي خاصة وجوانب خاصة من هذه المعاملات بالصياغة القانونية، نشأت عندئذٍ أفكار بعينها مثل المخالفة والجريمة والجنحة والعقود وما إلى ذلك؛ لكن هذه الأفكار الصورية إنما تنشأ عن المعاملات الجارية، ولا تفرض عليها من مصدر أعلى، ولا من أي مصدر خارجي قبلي؛ غير أنها إذا ما شُكِّلت أصبحت أدوات للتشكيل، لأنها تنظم الطرائق الصحيحة. التي يجري الناس على غرارها في أوجه نشاطهم، تلك الأوجه التي كانت في الأصل مصدرًا لها.

كل هذه الأفكار القضائية الصورية إجرائية في طبيعتها؛ إذ إنها تصوغ وتحدد طرائق الإجراء العملي من جانب أولئك الذين يدخلون في معاملات يشترك فيها عدد من الناس أو من الجماعات باعتبارهم «أطرافًا»؛ كما أنها تصوغ وتحدد طرائق الإجراء العملي التي يؤديها أولئك الذين لهم الحق التشريعي في أن يقرروا إذا كانت الصور المتفق عليها قد عُمل بها أو لم يُعمل، مُضافًا إلى ذلك النتائج الفعلية التي تترتب على التقصير في مراعاة تلك الصور؛ على أن هذه الصور القضائية المشار إليها ليست ثابتة ولا أزلية؛ فهي تتغير — ولو أنها تتغير ببطء عادة — مع التغيرات التي تطرأ على المعاملات الجارية التي يتعامل الأفراد والجماعات على أساسها، وكذلك مع التغيرات التي تطرأ على النتائج المتولدة عن تلك المعاملات؛ فمهما قيل عن الفكرة القائلة بأن الصور المنطقية إنما تتعلق بمواد من الوجود الفعلي تعلقًا يجيء نتيجة الرقابة الضابطة التي نفرضها على عمليات البحث لكي تؤدي أغراضها المقصودة منها، أقول إنه مهما قيل عن هذه الفكرة من أنها افتراضية، فهي فكرة تصف شيئًا ما كائنًا في عالم الوجود الفعلي؛ فها هي ذي بعض المجالات (كمجال القضاء) تنهض برهانًا على أن نشأة الصور ونموها يأتيان نتيجة للإجراء العملي؛ فلسنا نختلقها اختلاقًا جزافًا بالنسبة للصور المنطقية.

وليس وجود البحوث موضعًا لشك؛ فهي متغلغلة في كل ميادين الحياة، وفي كل وجه من وجوه الميدان الواحد من تلك الميادين؛ كما ينفك الناس في حياتهم اليومية يختبرون الأشياء؛ وهم يُقلِّبون الأشياء في أذهانهم تقليبًا؛ ويستدلون ويُصدرون أحكامهم بصورة «طبيعية» كما يحصدون ويبذرون البذور ويُنتجون السلع ويتبادلونها؛ وعملية البحث من حيث هي ضرب من السلوك، يمكن أن نتناولها بالدراسة الموضوعية كما نتناول هذه الضروب الأخرى من السلوك. ولما كانت عملية البحث ونتائجها تدخل في تدبيرنا أمور الحياة كافة بطريقة حاسمة وذات صلة وثيقة بما تتصل به، كانت دراستنا لأمور الحياة هذه تستلزم — لكي تكون دراسة وافية — أن نلحظ كيف تتأثر بطرائق البحث ووسائله التي تكون في متناول أيدينا؛ وعلى هذا فحتى لو غضضنا النظر عن نظريتنا الخاصة التي نعرضها هنا عن الصور المنطقية، فإن دراسة عملية البحث من حيث هي مجموعة من وقائع موضوعية، أمر بالغ الأهمية، من الناحية العملية ومن الناحية الفكرية على حدٍّ سواء؛ فمادة هذه الوقائع تمد نظرية الصور المنطقية بمادة للدراسة لا تقتصر على كونها موضوعية وكفى، بل هي موضوعية على نحو يمكن المنطق من اجتناب الأخطاء الثلاثة التي كانت أهم ما يميز تاريخه.

  • (١)

    فبفضل عنايته بموضوع يمكن مشاهدته في الخارج، بحيث نتخذه مرجعًا نحتكم إليه في تجربة النتائج النظرية التي نصل إليها وفي اختبارها، يمكننا أن نتخلص من اعتماده على الحالات والعمليات الذاتية و«العقلية».

  • (٢)

    ونستطيع أن نتبين الصور في طبيعتها وفي وجودها الفعلي المتميزين؛ وبهذا لا يجد المنطق نفسه ملزمًا — كما وجد المنطق «التجريبي» — على صورته التي عرفناها في تاريخه — نفسه مضطرًّا — إلى أن يرد الصور المنطقية إلى مجرد نسخ من المواد التجريبية التي سبقت بوجودها وجود تلك الصور؛ فكما يمكن للصور الفنية وللصور القضائية أن تستقل وحدها بأن تكون موضعًا للمناقشة وللنمو، فكذلك تكون الحال مع الصور المنطقية، على الرغم من أن «الاستقلال» في هذه الحالة سيكون وسطًا بين طرفين، لا مرحلة ختامية كاملة لكن شأنها هو شأن تلك الضروب الأخرى من الصور، من حيث نشأتها أصلًا عن مجال الخبرة، وأنها إذا ما تم تكوينها عادت فأحدثت طرائق جديدة نتناول بها مادة الخبرة السابقة في معالجتنا العملية لها، وهي طرائق تحور نفس المادة التي عنها نشأت.

  • (٣)

    وتتحرر النظرية المنطقية من الكائنات الغيبية والمفارقة و«الحدسية».

ومتى درسنا مناهج البحث ونتائجه من حيث هي حقائق موضوعية، تغير تأويلنا للفارق الذي طالما أقاموه بين ملاحظة وتسجيل الطرائق التي يفكر بها الناس فعلًا، واشتراط الطرائق التي يجب عليهم أن يفكروا بها، أقول إن تأويلنا لهذا الفارق سيتغير عندئذٍ بحيث يصبح جد مختلف عن التأويل المأخوذ به؛ عادة إذ التأويل المعتاد يقوم على أساس التفرقة بين ما هو نفسي وما هو منطقي واعتبار ما هو منطقي مؤلَّفًا من «معايير» جاءتنا من مصدر ما بعيد كل البعد ومستقل كل الاستقلال عن «الخبرة».

فالطريقة التي يفكر بها الناس فعلًا، تدل — بناءً على تأويلنا في هذا الكتاب — على الوسائل التي يصطنعها الناس في بحوثهم إبَّان فترة معينة فحسب، فإذا كانت تُتخذ وسيلة لبيان اختلافها عن الطرائق التي يجب على الناس أن يفكروا بها، دلت عندئذٍ على اختلافٍ كالذي يكون بين الزراعة الجيدة والزراعة الرديئة، أو بين المعالجة الطبية في حالتيها الجيدة والرديئة:١ فالناس يفكرون بطرائق لا ينبغي لهم أن يفكروا بها حين يتبعون في بحثهم مناهج دلت التجربة في الأبحاث الماضية على أنها لم تكن ناجحة في الوصول إلى النهاية المقصودة من البحوث التي كانت تلك المناهج مناهجها.

فمن المعلوم للناس جميعًا أن ثمة اليوم أساليب شائعة في زراعة الأرض، هي نفسها التي كانت تستخدم في الماضي بصفة عامة، وأن هذه الأساليب إذا ما قُورنت في نتائجها بالأساليب التي استحدثتها الطرق العملية التي قد تم بالفعل استخدامها واختبارها، أقول إن تلك الأساليب الأولى إذا ما قُورنت بهذه الأخيرة، جاءت المقارنة في غير جانبها إلى درجة بعيدة؛ فإذا ما جاء خبير ينبئ مزارعًا أنه ينبغي له أن يفعل كذا وكيت، لم يكن بذلك مقيمًا أمام المزارع مثلًا أعلى هبط إليه به من السماء؛ بل إنه بذلك يزيده علمًا بالطرائق التي جُربت وبرهنت على نجاحها في حصولها على نتائجها؛ وعلى نحو شبيه بهذا نستطيع أن نوازن بين صنوف مختلفة من عمليات البحث المستخدمة بالفعل أو التي كانت مستخدمة، نوازنها من حيث ما نبذله فيها من جهد وما نجده فيها من كفاية في وصولنا إلى نتائج مقبولة؛ فنحن نعلم أن بعض مناهج البحث أفضل من سواها، تمامًا كما نعلم أن بعض أساليب الجراحة أو الزراعة أو رصف الطرق أو الملاحة أو غيرها أفضل من سواها، ولا يلزم عن ذلك في أية حالة من الحالات المذكورة أن تكون الطريقة «الأفضل» بالغة حد الكمال الأمثل؛ أو أن تكون هي الطريقة التي تقنن طريق السير، أو هي الطريقة «المعيارية» لاتساقها مع هذه الصورة المطلقة أو تلك؛ بل إن الطرائق المفضلة مفضلة لأنها هي التي دلت الخبرة حتى الوقت الحاضر على أنها الطرائق الممكنة لتحقيق نتائج معينة؛ ووضع هذه الطرائق في صورة مجردة يمدنا بمعيار (نسبي) أو معدل نحتذيه في مشروعاتنا التالية.

