شكرًا على النزهة

جلست أنا وابن خالتي جورج في مطعم يدعى «كافيه بوب»، يقع في بلدة صغيرة بالقرب من البحيرة. بدأ الظلام يخيِّم على المكان بالداخل، دون أن يشعلوا الإضاءة، مع ذلك كان لا يزال بوسعك قراءة اللافتات الملصقة على المرآة بين قطع مثلجات الفراولة المصفرة قليلًا وشطائر الطماطم التي يقف عليها الذباب.

قرأ جورج: «لا تسأل عن معلومات، لو كنا ندري أي شيء لما مكثنا هنا.» و«إذا لم يكن لديك ما تفعله، فقد انتقيت مكانًا جيدًا للغاية للقيام بذلك.» لطالما قرأ جورج كل شيء بصوت مرتفع: الملصقات واللوحات الإعلانية، ولافتات كريم الحلاقة بورما شيف، «ميشن كريك، التعداد السكاني ١٧٠٠، بوابة للوصول إلى بروس. نحن نحب أطفالنا.»

تساءلت: من ذاك صاحب حس الدعابة الذي كتب لنا هذه اللافتات؟ ظننت أنه الرجل الذي يجلس خلف ماكينة تسجيل النقود. أيكون هو بوب؟ كان يمضغ عود ثقاب، وينظر إلى الشارع بالخارج، لا يترقب أحدًا سوى شخص تزل قدمه في صدع في الرصيف أو ينفجر إطار سيارته، أو يجعل من نفسه أضحوكة بطريقة لا يُحتمل مطلقًا حدوثها معه هو، بوب الذي يقبع في رسوخ خلف ماكينة تسجيل النقود، ضخم الجثة وساخر وغير مبالٍ. بل ربما لا يكون الأمر كذلك، ربما يثبت باقي العالم سخافته عبر التجول شمالًا وجنوبًا، وقيادة السيارة شمالًا وجنوبًا وارتياد مختلف الأماكن ليس إلا؛ إذ تتبيَّن عندها ذلك الحُكم على وجوه الناس وهم ينظرون من النوافذ، أو يجلسون على السلالم الأمامية للمنازل في بعض البلدات الصغيرة، تتبدَّى لامبالاتهم شديدة الترسُّخ، كما لو كان لديهم منابع للإحباط يبقونها سرًّا، بقدر من الرضى.

لم يكن في المكان سوى نادلة واحدة؛ فتاة قصيرة وبدينة انحنت فوق المنضدة الطولية تخدش طلاء أظافرها. وعندما قشَّرت معظم أجزاء الطلاء من ظفر الإبهام وضعت إبهامها في مواجهة أسنانها وأخذت تحك الظفر للخلف وللإمام في انهماك. سألناها عن اسمها لكنها لم تُجِبنا. بعد دقيقتين أو ثلاث أخرجت إبهامها من فمها وقالت وهي تتفحَّصه: «هذا ما عليك اكتشافه، فأنا أحتفظ به لنفسي.»

قال جورج: «حسنًا، هل تمانعين في مناداتك بميكي؟»

«لا أبالي.»

قال جورج: «لأنك تذكِّرينني بميكي روني، قولي لي أين يذهب الناس في هذه البلدة؟ أين يذهب الجميع؟» أدارت ميكي ظهرها وبدأت في صب القهوة وبدا كأنها لم تعد ترغب في التحدث أكثر؛ لذا شعر جورج بالتوتر قليلًا، كما يشعر عندما يواجه تهديدًا بضرورة التزام الصمت أو البقاء وحده. قال في شبه أسًى: «انتظري، ألا توجد أية فتيات في هذه البلدة؟ ألا توجد أية فتيات أو قاعات رقص أو أي شيء؟ نحن غريبان عن البلدة. ألا ترغبين في مساعدتنا؟»

قالت ميكي في برود: «إن قاعة الرقص عند الشاطئ تغلق أبوابها في عيد العمال.»

«ألا توجد قاعات رقص أخرى؟»

قالت ميكي: «هناك حفل راقص الليلة في مدرسة ويلسون.»

قال جورج في حنق مبهم: «ذاك الرقص عتيق الطراز؟ كلا، كلا، أنا لا أحبذ ذلك الرقص العتيق. من نوع «جميع الرجال جهة اليسار» وتلك الأمور، اعتدت الرقص هكذا في قبو الكنيسة. أجل، على طريقة «فليتمايل الجميع»، لا أحبِّذ هذا. فقط في قبو الكنيسة.» ثم قال لي: «أنت لا تذكر هذا، كنت صغيرًا للغاية.»

