مقدمة

بقلم الدكتور مصطفى ماهر
مدرس الآداب الألمانية بالألسن

يلاحظ مؤرخو المسرح الأوروبي أن ألمانيا تأخَّرَت عن دول أوروبا جميعًا في نهضتها المسرحية، فلم تسلُك سبيلها على نحوٍ فعَّال إلا في القرن الثامن عشر. كانت إسبانيا قد بلغَت في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر شأوًا عظيمًا في عصر فيليب الرابع خاصة، وشَهدَت فطاحل المسرح الثلاثة؛ لوبه دي فيجا وتيرسو دي مولينا وكالديرون دي لا باركا Lope de Vega, Tirso de Molina, Galderon de la Barca.
وكانت إنجلترا في العصر نفسه تقريبًا (لوبه دي فيجا ولد عام ١٥٦٢م، وشيكسبير عام ١٥٦٤م) قد ثبتَت أقدامها في ميدان المسرح وشَهدَت مارلو وبن جونسون وشيكسبير Marlowe, Ben Jonson, Shakespeare وكانت إيطاليا قد حقَّقَت — في مطلع القرن السابع عشر خاصة — تفوقًا كبيرًا في الفن المسرحي، وأبدعت إبداعًا فريدًا في نوع الكوميديا المرتجلة commedia dell’arte أما فرنسا فكانت قد دخلَت عصرها الكلاسيكي في القرن السابع عشر وشَهدَت روائع كورني وراسين وموليير Corneille, Racine, Molière وخرجَت من عصرها الكلاسيكي لتدخُل عصر فولتير وماريفو وديديرو Voltaire, Marivaux, Diderot.
أما ألمانيا فكانت في عصر لوبه دي فيجا وشيكسبير تشاهد مسرحياتٍ شعبيةً تعليمية بسيطة يكتُبها الشاعر الإسكاف (!) هانس زاكس Hans Sachs (١٤٩٤–١٥٧٦م)، وتنتقل منها إلى مسرحيات ياكوب بيدرمن (١٥٧٨–١٦٣٩م) Jakob Bidermann ومسرحيات أندرياس جريفيوس (١٦١٦–١٦٦٤م) Andreas Gryphius «ليو أرمينيوس أو قتل الأمير» مثلًا أو «كاتارينا الجيورجية أو التمسك بالأخلاق» ثم مسرحيات كاسبار فون لوهنشتاين (١٦٣٥–١٦٨٣م) Kaspar v. Lohenstein ونذكر منها «إبراهيم باشا» و«أجريبينا» و«إبراهيم سلطان» وأكثرها تُعالِج موضوعاتٍ تتصل بهجوم الترك على أوروبا والخوف من ظلمهم وتجبُّرهم وسوء خلقهم، ثم مسرحيات مدرسية تأليف كرستيان فايزه (١٦٤٢–١٧٠٨م) Christian Weise تدور حول موضوعاتٍ مأخوذة من الكتاب المقدس.

إنتاجٌ مسرحي هزيل متعثِّر لا يَحفِل به الآن في ألمانيا إلا المتخصِّصون، ولا يكاد مخرجٌ مسرحي يجرؤ على إخراجه كلِّه أو بعضه إلى النور والجمهور، ولكنه على أي حالٍ كان حقلًا للتجريب استثار العقليات المصلحة لإصلاحه، والعقول المُبدِعة للتفوُّق عليه.

بدأَت أوَّل محاولةٍ لإصلاح المسرح الألماني والنهوض به إلى مستوى المسارح في البلاد الأوروبية المجاورة في عام ١٦٢٤م، حين أخرج مارتن أوبيتس «كتاب الشعر الألماني» وعالج فيه مشكلات الشعر وقواعد الإنتاج الشعري الجيد، وتعرَّض فيه للأنواع المختلفة فحدَّدها تحديدًا، ومنع الخلط بينها، وطالب بدراسة الآداب القديمة والآداب الأوروبية المجاورة والإفادة منها، ودعا إلى إصلاح أوزان الشعر الألماني بالكف عن تقليد الأوزان الفرنسية التي تعتمد على عدد المقاطع دون نظر إلى قوة النبرة أو ضعفها، والاقتصار على الأوزان الإغريقية التي تعتمد على تفعيلات مكونة من مقاطع قوية النبرة ومقاطع ضعيفة النبرة في تركيبٍ خاص، وحَثَّ الأدباء والشعراء على استعمال لغةٍ ألمانية نظيفة لا تشوبها كلماتٌ أجنبية.