فالتماسنا نموذجًا للبحث لا يكون — بناءً على ما ذكرناه — أمرًا يضرب في الظلام أو يخبط بغير ضابط؛ بل إننا لَنملك زمامه بالمراجعة ووسائل الضبط مهتدين في ذلك بمعرفتنا لأنواع البحث التي نجحت والتي لم تنجح، فنقارن بين مختلف المناهج — كما أسلفنا القول — مقارنة تنتهي بنا إلى نتائج مقبولة عند العقل، أي نتائج معقولة؛ لأننا عن طريق الموازنة والمقابلة نستوثق كيف ولماذا أمدتنا وسائل وأدوات معينة بنتائج جائزة القبول، بينما لم تمدنا وسائل وأدوات أخرى ولم تكن لتستطيع أن تمدنا، ونقصد بعدم الاستطاعة هنا أن في طبائعها ما يستوجب مفارقة بين الوسائل المستخدمة من جهة والنتائج المدركة من جهة أخرى.

ولنا الآن أن نسأل: ما تعريف «البحث»؟ أعني ما هي فكرتنا عن البحث حين نبلغ بها أقصى درجات التعميم، بحيث يجوز لنا أن نصوغها في عبارة؟ إن التعريف الذي سنتولاه بالتوسيع — بطريقة مباشرة في هذا الفصل، وبطريقة غير مباشرة في الفصول الآتية — هو كما يلي: «البحث هو التحويل المنضبط أو الموجه لموقف غير متعين، تحويلًا يجعله من التعين في صفاته المميزة له وفي علاقاته الداخلة بين أجزائه، بحيث تنقلب عناصر الموقف الأصلي لتصبح كلًّا موحَّدًا».٢

فالموقف الأصلي اللامتعين لا يقتصر على مجرد كونه «مفتوحًا» للبحث، بل يضيف إلى ذلك أنه مفتوح بالمعنى الذي يجعل مقوماته لا يرتبط بعضها ببعض؛ وأما الموقف المتعين — من جهة أخرى — من حيث هو نتيجة انتهى إليها البحث، فهو مغلق، وربما جاز لنا وصفه بأنه موقف مكتمل التكوين، أو بأنه «عالم من خبرة»؛ ولفظتا «منضبط أو موجه» الواردتان في الصيغة المذكورة تشيران إلى كون البحث يُعد ناجحًا في أية حالة معينة بالدرجة التي تكون بها الإجراءات العملية الداخلة فيه قد اختتمت سيرها فعلًا باستحداث موقف فعلي موحد قائم في الوجود الخارجي على أننا خلال سيرنا في الخطوات الوسطى بين طرفَي البداية والختام، أي في الخطوات التي يتم بها تحويل الموقف اللامتعين وانتقاله من حال إلى حال، نستخدم بين وسائلنا خطوات فكرية نستعين فيها باستعمالنا للرموز؛ وبعبارة نستخدم فيها المصطلح المنطقي السائد، نقول إن القضايا، أي الحدود وما يربطها من علاقات، إنما تشترك في الأمر اشتراكًا تُوجبه طبيعته.

(١) شروط البحث السابقة لقيامه: الموقف اللامتعين

إن لفظتَيْ بحث وتساؤل مترادفتان إلى حد ما؛ ذلك أننا نقوم بالبحث حين نسأل، وكذلك نقوم بالبحث حين نلتمس أي شيء يمدنا بجواب عن سؤال سألناه؛ وعلى ذلك فمن طبيعة الموقف اللامتعين ذاتها، أعني الموقف الذي يستثير فينا القيام ببحث، أن تكون موضعًا لتساؤل؛ أو بعبارة نستخدم فيها الوجود بالفعل بدل الوجود بالقوة، نقول إن من طبيعة الموقف اللامتعين أن يكون مبهمًا مقلقلًا مزعزعًا؛ على أن الصفة المميزة للعنصر الذي يتخلل مواد الموقف كلها، والذي يربطها معًا في موقف واحد، ليست هي صفة الإبهام عامة وبغير تحديد، بل هي صفة من التشكك الفريد الذي يجعل الموقف هو ما هو على وجه التحديد والتفريد؛ وهذه الصفة الفريدة هي التي تستثير القيام بالبحث المعين الذي نقوم به، وهي نفسها كذلك التي تكون عامل الضبط الذي يضبط سير إجراءاته الخاصة به، وإلا كان أحد إجراءات البحث مساويًا لأي إجراء سواه في احتمال الوقوع وفي احتمال أن يكون ذا أثر منتج. فما لم يتميز الموقف بمميز فريد حتى في حالة عدم تعينه، سادت الأمر حالة من الفوضى الشاملة، واتخذت استجابتنا له عندئذٍ صورة سلوكية عمياء متخبطة؛ ولو عبرنا عن ذلك بعبارة تصف حالة الشخص المستجيب، قلنا إننا عندئذٍ «نفقد صوابنا»؛ ونستطيع أن نصف المواقف اللامتعينة وصفًا يميزها بكلمات عدة، فنقول عنها إنها مضطربة، مزعزعة، غامضة، مختلطة، مليئة بالاتجاهات المتضاربة، منبهمة، وما إلى ذلك.

وما يتصف بهذه السمات هو الموقف؛ وإذا كان الشك ينتابنا نحن فلأن الموقف بطبيعته موضع للشك؛ أما ما يعتور الإنسان من حالات الشك التي لا يستثيرها موقف فعلي، والتي لا تكون منسوبة إلى موقف فعلي، فهي حالات مرضية، لو تطرفت أحدثت جنون التشكك؛ وعلى ذلك فالمواقف المضطربة المزعزعة المختلطة الغامضة لا يمكن تسويتها وتوضيحها وترتيبها باقتصارنا على تقليبنا للحالات العقلية داخل أنفسنا؛ ومحاولة تسويتها بمثل هذا التقليب في حالاتنا العقلية تتضمن ما يسميه علماء النفس المرضي «بالانسحاب من الواقع»؛ فمحاولة كهذه مرضية مهما تكن مراحلها، أما إن مضت في طريقها شوطًا بعيدًا، فإنها عندئذٍ تصبح مصدرًا لصورة من صور الجنون الفعلي؛ وما عادة التصرف في مواضع الشك كما لو كانت أمورًا تقتصر علينا نحن أكثر منها أمورًا تتعلق بالموقف الخارجي الذي تحيط بنا شباكه وفخاخه، إلا موروث تَخلَّف لنا من علم النفس وهو في مرحلته الذاتية؛ فالظروف البيولوجية السابقة على قيام الموقف المختل، تدخل في تكوين حالة عدم التوازن التي تنتاب علاقة التفاعل القائمة بين الكائن العضوي وبيئته، وقد أسلفنا وصفها فيما سبق؛٣ ويمكن لإعادة التكامل بين الجانبين أن تتحقق — في كلتا الحالتين — بطريقة واحدة فقط، ألا وهي الإجراءات العملية التي تغير تغييرًا فعليًّا من الظروف القائمة، لا بالاكتفاء بما يجري داخل أنفسنا من عمليات «عقلية».
وإذن فمن الخطأ أن نظن أن الموقف لا يكون موضع شك إلا بالمعنى «الذاتي» وحده؛ أما الفكرة القائلة بأن كل شيء في الوجود الفعلي الحقيقي قد تعينت له حدوده تعيينًا كاملًا، فقد أصبحت محلًّا للشك بعد أن تقدم العلم الفيزيائي نفسه؛ وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، لما كان ذلك التعين الكامل يصدق على كائنات الوجود الفعلي من حيث هي «بيئة» وذلك لأن «الطبيعة» لا تكون بيئة إلا إذا دخلت في تفاعل مع الكائن العضوي، أو مع الذات، أو ما شئت أن تسميها.٤

وكل حالة من حالات هذا التفاعل هي عملية تمتد على فترة من الزمن، وليست هي بالحادث الواحد يقع كما لو كان قطاعًا عرضيًّا يتم في لحظة واحدة من لحظات الزمن؛ فإذا كان الموقف الذي يحدث فيه هذا التفاعل غير متعين فما ذلك إلا من حيث ما يترتب على التفاعل من نتائج؛ فإذا قلنا عن الموقف إنه مختلط علينا أمره، كان معنى ذلك أن نتائج التفاعل بيننا وبينه لا يمكن التنبؤ بها قبل وقوعها؛ ونقول عنه إنه غامض حين يحتمل مجرى حوادثه وقوع نتائج لا يمكن تصورها تصورًا واضحًا؛ ونقول عنه إنه ذو عناصر متضاربة حين يتجه إلى استثارة استجابات لا يتسق بعضها مع بعض، فحتى لو كانت ظروف الوجود الخارجي متعينة تعينًا مطلقًا في ذاتها وبذاتها، فهي لامتعينة من حيث دلالتها، أعني أنها لامتعينة من حيث تسييرها وتوجيهها لما يكون عليه تفاعلها مع الكائن العضوي؛ وذلك لأن استجابات الكائن العضوي التي تشترك في إحداث الحالة التي تنشأ في لحظة تالية من الزمن، نتيجة «مترتبة» على ما قد حدث من تفاعل، أقول إن تلك الاستجابات هي كذلك فعلية الوجود كالظروف البيئية سواء بسواء.

