الوزير الأول كخطيب سياسي

في حفلة عيد جلالة الملك وقف صاحب الترجمة في وليمة كبرى في فندق الكونتنتال أدب رجل من سروات هذه الأمة، وألقى خطابة له ظلت حديث الناس زمنًا ليس بالقصير.

وقد تجلت في تلك الخطبة للمرة الأولى في تأريخ حكومتنا روح الديمقراطية التي فاضت في نفس رأسها، والوزير الأول الذي في يده دفة أمورها؛ إذ ظهر في وسط جمهور منا يحدثهم عن مبادئ حكومته، ويشرح لهم خطط عمله، ويلقي إليهم أنظمة العهد الجديد، وأساليب التشريع فيه والتنفيذ.

ونحن لم نشهد قبل هذا الوزير رئيسًا من رؤساء الوزارة في العهد الماضي قد وقف هذا الموقف، وطاوعته نفسه على الخطابة؛ إذ لم يقع لنا قبل هذا الرجل وزير على شيء من الاطلاع بفنون الأدب، ولم نر فيمن جاءنا قبله أحدًا من الكتاب المفكرين، بل كان سواد رؤساء الوزارة قبله إداريين، لا أكثر ولا أقل، عاشوا طوال أعمارهم يمهرون القرارات، ويذيلون المراسيم بتواقيعهم، وينفذون هذا الأمر، ويبطلون ذاك، ولئن كان فيهم يومًا الكاتب أو القانوني أو الخطيب، فقد كانت تعوزه أساليب الأدب فيما يكتب، وتنقصه ردعة الخطابة، وبلاغة المنحى، وحسن التنسيق، وجلال المعاني، وسحرية الألفاظ فيما يخطب.

ولكن الخطابة للوزراء أول لوازم النبوغ، والسلم إلى المرتبة السامية في الأمم المتحضرة، والممالك الحرة المتخلصة من قيود الإسار، ومعرة الجهل، وذيوع الأمية حتى في الخاصة، وكبار أهل المناصب، ولا يستطيع الرجل في بلاد الغرب أن يبلغ مكانة سامية في الشعب إلا إذا ملأ أسماعهم، وفتن ألبابهم لسعة مواهبه للخطابة، واعتلاء ذوائب المنابر، ولا تجدنَّ الرجل العظيم في أمة كثيرة الكلام، شاعرية النفس، خيالية المزاج، كالأمة الفرنسية، إلا متكلمًا أبدًا، خطيبًا متدفقًا، كثير الأحاديث، مستفيض البيان، ولا يستطيع أن يعيش حتى يظهر بين الحين والحين على أسماع أمته، فيلقي عليها شيئًا من خواطره، ويصدع لها بحججه، وينزل لها عن خواطره.

وإذا كان نزول الوزير الأول عن مكانه إلى الخطابة، والتحدث إلى الجماهير، شيئًا طريفًا في هذا البلد، حديث عهد، لم يكن له سابقة من نوعه، فإن ما أدهشنا، وأخذ بمجامع أفئدتنا من تلك الخطبة التي ألقاها صاحب الترجمة في ذلك الفندق، رنة الإخلاص التي تتجلى في أضعافها، ومتانة الرأي الذي اجتمع فيها، وغلالة الأدب الرائق الذي احتشد في سطورها، ولكنا لم نلبث أن تبينا أن لا سبيل إلى العجب، ولا حق للدهشة. وصاحب الترجمة كما يعرفه صحابه، والمختلطون به كثير الدرس والقراءة لكتب الأدب، واسع الاطلاع، يلتهم كل شيء من الكتب، ويسيغ كل ضرب من التواليف؛ وإنه من كتابنا الذين لا يقلون عن أكبر كتاب الغرب، وأصحاب الأساليب البليغة، وأهل الترسل والبيان والتفكير، وزعامة الرأي.

وقد تناول الرئيس في تلك الخطابة جملة من الشؤون، وعالج عدة من المعاني، واستطرد في طائفة من أسرار السياسة، ولم ير أن يكتم أمته شيئًا مما هو بسبيله، بل تفتح للناس، وتكشَّف وتراءى لهم على حقيقته صادقًا، لا متعمدًا كذبًا، ولا متجانفًا لمغالطة، أو مستعديًا الخداع والغش على سامعيه.

وذلكم لعمري هو أوسع معاني الديمقراطية، وأجل أداتها، وأروع مظاهرها، وتلك آية من آيات العصر الجديد، وكانت خليقة بأن تجد عند خصومه ما يحملهم على احترامها وإكبارها، ويغريهم بمعالجتها بالنقد البريء من التحامل، والتخلص من المقصد السيئ.

وقد اعترف الوزير في تلك الخطبة بفضل أولئك الذين جاهدوا قبله، وانحنى انحناءة الإكبار أمام الذين ناضلوا عن حق أمته، وأبلوا أحسن البلاء في نهضة قومه، ولا تكون العظمة الإنسانية معترفة إلا لما هو عظيم مثلها، ولكل جليل جلالها، ومخلص على غرارها، ولم يضرب الله عظيمًا من عظماء هذه الدنيا بآفة الجحود، ولم يصبهم بمنقصة النكران؛ لأن في نكران العظيم لما يستحق التفاته وجحود لما هو أولى منه بالثناء عليه انتقاصًا من قدر نفسه، وريبًا من عظمة روحه، ومخافة أن ينقص منه ما يزيده بالثناء على سواه، والاعتراف بالفضل فضيلة في نفسها عظيمة، وقد نقع للصغار فإذا هم كبار خلقاء بالاحترام، حريون بالإكبار، وإذا كانت هي ضربًا من العظمة في نفوس الذين لم يظفروا بروح العظمة ومادرتها، فما أحرى بها أن تكون أول مميزات خلق الرجل العظيم، وحسنة عظمته، ومفتنة كبريائه، وما كان مثل صاحب الترجمة ليغمض عينه إزاء العمل النبيل، ويشيح بوجهه عن الفعال الجسام، فإن العظماء لا يشعرون بلواعج الغيرة، ولا يحسون الحسد، ولا ينظرون بالعين الخائنة إلى ما أوتيه غيرهم ليجتذبوه إليهم، أو يقع لهم شيء مما أصاب سواهم؛ لأن الغيرة عاطفة تنم عن العجز، والحسد آفة تنطوي على اللؤم، ودناءة الطبع، وهي نتاج خاطر مظلم معتم، يريد أن يجعل الفضيلة احتكارًا، ويكرهها على أن تكون في جزء واحد من الدنيا، ويجعل الجزء الآخر منها معتمًا غير مضيء.

فإذا كان هذا هكذا فلا غرو أن نرى صاحب الترجمة في خطبته الفياضة العظيمة أبعد الناس عن «الأنانية»، والأثرة، والحسد، وغمط الفضل، وإخفاء الإعجاب، والضن على أهل العمل والجهاد بالثناء والإنصاف.

وقد أثنى على صديقيه عدلي ورشدي، واستفاض في التنويه بما عملا، وتمداح ما قاما به، وجاهدا في سبيله.

وما كان الوزير الأول مجازفًا بالثناء مسرفًا في المديح؛ لأن العظمة تشفق من أن تبدو أمام الناس طائشة مسرفة، فإنها إذا فعلت ذلك أنقصت من قدر من تثني عليه، وتحيفت جوانب قدرها هي ومكانها، وفي قلة الكلمات التي تقول، وعبارات المديح التي تفوه بها أبلغ صورة من حسن نيتها، ونقاء وجدانها، وصدق سريرتها، وليست كلمة العظيم توزن بألفاظها، وتقاس بأسطرها؛ لأنها لا تفيض كما تفيض الشاعرية؛ فتكذب في سبيل أن تقول الحق، وتقول حقًّا في صورة يخيل إلى سامعها أنها الباطل بجملته، وأصوله، ومادته، وهي ليست تتطلب من وراء ثنائها على لداتها زلفى إليها، وقربى منها، وصلة بها، وعطاء من لدنها، وإلا كان أحق بها أن تطوف بالرباب، وتجري على توقيعات المزمار والغاب.