على أن أقوى حركات الإصلاح المسرحي في ألمانيا كانت حركة يوهان كريستوف جوتشد (١٧٠٠–١٧٦٦م) Johann Christoph Gottsched الذي كان أستاذًا للفلسفة في جامعة ليبتسج (ليبزج) وكان يجمع إلى اهتمامه بالفلسفة اهتمامًا كبيرًا بالأدب والمسرح. نشر جوتشد عام ١٧٣٠م، كتابًا بعنوان «محاولة في فن الأدب النقدي» اقتفى فيه أثَر بوالو، وطالب فيه بتنقية المسرح من المسرحيات الضعيفة التافهة، وخاصةً من المسرحيات المرتجَلَة على الطريقة الإيطالية ومسرحيات البهلوانات والشخصيات الثابتة مثل شخصيات هانس فورست وبيكلهرنج وهارلكين، ثم الاعتماد على مسرحياتٍ جادةٍ مترجَمة عن الفرنسية أو مقتبَسةٍ من مسرحياتٍ فرنسية أو مقلِّدةٍ لمسرحياتٍ فرنسية، على أن تأتي بعد ذلك مرحلةُ التأليف الخالص الذي وضع له أسسًا بعضها سليم وبعضها مُضطرِبٌ مُبالَغ فيه.

وقد أدت حركة جوتشد إلى نتيجتَين متوازيتَين؛ تنقية المسرح من القطع التافهة وإبدالها بقطعٍ جيدة من ناحية، ومن ناحيةٍ مضادة إلى تقييد الإبداع المسرحي القومي وإكراه النفس الألمانية على تقمُّص صورة النفس الفرنسية. طالب جوتشد مثلًا بالتزام قانون الوحدات الثلاث (الزمن والمكان والحدث) وهذا شيءٌ لا بأس به، على ألا يُفرَض على الأدباء الخلَّاقين كقانونٍ سماويٍّ لا يصح الخروج عليه إلا كُفرًا. وطالب بالتزام العقل والفكر في كل شيء، وهذا أيضًا شيء لا بأس بأن يُطالِب به مصلح، ولكن من السَّرف أن يؤدي هذا إلى قمع الخيال وكبت العواطف والأحاسيس.

حوَّل جوتشد مَسرَح الممثِّلة الألمانية الشهيرة «كارولينه نويبر» من مسرح يقدِّم قطعًا مرتجلة إلى مسرحٍ تتجسَّم فيه آراؤه ومطالبه. وظل حتى منتصف القرن الثامن عشر حاكمًا بأمره لا يقدر على هزيمته أحد، حتى انبرى له «بودمر» و«برايتنجر» يطالبان بحق الخيال وحق العواطف في التعبير المطلَق على طريقةٍ مثل طريقة شيكسبير لا مثل طريقة الكلاسيكيين الفرنسيين.

وسط هذه المعركة المحتدمة ظهر أول إنتاجٍ لجوتهولد أفرايم لسينج يبشِّر بعصر جديد في تاريخ المسرح الألماني، يبشر بنهضةٍ تزداد مع الأيام قوة ورسوخًا.