كنت قد أنهيت توًّا دراستي الثانوية في ذاك الوقت، وكان جورج يعمل منذ ثلاثة أعوام في قسم الأحذية الرجالي بمتجر متعدد الأقسام بوسط المدينة؛ لذا كان هناك ذلك الفارق بيننا. بيد أننا لم نهتم أحدنا بالآخر قطُّ حين كنا في المدينة. نحن الآن معًا لأننا تقابلنا على نحو غير متوقع في مكان غريب، ولأني أملك القليل من المال، فيما كان جورج مفلسًا. كما كنت أقود سيارة أبي، وكان جورج في إحدى الفترات التي لا يمتلك أثناءها سيارة، وهو الأمر الذي جعله دائمًا ناقمًا وسريع الغضب قليلًا. لكنه كان مضطرًّا إلى إعادة ترتيب تلك الحقائق بعض الشيء، فقد جعلته مضطربًا. استشعرت أنه يصطنع قدرًا كافيًا من المشاعر الطيبة، ومشاعر الصداقة القديمة، ويجعلني أظهر بمظهر صديق العمر، ديك؛ الفتى الطيب، صاحب الشخصية المميزة، وهو ما لم يهمني بطريقة أو بأخرى، رغم أني لم أعتقد — بينما كنت أتطلع إلى وسامته الشقراء الفجة واللطيفة في ذات الوقت، وفمه الوردي الجذاب، وتجعيدات الغضب والدهشة التي بدأت الحيرة المتكررة في طبعها على جبهته — أنني سأتكمن من إثارة حماسة شخصية مثل شخصية جورج.

كنت قد ذهبت بالسيارة إلى بحيرة هورون لإحضار أمي إلى المنزل من منتجع شاطئي للنساء، وهو مكان يتناولن فيه عصائر الفاكهة والجبن القريش لخفض الوزن، ويمارسن السباحة بالصباح الباكر في البحيرة، ويؤدين بعض الشعائر الدينية — على ما يبدو — إذ كان هناك كنيسة صغيرة ملحقة بالمنتجع. كانت خالتي — والدة جورج — تمكث هناك في الوقت نفسه، ووصل جورج بعد ساعة تقريبًا من حضوري، لا ليأخذ أمه إلى المنزل، بل ليحصل على بعض المال منها. لم تكن الأمور على ما يرام بينه وبين أبيه، ولم يجن الكثير من المال من العمل بمتجر الأحذية؛ لذا كان مفلسًا في أغلب الأحيان. أخبرته أمه أن بمقدورها إقراضه المال إذا مكث وذهب إلى الكنيسة معها في اليوم التالي، أخبرها جورج بموافقته. ثم لُذنَا بالفرار معًا وقدت السيارة لنصف ميل على امتداد البحيرة إلى تلك البلدة الصغيرة التي لم يرها أيٌّ منا من قبل، والتي أخبرني جورج أنها ستكون ممتلئة بالفتيات ومهرِّبي المشروبات الكحولية الممنوعة.

كانت بلدة بشوارع فسيحة رملية غير ممهدة وأفنية جرداء. لم ينمُ في أرضها المتصدعة سوى النباتات قوية التحمل كنبات أبي خنجر الأحمر والأصفر، أو شجيرات الليلك بأغصان بنية متجعدة. كانت المنازل متباعدة عن بعضها، ملحقة بها من الخلف مضخات وسقائف ومراحيض خارجية؛ معظمها بُني من الخشب ومطلي بالأخضر أو الرمادي أو الأصفر. كانت الأشجار التي نمت هناك أشجار الصفصاف أو الحور الضخمة، تحوَّلت أوراقها الجميلة إلى اللون الرمادي بفعل الثرى. لم يكن هناك أشجار على امتداد الشارع الرئيسي، لم يوجد سوى مساحات من الأعشاب الطويلة والهندباء البرية ونبات الشوك المتطاير، ومساحات خضراء شاسعة تفصل بين مباني المحال التجارية. كان مجلس البلدة كبيرًا على نحو غير متوقع، ويضم برجًا يحوي جرسًا ضخمًا، وكان القرميد الأحمر للمبنى يلمع إلى حدٍّ ما بين جدران البلدة الخشبية الذابلة وبين الطلاء الباهت. كانت اللافتة بجوار الباب تقول إنه نصب تذكاري للجنود الذين لقوا حتفهم في الحرب العالمية الأولى. وقد شربنا مياهًا من سبيل أمام هذا النصب التذكاري.

قدنا السيارة ذهابًا وإيابًا طوال الشارع الرئيسي لبرهة، بينما كان جورج يعلق قائلًا: «يا له من مكان قذر! يا إلهي، يا له من مكان قذر!» و«انظر، انظر هناك! لا، لا داعي، ليس مكانًا جيدًا!» عاد الناس بالشارع إلى منازلهم لتناول العشاء بينما كانت ظلال المتاجر تمتد عبر الشارع عندما دخلنا إلى مطعم بوب.

قال جورج: «قل لي، هل هناك مطعم آخر بالبلدة؟ هل رأيت أي مطعم آخر؟»

قلت: «كلا.»

قال جورج: «في أية بلدة أذهب إليها، تكون الخنازير معلقة خارج نوافذ المحلات، تتدلى فعليًّا من الأشجار. لكن ليس هنا. يا إلهي! أعتقد أننا في وقت متأخر من الموسم.»