وهل كان أروع ما مدح به رجل رجلًا، وما أثنى به عظيم على عظيم من تلك الكلمة الفردة الصغيرة التي فاه بها نابوليون بونابرت؛ إذ وقف على أكبر فلاسفة ذلك العصر وشعرائه، ذلك الذي مزق ديوان الشعر قبله، وقذف إلى الخمول جميع من كتب قبله في الفلسفة والتفكير، ونعني به الشاعر الألماني جوث؛ إذ نظر إليه، ثم دار بعينه في وجوه من حوله، ولم يلبث أن قال يمدح ذلك الشاعر: «إنه رجل!».

أجل لقد كانت هذه الكلمة التي فاه بها ذلكم الرجل في رجل كان يمثل دولة الأدب يومذاك لا دولة المدفع والسيف أبلغ من جميع التراجم التي وضعها الكتاب في ذلك الرجل بعد موته، وأعمق من الدلالة على فضله وعظمته من كل ما حشد الكتاب في تحليل شخصيته، وتشريح خلقه، والإسهاب في بيان فضل أدبه على الدنيا، ومتانة تفكيره، وروعة شاعريته.

إن هذا الشيخ الجليل رشدي باشا يستحق من هذه الأمة كل ثناء، ولقد كان وزيرنا الأول أول من أدرك هذا الواجب، وضرب على نفسه التزام هذا الغرض المقدس، فذكره في مستهل خطابته، ووقف خاشعًا أمام ذكر اسمه؛ لأنه وقف أمام عظمة نقية، ووطنية عاقلة، ونفس حر عافت أن ترى نفسها في موقف ذل، وموطن مهانة، ولسنا ننسى ما كان من ذلكم الشيخ الأشيب الوقور، العظيم الروح، إذ انبرى لذلك الإنكليزي الكبير برونيات يوم وصف هذه الشعلة المقدسة التي اضطرمت في كل فؤاد في هذا البلد الناهض، شعلة الوطنية الرهيبة التي أنارت الشرق كله، وأشعت على أهله جميعًا؛ فثاروا يطلبون ما ينعم به الطائر على شجره، والوعل في غابه، والوحش في كناسه وعرينه، يوم قال عن هذه الحركة الرائعة: «منها شعلة تطفيها بصقة واحدة»، فيا لعنة السموات لشد ما ثارت حمية هذا الشيخ، وغضبت كرامته، ونفرت عزة نفسه، ونهضت عزته بقومه، فأرسل من قلمه الحار الملتهب بحمية نفسه، وأثر الوطنية التي تغلي مراجلها في حنايا أضلاعه، تلك المذكرة البليغة المستفيضة المخلصة الوفية الخالدة، فراح يفند فيها دعوى الرجل، وفساد نظره، ويبين له مكان مصر في نظر أهلها، وحقها في نظر الغرباء عنها، أولئك الذين نعموا فيها بخفض العيش، وخرجوا منها بالثراء العريض، وملأوا جيوبهم من أموالها، وخزنوا الثروات الطائلة من ثروتها؛ فلم يبق رجل في هذا البلد لم يصفق لتلك النفثة الرائعة، ولم يهتف لتلك الكلمة المتقدة، ولم يطرب لوطنية الشيخ؛ ويعجب بصراحة الوزير، وجرأة الوطني الشهم الباسل.

ولقد ظلت صحيفة هذا الرجل العظيم نقية طوال ماضيه، وهي اليوم أنقى منها حاضرًا، وستكون غدًا أشد نقاء وصفاء ونصاعة؛ إذ يتم عمله في لجنة الدستور، ويخرج ثمرات تفكيره، وتنعم البلاد بالأنظمة التي نظمها، والقوانين التي اشترعها لمجلس الندوة، وندوة الموالي، وستكون تلك الأنظمة كفيلة بالحرية للشعب في تشريعه، وبالاستقلال المكتمل في برلمانه؛ وإن تخرص اليوم المتخرصون؛ ونقد الناقدون عمى الأبصار والبصائر، وسيرى الناس منه في موقفه الوطني الحاضر، واضطلاعه بهذا العمل العظيم كيف تكون وطنية الشيخ وجرأته في الحق، وسعة اطلاعه بأنظمة الحكومات في ممالك الغرب، وقوانين مجالسها النيابية، ولن ينقصنا من تلك الأنظمة شيئًا، ولن يضيق علينا منها مضطربًا، وهو يعلم أننا قد نضجنا لمعنى الحياة المهذبة، واكتملت نفوسنا للعيش في ظلال الحرية، ولن نخدع في أمر من أمور حياتنا، ولن يكون هو ومكانه مكانه بخادع لنا، ولوطنيته تلك المواقف، والجولات العظيمة التي لا نزال نستهدي بأعلامها الخفاقة.

ونحن قد قرأنا ذلك التقرير الضافي الذي رفعه عن السودان، ورابطته المقدسة الأبدية بمصر، فإذا هو لا يزال جريئًا في عمله، عاملًا في وطنيته وطنيًّا في كل ما يمد يده إليه، ويكلفه من الخطوب الكبار، وهذه المذكرة ستبقى علمًا على شعور فياض يلم بالنيل العظيم من منبعه إلى مصبه، ويتدفق على ضفافه، وإنما ينصب من علٍ كالسيل، فلا يقف في سبيله مانع، ولا يسد عليه الطريق حاجز أو حائل.

ونحن ننقل كلمة من تلك الكلمات البليغة المفعمة وطنية وصراحة، التي جاءت في عرض ذلك التقرير المستطيل … ليس النيل رباط الحياة الوحيد الذي يربط مصر والسودان، بل هناك اعتبارات اقتصادية، فإن الجانب الأكبر من تجارة السودان سيمر دائمًا في مصر، ومصر هي العميل الأكبر للسودان الآن، وستظل كذلك إلى الأبد، وقد أخذت مصر تغص بالسكان، وأخذت أرضها تعجز عن أن تكفيهم، وليس في الأرض مكان معد بذاته لقبول زيادة السكان في مصر غير السودان، فهو بلاد متاخمة لمصر زراعية بحتة، متصلة بمصر بروابط من كل نوع، ثم إن مبدأ الجنسية المسلم به الآن والذي كان مرشدًا وهاديًا لسياسة الإنسانية بعد الحرب ينطبق على مصر والسودان؛ لأن أغلبية العنصر العربي يتكلم لغة المصريين، وهو دين أغلبيتهم، وهو متخلق بأخلاقهم.

•••

وقد عطف الوزير بعد ذلك في خطبته على صاحب الدولة عدلي يكن باشا؛ فقدره حق قدره، وأبان للناس عن ذلك العمل الكبير الذي قام ذلك العظيم بأعبائه، وذلك الرفض الشريف الذي تجلى من ناحيته في مفاوضات طويلة، كان الإنكليز يريدون منها أن يظفروا بالغلبة علينا.