فوضع المشكلة المباشر — إذن — إنما يتصل بنوع الاستجابات التي يُنتظر للكائن العضوي أن يستجيب بها؛ إنه يتصل بالتفاعل الذي ينشأ بين استجابات الكائن العضوي والظروف البيئية في سيرها نحو نتيجة تترتب على ذلك التفاعل في الوجود الفعلي؛ فلسنا نقول جديدًا إذ نقول إن الأشياء في أي موقف مضطرب ستنتهي إلى هذه الحالة أو تلك مما يختلف باختلاف الفعل الذي نؤديه؛ فلن يظفر المزارع بالغلة ما لم يضطلع بالزرع والحرث؛ والقائد يكسب الموقعة الحربية أو يخسرها بناءً على الطريقة التي يسلكها إزاءها وهكذا؛ فلا الغلة ولا الحرث، ولا نتيجة المعركة ولا طريقة تسييرها حوادث «عقلية»؛ وإنما يصبح تفاعل الكائن العضوي بحثًا إذا ما تنبأ ذلك الكائن بما عساه أن يحدث في الوجود الفعلي من نتائج؛ أي إنه لا يصبح بحثًا إلا إذا فحص الظروف البيئية من حيث إمكاناتها، ثم اختار أوجه النشاط التي يستجيب بها لتلك الظروف، ورتبها ترتيبًا من شأنه أن يحقق بالفعل بعض تلك الإمكانات دون غيرها، بحيث ينشأ عنها في النهاية موقف في الوجود الخارجي، وهكذا يكون حل الموقف اللامتعين أفعالًا تؤدَّى وإجراءات تُجرَى؛ فإذا وُجِّه البحث توجيهًا موفقًا، كانت نتيجته النهائية ذلك الموقف الموحد الذي ذكرناه.

(٢) خلق مشكلة (للبحث)

كان في مقدورنا أن نقول عن الموقف المقلقل اللامتعين إنه موقف مشكل، لولا أن هذه التسمية كانت لتكون من قبيل ذكر الأمر قبل أوانه وتقدير المقبل قبل حدوثه؛ وذلك لأن الموقف اللامتعين إنما يصبح مشكلًا إبَّان العملية نفسها التي يخضع خلالها للبحث، فالموقف اللامتعين يخلق خلقًا بسبب عوامل في الوجود الفعلي، تمامًا كما يحدث — مثلًا — في حالة انعدام التوازن العضوي التي نسميها جوعًا؛ وليس في قيام أمثال هذه المواقف جانب عقلي أو إدراكي، على الرغم من أنها شرط لا بد من توافره لقيام الإجراءات الإدراكية أي البحث؛ فهي في حد ذاتها حالات تسبق حدوث الإدراك، وأولى النتائج التي تترتب على استثارة البحث هي أن ننظر إلى الموقف أو أن نعده مشكِلًا، وهكذا تكون أولى خطوات البحث هي أن نرى أن الموقف يتطلب بحثًا.٥

بيد أن وصفنا لموقفٍ ما بأنه مشكل، لا يسير بالبحث شوطًا بعيدًا، فما ذلك الوصف إلا خطوة أولى في خلق مشكلة للبحث؛ إذ إن المشكلة ليست من قبيل المهمة التي تؤدَّى، يفرضها من يؤديها فرضًا على نفسه، أو يفرضها عليه آخرون، كالمسألة الحسابية في واجبات التلميذ المدرسية؛ بل المشكلة هنا إنما تمثل ذلك التحول الناقص الذي يُحدثه البحث في موقف مشكل بحيث يُصيِّره موقفًا متعينًا؛ وإنه لمن الأقوال الشائعة ذوات الدلالة ما يُقال من أن المشكلة إذا ما أُحسن عرضها فقد حُلت إلى نصفها؛ ففي اللحظة التي ينكشف لنا فيها ماذا تكون المشكلة أو المشكلات التي يقدمها موقف مشكل بغية أن تُوضع موضع البحث، نكون عندئذٍ قد قطعنا في البحث شوطًا ليس بالقصير؛ ولو أخطأنا المشكلة التي ينطوي عليها الموقف المشكل، عملنا على أن يجيء البحث التالي غير ذي علاقة بما نحن بصدد بحثه، أو عملنا على أن يضل البحث سواء السبيل؛ فنحن بغير مشكلة إنما نكون بمثابة من يخبط في الظلام خبط الأعمى؛ وعلى الطريقة التي نتصور بها المشكلة يتوقف ما نأخذ به من مقترحات معينة وما لا نأخذ، وأي المعطيات نختار وأيها ننبذ؛ فطريقة تصورنا للمشكلة هي المعيار الذي نحكم به إن كان الفرض الذي نفرضه ومدركاتنا العقلية التي نكونها متصلة بحل المشكلة القائمة أو غير متصلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإننا إذا أقمنا مشكلة لا تمت بصلة بموقف فعلي، فإنما نبدأ سيرنا في عمل ميت، وليس يقلل من مواته هذا أن نراه «عملًا نشيطًا»؛ فما المشكلات التي تدور حول نفسها إلا مجرد تعلات نتعلل بها لنبدو كأنما نحن إزاء نشاط عقلي، إن كان يشبه في ظاهره النشاط العلمي، فهو لا يشبهه في حقيقة فحواه.

(٣) تقرير حل للمشكلة

إن العبارة التي نصف بها موقفًا مشكِلًا وصفًا يصوره على هيئة مشكلة، لا يكون لها معنًى إلا إذا كانت المشكلة المصورة بها — بحكم حدود العبارة نفسها — تشير إلى حل ممكن؛ فكما أن المشكلة إذا ما أُحسن عرضها، كانت بسبب هذا العرض الحسن نفسه في طريقها إلى الحل، فكذلك تحديدنا لمشكلة حقيقية هو نفسه بحث في طريق السير؛ وحيثما تلمع في ذهن الباحث مشكلة وحلها المحتمل، يكون قد حدث لهذا الباحث بالفعل قبل ذلك أن اكتسب معرفة كثيرة وتم له هضمها؛ فإذا زعمنا — قبل الأوان المناسب — أن المشكلة التي مثلت أمام الذهن محددة وواضحة، أدى ذلك الزعم بالبحث التالي لها أن يسير على درب خاطئ؛ ومن ثَم ينشأ لدينا هذا السؤال: كيف نحكم ضبط المشكلة الحقيقية عند تكوُّنها إحكامًا يكفل للأبحاث التالية أن تسير نحو حل لها؟

وأولى خطوات الإجابة عن هذا السؤال هي أن نعلم بأن الموقف إن كان غير متعين على الإطلاق، كان مُحالًا علينا أن نحوله إلى مشكلة ذات مقومات محددة المعالم؛ وإذن فالخطوة الأولى هي أن نستخرج من الموقف القائم تلك المقومات التي تكون مقررة الأوضاع من حيث هي مقومات؛ فمثلًا لو دق صوت ينذر بشبوب النار في قاعة مزدحمة، كان هنالك عندئذٍ أشياء كثيرة غير متعينة مما يتصل بأنواع النشاط التي يجوز أن تنتج نتيجة مناسبة للموقف؛ فقد يجوز أن يؤدي الأمر بأحد الحاضرين إلى النجاة، كما يجوز له أن يُداس ويحترق؛ ومع ذلك فللنار ما يميزها من الخصائص المعروفة؛ فهي — مثلًا — معلومة المكان، والمماشي وأبواب الخروج معلومة الأوضاع؛ وما دامت هذه الأشياء مقررة أو محددة بالقياس إلى الوجود الخارجي، كانت الخطوة الأولى بعدئذٍ في إقامة مشكلة هي أن نضع تلك الأشياء في إطار المشاهدة وضعًا معلومًا؛ وسيكون إلى جانبها عوامل أخرى هي من المقومات المشاهدة أيضًا، على رغم أنها ليست كالسابقة من حيث ثباتها الزمني والمكاني؛ مثال ذلك سلوك وحركات سائر الأفراد الحاضرين؛ وكل هذه الظروف المشاهدة مأخوذة معًا تكوُّن «وقائع الحالة»؛ وهي تكوُّن عناصر المشكلة لأنها هي الظروف التي لا بد أن نحسب حسابها أو أن نأخذها بعين الاعتبار في أي حل يطوف ببالنا مما يتصل بالمشكلة القائمة.