«هل تود الذهاب لمشاهدة استعراض فني؟»

فُتح الباب ودخلت فتاة، سارت بالداخل ثم جلست فوق كرسي صغير، بينما تجمَّعت معظم تنورتها أسفلها. كان لها وجه طويل ناعس، ونهد صغير للغاية، وشعر متجعد. كانت شاحبة الوجه، قبيحة تقريبًا، لكن تتمتع بتلك الهالة من الجاذبية الجنسية التي يتعذَّر تفسيرها. ابتهج جورج — لكن ليس كثيرًا — ثم قال: «لا بأس، هذه ستفي بالغرض. هذه ستفي بالغرض إذا اقتضت الضرورة، صحيح؟ إذا اقتضت الضرورة.»

اتجه جورج إلى نهاية المنضدة الطولية وجلس بجانبها وبدأ يتحدث معها. وفي غضون خمس دقائق عادا معًا إليَّ، كانت الفتاة تحتسي زجاجة من عصير البرتقال.

قال جورج: «أقدِّم إليكَ أديليد، أديليد، أديلين … أديلين الجميلة. سأناديها بالجميلة إيه، الجميلة إيه.»

مصت أديليد من العصير بقصبة الشرب، دون أن تعيره الكثير من الانتباه.

قال جورج: «ليس معها رفيق، ليس معك رفيق، أليس كذلك يا حبيبتي؟»

هزت أديليد رأسها قليلًا بمعنى: بلى.

قال جورج: «هي لا تسمع نصف ما تقوله لها. أديليد، الجميلة إيه، هل لديك أية صديقات؟ هل تعرفين أية فتاة صغيرة جميلة لتخرج مع ديكي؟ أنا وأنت وهي وديكي؟»

قالت أديليد: «هذا يتوقف على المكان الذي تريدان الذهاب إليه.»

«أي مكان تختارينه. هل تودين الذهاب في نزهة بالسيارة، والذهاب حتى مدينة أوين ساوند، إذا أحببتِ؟»

«هل لديك سيارة؟»

«أجل، أجل، لدينا سيارة. بربك، لا بد أن لديك صديقة صغيرة جميلة تصلح لديكي.» ثم لف ذراعه حول الفتاة، وبسط أصابعه فوق بلوزتها. «هيا بنا إلى الخارج وسأريك السيارة.»

قالت أديليد: «أعرف فتاة يمكن أن تأتي معنا. الرجل الذي تخرج معه خاطب، وقد حضرت خطيبته وتمكث في منزله عند الشاطئ، الذي هو منزل والديه، و…»

قال جورج: «هذا أمر شائق جدًّا بالطبع، ما اسمها؟ هيا بنا، لنذهب إليها ونحضرها. هل تودين الجلوس هنا واحتساء العصير طوال الليل؟»

قالت أديليد: «لقد انتهيت من شرابي. ربما لا تأتي، لا أدري.»

«لماذا؟ ألا تسمح لها أمها بالخروج ليلًا؟»

قالت أديليد: «لا، هي تفعل ما يحلو لها، لكنْ ثمة أوقات لا تود الخروج فيها. لا أدري.»

خرجنا وركبنا السيارة، وجلس جورج وأديليد بالمقعد الخلفي. وبينما نتحرك في الشارع الرئيسي بعد بناية واحدة من المقهى مررنا بفتاة نحيلة، شقراء، ترتدي بنطالًا فضفاضًا، صاحت أديليد: «توقف! إنها هي! إنها لويس!»

أوقفت السيارة وأخرج جورج رأسه من النافذة وأطلق صفيرًا. صاحت أديليد وجاءت الفتاة بغير تردد، وعلى مهل إلى السيارة. ابتسمت، في برود وأدب إلى حدٍّ ما، عندما شرحت لها أديليد الأمر. وطوال الوقت ردد جورج: «أسرعي، هلمي بنا، اصعدي إلى السيارة! بإمكاننا التحدث في السيارة.» ابتسمت الفتاة، ولم تنظر حقًّا إلى أيٍّ منا، وفي غضون لحظات قليلة، ولدواعي دهشتي، فتحت الباب ودخلت السيارة. قالت: «ليس لديَّ ما أفعله، فرفيقي خارج البلدة.»

قال جورج: «أحقًّا؟» ورأيت أديليد، في مرآة الرؤية الخلفية، تحذره بتعبير متجهم من وجهها، لكن لم يبدُ أن لويس قد سمعته.

قالت: «يجدر بنا الذهاب إلى منزلي، فقد خرجت توًّا لأشتري بعض الكولا، لهذا السبب أرتدي بنطالي الفضفاض؛ لذا يجدر بنا الذهاب إلى هناك وسأرتدي ثوبًا آخر.»

قالت: «إلى أين سنذهب كي أعرف ماذا سأرتدي؟»

قلت: «إلى أين تودين الذهاب؟»

قال جورج: «حسنًا، حسنًا. الأهم فالمهم، علينا شراء زجاجة خمر، وبعدها سنقرر. أتعرفان مكانًا لشراء الخمر؟» قالت أديليد ولويس: أجل. ثم أخبرتني لويس: «بمقدورك الدخول معي إلى المنزل وانتظاري فيما أبدل ملابسي، إذا أردت ذلك.» ألقيت نظرة خاطفة على مرآة الرؤية الخلفية وفكرت أنه ربما يوجد اتفاق ما بينها وبين أديليد.