وإليك ما قال رئيس الوزارة في هذا الصدد: سينشر يومًا من الأيام ما طوي من الصحائف، وما خفي من أسرار المفاوضات، وإذ ذاك يعلم بنو مصر جميعًا أنه ما من رجل دافع عن بلده كما دافع عدلي باشا عن مصر أثناء المفاوضات الرسمية، وأن الموقف الشريف الذي وقفه ذلك الوزير الكبير، والوطني الصميم كان في ذاته أعظم تأكيد لشخصية مصر التي صممت على نوال استقلالها، والتي تأبى أن توقع على صك يضعف هذه الشخصية:

إنما الوطنية الصحيحة الوطنية الصادقة؛ تعمل ولا تتكلم، وكل همها موجه إلى جلب النفع للوطن، فلزم عدلي باشا الصمت، وكان خصومه يرمونه بأشنع ما يرمى به إنسان من نقص في الوطنية، وضعف في العقيدة القوية، فكان جوابه الوحيد على هذه التهم العمل على إثبات حق مصر، وأما ماعدا ذلك فلم يكن له عنده من شأن، فكان وطنيًّا عظيمًا في صمته عظيمًا في حسن دفاعه.

هذا لعمري دفاع مجيد من رأس وزارة في حق رجل كان معتقدًا مجلسه قبل جلوسه، وهذه هي الوطنية النبيلة المؤثرة غيرها على نفسها المتواضعة في رفق النازلة للناس عن عرضها، ومكانتها وكرامتها؛ لتحفظ عرض وطني عظيم، ومكانته وكرامته.

ونحن لا ندري أية مذمة يستطيع الناس في هذا البلد أن يضعوها عند باب رجل جريء مخلص كالوزير عدلي، وأية جريمة تسول لهم نفوسهم أن يلصقوا عارها به، وأية منقصة يتزرون عليه من ناحيتها، وهو لم يجترح في حق هذا الوطن إثمًا، ولم يرتكب سوءة، وانطلق إلى داره كريمًا أبيًّا، رأى العار يريد أن يلتصق بقومه على يد مفاوضات أكره عليها، وسيق عن كره إليها، فصرخ فيه ضميره المخلد القوي أن يفلت من عمل لا يصيب بلده منه غير الخسار، ولكن كثيرين من العاملين في الثورات، والأحرار المخلصين الذين يعيشون على هدي ضمائرهم، ولا يريدون أن ينزلوا عن استقلال رأيهم للشعب، والقطيع الذي وراءهم، نالهم ما نال هذا الرجل، ووقع لهم ما وقع له، ولكن التاريخ يأبى إلا أن تكون له الكلمة الأبدية، والحكم الفصل، وفي التاريخ يبدو اسم هذا الرجل بريئًا من الإثم نقيًّا من العاب، شريفًا ناصعًا لا شية فيه، وأما ما لصق به أعداؤه، وما يعيبه به خصومه فجفاء لا يصبر على نقد، وهباء لا يستطيع مواجهة حرارة الشمس، وقد أدرك الناس اليوم فضل هذا الوزير، وحقيقة ما قام به، ورضي هو بالحياة الساكنة الهادئة بعيدًا عن العاصفة الهوجاء التي تهز أعالي الشجر، وتمر بصغارها غير مؤذية ولا محطمة.

•••

وأجل ما كان من تلك الخطابة روح التواضع التي عمت أجزاءها، وفاضت في تضاعيفها، فلم يستخدم الأساليب الفردية فيما يقول، ولم يتكلم بروح الأنانية فيما بسط من المعاني، وشرح من الأغراض، ولم يستفرد بالعمل فيستفرد بالبيان، ولم يغمط حق أفراد وزارته ليكسب هو الحق في إعجاب الأمة به كاملًا، ولم يفرط في روح التضامن، ولم يشذ عن مبدأ التعاون، ولم يجعل نفسه الطوال العظيم، وزملاءه بجانبه الأقزام الصغار، الأغمار المجاهيل، بل استمسك في كل خطابته بصيغة الجمع، وبحق زملائه معه، ولم يمض في شأنه أنانيًّا متكبرًا، ويثير الغيرة منه في نفوس أصدقائه كما فعل الزعماء في الثورة الفرنسية من قبل، فاحتكروا المديح لهم، وقبضوا بكلتا يديهم على المديح بمفردهم؛ فانفض عنهم الكثيرون من زملائهم، وتململ الباقون من صحابتهم إذ رأوا أنفسهم حواشي وذيولًا، ووجدوا أسماءهم منزوية في ركن صدئة، وأسماء أولئك بريقة لامعة، مصقولة ذات طلاء ورواء.

وقد اضطلع الوزير في خطبته تلك بعبء المسؤولية، وارتضى أن يكون وحده مسؤولًا عن عمل الحكومة وشؤونها، ولم يتحلل من اللائمة، ولم يخلص بنفسه وبوزارته نجيًّا من الجزيرة، بل نهض مستبسلًا لا يخشى تأنيبًا، وهو يدرك أنه على الحق، ولا يشفق من عتب، ولا إنكار وسخط ما دام الخير فيما يفعل، والنية البيضاء وراء ما يحدث، وإنها لجرأة عظيمة لا تكون إلا لعظيم يحتملها، وينهد لها، ويرضى أن تصدر عنه، وتنبعث منه، والجرأة صفة أولى في العظماء، ولازمة من لوازم المتصدي لقيادة الشعب المتربع في دست الحكم، وماذا كان هذا الوزير ليخشى من وقعه، أو يفرق واعدًا من نتيجته، وهو لا يريد أن يدس على الأمة في الظلام، ويحتال الحيل على خديعتها، وذر الرماد في عينها، وإنما اتصل بسبب من الحق، وأدرك خير الأمة في ناحية، وتبين له السبيل السوي؛ فسكن إلى خطبته، واطمأن إلى عقيدته، وسعى سعيه، ونشط نشاطه، وكان من كل هذا ما رأينا، وما علمنا.

ولو أن رجلًا آخر منا في مكانه لما جسر أن يقول أنا المسؤول، ولما طاوعته نفسه على التصدي لحمل هذا العبء؛ لأن الناس في مصرنا يرعشون خشية من هذه اللفظة الكريهة إليهم، وهي «المسؤولية»، وترجف أفئدتهم من وقعها ونتائجها، ولم نر وزيرًا من وزرائنا السابقين في موقف من مواقفه نهض على أسماع الأمة يقول ما قال صاحب الترجمة في تلك الخطبة، بل لقد اعتدنا أن نرى وزراءنا يرمون المسؤولية عن أكتافهم، ويتهربون من إسنادها إليهم، أو أخذهم بكلماتها، بل ما فتئوا كلما عاتبتهم الأمة، وأنكرت عليهم عملًا من أعمالهم، وسخطت على شأن من شؤون وزاراتهم يتشكون من الإنكليز، ويحيلون الذنب إليهم، ويرجعون اللائمة عليهم، ويقولون في عرض أحاديثهم الأسيفة برنة الألم والندامة، والحسرة واللهفة: ماذا لعمركم نفعل، ونحن سليبو الإرادة، مكتوفو الأيدي، لا نستطيع شيئًا، ولا نجد لدينا استقلالًا للعمل، وحرية في التفكير والسعي؟ إنكم أيها اللائمون إنما تتكلمون على هواكم؛ لأنكم لم تقعوا تحت تلك الإرادة، ولم تجربوا ما جربنا، ولم تعانوا ما عانينا، إنما تلك مقاعد نعتقدها، وكراسي ينبغي أن تملأ فحللنا في فراغها، وليس لنا من مناصبنا هذه إلا المرتب؛ لأننا مثلكم أصحاب «عيال»، وإلا لقب «المعالي»، وإن «سفلنا» في نظركم، وإلا الأبهة الفارغة الجوفاء ما دمنا لا نستطيع أن ننعم بالملأى الحقيقية الصادقة.