(١) حياة لسينج

وُلِد جوتهولد أفرايم لسينج Gotthold Ephram Lessing في ٢٢ يناير عام ١٧٢٩م، بمدينة كامينتس Kamenz بمنطقة أوبرلاوزيتس Oberlausitz (في ألمانيا الشرقية الحالية) لأبٍ قسيس بروتستانتي فقير لا يجتني من وراء حرفته هذه إلا القليل، فعاشت أسرتُه لا تعرف إلا ضيق الحال والضنك، ولكنه أحاط أولادَه منذ نعومة أظافرهم بجوٍّ جاد، واهتم بتعليمهم اهتمامًا كبيرًا. ويُحكى أن جوتهولد كان من طفولته يُحب الكتب حبًّا جمًّا، وأنه كان في الخامسة من عمره يعرفُ الكتابَ المقدَّس وكتاب تعليم الدين المسيحي على مذهبه وديوان الأغاني الكنسية. كان أبوه يقوم بنفسه على تعليمه تارة، ويستعين بمدرسٍ خاص تارةً أخرى، حتى بلغ الصبي السابعة من عمره، فأرسلَه إلى مدرسة البلدة، فظل يختلفُ إليها نحو خمسِ سنوات، حتى إذا بلغ الثانية عشرة بعَث به أبوه إلى مدينة مايسن حيث التحق بالمدرسة الشهيرة «مدرسة سانت أفرا الأميرية»، وتابع الدرس والتحصيل بها أربع سنواتٍ أظهر فيها لمعلِّميه قدرةً ممتازة على الفهم والتعلم والتحصيل وبَزَّ أقرانه وكلُّهم من المتفوقين، وهل كانت مدرسة سانت أفرا الأميرية تقبل في صفوفها غير المتفوقين النابهين؟ ولَم يكتفِ الفتى باستيعاب ما تضمَّنه برنامج المدرسة، بل تجاوزَه إلى تعلُّم لغاتٍ وعلومٍ أخرى، فتعلَّم الفرنسية، وتعلَّم الإيطالية، وتبحَّر في الآداب، وتعمَّق في العلوم والرياضيات.

وكان التلميذ لسينج إلى جانب اهتمامه بمواد الدراسة يجرِّب قلَمه على الأدب، فكتَب القصائد على طريقة أناكريون وكتَب مسرحيَّته الأولى «العالِم الشاب».

فلما بلغ السابعة عشرة من عُمره خرَّجَته المدرسة قبل الموعد، وقال عنه الناظر: «هذا حصانٌ يتطلب علفًا مضاعفًا، ولم يعُد لدى المدرسة ما تقدِّمه له.» فحمل عصاه ورحل إلى ليبتسج (ليبزج) عام ١٧٤٦م، والتحق بجامعتها الشهيرة، وإذا باسمه يُسجَّل في كلية اللاهوت، التي تصادَفَ أن حصل على منحةٍ دراسية للدراسة بها. لكن التحاقه بها كان اسميًّا أكثر منه فعليًّا، اجتذبَتْه الحياة في «باريس ألمانيا»، واستهواه الناس والأصدقاء، وأُغرم بالمسرح وبالفنون، وتعرَّف بفرقة كارولينه نويبر التي أشرنا إليها في حديثنا عن جوتشد.

ترك دراسة اللاهوت، وتابع أستاذَين بالجامعة؛ أولهما يوهان فريدريش كريست (١٧٠٠–١٧٥٦م) صاحب التعليقات والشروح على الأدباء القدامى، وثانيهما الفيلسوف الرياضي إبراهام كستنر (١٧١٩–١٨٠٠م)، هذا إلى جانب جوتشد الذي كان نَجمُه قد أشرف على الأُفول، وكان أعداؤه (بودمر وبرايتنجر) يظهرون عليه، ويزيدون دوامًا بانضمام أقلامٍ جديدة إليهم، منها قلم لسينج نفسه.

وشجَّعَته صلتُه الجديدة بفرقة نويبر على تناوُل مسرحيَّته «العالِم الشاب» بالتعديل والصقل، وتسليمها إلى فرقة نويبر التي مثَّلَتها فلاقت نجاحًا كبيرًا، وأحس الجمهور بالعبقرية المسرحية الناشئة. والحق أن لسينج كان مُولعًا بالمسرح على نحوٍ فريد، وكان يقول إنه لا يكاد يطوف بمُخيِّلته خاطرٌ حتى يتحوَّل إلى مسرحية.

وطيَّرَت الأخبارُ صورةً من حياة لسينج في ليبتسج إلى والدَيه في كامينتس، فحَزِنا حزنًا شديدًا لعزوف الابن عن اللاهوت، وارتمائه في أحضان المسرح الذي كان في رأيهم فسقًا وكفرًا وضلالًا، وفكَّر الأب في حيلة يُبعِد بها ابنه عن تلك البيئة الموبوءة، فكتب إليه في عام ١٧٤٨م يُخبِره أن أمة مريضةٌ مرضًا شديدًا، وأنها على قاب قوسَين أو أدنى من القبر، وأنها تَودُّ أن تراه قبل أن تُودِّع هذه الدنيا، فأسرع جوتهولد عائدًا وكم كانت دهشتُه عندما وجد أمه بخير وعافية! وكم كانت حسرتُه عندما تبيَّن أن أباه — وهو القس الوقور التقي — لا يتورَّع عن الكذب والمناورة. ويستطيع الإنسان أن يتصوَّر في غير جهد أن هذه المناورة لم تمر على لسينج مروًا عابرًا، بل هزَّتْه هزةً عظيمة اقتلعَت جذورًا فكرية كانت لا تزال ثابتةً في حياته. منذ ذلك اليوم انفصمَت علاقتُه بوالدَيه ولم تتحسَّن إلا قليلًا فيما بعدُ، وتدهوَرَت فكرتُه عن طبقة الكهنة الذين كثيرًا ما يمثِّلون الدين شكلًا ولا يمثِّلونه موضوعًا، وتأكَّدَت نزعتُه إلى الحرية في الحياة والفكر.