وبتحديدنا للظروف الواقعية التي نجمعها في نطاق المشاهدة، يعرض لنا حل ممكن للمشكلة التي نكون عندئذٍ بصددها؛ وهكذا يمثل الحل الممكن أمام الذهن فكرة، تمامًا كما تنهض عناصر المشكلة (التي هي وقائع) أمامنا بالمشاهدة؛ وما الأفكار إلا نتائج نتصورها قبل وقوعها (أي نتنبأ بحدوثها)، أعني نتائج لما عساه أن يحدث إذا ما قمنا بتنفيذ إجراءات معينة في ظل الظروف المشاهدة. بحيث تكون تلك الإجراءات متصلة بتلك الظروف نفسها؛٦ فمشاهدة الوقائع من جهة والمعاني التي تعرض لنا — أي الأفكار — من جهة أخرى تنشأ وتنمو في تقابل يتوازى به هذا الجانب مع ذلك؛ فكلما تبدت لنا وقائع الحالة وازدادت ظهورًا نتيجة لورودها في مجال المشاهدة، ازدادت في وضوحها تصوراتنا للطريقة التي ينبغي لنا أن نعالج بها المشكلة المكونة من تلك الوقائع؛ وكذلك من الناحية الأخرى، كلما ازدادت الفكرة وضوحًا، ازدادت في الوضوح — تبعًا لذلك — إجراءات المشاهدة وإجراءات التنفيذ التي يجب أن تؤدَّى لكي تحل المشكلة، حتى لتجعلها شدة وضوحها كأنما هي من حكم البديهة.

إن الفكرة بادئ ذي بدء تكون توقعًا لشيء يجوز حدوثه، أي إنها تشير إلى أمر ممكن؛ فحين يُقال — وهو أحيانًا يُقال — بأن العلم هو تنبؤ، يكون التوقع الذي هو قوام كل فكرة من حيث هي فكرة، مبنيًّا على مجموعة من مشاهدات موجهة، وعلى طرائق في تأويل تلك المشاهدات مما يكون منظمًا في أفكارنا؛ ولما كان البحث تحديدًا لمشكلة ولحلها الممكن، تحديدًا يسير قدمًا، كانت الأفكار متفاوتة الدرجة وفقًا للمرحلة التي نكون قد بلغناها من مراحل البحث؛ فهي أول الأمر تكون غامضة، فيما عدا الأمور المألوفة لنا إلفًا شديدًا؛ إذ هي أول أمرها تعرض لنا على صورة إيحاءات، فترى هذه الإيحاءات تثب أمام الذهن وثوبًا، أو هي تلمع في الذهن، أو تعبر عبورًا، وهي في هذه المرحلة قد تصبح حوافز لنا أن نوجه نشاطنا في ضرب معلوم من السلوك، لكنها مع ذلك لا تكون لها عندئذٍ صفة منطقية؛ فلئن كانت كل فكرة تنشأ أولًا على صورة الإيحاء، فليس كل إيحاء فكرة، إنما يصبح الإيحاء فكرة حين يُفحص بالقياس إلى صلاحيته في الأداء العملي، أعني حين يُفحص من حيث هو وسيلة لفض موقف قائم.

ويتخذ هذا الفحص صورة التدليل، الذي بفضله نستطيع أن نقدر قوة المعنى وقيمته، المعنى الذي بات ماثلًا أمام أذهاننا، نقدر قوته وقيمته بالقياس إلى كفايته الأدائية، أكثر مما كنا نستطيع ذلك عند بداية سيرنا؛ على أن الاختبار النهائي الذي يدلنا على أن للمعنى هذه الخصائص المذكورة، إنما يكون حين يقوم المعنى فعلًا بأداء مهمته، أعني حين نُدخله في عالم الإجراء العملي لينشئ لنا — معتمدًا على المشاهدات — وقائع أخرى لم تكن قد شُوهدت من قبل، وهو بعدئذٍ يقوم بتنظيم هذه الوقائع الجديدة مع سواها في كل واحد متسق الأجزاء.

ولما كانت الإيحاءات والأفكار التي تعرض لنا، تتعلق بما ليس ماثلًا أمامنا في الوجود الخارجي؛ كان لا بد للمعاني المتضمنة فيهما أن تُوضع في رموز؛ فبغير رمز لا تكون ثمة فكرة؛ والمعنى الذي لا يجد قط الجسم الذي يستقر فيه، لا يمكن الإبقاء عليه أو استخدامه؛ وما دام الكائن من كائنات الوجود الخارجي (الذي يكون كائنًا بالفعل) هو الذي يُتخذ دعامة وأداة لمعنًى ما، فيصبح بهذا رمزًا، بدل أن يقتصر على كونه — في هذا السياق — مجرد كائن قائم في الوجود الطبيعي، فإن المعاني أو الأفكار المجسدة في الكائنات (باعتبار هذه الكائنات رموزًا لها) يمكن أن تكون موضع نظر موضوعي وتطور؛ وإذن فليس قولنا «ينظر إلى فكرة ما» مجرد مجاز.

وقد لقيت «الإيحاءات» من النظرية المنطقية قليلًا من الاعتبار؛ مع أنها على الرغم من كونها حقًّا حين لا تزيد على عبورها في الذهن عبورًا، نتيجة لقيام الكيان العضوي بوظائفه النفسية الجسدية، لا تكون عندئذٍ منطقية، إلا أنها مع ذلك هي الشروط التي لا بد من توفرها، وفي المادة الأولية في الوقت نفسه، لقيام الأفكار المنطقية؛ غير أن نظرية التجريبية التقليدية قد ردتها — كما أشرنا إلى ذلك من قبل — إلى نسخ عقلية للأشياء المادية. وزعمت أنها — في حد ذاتها — هي نفسها الأفكار؛ وبهذا أنكرت الوظيفة التي تؤديها الأفكار في توجيه المشاهدة وفي التثبت من الوقائع المتصلة بما نكون بصدده؛ وأما المدرسة العقلية فقد رأت — من جهة أخرى — رؤية واضحة أن «الوقائع» وهي بعيدة عن الأفكار تافهة؛ وأن تلك الوقائع لا تستمد أهميتها ودلالتها إلا حين تكون على صلة بالأفكار، ولكن المدرسة العقلية مع ذلك قد فاتها أن تتنبه لما لهذه الأفكار من طبيعة إجرائية وظيفية؛ ومِن ثَم جعلت الأفكار مساوية للبناء النهائي الذي هو قوام «الواقع في حقيقته القائمة»؛ ولقد كانت عبارة «كانت» التي يقول فيها عن الأفكار والواقع حين ينفصل أحد الجانبين عن الآخر إن «الإدراكات الحسية عندئذٍ تكون عمياء والإدراكات العقلية تكون فارغة» دالة على نظرة منطقية عميقة ونافذة؛ ولكن هذه النظرة النافذة — مع ذلك — قد شُوِّهت من أساسها حين ظن أن مضمونات الإدراك الحسي، ومضمونات الإدراك العقلي قد جاءتا أصلًا من مصدرين مختلفين، ولذلك فقد احتاجتا إلى فعل ثالث — هو فعل الفهم التركيبي — ليضمهما معًا. وحقيقة الواقع المنطقي هي أن المواد الحسية والمواد العقلية قد نشأتا مرتبطتين معًا ارتباطًا وظيفيًّا، على نحو يجعل الأولى تحدد المشكلة وتصفها، بينما تقدم الثانية طريقة ممكنة لحلها؛ فكلتاهما تحديد يطرأ على البحث ويفرضه البحث، عندما يتناول هذا البحث الموقف المشكل الأصلي، الذي كان من شأن صفته الكيفية المتغلغلة في كيانه كله أن تضبط نشأتهما وفحواهما؛ وكلتاهما تُقاس في النهاية بقدرتهما على العمل معًا بحيث تنتهيان إلى موقف موحد حل إشكاله؛ فإذا نظرنا إليهما من حيث هما أمران متميزان أحدهما عن الآخر، فما ذاك إلا لنجعلهما تمثلان تقسيمًا في الاختصاص من الناحية المنطقية.