ولقد كان هذا نجاء الوزراء لصحابتهم، أو أهل سرهم، وندمائهم على الشراب، والمتمكنين من ودهم وصداقتهم، وكانت تلك الكلمات نعرفها عنهم، ونتخيلها طالعة من أفواههم.

ولكن مثل هذا الوزير الذي نترجم له الآن أشد الناس ثورة على السكون والتطامن لو أنه أريد على أن يجلس في كرسيه جامد الحركة، وأن يروح في يد الإنكليز أداة يحركونها هم كيف شاءت لهم السياسة، واقتضت مطالب الحكم؛ لأنه يأنف أن يذل لغيره، ويخفض رأسه لسواه، فإذا أعطي عملًا، فإما أن يترك له ليعمله، وإما رفضه وخرج بنفسه من معرة العجز، والتواكل، والرضى باسمه، تذيل به القوانين، وتمهر به الشرائع، وتختم به المراسيم والأنظمة دون أن يكون هو الذي اشترعها، ودون أن يضع يدًا في وضعها، ولم يتولَّ يومًا في حياته الحكومية عملًا وقنع منه بالوظيفة، ورضي منه بالاسم واللقب؛ لأن في أعماق نفسه إحساسًا جياشًا يغريه بالحركة والعمل، وعاطفة متقدة لا تربطه بالكرسي الذي يشغله، ولا تقيده إلى المنصب الذي يقلده، ولو مضى عليه يوم واحد من غير عمل يتناوله، أو تفكير ينكمش إليه، أو كتاب يقرأه، أو قطعة يكتبها لكان ذلك عنده أشد أنواع المرض، ولاحترق جثمانه من أثر حرارة روحه، والنار المشبوبة في فؤاده، وإذا تخلى رأس الوزراء، وأول رجل في الحكومة عن المسؤولية عن عمله، كان خليقًا بأحقر رجل فيها، وبالشرطي الواقف في الطريق أن يتهاون في عمله، ويتحلل هو أيضًا من مسؤولية حراسته وواجبه، وإذا حدث هذا في حكومة من الحكومات خرجت ولا ريب عن معنى الحكومة، وكان أولى بنا أن نسمها بطابع الفوضى، ونحشرها في الموتى، وقد رفع هذا الوزير عن أمته علم الحماية، وذلة الوصاية، وكان مسؤولًا عن مهمته تلك فأداها على وجهها، ولم يكن يخشى بعد ذلك من مسؤولية إتمام ما بعدها، واستكمال أساليب الحكم الدستوري التي لا غناء بعد تلك الحماية عنها، ولقد وقعت بعد ذلك أحداث كبار، وحدثت غيلات لكبار البريطان وأخطار، وغضبت حكومة الإنجليز، وحق لها أن تغضب، وعتبت على وزارة هذا الوزير، ولفتت أنظارها إلى هذه الدناءة التي تغتال الناس وهم أبرياء، وتشوه جمال هذه الحركة، وتفسد عليها فضيلتها؛ لأننا لا نريد وطنية قاتلة، ذباحة ساقطة الروح، دنيئة تقتل ثم تعدو طالبة الفرار، مختبئة في الأزقة؛ لأن الوطنية الصحيحة لا تختبئ وإن قتلت، ولا تكمن في جحر مظلم، أو عش بعيد مجهول، وإن افترست لأنها وطنية لا تخشى الموت، والوطني الصادق المستبسل يموت والابتسامة على شفتيه، ويلاقي المنون ضاحك النواجذ، والغيلة دناءة، وإن أسماها المجانين مذهوبو الرشد جرأة، وراحت لديهم خليقة بالمديح، مثيرة فيهم الإعجاب؛ لأن هؤلاء الذين ماتوا وقضوا نحبهم ماتوا ودماؤهم باردة؛ لأنهم أخذوا على غرة، ولم يدافعوا عن أنفسهم، والرجل الباسل النبيل الروح يأنف أن يموت عدوه بارد الدم في هدوئه الطبيعي، وغفلة خواطره، والرجل الذي يموت منهم يرتحل عن الحياة مستشهدًا؛ لأنه مات وهو يعمل لوطنه بالحق كان وبالباطل، والقاتل من صفوفنا خائن في حق وطنه، أثيم شنيع في أمته، فنحن بآثامنا هذه إنما نمهد لرجالهم سبيلًا للشهادة، ونسجل على أمتنا كلها الخيانة، والجبانة بكل ألوانها.

وإذا كنا قد رأينا الإنكليز قد غضبوا لتلك الأحداث الرهيبة، وشهدنا نائب ملكهم في كتابه إلى صاحب هذه الترجمة مهددًا منذرًا، يحمل هذه الوزارة مسؤولية هذه الحوادث، وجريرتها، فقد وجدنا هذا الوزير ثابت الجأش، لا يفر في رسالته إلى نائب ذلك الملك من حمل مسؤولية الأمة بأسرها، ولا يتململ، ولا يتزعزع عن مكانه، ولا ينخلع فؤاده حيال التهديد، والنذر التي جاءته، بل أحسن في رده، وأخذ بالحزم والبسالة فيما كتب، وكذلك ارتكب رجل ذو لوثة جرمه الشنيع، وضرب الأمة في مقاتلها، وهو يحسبه محسنًا صنعًا، مجديًا على وطنه، فلم يكن من رئيس الوزارة الجريء الباسل الثبت المقدام إلا أن حمل جرمه، ورفع للأمة كرامتها، وأجمع نيته إلا أن يأخذ بأشد ألوان القصاص، وينفذ أقسى ضروب العقوبة، وقد فرح الذين عمت بصائرهم عن رؤية الحق بذلك الحادث، لا في وقعه، ولا في مقدار ما أثار من الغضب، وأحدث من السخط لدى الذين قتل الرجل من صفوفهم، بل حسبوها ناهزة نهزت لتبعث الوزارة على الخوف من أمرها، والخشية والرعدة من عواقبها على مكانتها، وظنوها حادثًا مغريًا بالفرقة والتنافر بين الوزير والإنكليز، الذين اقتسرهم اقتسارًا على استقلال البلاد، والتسليم بحريتها، وحقها الأبدي، ورفع حمايتهم المهينة المؤلمة عن أفقها، وما نعلم أن في دور المخلوطين في عقولهم قومًا تقع لهم أمثال هذه الفكرة الطائشة الهاذية المحمومة، ولكن لهؤلاء المجانين الأحداث الأغرار جنونًا مبتكرًا طريفًا، ليس على مثال ما في سجلات المجاذيب من مدهشات، فإن هذا الوزير قد قام بفرائض منصبه غير مستأن، ولا مستخف، وقد وقعت أمثال هذه الأحداث في الوزارات التي قبله، وهو لم يجلس مجلسه إرضاء للإنكليز حتى يتركه ترضية لهم، ولم يكن في مكانه ذاك بوحيهم قبل أن يكون يوحي ضميره، ومنبعثًا وراء وجدانه، وما كان مثل هذا الوزير في نبل روحه، وفيض عاطفته ليترك مكانه؛ لأن بضعة أشخاص من المعارضين، ونفر من الخصوم، قالوا له: قم عن مكانك، واترك مجلسك، ولقد انهزموا أمامه، وهزمتهم الأمة حياله، فلم تسمع لهم؛ ولم تعرف لهم مكانة بينها، وليسوا ممثلين لرأيها، ولا غطاريف في أهلها، ولا سادة الرأي إذا الرأي سؤل، ولا قادة الأذهان إذا طلب وحي الأذهان، وكيف يصح للمنتصر أن يدع مكانه للمنهزمين، ويترك الحومة للهاربين، ويعلن هزيمته وهو قد أمسك بالنصر في يده، وبعلم الفوز يلوح به فوق رأسه، ولو أنه فعل فنزل على أمر هؤلاء، ورضي أن يسمع لهم، وتخلى عن المنصب لشهوة أنفسهم، وفر من الواجب الذي في عنقه لراح خائنًا لبلاده، مستهزئًا بحقوق أمته، ضعيف الحيلة في خدمة مبادئه، ولا نعرف شيئًا من هذا يصح أن ينسب إلى صاحب الترجمة، أو يشتم من خلقه، ولقد وقف في مواطن أشد إحراجًا من هذه فسرب منها، وشق غبارها، ولم يستطع شيء أن يترك أثرًا في همته، وعظمة نفسه للعمل، وإخلاصه إلى رأيه، ودأبه على فكرته.