على الشرفة الأمامية بمنزل لويس كانت توجد أريكة عتيقة وبعض السجاجيد الصغيرة المعلقة فوق سور المنزل. سارت أمامي عبر الفناء. كان شعرها الطويل الباهت مربوطًا خلف رقبتها، وبشرتها يتناثر عليها النمش، لكنها لم تكن مسمرة، حتى عيناها كانتا فاتحتي اللون. كانت فاترة ونحيلة وشاحبة. ثمة سخرية، وجاذبية كبيرة أيضًا، في فمها. اعتقدت أنها في نفس سني أو تكبرني قليلًا.

فتحت لويس الباب الأمامي ثم قالت بصوت واضح ورسمي للغاية: «أود أن أعرفك على عائلتي.»

كانت الحجرة الأمامية الصغيرة مغطَّاة بمشمع الأرضية، بينما تنسدل ستائر ورقية مزينة بالزهور على النوافذ. احتوت الغرفة كذلك على أريكة لامعة تحمل وسادة منقوشة عليها شلالات نياجرا وأخرى منقوشًا عليها «إهداء إلى أمي»، وموقد أسود صغير مطوق بغطاء لحمايته من حرارة الصيف، وزهرية كبيرة تحوي أزهار التفاح الورقية. دخلت امرأة طويلة القامة وهزيلة إلى الحجرة وهي تجفف يدها بمنشفة صحون قذفتها فوق أحد الكراسي. كان فمها مليئًا بأسنان من البورسلين بيضاء مائلة إلى الزرقة، بينما تهتز سلاسل طويلة حول رقبتها. قلت لها: كيف حالك؟ وأنا أستشعر الحرج من إعلان لويس المفاجئ للغاية والتقليدي على نحو متعمد لحضورنا. تساءلتُ إن كان لديها أية تصورات خاطئة عن هذا الموعد الغرامي، الذي دبره جورج لأغراض معينة؟! لكني استبعدتُ ذلك. فلم يحمل وجهها أية سذاجة ظاهرة، بل كان ينمُّ عن سعة معرفة وهدوء وعدائية. ربما فعلت ذلك، إذن، لتستهزئ بي، لتجعلني أظهر في صورة كاريكاتورية ساخرة «للرفيق»، الصبي الذي يبتسم ابتسامة واسعة ويمشي متثاقلًا في الردهة الأمامية منتظرًا تقديمه إلى أسرة الفتاة الجميلة. لكن ذلك بعيد الاحتمال قليلًا، لماذا سترغب في إحراجي في حين أنها وافقت على الخروج معي دون أن تنظر إلى وجهي حتى؟ لماذا ستهتم بهذا الأمر لهذا الحد؟

جلست أنا ووالدة لويس على الأريكة. وبدأت تتجاذب معي أطراف الحديث؛ مما جعل الموقف يتفق مع سيناريو «الرفيق» الكاريكاتوري. لاحظت الرائحة المنتشرة بالمنزل؛ رائحة الحجرات الصغيرة العتيقة، أغطية الأسرة، والقلي، والغسيل، والمراهم الطبية، ورائحة القذارة، رغم أن البيت لم يبدُ قذرًا. قالت أم لويس: «إنها سيارة جميلة تلك التي تقف بالخارج. هل هي سيارتك؟»

«إنها سيارة أبي.»

«أليس هذا رائعًا! أن يمتلك أبوك مثل هذه السيارة الجميلة؟ لطالما اعتقدت أنه من الرائع أن يقتني الناس الأشياء. لا أحتمل التعامل مع أولئك الناس الذين يملؤهم الحقد والحسد. إنه لأمر رائع. من المؤكد أن أمك، في كل مرة ترغب في أي شيء، تتجه إلى المتجر فحسب وتشتريه، سواء كان معطفًا جديدًا، ملاءة سرير، مقلاة أو وعاءً. ماذا يعمل أبوك؟ أهو محامٍ أم طبيب أم شيء من هذا القبيل؟»

«هو محاسب قانوني.»

«آه، يعمل لدى مكتب، أليس كذلك؟»

«أجل.»

«شقيقي — خال لويس — يعمل في فرع شركة سي بي آر في لندن. إنه يتولى منصبًا رفيعًا هناك. حسب علمي.»

ثم بدأت في إخباري عن ملابسات مقتل والد لويس في حادث عند الطاحونة. لاحظت وجود امرأة عجوز — الجدة على الأرجح — تقف عند مدخل الحجرة. لم تكن نحيلة مثلهم، لكنها كانت رخوة وبلا قوام مثل طبق من حلوى البودنج المنسكبة، تنتشر على وجهها وذراعها بقع بنية شاحبة متداخلة، وتنمو شعيرات قصيرة خشنة حول الجزء المبتل المحيط بفمها. بدا أن جزءًا من الرائحة في المنزل ينبعث منها. كانت رائحة تعفُّن خفي، كما لو كان هناك حيوان ما صغير ميت أسفل الشرفة. الرائحة، والصوت اللامبالي والمفعم بالثقة أعطياني انطباعًا بأن ثمة خطبًا ما في هذه الحياة لم أعهده من قبل، ثمة خطب ما بهؤلاء الناس. خطر ببالي أن أمي وأم جورج ساذجتان. حتى جورج، جورج ساذج. لكن أولئك الآخرين، ولدوا ماكرين وحزانى وواسعي الخبرة.