(٤) التدليل

قد ذكرنا ذكرًا عابرًا ضرورة تطوير معاني الأفكار ومضموناتها من حيث هي متعلقة بعضها ببعض؛ وهذه العملية التي تُجري عملها بوساطة الرموز (ومن الرموز تتألف القضايا) هي التدليل حين يكون معناه استدلال النتائج من مقدماتها استدلالًا صوريًّا أو التفكير في سيره العقلي؛٧ فالمعنى الذي يعرض لنا على سبيل الإيحاء إذا ما قبلناه قبولًا مباشرًا، لم يكن للبحث داعٍ عندئذٍ، ومن ثَم تكون النتيجة التي انتهينا إليها بغير أساس تقوم عليه، حتى ولو صادف أن تكون صوابًا؛ إذ إن تمحيصنا لمثل هذا القبول المباشر هو فحصنا للمعنى من حيث هو معنى؛ ويتألف مثل هذا الفحص من ملاحظتنا لما يتضمنه ذلك المعنى الذي نحن بصدده، بالنسبة إلى المعاني الأخرى في النسق الذي يكون المعنى المذكور عضوًا في مجموعته؛ وعندما نصوغ هذه العلاقة بين ذلك المعنى وغيره من أعضاء المجموعة، تتكون لنا قضية؛ فلو قبلنا العلاقة الفلانية بين المعاني، كان لزامًا علينا أن نقبل كذلك العلاقات الفلانية الأخرى بين المعاني، لأنها تنتمي إلى نفس المجموعة النسقية التي تنتمي إليها المعاني الأولى؛ حتى إذا ما سرنا خلال حلقات وسطى من المعاني، انتهينا آخر الأمر إلى معنًى يكون أوضح صلة بالمشكلة المطروحة للنظر، من الفكرة الأصلية التي كانت قد عرضت لنا على سبيل الإيحاء؛ لأن الفكرة التي ننتهي إليها تشير إلى إجراءات يمكن أداؤها لاختبار قابليتها للتطبيق، على حين تكون الفكرة الأصلية عادة أشد غموضًا من أن تدلنا على ما نجريه من إجراءات حاسمة في الحكم عليها وبعبارة أخرى فإن الفكرة أو المعنى حين يتطور خلال السير العقلي، يوجه مناشطنا التي إذا ما سلكناها هيأت لنا المادة البرهانية التي نحن بحاجة إليها.

ويمكن تقدير النقطة التي أشرنا إليها تقديرًا لا يحتاج إلى إنعام النظر، إذا نظرنا إليها من حيث علاقتها بالتدليل العلمي؛ فلا نكاد نلمح بالذهن فرضًا علميًّا ونأخذ به، حتى نتناوله بالتطوير من حيث صلته بالمدركات العقلية الأخرى، إلى أن يتخذ صورة تمكنه من الإيحاء لنا بتجربة، ومن توجيهنا في القيام بتلك التجربة، التي من شأنها أن تكشف لنا الغطاء عن الظروف الدقيقة التي يكون لها أقصى ما يمكن من القوة في الجسم إن كان لنا أن نقبل ذلك الفرض العلمي أو أن نرفضه؛ أو ربما دلتنا التجربة على التحويرات التي لا بد من إدخالها على الفرض العلمي لكي يصبح ممكن التطبيق، أعني لكي يصبح مناسبًا لتأويل وتنظيم وقائع الحالة التي نكون بصددها؛ وقد يحدث في مواقف كثيرة مألوفة أن يكون المعنى الذي نعزوه للموقف لكونه أشد المعاني صلة به، قد تحدد بسبب ما قد طرأ من تحويرات على التجارب التي أجريت في حالات سابقة، حتى ليصبح ذلك المعنى قريبًا من الذهن قربًا يتيح لنا أن نعزوه إلى الموقف الخاص به بمجرد حدوثه؛ أما الفكرة أو الإيحاء الذي لا يتطور على أساس مجموعات المعاني التي ينتمي إليها، فهو لا يؤدي — بطريق غير مباشر، إن لم يكن بطريق مباشر — إلا إلى استجابتنا له في سلوك ظاهر؛ ولما كانت هذه الاستجابة تنهي عملية البحث، لم يكن هنالك عندئذٍ من بحث وافٍ في المعنى الذي نستخدمه إذ نقرر أمرنا بالقياس إلى الموقف الذي نكون إزاءه، ولهذا فإن النتيجة — من هذه الناحية — تكون قائمة على غير أساس منطقي.

(٥) الطابع الإجرائي الذي تتسم به الوقائع ومعانيها

لقد أسلفنا القول بأن وقائع الحالة المشاهدة، والمضمونات الفكرية التي تتخذ صورة أفكار، هما جانبان يتصل أحدهما بالآخر، من حيث هما — على التوالي — توضيح للمشكلة المتضمنة في تلك الحالة، واقتراح بحل ممكن لها؛ ولذلك فهما قسمان وظيفيان في أداء البحث لعمله؛ أما الوقائع المشاهدة بما تقوم به من تحديد للمشكلة ووصفها، فهي كائنة في الوجود الخارجي؛ وأما مادة المضمون الفكري فليست بذات وجود فعلي في الخارج؛ فكيف إذن يتاح لهما أن يتعاونا على فض موقف قائم في الوجود الفعلي؛ إنه لسؤال لا جواب له ما لم نعترف بأن الوقائع المشاهدة والأفكار الماثلة في الذهن كليهما إجرائي؛ فالأفكار إجرائية بكونها تشترط وتوجه ما عسانا أن نقوم به من إجراء مشاهدات أخرى؛ فهي إذن بمثابة مقترحات وخطط تَرسم لنا طرائق الفعل في الظروف القائمة لعلها تُلقي لنا الضوء على وقائع جديدة، ثم تُعيننا بعدئذٍ على ربط الوقائع المختارة كلها في كل واحد ملتئم.

ثم ماذا نعني بقولنا عن الوقائع إنها إجرائية؟ نعني — من الناحية السلبية — أنها ليست مكتفية بذاتها ولا هي كاملة في ذاتها؛ بل إنها لتُختار وتُوصف — كما رأينا — ابتغاء غرض مقصود، ألا وهو وضع المشكلة المتضمنة على نحو يجعل مادتها تدل على معنًى له علاقة بفض الإشكال القائم من جهة، ويُعين على اختبار قيمته وسلامته من جهة أخرى؛ ففي البحث ذي الخطة المدبرة، تُختار الوقائع وتُرتب لغرض صريح، وهو أن تُؤدَّى هذه المهمة؛ فليست هي مجرد نتائج تنجم من إجراءات المشاهدة التي نجريها بوساطة أعضاء الحس في أجسامنا، وما يساعدها من أدوات صناعية؛ بل هي وقائع بصفاتها الخاصة وبأنواعها الخاصة التي قُصد بها أن ترتبط إحداها بالأخرى ارتباطات معينة نتطلبها بغية الوصول إلى نهاية معينة؛ ولذلك ترانا نُسقط منها ما نجده غير مرتبط بغيره من تحقيق في تلك النهاية المقصودة، لنلتمس سواها مما يعين على ذلك؛ وما دامت الوقائع ذات عمل تؤديه، فهي بالضرورة إجرائية؛ وعملها هو أن تنهض أمامنا شواهد، وصفتها هذه من حيث هي شواهد إنما تتقرر لها على أساس قدرتها على تكوين كلٍّ منظم يستجيب للإجراءات التي تُمليها الأفكار التي تستحدثها وتؤيدها تلك الوقائع؛ فلو كانت «وقائع الحالة» نهائية وكاملة في ذاتها، لو كانت بغير قوة إجرائية خاصة في فض الموقف المشكل، لما استطعنا أن نتخذها شاهدًا على شيء.

وتظهر القوة الإجرائية للوقائع حين نعلم أن ليس لواقعة قوة الشاهد وهي بمفردها؛ إذ الوقائع لا تكون شواهد واختبارات لفكرة ما، إلا بمقدار ما هي قادرة على أن تنتظم بعضها مع بعض؛ ولا يتم بينها هذا التنظيم إلا من حيث هي متفاعلة بعضها ببعض؛ فحين يكون الموقف المشكل من طراز يتطلب بحوثًا واسعة من أجل فضه، تتدخل في الأمر سلسلة من تفاعلات؛ فطائفة من الوقائع المشاهدة تشير إلى فكرة تمثل حلًّا ممكنًا؛ فتعود هذه الفكرة بدورها إلى استحداث مشاهدات أخرى، فيرتبط بعض الوقائع التي شوهدت هذه المرة بوقائع سبقت مشاهدتها من قبل، ارتباطًا يمكِّنها من استبعاد أشياء مشاهدة أخرى من حيث إمكان اتخاذها شواهد؛ وهذا التنظيم الجديد للوقائع قد يوحي بفكرة معدلة (أي بفرض علمي) تستحدث مشاهدات جديدة، لها من النتائج ما يعود بدوره فيقرر تنظيمًا جديدًا للوقائع؛ وهكذا دَوالَيْك حتى يصبح التنظيم القائم موحدًا وكاملًا في آنٍ معًا؛ وفي غضون هذا السير المتسلسل، تتعرض الأفكار التي تمثل حلولًا ممكنة للاختبار، أي إنها تتعرض ﻟ «البرهان».