وإذا كان هذا هكذا فلا غرو أن يقول صاحب الترجمة في خطبته: «إننا لم ننتظر إنفاذ النظام البرلماني حتى نأخذ المسؤولية على عاتقنا، بل نحن قد أخذناها على عاتقنا من أول لحظة، وأصبحت إدارة شؤون البلاد في يدنا بتمام الحرية، فلم يبق للمستشارين هذا الأثر الذي كلكم كنتم تعرفونه، وتحسون به، وأصبحت كلمتهم لا تخرج عن حد المشورة.»

«والخلاصة في هذا الباب: أن مصر الآن من الوجهة الداخلية أصبحت أمورها بيد أبنائها، وأنها ستصبح في القريب العاجل ذات نظام دستوري على أحدث النظم العصرية».

ولا تزال كلمة الإخلاص التي قالها في تلك الخطبة في أذهاننا، تلك الكلمة الكبرى المستفيضة صدقًا، وعاطفة، وضؤولة أمام عظمة القدر، وفناء الفرد بجانب خلود الشعب، إذ يقول: لقد نسوا أو تناسوا أيها السادة أننا أشخاص زائلون، وأننا لن نبقى متربعين في دست الأحكام إلا برهة من الزمن، ثم نخلي السبيل لغيرنا، أما النظام الدستوري فهو نظام ثابت دائم …!

نعم، تلك نفثة رجل صادق يدرك أن الحياة لا تستحق أن تعاش إذا لم يكن الإنسان قوة خالدة تفتدي نفسها في سبيل خير غيرها، وأن المرء وإن عمر في هذه العاجلة فما هو بمغنيه في حكم التاريخ أن يعمر، ولقد راعنا من هذه الكلمة المؤثرة الجياشة الحزينة الرنين، الأليمة الوقع ما انطوى تحتها من رنة الإخلاص، وروح الصدق، وبلاغة التعبير، وجلال الوفاء، ولم يكن الوزير من الشعراء حتى يقال تلك أكذوبة جميلة من أكاذيب القصيد، ولم يكن في موقف من مواقف الشاعرية حتى تستهويه وترسله، يتدفق في ألفاظ طلية ضئيلة المعنى، وإنما كان في ذلك الموطن رجلًا سياسيًّا، وعاملًا خطيرًا في بناء هذه الأمة، ورأى بعض الخصوم يكذبون عليه، وعلى أمتهم، ويتقولون الأقاويل الخاسرة الواهية الظنينة في نفسها المتجنية، ويرمون الوزارة بما هي منه بريئة الكف، نقية الروح، ويدسون عند الأمة عليها أنها ستتعرض لحرية الانتخابات، وأن دار الندوة ستكون عند منال يدها، ولعبة في كفها.

ولقد أحسن الوزير في رفع تلك الفرية؛ لأن الوزير لم يطعن بها بمثل ما طعنت الأمة، وأهينت، وسخر منها، وشهر بها عند أمم الغرب.

ولقد قال الوزير حقًّا إذ قال في خطبته: إنهم بذلك إنما يرمون أمتهم بأشنع التهم، وأنكر الشنائع؛ إذ ينسبون إليها أنها تقتاد سهلة ذلولًا في يد من يسوقها، وأنها لا تجتمع إلا على طغام كالنعام، يتبعون أول ناعق، وأنها تستسلم استسلام الأعمى حتى فيما يعود على الأمة بالضر والذلة.

أولئك هم الذين يودون أن يتراءوا للأمة قادة مخلصين، ويبدوا مصلحين صادقين، وتتجلى الغيرة المتقدة من نواحيهم، وتظهر الحمية الملتهبة من جوانبهم، على حين يسيئون إليها، ويستخفون منها، ويضللون فيها الرأي، وينكرون وضح الشمس، ولكن الأمة لم تعد طفلة تغريها بالنوم مناغاة أولئك المراضع، والأمة التي نهضت للثورة، وثارت للحياة الصحيحة المنتعشة القوية، وصاحت فيها النسوة يطالبن بمقاعد لهن في مجلس الإنابة، لا يقع عندها الخداع، ولا تستمع لأحداث الخيانة المرتدية أثواب الصدق، والغيرة، والوفاء.

•••

ولو أن صاحب الترجمة كان يخشى شنشنة هؤلاء الثرثارة، ويخاف خصومة أولئك الخصوم، ويضطرب من تألب هؤلاء المستنفرة، ويرعد من عداوة الأفاكين، وأهل القلوب المرضى لكان أولى به أن يصانعهم، وكان أخلق به أن يلاينهم، وينزل على أحكامهم، ويهرب من خصومتهم، ويسعى جهده في سبيل سكوتهم، ولو أنه طلب ذلك، ووضع هذا المقصد نصب عينه لطاوعه ما أراد، وضمهم إليه، وساقهم إلى جواره، ولكن أبى إلا أن يكون فردًا، ويعمل فردًا، ويدأب منقطعًا إلى نفسه، خاليًا إلى عزلته، فإن انتصر له قوم أدركوا أن الحق في جانبه؛ فنعمت النصرة، وإن هزمه قوم، وخذله فريق، فما كان ليخشى خذلانهم؛ لأنه يعلم من نفسه أكثر مما يعلمون، وهو خليق بأن يصطبر لهم، ويتمهل عليهم، ويرتقب رجعتهم إلى الحق؛ لأن الحق عائد بأهل الضلة إليه، وإن بعدت المسافة، وتراخت الشقة، ولكنه — كما قلت — لا يخشى من جانب أولئك الخصوم شيئًا؛ لأنه يعيش أبدًا على ضميره، ويتلقى وحي الحق من وجدانه، ولقد قال في خطبته: «إني أيها السادة لا أكره المعارضة، بل إن عزت عليّ تلك المعارضة فإنني أعمل على خلقها، ذلك جلال العبقرية السياسية التي تستقبل خصومها مرحبة بهم، مؤهلة بخصومتهم، فرحة بتألبهم، واجتماعهم عليها، وتضافرهم على سمعتها، عالمة أن كل ضربة لا تقتلها تفيدها، كما قال نيتشه في بعض تواليفه، وما رأينا قبل هذا وزيرًا مصريًّا صرح بكلمة مستبسلة كهذه، ولا شهدنا رجلًا خطيرًا وقف هكذا مناديًا الناس إلى مخاصمته، صائحًا على أعدائه أن يقبلوا على حواره ومناقشته مهيبًا بهم أن يحشدوا كل ما أوتوا من قوة لمكافحته؛ لأنه لا يستطيع أن يقنع الناس جميعًا بنقاء وجدانه، وصفاء نفسه، وطهر ما يخرج من يده.