لم أسمع الكثير عن والد لويس فيما عدا أن رأسه قُطِع.

«انفصل رأسه تمامًا، لك أن تتخيل، وتدحرج فوق الأرض! لم أستطع فتح النعش. كان ذلك في شهر يونيو، كان الجو حارًّا. وقد جرد جميع من في البلدة حدائقهم، جردوها من أجل الجنازة، قطفوا زهور شجيرات الزينة وورود الفاوانيا والياسمين البري المتسلق. أعتقد أنه كان أسوأ حادث وقع في هذه البلدة على الإطلاق. كان للويس رفيق لطيف هذا الصيف. اعتاد اصطحابها للخارج وأحيانًا ما كان يمكث للمبيت عندما لا يكون أهله في الكوخ الصغير وهو لا يرغب في قضاء الوقت هناك وحده. كان يُحضِر الحلوى للأطفال وحتى أنا كان يحضر لي هدايا. هذا الفيل المصنوع من البورسلين بالأعلى هناك، يمكن زراعة زهور به، لقد اشتراه لي. كما أصلح الراديو لنا ولم أضطر إلى أخذه إلى محل التصليحات. هل يملك أهلك كوخًا صيفيًّا هنا؟»

أجبتها بالنفي، دخلت لويس، ترتدي ثوبًا ملونًا بالأخضر والأصفر، مشدودًا ولامعًا كأوراق تغليف هدايا الكريسماس، وحذاءً ذا كعب عالٍ، وحليًّا من الماس الزائف، بينما نثرت الكثير من البودرة الداكنة فوق النمش. تحمَّست أمها لرؤيتها.

قالت: «أنت تحبين هذا الثوب، لقد قطعَتِ المسافة إلى لندن كاملةً وابتاعتْ ذاك الثوب، لم تشترهِ من أي مكان من هنا!»

اضطررنا إلى المرور بجانب السيدة العجوز أثناء خروجنا. نظرت إلينا بإدراك مفاجئ، واستقرت عيناها الشاحبتان الهلاميتان. ارتعد فمها فاغرًا، ودفعت وجهها في مواجهتي.

ثم قالت بصوت عجوز قوي، صوت المرأة الريفية الأجش: «افعل ما يحلو لك مع حفيدتي، لكن عليك توخِّي الحذر. أنت تعي ماذا أقصد!»

دفعت أم لويس الجدة خلفها، وهي تبتسم في تزمت وحاجباها مرفوعان وبشرتها مشدودة فوق صدغها، ثم أخبرتني وهي عابسة الوجه في شرود ذهن: «لا عليك. لا عليك. خرف الشيخوخة.» ظلت الابتسامة تعلو وجهها، وارتخت بشرتها، وبدا أنها تستمع طيلة الوقت إلى جلبة وضجة مستمرة برأسها. ثم أمسكت بيدي أثناء سيري خلف لويس وهمست: «إن لويس فتاة طيبة، فلتحظَ بوقت طيب، لا تدعها تكتئب! عمتم مساءً!» بينما اختلج حاجباها وجفونها في حركة سريعة غريبة يبدو على ما أظن أن غرضها الأصلي هو المغازلة.

مضت لويس متخشبةً أمامي، بينما تصدر تنورتها الرقيقة للغاية حفيفًا. قلت: «هل تريدين الذهاب إلى حفل راقص أو شيء من هذا القبيل؟»

قالت: «كلا، لا أهتم.»

«لكنك تأنقت في ملبسك …»

قالت لويس بصوت خفيض ساخر: «دومًا ما أتأنق في أمسيات السبت.» ثم بدأت في الضحك، ورأيت لمحة من أمها بها، ذاك الطابع الفظ الهيستيري. همست: «يا إلهي!» فأدركت أنها تقصد ما جرى في المنزل، فضحكت أيضًا، إذ لم أدرِ شيئًا آخر أفعله. وهكذا عدنا إلى السيارة ونحن نضحك كما لو كنا أصدقاء، لكننا لم نكن كذلك.

•••

خرجنا من البلدة بالسيارة ووصلنا إلى منزل ريفي حيث باعت لنا امرأة زجاجة ويسكي تمتلئ بخمر منزلية الصنع متعكرة، شيء لم نحتسِه — أنا وجورج — من قبل قط. أخبرتنا أديليد أن هذه المرأة ربما تسمح لنا باستخدام الحجرة الأمامية في بيتها، لكنها لم تسمح لنا في النهاية بسبب لويس. فعندما حدقت المرأة بي من أسفل القلنسوة الرجالي التي كانت ترتديها فوق رأسها وقالت للويس: «إن التغيير يجدد النشاط مثله مثل الراحة، أليس كذلك؟» لم تجبها لويس، ونظرت إليها في برود. بعد ذلك أخبرتنا المرأة أنه إذا كنا متعالين لهذا الحد هكذا فإن حجرتها الأمامية لن تليق بمقامنا، وأحرى بنا العودة إلى الأجمة. وطوال الطريق على امتداد الممر أمام المنزل أخذت أديليد تردد: «بعض الأشخاص لا يقبلون المزاح، أليس كذلك؟ أجل، إن التعالي …» حتى أعطيتها زجاجة الخمر لإبقائها صامتة. نظرت إلى جورج، فوجدت أنه لا يبالي، ظنًّا منه أن هذا الأمر سيصرف ذهنها عن التفكير في الذهاب إلى أوين ساوند.