وعاد لسينج إلى ليبتسج ليبقى بها فترةً قصيرة يرى فيها نهايةَ فرقة نويبر وغرقَ أفرادها في الديون والضائقات المالية. ويتدخل مرةً باعتباره ضامنًا لبعض الممثِّلين المُفلِسين، وما يلبث صاحب الدَّيْن أن يطالبه بما عجز المُفلِس عن سَداده ويهدِّده بمقاضاته، فيترُك ليبتسج في جنح الظلام كالهارب، وينتقل إلى فيتنبرج فيُسجِّل اسمه في جامعتها طالبًا بكلية الطب، لكنه لا يبقى بفيتنبرج طويلًا ويتحوَّل إلى برلين.

ظل لسينج في برلين سبع سنوات، من ١٧٤٨م إلى ١٧٥٥م، يزاول نشاطًا فكريًّا ضخمًا في حركة التنوير الكبرى Aufklarung التي سبقَت العصر الكلاسيكي في ألمانيا، واعتمدَت على أفكار الفلاسفة الإنجليز والفرنسيين خاصة فولتير، لكن عصر احتراف الأدب والفكر لم يكن قد حلَّ بعدُ، وكان رجال الفكر والأدب دائمًا يحترفون حِرفًا أخرى يتكسَّبون منها. كذلك لسينج، كان يُترجِم ترجماتٍ تجارية من الفرنسية والإنجليزية والإسبانية ويعيشُ على ما يربحُه منها، ويُحاوِل أن يجد فيها شيئًا من الفائدة، معتبرًا إياها نوعًا من التمرين على تليين الأسلوب وتطويعه.

واشتَغل بالصحافة، فحرر ﺑ «الجريدة البرلينية» صفحةً أدبية بعنوان «الجديد في عالم الأدب». وفي عام ١٧٥١م قطع إقامتَه البرلينية، وتوجَّه إلى فيتنبرج حيث حصل على درجة الماجستير من جامعتها. وعاد إلى برلين ليستأنف نشاطه أديبًا حرًّا لا يفكِّر في وظيفة أو عملٍ مقيَّد، واتصل لسينج برسول عصر التنوير فولتير وكان فريدريش الثاني ملك بروسيا قد استدعاه وعيَّنه في بلاطه، ولكن العلاقة بين لسينج وفولتير لم تدُم طويلًا؛ فقد حدث أن دفع فولتير مرةً إلى لسينج ببعض مخطوطاته، فاستعمله لسينج على نحوٍ أغضب فولتير، فما كان من فولتير إلا أن شكاه للملك مُهوِّلًا الأمرَ مُبالِغًا في الإساءة إلى لسينج. وقد ظل الملك — حتى بعد أن دبَّ الشقاق بينه وبين فولتير — يسيء تقدير لسينج إساءةً بالغة. ورغم هذا فقد ظل لسينج على رأيه في فولتير، يُعجَب به ويرى فيه عُمدةَ حركة التنوير في أوروبا.

أما رأي لسينج في فريدريش الثاني فكان مزيجًا من الموافقة والإنكار؛ أما الموافقة فكانت تنصَبُّ على آراء فريدريش التحرُّرية التنويرية، وأما الإنكار فكان ينصَبُّ على آراء فريدريش في الحكم المطلَق وفي حق الملك في القيام بالحروب الهجومية لتوسيع سلطانه. كان لسينج يحلُم بفناء الحكم المطلَق وبقيام نظامٍ شعبي حُر فيه ازدهارٌ للثقافة وتقدُّمٌ للإنسانية.