ولو أنه عمل عملًا صالحًا، ورأى الناس حوله سكوتًا، لا تتحرك شفاههم بكلمة نقد، ولا تجري أقلامهم بمعارضة، أو رد لتلتلج في خاطره أن الناس لم يفهموا عمله على حقيقته، ولم يدركوا وجه الخير منه، فلا يفتأ يستثير القوم إلى إبداء آرائهم، والمصارحة بخواطرهم حتى تهدأ نفسه على عمله، ويتلقى من الناس التشجيع على المتابعة، والتعضيد للتقدم، والمؤازرة على النهوض والسعي، وأنه لأفرح بالنقد منه بالمديح، وأروح خاطرًا بالمعارضة منه بالمؤازرة؛ لأن المديح لا يكاد يصل إليه؛ لأنه في شغل عنه، ولأن الثناء عليه لا ينال منه غير التجهم، ولا يصيب منه الرضى؛ لأنه يعلم مقدار ما في هذا الثناء من خديعة، ويدرك أن التمدح لا يزيده شيئًا، ولا يكمل منه نقصًا، ولا يخلع عليه فضلًا طريفًا، ولا يزداد به ثقة بنفسه، وثباتًا على عقيدته، ولكن النقد يظفر منه بالابتسام، ويثير في نفسه السرور، ويشع في نواحي روحه، ويفتح شهيته للعمل؛ لأنه يدرك من نفسه أنه لم يتخذ على الحق عهدًا أن يؤاتيه في كل يوم، ولم يكتب بينه وبين القدر وثيقة وعقدًا مبرمًا أن لا يسير إلا على هواه، ولا يأتمر إلا بأمره، بل هو يعمل متوخيًا الخير جهده، متحريًا الحق بكل قوته، فإن لم يصبه فعلى الناس أن يصيبوه معه، ويعينوه على الظفر به، ولا يتوفر له ذلك إلا بنقد الناقدين، ومعارضة المعارضين المخلصين، وهذا هو الذي بعثه على أن يقول كلمته تلك؛ لأنه لا يدعي لنفسه السيادة على الأذهان، والسيطرة على الضمائر، وهو ليس بالوطني الأوحد، والقوم من خلفه كذبة خونة منافقون، ونحن لم نر هذا الوزير يومًا جانحًا إلى الاستبداد بأمته، وإملاء رأيه عليها، وإكراهها على أمر لا ترغب فيه، ولا تشاء المضي في سننه.

ونحن لسنا منه حيال دكتاتورية مطلقة عنيدة الرأي، شديدة الوطأة، حديدية اليد، وإلا لما جلس في مكانه أكثر من يوم أو من شهر، ولما ثبت في مجلسه، وتمكن من منصبه، ووجد الأمة الحقيقية التي لا تنجلي في صحيفة، أو صحيفتين، وفي أنهار ورقة يومية أو ورقتين، بل الأمة التي تجلس في الطريق، وتعيش في الشارع، وتسكن القصور، والأكواخ، والدور، والعشش، ساكنة مطمئنة إلى عمله، صابرة مستأنية؛ حتى يتحقق كل مطلب من مطالبها، وتنفذ كل أمنية من أمانيها، وإذا قال قائل من خصوم الوزارة: إن هذا السكوت من جانب الأمة عن عجز، وصبرها عن ضعف واستسلام، وسخط مشلول، مفلوج الحركة، فنحن نقول لأولئك: إن الأمة التي لا تستطيع أن تزيح رجلًا عن مكانه، وتعجز عن أن تحمل وزيرًا إلى بيته من فوق مجلسه، لا تستحق الحياة، ولا تستأهل أن تطالب بالحرية فتنالها، ولكنا نعلم من أمر هذه الأمة، ومن مزاجها، ونفسيتها ما شهدناه من تلك الثورة الرهيبة التي وقعت منذ أعوام، وعمت القطر من أقصاه إلى أقصاه، والأمة التي وقفت أمام المدافع، وحملت ضحاياها إلى المقابر تحت صيب من القذائف، وسقط أبناؤها وشبابها جرحى وقتلى، والابتسامات على شفاههم، والكلمة الحلوة «لتحيَ الأمة» تتحير على ألسنتهم، لا يمكن أن تكون كاذبة على نفسها، مخدوعة في أمرها، صابرة على ما لا تحب، مكرهة على ما لا تريد، وإنما هي أدركت أن الوزير لم يأثم في حقها حتى تأثم هي في حقه، وتتجنى عليه، وتتململ من حكومته، ولم يقل لها لقد رفعت عنك الحماية، ثم رأت الحماية لا تزال باقية، ولم يعلنها بأن سيادة الإنكليز قد راحت سيادة مصر على مصر، ثم شهدت أن ذلك كان جملة من الأكاذيب، لا نصيب لها من الحق، ويوم تظن أن في كل ما فعل الوزير ظلًّا ضعيفًا من الباطل، تروح ثائرة متمردة غاضبة، ويوم تغضب الأمة يغضب الوزير من نفسه؛ فيحمل محفظة أوراقه الخاصة إلى منزله، ويتخلى عن عمله، ويندمج في صفوف الشعب، ويدخل في غمار الجماهير، ويدع المكان لغيره، ولو أراد القدر بهذه الأمة سوءًا لكان ذلك، ولوقع ما نقول، ويومذاك يرتفع إلى رئاسة الوزارة رجل قزم أعرج الإرادة، دميم الرأي، ويومذاك نشهد ما سيكون بعد الذي كان، ونرى الأمة معولة ناشجة نشيج الأطفال؛ إذ أسقط في يدها، وأسلمت مقادتها إلى أيد ضعيفة راعشة؛ لأنه إذا كان في هذه الأمة رجل يستطيع أن يمشي بها في محرجة أمرها هذا، ويمسك بيدها فيأخذها إلى حيث تريد، وينطلق بها إلى ما تبغي؛ فذلكم هذا الوزير الذي تترجم له الآن، فهو أقدر رجل تولى الرئاسة في وسط هذه الزوبعة الهوجاء، وهو أمتن أهل هذا البلد شخصية، وأدهاهم رأيًا، وهو جبار الذهن، عظيم الروح، لا يتطامن، ولا يخفض رأسه، ولا يبيع الناس ضميره ليشتري به حقًّا ضئيلًا من حقوق هذا الشعب، ولا يستطيع الإنكليز أن يستلينوا قناته، ويجمعوا خدائعهم لاختلاب فؤاده، ويكسبوه من ناحية ليخسر هو أمته من الأخرى، ويأتوه بالباطل ليدلي به إلى وطنه في صورة الحق، ويوعدوه بالنذر ليعد هو بالأماني، ويقولوا له: افعل كما تؤمر به، أو دع مكانك؛ فيغلب مكانه على مكانته في أمته؛ لأنه كما قال في خطابته شخص زائل، وإنسان سيحتضر، وعمر سينفد، وما تنفد الأمة، وما تفنى، وحقيق به أن يفني عمره في خلود وطنه قبل أن ينطلق عن هذه العاجلة، فاني الذكر، خلق الاسم، سيئ الأحدوثة.