أوقفنا السيارة عند نهاية الممر وجلسنا فيها نحتسي الخمر. احتسى جورج وأديليد أكثر مما احتسينا. لم يتحدثا، فقط كانا يمدان يديهما لأخذ الزجاجة ثم يعيدانها مرة أخرى. كان هذا الصنف مختلفًا عن أي شيء تذوقته من قبل؛ كان ثقيلًا ويثير الغثيان في معدتي، ولم يكن له أي تأثير آخر، وبدأ يتملَّكني شعور كئيب بأني لن أثمل. وكانت لويس كلما ناولتني الزجاجة تقول: «شكرًا لك.» بطريقة مهذبة تحمل احتقارًا خفيًّا. وضعت ذراعي حولها، دون أن يكون لديَّ رغبةٌ كبيرة في ذلك، بل كنت أتساءل ما خطبها، هذه الفتاة التي تستلقي على ذراعي، متهكِّمة ومذعنة وغاضبة وغامضة، وبعيدة المنال. أردت التحدث معها أكثر مما أردت لمسها، لكن ذلك مستحيل، فالحديث ليس أمرًا تافهًا في نظرها كما اللمس. في تلك الأثناء أدركت أنه عليَّ تخطِّي هذا؛ تخطِّي المرحلة الأولى والدخول مباشرة في المرحلة الثانية، (إذ كان لدي دراية، رغم أنها لم تكن شاملة تمامًا، بتتابع المراحل المنهجي، وبطقوس الإغواء المتَّبعة في المقاعد الأمامية والخلفية للسيارات). تمنَّيت إلى حد بعيد أني قد رافقت أديليد.

قلت: «هل ترغبين في الذهاب في نزهة على الأقدام؟»

قال جورج من المقعد الخلفي: «هذه هي أول فكرة نيرة تقولها طيلة الليل.» ثم أخبرني أثناء خروجنا: «لا تتعجلا.» كان هو وأديليد متدثرين ويضحكان معًا. «لا تتعجلا في العودة!»

سرت أنا ولويس بمحاذاة طريق للعربات بالقرب من الأجمة. كانت الحقول مضاءة بضوء القمر، باردة والنسيم يهب. شعرت الآن برغبة في الانتقام، فقلت بصوت خفيض: «حظيت بحديث شائق مع أمك.»

قالت لويس: «أتصور ذلك.»

«حدثتني عن الشاب الذي كنت تواعدينه الصيف الماضي.»

«هذا الصيف.»

«لقد أصبح الآن الصيف الماضي، كان خاطبًا أو شيئًا من هذا القبيل، أليس كذلك؟»

«أجل.»

لم أنوِ تركها وشأنها. قلت: «هل أحبَّك أكثر من خطيبته؟ هل كان الأمر كذلك؟ هل أحبك أكثر؟»

أجابت: «كلا، لن أقول إنه أحبني.» ظننت — مع اشتداد النبرة التهكمية في صوتها — أنها بدأت تثمل. ثم قالت: «أحب أمي والأطفال أيضًا لكنه لم يحبني. يحبني! ما هذا الذي تقوله؟»

«حسنًا، ألم يكن يخرج معك …»

«كان يتسكع معي فترة الصيف فحسب. هذا ما يفعله أولئك الشبان من منطقة الشاطئ على الدوام. يأتون إلى هنا إلى الحفلات الراقصة ويصادقون فتاة يتسكَّعون معها لفترة الصيف. يفعلون هذا دائمًا.»

ثم أضافت: «أما كيف عرفت أنه لا يحبني، فقد أخبرني أنني أتذمَّر دائمًا. إذ عليك التعامل بامتنان مع أولئك الشبان، كما تعلم، وإلا فسيخبرونك أنك تتذمَّر.»

تملكني قليل من الفزع لأنني جعلتها تفصح عن كل هذه الأمور. قلت: «هل أحببته؟»

«آه، بالطبع! يجدر بي هذا، أليس كذلك؟ يجدر بي أن أجثو على ركبتيَّ وأشكره. هذا ما تفعله أمي. فقد ابتاع لها فيلًا عتيقًا ملطخًا ورخيصًا …»

قلت: «هل كان ذاك الشاب هو العلاقة الأولى؟»

«العلاقة الأولى الجادة. أهذا ما تعنيه؟»

لم يكن ذلك ما أعنيه. سألتها: «كم عمرك؟»

فكرت وقالت: «سبعة عشر عامًا تقريبًا. لكني أبدو في الثامنة أو التاسعة عشرة، وأستطيع دخول الحانات، فعلت ذلك مرة.»