وفي الوقت نفسه تكون تنظيمات الوقائع التي تمثل لنا على توالي المشاهدات التجريبية التي تبتعثها الأفكار وتوجهها، بمثابة وقائع تحت الاختبار؛ فهي مؤقتة؛ لأنها وإن تكن «وقائع» إذا شوهدت بأعضاء الحس السليمة وبأدوات المشاهدة الملائمة، إلا أنها لا تكون على هذا الأساس نفسه هي وقائع الحالة فهي تخضع للاختبار أو ﻟ «البرهان» من ناحية وظيفتها من حيث هي شواهد، كما تختبر الأفكار (أي الفروض العلمية) من ناحية قدرتها على القيام بوظيفتها في فض الموقف، سواء بسواء؛ وهكذا نعزو للأفكار وللوقائع معًا قوة إجرائية، معتمدين في ذلك عمليًّا على الدرجة التي تكونان بها مرتبطتين بالتجربة التي نجريها فقولنا عنهما إنهما «إجرائيان» ليس إلا اعترافًا نظريًّا منا بالعناصر المتضمنة حين يستوفي البحث الشروط المفروضة عليه بحكم ضرورات التجربة.

وأعود في هذه المناسبة إلى ما قد أسلفت قوله عن ضرورة الرموز في البحث؛ فواضح من ظاهر الأمر أن الطريقة الممكنة لحل مشكلة ما لا بد أن تتخذ صورة رمزية، ما دام ذلك الحل لم يزل في حدود الإمكان وليس هو بالشيء القائم فعلًا في الوجود الخارجي؛ ولما كانت الوقائع المشاهدة — من جهة أخرى — حاضرة في الوجود الفعلي، فقد يبدو أن الإشارة إليها لا تتطلب رموزًا، غير أنها إذا لم تُصوَّر وإذا لم تُعالَج في رموز، فقدت طابعها المؤقت، وبفقدها لهذا الطابع أصبحت أمورًا مقررة ثابتة على حالة بعينها، وهذا معناه أن البحث ينتهي إلى خاتمة لا يسير بعدها، فالسير في البحث يقتضي أن ننظر إلى الوقائع على أنها تمثل شيئًا ما لا على أنها هي نفسها أمور ماثلة لذاتها؛ ووسيلتنا إلى جعلها ممثلة لغيرها هي صياغتها في قضايا — أعني صياغتها في رموز؛ وما لم نمثلها على هذا النحو الرمزي، عادت فانسابت في مجموعة الموقف الكيفي.

(٦) الذوق الفطري والبحث العلمي

لقد سرنا بالمناقشة إلى هذا الحد مقتصرين على النظرة العامة التي لا تفرق بين الذوق الفطري والبحث العلمي؛ وها نحن أولاء قد بلغنا حدًّا ينبغي عنده أن نوجه انتباهًا مقصودًا إلى النمط الذي يشترك فيه هذان الضربان من البحث فلقد أسلفنا القول في فصول سابقة بأن الفرق بينهما قائم في اختلافهما في الموضوعات التي يتناولها كل منهما، لا في الصور والعلاقات المنطقية الأساسية؛ وبأن الفرق بين موضوعات كل منهما إنما يرجع إلى الفرق بين المشكلات المتضمنة في تلك الموضوعات، وقلنا أخيرًا بأن هذا الفرق يخلق فرقًا آخر في الغايات أو في النتائج الموضوعية التي يُعنى كل منهما بتحقيقها؛ فلأن مشكلات الذوق الفطري وبحوثه تتصل بحالات التفاعل التي تدخل فيها الكائنات الحية لكونها متصلة بالظروف المحيطة، ابتغاء أن تظفر بأشياء نفعها ومتعتها، كانت الرموز المستخدمة في هذه الحالة هي الرموز التي تقررت بحكم الثقافة القائمة بين أفراد الجماعة؛ وإن هذه الرموز لتكوِّن نسقًا، لكن النسق هذا عملي أكثر منه عقليًّا، فتراه يتألف من التقاليد وأنواع العمل والتقنيات والاهتمامات والنظم القائمة عند الجماعة؛ وترى المعاني التي تنتظمها مبثوثة في اللغة المألوفة الجارية كل يوم في تفاهم أعضاء الجماعة بعضهم مع بعض؛ وهذه المعاني المتضمنة في نسق اللغة المألوفة هي التي تقرر ماذا يجوز وماذا لا يجوز لأفراد الجماعة أن يعملوه إزاء الأشياء المادية وإزاء أنفسهم بعضهم مع بعض؛ فهي التي تنظم ماذا يمكن استعماله والاستمتاع به، وكيف ينبغي لهذا الاستعمال وهذا الاستمتاع أن يحدثا.

ولأن أنساق الرموز والمعاني المتضمنة في هذا كله مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بمناشط الحياة كما هي قائمة في ظل الثقافة السائدة، ومرتبطة كذلك بعضها مع بعض بفضل ارتباطها ذلك بمناشط الحياة، فإن المعاني الخاصة التي يحدث لها أن تكون ماثلة، تكون ذات صلة إشارية بالظروف البيئية الخاصة المحددة التي تعيش الجماعة في ظلها؛ أي إنه لا يدخل في أنساق المعاني إلا تلك الأشياء — من بين أشياء البيئة — التي تقضي العادات والتقاليد بأن تكون مرتبطة بحياة الجماعة ومؤثرة فيها؛ وإذن فلا محل عند هذه الجماعة لما يُسمَّى اهتمامًا عقليًّا خالصًا من شوائب المصالح الشخصية، لا من حيث الأمور المادية ولا من حيث الأمور الاجتماعية؛ وذلك لأنه — حتى قيام العلم — لم تكن هنالك مشكلات عند الذوق الفطري تتطلب مثل ذلك البحث المجرد؛ ولم يكن لهذا التجرد عن الأهواء الشخصية وجود — من الناحية العملية — إلا في اشتراط الجماعة أن تكون مصالحها واهتماماتها فوق الحاجات والمصالح الخاصة بالأفراد؛ وفيما عدا أوجه النشاط والاهتمامات والمصالح التي تخص الجماعة، لم يكن هنالك تجرد عقلي؛ وبعبارة أخرى لم يكن هنالك علم قائم لذاته، على الرغم مما كان ثمة من معلومات وتقنيات — كما أسلفنا القول — يستخدمها الناس لأغراض البحث العلمي، ومنها خرج هذا البحث العلمي فيما بعد واستمد نشأته.