وقد رأينا فريقًا ضئيل العدد، يحاولون أن يقنعوه بترك عمله، والتخلي لهم عن منصبه؛ ليضربوا القرعة فيما بينهم على من يتولاها منهم بعده، وليقتسموا بينهم أسلابها، وأبهة روائها، وليجعلوا رئاسة الوزارة مأوى للضعفاء، وملاذًا للملهوفين، ونزلًا للطاعمين الكاسين، ولتكون أشبه شيء بالتكايا للمقعدين المعوزين؛ ولو أن رئيس هذه الوزارة رضي لنفسه أن يكون بجانب ذلك رئيس مطعم، أو صاحب فندق لاستطاع أن يجيء بهم إلى صفه، ويستهويهم إلى جانبه؛ إذ ينزل على مطالبهم، ويعطيهم كفاف رغائبهم، ويجلسهم في دور الحكومة، ويوظف عليهم الوظائف، وينثر عليهم البدر، ولكن الأمر ليس مساومة، وليست شؤون الأمة تجارة نافقة؛ فيربح أولئك، والأمة بهم خاسرة.

ولقد قال الوزير — كما قدمنا — أنه يريد أن يخلق المعارضة إذا لم يجد أثرها، وكان يرتقب أن يرى معارضين يمسكون بطرف من الحق، ويشادونه فيه، ويتجاذبونه بينه وبينهم، وكان يتوقع أن يجد أمامه خصومًا أبرياء من الأنانية، ومجادلين بالحسنى، غير خارجين على سلطان أنفسهم، وأمناء في السياسة إذا الأمانة وجبت، وأوفياء في العقيدة؛ لأن الوفاء أول لازمة هذه النهضة، وكان أحق أن يشهد معارضين شرفاء الدخلة، صادقي الوطنية، مؤمنين بحق أمتهم، فلا يثيرونها هوجاء حمقاء طائشة، تعمي الأبصار، وتحجب الأعين، وينطلق الحق متبددًا، تذروه الريح السافية، ونقف بهم أمام الإنسانية العاقلة المتحضرة ضحكة هزأة نشتجر، والأمر ظاهر بين، ونتماسك بالتلابيب، ونتواثب للخصام، ونتهالك على النفار في موطن رهيب، كان أولى بنا فيه أن نتساند، ونقف صفًّا صفًّا أمام عدونا؛ حتى لا يخترق الصفوف، ويتسرب من الثلمة، فتذهب ريحنا، وتتفرق جموعنا، والعدو ضاحك منا، ساخر من طفوليتنا، ولكنه لم يجد من كل ذلك شيئًا، ولم ير قبالته أشخاصًا يمثلون رأي الأمة، ويشرحون له عاطفتها، ويتكلمون بلسانها، ولم يستفد من كل تلك الأبحاث التي خرجت بها الصحف كما تخرج الصبية بطيارات الورق تهفو بها الريح، وكان يريد أن يستهدي بالنقد الحق، والرأي المخلص، والكلمة الوفية، والمعنى الأمين؛ فلم يجد في كل أولئك المعارضين الضعاف الأحلام هاديًا طيب النفس، بعيد النظر، واقتصرت تلك المقالات العاثرة التي أسموها معارضة، وخلقوا منها حزبًا معارضًا، خرج إلى نور الشمس جنينًا ميتًا على أهواء ومنازع كاذبة تغالط نفسها، وتريد أن تغالط الأمة معها؛ فبقيت الوزارة في مكانها ثابتة كالصخرة في عرض اليم، وتحطمت تلك السفن الصغيرة التي ركبها أولئك المعارضون، وغالبت الريح، والريح غالبة؛ فكسرت رأسها عند قدمي تلك الصخرة المكينة، وظلت الصخرة راسخة تضحك من أطفال اليم، وزوارق البحر التي جاءت في النوء تناوئها، ونحن لا نريد بهذا أن تموت في الأومة مادة المعارضة، وروح النقد السياسي؛ لأن في المعارضة دليل الحياة، وفي النقد معنى النشاط والبصيرة اليقظة الساهرة، وإنما أردنا أن نرى معارضة مجدية علينا، مهذبة شريفة، كما ابتغى الوزير وتوقع؛ حتى نتم بها ما نقص، ونقصرها على سد ما قصرنا فيه، وننتصح بنصيحتها إذا أعوزت النصيحة، ونسير على هديها في ظلمة موقفنا؛ فلم نجد من كل ذلك ولا أثارة من عقل، ولا ظلًّا من رشد؛ فاستحقت هذه المعارضة المخلوطة في ذهنها المتساقطة عياء وضعفًا من أثر النقرس الذي يفت في ساقها، وتسري برودته في جميع نواحيها؛ حتى تعيش من نفسها في المنطقة المتجمدة، وأهلها تحت سماء حارة، وشمس ذات وقد. نعم، ما كانت هذه المعارضة إلا لتستحق الاستخفاف بها ما دامت لا تزيدنا شيئًا، ولا تنقص من أمرنا شيئًا.

والحجة التي يستعد بها هؤلاء المعارضون على الوزارة، ويحرشون بعض القوم عليها قولهم: إن الأحكام العرفية لا تزال باقية بقوتها وبطشها في أمة قد استقلت بنفسها، وملكت زمام أمرها؛ فلم تغب عن ذهن الوزير حجتهم تلك، ولم ينس خشيتهم هذه، فألم بها في خطبته، واعدًا الأمة أن يجد طريقه إلى رفعها، وإراحة البلاد من أثرها، وأن الأمة خليقة بأن تعينه على مطلبها باعتزامها الهدوء، وأخذها بأسباب النظام، وإخلادها إلى السكينة في ظل القانون؛ حتى تقنع واضعي تلك الأحكام أن ليس بها من حاجة إلى إبقائها، ولا ضير عليهم من زوالها؛ لأن أمر إلغاء تلك الأحكام في يدها، وفي القضاء على عوامل الفتنة والاضطراب، ولكن منيت هذه البلاد بأنفس شريرة، وأرواح خبيثة تستتر تحت حجب الظلام، وتحاول إضرام نار الفتنة، وتعمد إلى اغتيال الأبرياء، وكلما ساد السكون في ربوع هذا البلد ردحًا من الزمن، واستتب النظام، وعم الهدوء، حتى كادت الوزارة تتحين الفرصة السانحة لإظهار حسن موقف الأمة، والاستناد إلى سكينة الشعب في العمل على تعفية آثار القوانين الاستثنائية، لم نلبث أن يدهمنا حادث سيئ، وتقع غيلة جديدة، وينبري رجل مفتون فيفسد تلك الفرصة، ويقضي على تلك السانحة، ويحرج موقف الأمة والوزارة معًا، ويثبت عقيدة الإنكليز في وجوب بقاء تلك الأحكام على حالها، والتزام العمل بها، والالتجاء إليها؛ لقمع هذه الروح الفردية القاتلة المجنونة المتمردة، وقد تضعف هذه الحوادث الأليمة من حجة الوزير، ودفاعه ونضحه عن واجب الأمة، وسعيه لإلغاء الأحكام، وإبطال القوانين الاستثنائية، فإذا كانت الأمة تريد حقًّا أن تزال عنها، وتتحرر من شرها، كان أولى بها الاعتصام بالسكينة، وإذا كانت الأمة لهذه الأحكام العسكرية كارهة مجتوية باغضة، فإن الوزير لها أكره، وأشد اجتواء، وأبغض الناس لأثرها في أمته؛ لأنه يأبى أن تكون في البلاد سلطتان، ويمشي في القطر حكمان؛ لأن عظمة نفسه لا تقنع بنصف الحكومة، وترى النصف الآخر معتديًا على حقه هو وسلطانه، ولا يرتضي لنفسه أن يرى عملًا في الأمة لم يشترك هو في وضعه، وأحكامًا لم يسأل رأيه في إنفاذها؛ لأنه لم يتول رئاسة الحكومة ليقنع من الحكم بلفظة الوزير الأول، وبكلمة الرئاسة الجميلة الوقع، بل إنه ليتألم الألم كله، ويثور في أعماق نفسه، كلما وقع في القطر حادث يوجب إنفاذ شيء من تلك الأحكام، وهو لا يريد أن يقف في سبيل إنفاذها، ويشتجر عليها مع أصحابها؛ فيفسد سمعة حكومته، ويرمي وزارته بتشجيع الفتنة، والرضى بأعمال القتل والعنف.

