تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

آثرَني أخي الفاضل، الباحث أحمد سليمان بكتابة تَقدِمة سِفره الموسوم «الريف المكنون»، لا أُخفي إعجابي بسيرة ومسيرة أخي أحمد؛ إذ إننا ننتمي لذات الجغرافيا وذات الزمان وبيننا تقاطعات في المودة والألفة تجعلني أستجيب بلا تردد، فله الشكر.

نحن بصدد سفرٍ بذَل كاتبه جهدًا خرافيًّا ليضعه بين أيدي الناس؛ ففي مجتمع تسوده الثقافة الشفاهية ويفتقر فضيلة إلى التدوين، يُصبح تسجيل الوقائع اليومية في رُقعةٍ محدودةٍ ضربًا من ارتياد الصعب. أما العودة بالزمان القهقرى لتسجيل تفاصيل الحياة اليومية قبل ثلث قرن أو يَزيد، وفي مساحةٍ يعجز الحاسبون عن قياسها، فذلك مُرتقًى صعب تصدَّى له أحمد سليمان بدأبه وصبره المعهود ليُخرِج لنا سفرًا قلَّ نظيرُه.

الريف المكنون، عنوان يبدو سهلًا، ولكن تركيب الكلمتَين معًا يجعل المدلول يتسع بقدر اتساع الريف في بلادٍ كلُّها ريف؛ فالريف غير الحضر، أرضًا وإنسانًا وطبيعة متحرِّكة وجامدة، والكنانة هي الجراب الذي تُحفظ فيه السهام ومعروف مكان السهام عند أحفاد رماة الحدق؛ فهي الخبيئة التي يلوذ بها الناس حين تَصعب الأمور، وهل ثمة ملاذ حين يجد المجتمع نفسه عند مفترَق الطُّرق بين الموروث والتحديث.

يَتناول الكتاب الحياة، نعم الحياة بكل ما فيها ومن فيها في ربوع الوطن الشاسع، والريف هنا هو الوطن بأطرافه المترامية أرضه؛ حيث يُعرفك بالحياة في الريف، لتعرف الحياة، طرائقها ومكوِّناتها، تبدأ بالأرض وأنواعها واستخداماتها، نباتها والناس، مأكلهم ومشربهم، أفراحهم وأتراحهم، مواسم خصبهم وسنين جدبهم، تعيش بينهم، تعرف مساكنهم وملبسهم، عِلَلهم وأمراضهم، علاجاتهم، خرافاتهم وكجورهم.

رغم غزارة المعلومات في الكتاب فإن الكاتب قد أصاب في تبويب الكتاب وموضعة المعلومات في أماكنها.

الريف المكنون سِفْر تكمن أهميته في شموله واتِّساعه، مما يكشف صبر كاتبه ومثابرته على تتبع معلوماته واستفساره واستقصائه؛ ذلك أن بعض ما أورده من معلومات ليس ثقافة شائعة في بيئة الكاتب، مما يعني احتكاكه ومقاربته لحمَلة ثقافات أخرى من بيئات مختلفة، وهنا يتجلى اتساع الكتاب وشموله.

اتساع الكتاب وشموله يُحيلانه بأريحية إلى المؤلَّفات الموسوعية، وتلك الإحالة بدورها تُصَيِّره مرجعًا مهمًّا للحياة في ريفنا؛ فالحياة من حولنا تتغيَّر بخطوات متسارعة، فما عشناه قبل نصف قرن يستعصي على الأجيال الحاضرة، وما سمعناه من آبائنا وأجدادنا عن حيواتهم كان أشبه بالخرافات في عصرنا؛ ذلك أن الحياة كائن ينمو ويتطور ويمتد التأثير والتأثُّر عبر الكرة الأرضية شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا.

وبهذا الاتساع والشمول فإن الكتاب سيُصبح مرجعًا هامًّا لكل دارس لأي ضرب من ضروب الحياة في الريف؛ إنسانه وطبيعته. والكتاب قمين بهذه المكانة الباذخة.

لا بد من الإشادة بالصبر والمصابرة اللذَين أخَذ المؤلف بهما نفسه، والمنهج الذي اتَّبعه في تبويب الكتاب، والصرامة اللغوية التي التزم بها ليَخرُج الكتاب بشكل مقبول يُلبي متطلبات الباحثين في هذا الضرب من البحث.

لا يسعني إلا أن أهنئ الأخ أحمد سليمان على هذا المجهود الوافر، وأن أهنئ المكتبة السودانية — ذاكرتنا الجماعية — بهذا الكتاب الذي يسدُّ فراغًا كبيرًا ظلَّ شاغرًا لأمدٍ بعيد.

عثمان أحمد حسن
أم درمان، الثلاثاء ٢٨ فبراير ٢٠١٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