وإذن فالمعاني في البحث العلمي تتعلق بعضها ببعض على أساس خصائصها التي تميزها من حيث هي معانٍ، متحررة من الإشارة المباشرة إلى مصالح جماعة بعينها؛ فلئن كان تعين الشيء «المشخص»٨ هو هو نفسه تقريبًا تلك المباشَرَة التي تكون في علاقته بالتفاعلات البيئية، فإن المعاني من حيث هي معانٍ تستمد تجريدها العقلي من تحررها من تلك العلاقة المباشرة؛ ومن ثَم تنشأ لغة جديدة، أو نسق جديد من رموز يرتبط بعضها ببعض على أساس جديد؛ وفي هذه اللغة الحديدة يكون زمام الضبط مرهونًا بالجانب السيمي٩ في اتساقه من حيث هو كذلك؛ ونعيد ما قلناه من قبل، فنقول إن الصلة بمشكلات النفع والمتعة هي المصدر الذي ينبثق منه الدور السائد الذي تؤديه الصفات الكيفية، المحسوس منها والمعنوي على حد سواء، كما تنبثق منه كذلك أهداف الذوق الفطري.
وأما في العلم، فلأن المعاني تتحدد على أساس علاقتها بعضها ببعض من حيث هي معانٍ، فإن هذه العلاقات تصبح موضوع الدراسة الذي يقوم عليه البحث، على حين تتراجع الصفات الكيفية إلى مكانة ثانوية، بحيث لا يكون لها دور تؤديه إلا بمقدار ما تعين على خلق تلك العلاقات؛ أي إنها تصبح تابعة لغيرها، لأن وظيفتها عندئذٍ وظيفة وسلية، بعد أن كانت هي نفسها — في مرحلة الذوق الفطري السابقة على مرحلة العلم — أمورًا ذات أهمية من حيث هي غايات لا وسائل؛ وإن الأمد الطويل الذي لبث الذوق الفطري خلاله سائدًا، قبل إدراكنا بأن الموضوعات العلمية هي موضوعات العلاقات بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، أقول إن ذلك الأمد الطويل ليشهد من الوجهة التاريخية بما للذوق الفطري من سيطرة راسخة السلطان؛ وأول ما حذفه الإنسان من مجال النظر العلمي كان هو الصفات الثالثية،١٠ إذ تبين أن الصفات الخلقية (التي يخلعها الإنسان على الطبيعة) ليست عوامل مؤثرة في تعيين بناء الطبيعة؛ ثم حُذفت بعد ذلك الصفات الثانوية، صفات الرطوبة والجفاف، والحرارة والبرودة، والخفة والثقل، التي كانت هي المبادئ الشارحة للظواهر الطبيعية في العالم اليوناني؛ أما ما يُسَمَّى بالصفات الأولية فقد احتلت مكانتها، كما نراها عند «نيوتن» وعند «لك» في صياغته للمصادرات التي بنى عليها نيوتن تصوره للوجود؛١١ ولم يحدث قبل أن تبلغ البحوث العلمية بداية عصرنا هذا، أن أدركت تلك البحوث أن مشكلاتها ومناهجها تقتضي تأويل «الصفات الأولية» تأويلًا يقوم على أساس العلاقات، مثل علاقات الوضع المكاني والحركة والامتداد الزمني؛ وهي علاقات لا شأن لها بالصفات الكيفية حين تدخل تلك العلاقات في بناء الموضوعات العلمية بمعناها الذي يميزها.
لقد أردت بما أسلفته من قول أن أبين أن اختلاف الهدف في حالة الذوق الفطري عنه في حالة البحث العلمي، يتطلب اختلافًا في مادة الموضوع في الحالتين؛ وأن هذا الاختلاف في مادة الموضوع لا يتنافى مع وجود نمط مشترك للبحث في كلتا الحالتين؛ نعم إن هنالك بطبيعة الحال صورًا منطقية ثانوية تقابل اختلاف الخصائص الذي يقتضيه الانتقال من مادة الموضوع حين تكون كيفية وغائية، إلى تلك المادة حين تكون علاقات لا هي كيفية ولا غائية، غير أن تلك الصور المنطقية الثانوية تقوم وتعمل داخل النمط المشترك الذي وصفناه؛ لأن تعليلها، وتعليلها الوحيد، لا يكون إلا على أساس المشكلات المتميزة التي تتولد من مادة الموضوع في صورتها العلمية؛ وقولنا عن الموضوعات العلمية إنها منزهة عن الإشارة المحدودة والمباشرة إلى حد كبير، إلى البيئة من حيث هي عامل من ألوان النشاط التي تختص بمجالي النفع والمتعة، هو مساوٍ لقولنا عنها — كما أشرنا إلى ذلك من قبل — إنها ذات طابع مجرد؛ وكذلك هو مساوٍ لما لها من طابع عام بالمعنى الذي تكون به تعميمات العلم مختلفة عن التعميمات المألوفة للذوق الفطري؛ وذلك لأن التعميم في الموضوعات العلمية كافة من حيث هي كذلك، معناه أن تلك الموضوعات قد تحررت من التقيد بالظروف التي تمثل في لحظات معينة من الزمن وفي نقاط معينة من المكان؛ بحيث تشير إلى أي مجموعة من ظروف الزمان والمكان — ولا يجوز أن نخلط بين هذه العبارة السابقة وبين القول بأنها لا تشير إطلاقًا إلى ظروف وجودية فعلية؛ فلا مندوحة عن أن تكون الإشارة إلى الوجود المكاني الزماني داخلة في التعميم العلمي، غير أنها إشارة إلى أي مجموعة من الكائنات الفعلية يكون من شأنها أن تستوفي العلاقات العامة التي يقررها الموضوع العلمي في تكوينه هو نفسه من جهة، كما يقررها في سواه من جهة أخرى.١٢

ملخص

لما كانت المناقشة قد تناولت نقاطًا عدة، فيجدر بي أن ألخص النتائج التي انتهيت إليها عن تلك النقاط، في عبارة موجزة تصف تكوين النمط المشترك في عملية البحث (يعني المشترك بين الذوق الفطري من جهة والبحث العلمي من جهة أخرى)؛ فالبحث هو التحويل الموجَّه أو المنضبط لموقف غير متعين بحيث يصبح موقفًا متعينًا موحدًا، ويتم هذا التحويل بوساطة إجراءات عملية تقع في نوعين بينهما تقابل من حيث الوظيفة التي يؤديها كل منهما؛ أما أولهما فإجراءات تتناول موضوع البحث حين يكون فكريًّا أو تصوريًّا؛ ومثل هذا الموضوع يمثل عندئذٍ الطرائق والأهداف الممكنة لفض الموقف المراد فضه؛ فهو يتصور حل المشكلة القائمة سلفًا، على أنه يتميز من الوهم بكونه، أو إلى الحد الذي يستطيع به أن يصبح إجرائيًّا، بأن يستحث ويوجه مشاهدات جديدة، نحصل بها على مادة واقعية جديدة؛ وأما النوع الثاني من الإجراءات العملية فقوامه أوجه النشاط التي تتضمن أدوات البحث وأعضاء المشاهدة؛ ولما كانت هذه الإجراءات جزءًا من الوجود الخارجي، كان من شأنها أن تعدل الموقف الوجودي الذي كان قائمًا أول الأمر، وأن تبرز الظروف التي كانت من قبل غامضة، وأن ترد إلى خلف الصورة جوانب أخرى عند البداية بارزة؛ وهذا الجهد الذي ينصرف إلى إبراز ما نبرزه، واختيار ما نختاره ثم ترتيب المادة المختارة، هذا الجهد يقوم على أساس، وينضبط بمعيار، هما أن نخط حول المشكلة حدودها على نحو يمدنا بمادة وجودية نختبر بها صحة الأفكار التي تصور لنا ضروب الحل الممكنة؛ ولا غناء لنا عن الرموز وعن الحدود التي تُعرِّف وعن القضايا، لكي يتسنى لنا أن نحتفظ — ثم نحمل معنا في سيرنا إلى الأمام — بالموضوعات الفكرية والموضوعات ذوات الوجود الواقعي كلتيهما، لكي تؤديا وظيفتيهما الصحيحتين، ألا وهي ضبط زمام البحث، وإلا لسبق إلينا الظن بأن المشكلة قد بلغت ختامها، فيقف سير البحث.

ولتحويل الموقف من حالة إلى أخرى تحويلًا هو قوام البحث، وجهٌ له أهمية أساسية لأنه جوهري في معالجتنا للحكم وما يؤديه من وظائف؛ وذلك أن ذلك التحول في الموقف ذو وجود فعلي، ومن ثَم فهو يشغل فترة من زمن؛ فالموقف في حالته المقلقلة السابقة على الإدراك، لا تستقر قوائمه إلا بتعديل يطرأ على مقوماته؛ ومن شأن التجارب التي نجريها أن تغير من الظروف القائمة، أما التدليل العقلي من حيث هو كذلك، فيمكن أن يمدنا بالوسائل التي نحدث بها التغير في الظروف، لكنه وحده لا يستطيع أن يحدث ذلك التغير؛ فلا سبيل إلى إحداث الترتيب المعدل للظروف البيئية، ذلك الترتيب الذي يقتضيه خلق موقف مستقر موحد، إلا بأداء إجراءات عملية في الوجود الخارجي، توجهها فكرة تكون قد بلغت حد الختام في سيرها الاستنباطي؛ ولما كان هذا المبدأ نفسه يصْدق كذلك على المعاني التي يتناولها العلم بالتهذيب، كان خلقنا وإعادة ترتيبنا للظروف المادية خلقًا وإعادة يتمان بما نجريه من تجارب في مجال العلم الطبيعي، شاهدًا جديدًا على أن للبحث نمطًا واحدًا؛ وإذن فكون البحث يتسم بالخاصة الزمنية، معناه يختلف اختلافًا تامًّا عن كون عملية البحث تستغرق فترة من الزمن؛ إذ إن معنى العبارة الأولى هو أن المادة الموضوعية للبحث تخضع للتغير خلال الزمن.

في المصطلحات

لو لم تكن المعرفة متصلة بالبحث من حيث هو حاصلٌ للإجراءات العملية التي كونته، لما كان ثمة فوارق تقتضي الأسماء الخاصة التي تميزها، ولكانت المادة إما معلومة لنا أو مجهولة وموضع خطأ في تقديرنا، وكان هذا ليكون كل ما نستطيع أن نقوله عنها؛ وعندئذٍ لم يكن مضمون قضية معينة ليحتمل إلا إحدى قيمتين، فإما أن تكون القضية «صادقة» أو «كاذبة» صدقًا أو كذبًا يتسم بأنه الحكم الذي لا حكم بعده ولا يتسع الأمر لغيره؛ أما والمعرفة متصلة بالبحث من حيث هي حاصله الذي يجوز لنا أن نقرره، وأما والبحث عملية تسير شوطًا ما ولها خاصة الزمن، فالمادة المبحوثة تكشف لنا من الخصائص المتميزة بعضها عن بعض ما يتطلب أسماءً متميزة تسميها؛ إذ المادة وهي موضوعة تحت البحث، تختلف في مضمونها المنطقي عنها وهي نتيجة البحث؛ وسنطلق عليها وهي في حالتها الأولى ومتصفة بالخاصة الأولى، الاسم العام مادة الموضوع؛ لكننا حين نجد من الضروري أن نشير إلى مادة الموضوع إذ تكون جزءًا من سياق الملاحظة أو سياق التفكير، سنستخدم كلمة مضمون، وكلما كانت الإشارة إليها من حيث كونها تمثل شيئًا ما، جعلنا حديثنا عن مضمون القضايا.