«في أية مرحلة دراسية تدرسين؟»

تأملتني، متعجبة بعض الشيء. «هل ظننت حقًّا أنني ما زلت أرتاد المدرسة؟ لقد تركتها منذ عامين. أعمل بوظيفة الآن في مصنع القفازات بالبلدة.»

«لا بد أن هذا مخالف للقانون. أعني عندما تركت الدراسة.»

«لا، بمقدورك الحصول على تصريح إذا كان أبوك ميتًا أو شيئًا من هذا القبيل.»

قلت: «ماذا تفعلين في مصنع القفازات؟»

«أدير ماكينة، ماكينة تشبه ماكينة الحياكة. سأحصل على أعمال بالقطعة عما قريب. سأجني المزيد من المال.»

«هل تحبين عملك؟»

«لن أقول إني أعشقه، لكنه مجرد وظيفة … أنت تطرح الكثير من الأسئلة.»

«هل تمانعين في ذلك؟»

عاد صوتها فاترًا وخافتًا وقالت: «لست مضطرة للإجابة عن تساؤلاتك، إلا إذا أردت ذلك.» رفعت تنورتها وبسطتها فوق يدها قائلةً: «يوجد نبتات شائكة بتنورتي.» ثم انحنت وأخذت تنزعها واحدة تلو الأخرى وهي تكرر: «يوجد نبتات شائكة في ثوبي. إنه ثوبي الأنيق. هل ستترك أثرًا؟ إذا جذبتها جميعًا — ببطء — فلن أنزع أية خيوط من الثوب.»

قلت: «ما كان يجدر بك ارتداء هذا الثوب؟ لماذا ارتديت هذا الثوب؟»

هزت تنُّورتها، فطرحت نبتة شائكة أرضًا، مجيبة: «لا أدري.» وأخذت تستعرض قماش الفستان المشدود واللامع برضًى تشوبه آثار الثَّمَل، ثم قالت في نوبة حقد صغيرة ومباغتة: «أردت التباهي أمامكم أيها الشبان!» أصبح الآن ذلك الشعور بالرضى الذي يشوبه الازدراء وفقدان الاتزان من أثر الثمل واضحًا وضوح الشمس؛ إذ وقفت في سخف واستهزاء وتنورتها منبسطة مضيفة: «أملك كنزة مقلدة من الكاشمير بالمنزل. كلفتني اثني عشر دولارًا. ولدي معطف من الفراء، ما زلت أسدِّد ثمنه للشتاء القادم. أملك معطفًا من الفراء …»

قلت: «هذا رائع، أعتقد أنه من الرائع أن يقتني الناس الأشياء.»

تركت تنورتها وصفعتني براحة يدها على وجهي، فاستشعرت براحة، كلانا شعر بذلك. إذ كنا طيلة الوقت نستشعر صراعًا يتزايد داخلنا. وقفنا بمواجهة أحدنا الآخر بحذر قدر استطاعتنا مدركين أننا ثملان بعض الشيء. كانت تستعد كي تصفعني مجددًا، بينما كنت أستعد لأمسكها أو أرد لها الصفعة، كانت فرصة لنسوِّي الأمور بيننا، ونفصح عما نحمل داخلنا من ضغائن تجاه أحدنا الآخر، لكن هذه اللحظة الاندفاعية مرَّت، والتقطنا أنفاسنا؛ إذ لم نتحرك في الوقت المناسب. وفي اللحظة التالية — دون أن نعبأ بإزالة العداوة بيننا، أو نفكر في التسلسل المنطقي للأشياء — تبادلنا القبلات. كانت أول مرة — بالنسبة لي — أُقبِّل فيها أحدًا دون تدبر، أو تردد، أو تعجُّل زائد، ودون أن أشعر بالإحباط المبهم المعتاد الذي يلي القبلة. شرعت لويس في الحديث ثانية وهي تضحك في انعدام ثقة قبالتي، وعادت إلى الجزء الأسبق من حديثنا وكأن شيئًا لم يقطعه.

قالت: «أليس الأمر مضحكًا؟ أتعرف، طيلة الشتاء كل ما تفعله الفتيات هو التحدث عن الصيف الماضي، يتحدَّثن ويتحدثن عن أولئك الفتية، وأراهنك أن أولئك الفتية لا يذكرون حتى أسماءهن …»

لكنني لم أرغب في التحدث أكثر، بعد أن تجلَّى لي موطن قوة آخر بها يكمن جنبًا إلى جنب مع عدائيتها، والذي كان — في واقع الأمر — لا يقل تغلغلًا وجمودًا. بعد برهة همست إليها: «أليس هناك مكان يمكننا الذهاب إليه؟»

أجابتني: «ثمة حظيرة في الحقل التالي.»

كانت على دراية بالريف؛ فقد ذهبت إلى هناك من قبل.

