مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد …

في اللغة يُقال: «الرِّيفُ» أرض فيها زرعٌ وخِصبٌ والجمع «أرياف»، و«الزَّرع» واحدُ «الزُّروع» وموضِعهُ «مَزرَعة» و«مُزدَرَع»، و«الزَّرع» أيضًا طَرحُ البَذر، والزرعُ أيضًا الإنبات، يُقال: زَرَعهُ الله أَي أَنبَته، ومنه قوله تعالى: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (الواقعة: الآية أربع وستون)، وازدَرَعَ فُلانٌ أي احتَرث، و«المُزارعة» معروفةٌ، أما «الخِصبُ» بالكسرِ ضدُّ الجَدب، يُقال: بلدٌ خِصبٌ و«أَخصاب» أَيضًا وصفُوهُ بالجمعِ كأنَّهُم جعلوا الواحد أجزاءً وله نظائر. وقد «أَخصَبَت» الأرضُ، ومكانٌ «مُخصِبٌ» و«خَصِيبٌ». ولما كان الريف مصدر خِصب وزرع صار مرعًى للبدويِّين ومقام زرع للقرويِّين؛ فالريف جامع النقاء في الجو والنفوس، والنماء في الضرع والزرع، والسعادة في الشدة والرخاء. والريفيُّون سعداء بريفهم في عز الهجير وهم مُتحلِّقون حول الآبار، يتقاسَمون قطرات الماء، وكرماء في شدَّة الشظف، وهم يتدافعون لإكرام ضيفهم بلا منٍّ ولا أذًى، وأقوياء في دفع الأذى بلا تخاذُل وخَوَر، ونُجباء يعون فلاحة الأرض وأنواء السماء، وأدباء يَقرضون الشعر والنثر والقصص. يا لها من صور بهيَّة في الريف أن ترى مُزارعًا في وسط البلاد مُشمِّرًا، وراعيًا فوق شجرة شاديًا، أو ترى صِبْيَة في ضوء القمر يمرحون، وقومًا في الأضرى يتسامرون، أو ترى أودية بالماء امتلأت، وجبالًا بالخضرة ازدهَت، أو ترى سهولًا بالزروع اكتست وغابات بالطيور احتفَت. وعند بزوغ الفجر يبوح الصُّبح بسرِّه ويبث طلائعه، فتسمع حفيف الأشجار وزقزقة الأطيار التي تُعانق النهار لتبدأ الغناء والطرب في ملحمة مُلهِمة، ويشدو البلبل الصدَّاح فتهتف العصافير مُهلِّلة بقدوم الصباح، وهديل الحمام هَلَّ وبدر والأرض يفترشها السندس الأخضر الذي يَسحر العيون برَونَقه ونضرته وطيب نسيمِه المداعب للغصون، والغِيد الحسان يَحملن على رءوسهن بأمان تام جرارهنَّ، ويتمايلن بدلالهنَّ وهنَّ يَضحكْنَ طرَبًا بملء ثغورهن.

القارئ الكريم، نقدم لك هذا السِّفر المتواضع (الريف المكنون) الذي يحوي شيئًا من ثقافة الريف السوداني الأصيل الماثلة في أنواع الأرض؛ أي التربة، وأسماء الأشجار، والشهور، وعينات الفصول، وكلمات الخريف، وأسماء المحاصيل والنباتات والحشرات والطيور والحيوانات الأليفة والبرية، وأسماء أجزاء القطية، وأدوات الدار، والأكلات الشعبية، وأدوات ولوازم العيد، وأسماء الضفيرة وحاجيات العرس، ومفردات متعددة. ولقد وَددنا التوثيق لهذه الثقافة العريقة العميقة المعبِّرة عن «نُبل وكرم وزهد وصبر وودٍّ وأُلفة وسماحة ونقاء وشكر وحمد» حتى لا تضيع في غياهب الزمن المُتسارع وتفوت معانيها السَّمحة على أجيالنا الذين تُحاصرهم ثقافات الغير من تكنولوجيا وثورة معلومات، فيَغرقون دون أن يجدوا ثقافة يدفعون بها في وجه الآخرين. فإذا كانوا يقولون مَن لا يملك قوَّته لا يملك قراره، فاليوم من لا يملك ثقافته لا يملك هُويَّته. ولعلِّي أشير إلى أن ثقافة الريف السوداني كثيفة وغزيرة ومتنوِّعة يَصعب ضمُّها بين دفتَيْ كتاب؛ فهذا غيض من فيض. ولربما تُذكر بعض الأشياء بغير ما تُسمى به من منطقة لأخرى؛ فالعُتبى لِبَني وطني في ذلك.

القارئ الكريم، نرجو لك سياحة حلوةً عذبة سهلة جزلة وأنت تتذوَّق هذه المفردات المترعة بهواء وصفاء ورحيق الريف الجميل، فتَشفي غليل الشوق إن كنت بعيدًا وتجد راحة النفس إن كنت فيه مقيمًا، والله نسأل التوفيق والسداد.

أحمد سليمان
قلع النحل، الإثنين ٢٢ سبتمبر ٢٠٠٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