ولقد كان الوزير قاضيًا، وجلس من قبل في مساند القضاء، واشترك يومًا في اشتراع القوانين، واستنان الأنظمة، وكانت روح العدل التي استمدها من الجلوس في مجالس القضاء تأنف من هذا الحكم العرفي الذي لا يستند على نظام، ولا يجري على سنن؛ ولا يمشي على قصد، بل هو في نظر القانون خروج على القانون، واعتداء على سلطته، واستخفاف بمنصبه، والحكم الذي لا يهب المتهم الواقف أمامه شيئًا من الحرية للدفاع عن نفسه، ويخشى على نفسه قبل خشيته على المتهم الذي حياله، لا يصيب من رجل مشترع غير الاستنكار والاشمئزاز.

وقد صدرت في خلال الحرب، وبعد سكون تلك المجزرة تشريعات هامة، استمدت سلطة القائد العام لتكون سارية على الأجانب والمصريين معًا، وحيل بين المحاكم الأهلية والمختلطة، وبين النظر في مسائل داخلة في اختصاصها، وتولتها محاكم عسكرية؛ فأصدرت أحكامًا، وأنفذت قرارات بنيت على أساسها حقوق وتعهدات، وصدرت أوامر إدراية، وتدابير تتعلق بالأمن، أو النظام العام، واشتركت هذه السلطة في أعمال التشريع، والقضاء، والإدارة العادية للبلاد بسبب الامتيازات الأجنبية، وبسبب نشوب تلك الحرب، فضلًا عن المركز الخاص الذي تهيأ بسبب معاهدات الصلح؛ فأصبحت تشبه النظام العادي، بالرغم من أن الأحكام العرفية بطبيعتها أداة استثنائية.

وقد قال الوزير: «إن ما بني على هذا النظام لا يلبث أن ينهار، ويتداعى بناؤه إذا زال أساسه، فإذا ألغيت الأحكام العرفية سقطت كل التشريعات التي اتخذت بمقتضاها، وأصبح من الممكن أن تنقض كل الحقوق المدنية التي بنيت على أحكام تلك السلطة وأوامرها، بل يصبح من الممكن أيضًا أن تفتح على السلطة أبواب مسؤولية واسعة، ولم يصبح أمر إلغاء الأحكام العرفية مرهونًا بإرادة السلطة العسكرية، بل هو اليوم بيد الحكومة المصرية من وجهة المبدأ، ولكن الشروط التي لا يشك أحد في وجوبها لإلغاء تلك الأحكام لا تتحقق بين غمضة عين وانتباهتها، وليس منا من لا يرغب في إلغاء الأحكام العرفية، وهذا تأخير، ولكن كل منا يشعر بأننا لا يمكننا إلغاؤها دون إقرار التصرفات الماضية، ولا عبرة بما يراه غير المسؤولين الذين يرون أنه يكفي أن تطلب فتجاب.»

«عرف الناس ذلك، وسمعوا أنه يجب إصدار قانون لإقرار التصرفات الماضية، فقال قوم: إنه إنما أريد به تقرير الحماية، وتنظيم أحكامها، وهم يعلمون أن ذلك القانون لا يخرج أمره عن أن يكون تصفية للماضي، ولا علاقة له بالنظام المستقبل، وتسمية هذا القانون بقانون التضمينات هي التي أفسحت المجال للمضللين أن يذهبوا في التأويل ما شاءوا، وحقيقة الأمر أن ذلك القانون يسمى بالإنكليزية Bill of Indemnity، ومعناه الصحيح: القانون الذي يقيل من المسؤولية ويرفعها.»

«على أن بعض الذين يشكون من وجود الأحكام العرفية، ويطالبون بإلغائها يعملون في الوقت ذاته على عرقلة مساعي الحكومة في ذلك، وقد وعدت هذه الوزارة بأنها اعتمادًا على حسن موقف الأمة ستسعى في الحصول على الرجوع فيما اتخذ من التدابير المقيدة للحرية طبقًا للأحكام العرفية، ولكن الذين لا يرعون حرمة الأمة يحرضون على الفتنة، ويشجعون على الإخلال بالنظام، وأعمال التهييج والاضطراب، فهل ترون في ذلك شيئًا من الخير للبلاد؟! ولكن هذه الحكومة لن يمنعها مانع من القيام بواجبها، وستمضي في عملها بما تمليه عليها ذمتها وضميرها، ولا تلقي بالًا لهذه الحركات التي لم يقصد بها وجه الله، أو مصلحة الوطن؛ حتى إذا فرغت من عملها، وتقدمت به إلى الأمة أدرك كل باغ ومعتد أن صفحتها بيضاء، وأن إخلاصها عظيم.»

هذه عدة الوزير، وتلك عهوده، وما كان الرجل العظيم ليعد الناس ثم يخلفهم، ولم تصب العظمة في تاريخها برجل ضعيف الذاكرة ينسى ما قال، ويمطل الناس ما يعد، ويسكتهم بالمنى الكاذبة لينال منهم ما يريد، ولا يريد أن ينالوا هم منه شيئًا، وليست ضعف الذاكرة تعيش إلا بجانب ضعف الذهن؛ لأن الذاكرة لا تزال حجرة من حجرات العقل، فإذا كان هذا واهي الأساس، متداعي البناء؛ ضعفت تلك وتساقطت، ولم تستطع تماسكًا، ولم تقدر على النهوض بنفسها، ولن يتحلل صاحب الترجمة من تلك الدعوة؛ لأن في ذلك التحلل إهانة لضميره، ولن يرجع فيما قال؛ لأن الرجوع في القول ليس من ديدنه، وإنما هو يتمهل للفرصة، ويضع الأمة تحت الاختبار، وهو منجز وعده يوم النجاز، بارّ بعهده يوم توفى العهود، فأما أولئك الذين يريدون أن يستعجلوا القدر، وينفذ ما تريد الأمة في طرفة عين وانتباهتها كما قال الوزير ووصف، فأولاء ليسوا مخلصين في استعجالهم، صادقين في احتثاثهم بيض النية في إغرائهم، وإنما هم يتخذون هذه الشكاة ذريعة، ويستمدون من أناة الوزارة عجلة السخط، ومن حزم الوزير طيش الطلب، على حين يدركون أن أمتهم اليوم في عصر تطور اجتماعي خطير، تغشاه المخاطر، وتحف به الخطوب، وأن الحكومات في عصور كهذه لا يخلق بها العجلة، ومسارعة الأمور، والجري ركضًا إلى التغيير والتبديل، بل لا غنية لها عن الحزم فيما تقدم، والصبر على معالجة ما بين يديها، وقد ترى الشدة واجبة في حين يرى القوم الملاينة حاسمة، ولا يكون لهؤلاء القوم من مأرب في تلك الملاينة، ومقصد إلى حض الحكومة على العرف والرفق، إلا لتفسح المجال لهم حتى يركبوا رؤوسهم، ولكي تخلو الطريق أمامهم لمتابعة أهوائهم؛ إذ تكون الحرية الفسيحة الميدان الموسعة، الموطأة الأكناف مفسدة، ومبعثًا للخطر، ومثارًا للفتنة والشغب، والبلاء المحقق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