•••

بعد منتصف الليل قدنا السيارة في طريق العودة إلى البلدة. كان جورج وأديليد مستغرقين في النوم بالمقعد الخلفي. لم أعتقد أن لويس كانت نائمة، على الرغم من أنها أبقت عينيها مغلقتين ولم تنطق بكلمة. كنت قد قرأت في مكان ما عن العبارة اللاتينية: كل حيوان يشعر بالحزن بعد الجماع، وكنت سأخبرها بها، لكنني فكرت بعد ذلك أنها لا تعرف كلمات لاتينية وستظن أنني مدعٍ ومتعالٍ كما هو متوقع. بعد ذلك تمنَّيت لو أنني أخبرتها بها. كانت ستفهم معناها.

إنه ذلك الشعور بارتخاء الجسد ثم البرودة يليها الافتراق. عندما أخذنا نزيل بقايا القش عنا ونهندم أنفسنا بحركات ثقيلة عشوائية، عندما خرجنا من الحظيرة لنجد القمر قد غاب، لكن الحقول المسطحة بعد الحصاد وأشجار الحور والنجوم لا تزال هناك، أن نجد ذاتينا كما هي، باردة ومرتعشة، ذواتنا التي ذهبت في تلك الرحلة الطائشة ولم تزل موجودة، أن نعود إلى السيارة ونجد الآخرين متمددين ومستغرقين في النوم. هذا هو ما تعنيه حقًّا عبارة كل حيوان يشعر بالحزن بعد الجماع.

تلك الرحلة الطائشة، هل كانت هكذا لأنها كانت المرة الأولى لي، أم لأني كنت ثملًا قليلًا على نحو غريب؟ كلا. كانت كذلك بسبب لويس. ثمة أشخاص لا يسعهم سوى التمادي قليلًا في علاقة الحب وآخرون بإمكانهم التمادي كثيرًا، وتقديم إذعان أكبر، كالزاهدين. ولويس — زاهدة الحب تلك — جلست الآن في الجانب البعيد من مقعد السيارة، تبدو باردة وشعثة الشعر، ومنغلقة تمامًا داخل نفسها. كل الأشياء التي أردت إخبارها بها أخذت تضطرب في رأسي بلا معنى: سأحضر لرؤيتك مجددًا … اذكريني … أحبك، لكني لم أنطق بأي كلمة من هذا. لن تبدو هذه الكلمات حتى شبه صادقة عبر المسافة التي تفصل بيننا. كنت أفكر: سأتحدث إليها قبل أن نصل إلى الشجرة التالية، قبل الهاتف التالي، لكنني لم أفعل. كل ما فعلته هو قيادة السيارة أسرع فأسرع مقتربًا أكثر من البلدة.

ومضت أنوار الشوارع من خلف الأشجار المظلمة أمامنا؛ كان هناك حراك بالمقعد الخلفي.

قال جورج: «كم الساعة الآن؟»

«الثانية عشرة وعشرون دقيقة.»

«لا بد أننا أفرغنا تلك الزجاجة. لا أشعر بأنني على ما يرام. يا إلهي، لا أشعر أنني على ما يرام. كيف تشعر؟»

«بخير.»

«بخير، أليس كذلك؟ تشعر أنك أنهيت دراستك اليوم، أليس كذلك؟ أهذا ما تشعر به؟ هل فتاتك نائمة؟ إن فتاتي نائمة.»

قالت أديليد في نعاس: «لست نائمة. أين حزامي؟ جورج … يا إلهي. والآن أين فردة حذائي؟ ما زال الوقت باكرًا بالنسبة لليلة سبت، أليس كذلك؟ بإمكاننا الذهاب وإحضار شيء نأكله.»

قال جورج: «لست في مزاج يسمح لي بالأكل. أريد أن أنال قسطًا من الراحة، عليَّ النهوض باكرًا غدًا لأذهب إلى الكنيسة مع أمي.»

قالت أديليد في ريبة، لكن دون غضب كبير: «أجل، أعلم هذا. كان بإمكانك على أية حال ابتياع شطيرة هامبرجر لي!»

قدت السيارة حتى منزل لويس، التي لم تفتح عينيها حتى توقفت السيارة.

جلست ساكنة للحظة، ثم مررت يدها فوق تنورة ثوبها، لفردها. لم تنظر إليَّ. تحركت لتقبيلها، لكن بدا أنها تبتعد قليلًا للوراء، وشعرت بوجود شيء مخادع ومصطنع حيال تلك اللفتة الأخيرة رغم كل شيء. فليس ذلك من طبعها.

قال جورج لأديليد: «أين تسكنين؟ هل تسكنين بالقرب من هنا؟»

«أجل، على بعد بنايات قليلة.»

«حسنًا، هل يمكنك النزول هنا أيضًا؟ علينا العودة إلى المنزل الليلة.»

قبَّلها، وترجلت الفتاتان من السيارة.

أدرت المحرك وبدأنا نبتعد بالسيارة، استقرَّ جورج في المقعد الخلفي لينام، حينها تناهى إلى سمعنا صوت أنثوي ينادي، صوت أنثوي غليظ ومرتفع، يهتف بنبرة مهينة وبائسة:

«شكرًا على النزهة!»

لم تكن أديليد، بل كانت لويس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