وسنخصص كلمة موضوعات لمادة الموضوع من حيث هي نتيجة نتجت ورُتبت في صورة مستقرة بوساطة البحث؛ فالموضوعات — من ناحية توقعنا — هي النهايات التي يستهدفها البحث؛ والغموض الظاهري الذي ينشأ عن استخدامنا لكلمة «موضوعات» بهذا المعنى (إذ الكلمة تُستعمل عادة لتدل على الأشياء التي تعرض للملاحظة أو للفكر) إن هو إلا غموض في الظاهر فقط؛ لأن الأشياء لا تكون موضوعات بالنسبة لنا إلا إذا كانت قد تقرر لها من قبل أن تكون نتائج أبحاث؛ فإذا ما استعملناها للمُضِيِّ في بحوث جديدة خاصة بمواقف مشكلة جديدة، كانت لنا تلك النتائج بالقياس إلى علمنا موضوعات بسبب ما قد سلف من بحوث أجازت قبولها؛ وإذن فهي في الموقف الجديد وسائل للوصول إلى معرفة بشيء آخر؛ فهي بالمعنى الدقيق جزء من مضمونات البحث كما قد عرفنا كلمة مضمون فيما سبق؛ لكننا إذ ننظر إليها بعد تمام البحث (أي من حيث هي نتائج حصلناها من قرار لبحث سابق) فهي عندئذٍ تكون موضوعات.

١  ارجع إلى صفحتَيْ ٦١، ٦٦ من المقدمة.
٢  ينبغي أن تفهم كلمة «موقف» هنا بالمعنى الذي شرحناه فيما سبق في [الفصل الرابع].
٣  انظر ما سبق، ص٩٢–٩٣.
٤  ما عدا بالطبع أن يكون الاسم المختار عقليًّا خالصًا مثل «الشعور»؛ فالمشكلة المزعومة التي أُثيرت حول مذهب «تفاعل الجسم والنفس» ومقابلاته من مذهب التحرك الذاتي ومذهب التوازي في حوادث الجانبين وما إليهما، أقول إن هذه المشكلة المزعومة إنما أصبحت مشكلة (مستحيلة على الحل) بسبب الزعم الكامن في التعبير عنها، وأعني به الزعم القائل بأن التفاعل المذكور إنما يقوم مع كائن عقلي ما. بدل أن نقول إنه قائم مع كائنات بشرية لها ظروفها البيولوجية والثقافية.
٥  إذا كان المقصود بعبارة «منطق ذي قيمتين» منطقًا يعد «الحق والباطل» القيمتين المنطقيتين الوحيدتين، إذن فمثل هذا المنطق مبتور بالضرورة، بترًا يجعل وضوح النظرية المنطقية واتساقها مستحيلين؛ فكون الأمر موضوعًا لمشكلة هو خاصة منطقية أولية.
٦  إن نظرية الأفكار التي سادت علم النفس وفلسفة المعرفة منذ عهد التابعين الذين جاءوا بعد «لك» لا تمت إطلاقًا بسبب إلى النظرية المنطقية، بل إنها لتعوقها؛ لأننا متى جعلنا الأفكار نسخًا من الإدراكات الحسية، أو «انطباعات»، كان في ذلك تجاهل منا للخاصة المميزة التي تعرف الفكرة من حيث هي فكرة، وأعني بها الخاصة التي تجعلها مشيرة إلى المستقبل ومنبئة بما سيحدث قبل حدوثه، وقد كان تقصيرنا في تعريف الأفكار من ناحية وظائفها، بالإشارة إلى ما تقوم به في حل مشكلة قائمة، أحد الأسباب التي جعلتنا نعدها أمورًا «عقلية»، وفضلًا عن ذلك فقد تفرع من هذا التصور للأفكار تصور آخر يجعلها أشباحًا؛ إذ تنشأ هذه الأشباح حين نغض النظر عن الوظيفة التي تؤديها الفكرة أثناء قيامها ونموها.
٧  تستعمل كلمة «تدليل» أحيانًا بمعنى الاستدلال المادي كما تستعمل كذلك بمعنى الانتقال الصوري من المقدمات إلى النتائج؛ وهي حين تستعمل بهذين المعنيين معًا في المنطق، يرجح أن تنمحي الفوارق بين الاستدلال المادي من جهة واللزوم الصوري من جهة أخرى، فيترتب على ذلك خلط خطير في النظرية المنطقية.
٨  Concrete.
٩  Semantic وهذا ميدان جديد في بحوث الفلسفة المعاصرة، يهتم بعلاقة الرموز اللغوية بمسمياتها؛ وقد قرر المجمع اللغوي بالقاهرة أن تكون كلمة «سيمية» ترجمة لاسمه؛ وظاهر أن الكلمة متصلة بأصول عربية نراها في كلمات مثل: الاسم والسمة والوشم وما إليها.
ز. ن. م
١٠  الصفات ثلاثة أنواع: أولية وثانوية وثالثية؛ أما الأولية فهي التي تكون في الأشياء ذاتها، كأن أقول عن الشيء إنه مربع، إذ التربيع لا ينشأ عن طريقة إدراكنا له، بل هو كائن خارج ذواتنا في الشيء الذي نصفه به؛ وأما الثانوية فهي التي تنشأ عن طريقة إدراك حواسنا للشيء كأن أقول عن شيء ما إنه مر، إذ المرارة تتوقف على إدراكنا الذاتي، وقد يكون الشيء الواحد مرًّا بالنسبة إلينا حينًا وغير مر حينًا آخر؛ وكان «جون لك» أول من تنبه لهذه التفرقة بين النوعين من الصفات؛ ثم جاء سانتيانا أخيرًا وأضاف نوعًا ثالثًا هو الصفات الثالثية، وهي الصفات الكيفية التي يخلعها الإنسان على مجموعه الإدراكي في لحظة معينة، كأن ينظر إلى منظر طبيعي فيراه مرحًا، خالعًا بذلك مرحه الذاتي على مجموع ما يدركه.
ز. ن. م
١١  أراد جاليليو ونيوتن أن يقيما العلم الطبيعي على أساس كمي صِرف، لا تدخل فيه الاعتبارات الذاتية، فقصرا الطبيعة من وجهة النظر العلمية على الصفات التي يمكن أن تخضع للقياس الكمي وحدها، كصفات العدد والشكل وما إليها، أو بعبارة أخرى قد أصبح الجانب الرياضي من الطبيعة هو وحده الجانب الذي يصلح للبحث العلمي، بعد إسقاط الجوانب الذاتية؛ فاللون كما يراه الإنسان — مثلًا — ليس هو ما يعنيه مفهوم اللون في العلم، إذ يقتصر هذا المفهوم العلمي على أطوال الموجات الضوئية التي هي بمثابة الهياكل الفارغة للون؛ والصوت كما يسمعه الإنسان ليس هو المفهوم العلمي للصوت، إنما يقتصر هذا المفهوم العلمي على أطوال الموجات الصوتية؛ وهكذا؛ فليست العبرة إذن هي كيف يقع الشيء المعين على حاسة الإنسان من عين أو أذن أو غيرهما، بل العبرة هي بالجانب الكمي الذي يصاحب ذلك الكيف؛ وقد جاء «لك» في عالم الفلسفة فجاوب بفلسفته علم عصره، وحلل الصفات إلى أولية وثانوية: الأولى موضوعية تصلح وحدها للبحث العلمي، والثانية ذاتية لا تصلح لذلك البحث.
ز. ن. م
١٢  إن ما يلزم عن ذلك من نتائج، يتصل صلة مباشرة بما أوردناه في الفصل الرابع من أن حذف الصفات الكيفية والأهداف هو حلقة وسطى بين طرفين؛ إذ إن تكوين موضوعات علاقية صِرفة قد حرر ووسع إلى حد كبير — في واقع الأمر — من مجال الذوق الفطري بجانبيه: جانب النفع وجانب المتعة، وذلك بما قد فرضته تلك الموضوعات من سيطرة على إنتاج كيفيات جديدة، وبتهيئتها السبيل إلى خلق أهداف جديدة في عالم الأشياء الفعلية، وبإمدادها لنا بالوسائل الفعالة في تحقيق تلك الأهداف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