نشر لسينج في الفترة من ١٧٥٣م إلى ١٧٥٥م ستة مجلَّدات بعنوان «كتابات» ضمَّنَها مؤلفاتٍ أدبيةً مختلفة الأنواع؛ قصائد، مقتطفات، مسرحيات، مقالات. وأهم هذه الأعمال كلِّها مسرحية «مس سارا سمبسون». كتب لسينج هذه المسرحية في مطلع عام ١٧٥٥م، ونشرها، فلاقت نجاحًا كبيرًا. ويُروى أنها مُثلَت لأول مرة في مدينة فرنكفورت/أودر فتأثَّر الجمهور بها أبلغَ التأثُّر وذَرَف الدموع الغِزار، ثم مُثِّلَت بعد ذلك في برلين فأحدثَت التأثير نفسه، وظلَّت تنتقل من مسرحٍ إلى مسرحٍ تحقِّق النجاح يتلوه النجاح حتى وصلَت إلى خارج ألمانيا، وتُرجمَت إلى لغاتٍ أجنبيةٍ عديدة. ويكفي لتصوير أهميَّتِها في نظر أهل زمانها أن نذكُر أن ديديرو هو الذي نقلَها بقلَمه إلى اللغة الفرنسية. و«مس سارا سمبسون» من نوع التراجيديا البورجوازية الذي يختلف عن التراجيديا الكلاسيكية في أن الشخصيات والحدث مأخوذة من المحيط البورجوازي، لا من المحيط الأرستقراطي، وفي أن اللغة المستعمَلَة بها لغة النثر لا لغة الشعر. واضحٌ أن هذا النوع لقي نجاحًا مؤكَّدًا؛ لأنه كان النوع المناسب للعقلية المسيطرة على العصر، عقلية البورجوازية الصاعدة. ونحن ربما وجدنا في هذه القطعة بعضَ التهويلِ في تصوير المشاعر والعواطف ولكنَّنا نقدِّرها باعتبارها رائدة النوع (التراجيديا البورجوازية) في ألمانيا، وباعتبارها محاولةً ناجحة للنزول إلى الشعب والتعبير عن ذات نفسه.

في عام ١٧٥٥م، انتقل لسينج من برلين إلى ليبتسج، مدينة المسرح بلا منازع، وتعرَّف على فرقتها المسرحية الشهيرة، فرقة كُخ. وهناك سنحَت له فرصةٌ عظيمة للتجوُّل في أوروبا؛ إذ اقترح عليه تاجرٌ شابٌّ غني من أهالي ليبتسج يُدعى فنكلر أن يجوبا معًا أقطار أوروبا، وبخاصة هولندا وإنجلترا، في رحلة تدوم سنتَين أو ثلاثَ سنوات. وقَبِل لسينج الدعوة المُغرِية، وذهب الاثنان إلى أمستردام ليُبحِرا من هناك إلى إنجلترا. وفجأةً وصلَت الأخبار بأن ملك بروسيا يزحف على ساكسونيا وبأنه احتل ليبتسج، فخَشِي فنكلر على أملاكه في ليبتسج ورجع ومعه لسينج إلى هناك، حيث نزل لسينج عليه ضيفًا في بيته المعروف باسم «كُرة النار» (وهو البيت الذي سيأتي جوته للسُّكنى به بعد عشر سنوات تقريبًا). وسرعانَ ما دبَّ الشقاق بين لسينج وفنكلر، فتَركَ لسينج ليبتسج وعاد إلى برلين، ليجد صديقًا له يُدعى نيكولاي قد تَولَّى إدارة دارٍ للنشر يملكُها أخوه، وأصدر مجلةً أسبوعية اسمها «رسائل عن الأدب الجديد»، فقام لسينج بالكتابة فيها، بل يُروى أنه كان يكتب كل مادتها طَوال السنتَين الأوليَين. أظهر لسينج في هذه الرسائل مقدرةً فائقة على النقد الفني، فكان يتناول بالتعليق كل ما يصدُر من أدبٍ جديد فيفحَصه فحصًا دقيقًا ويُقدِّره تقديرًا متزنًا بغَضِّ النظر عن مكانة صاحبه أو شهرته. وأضاف لسينج إلى نشاطه في ميدان النقد نشاطًا مساويًا في ميدان الترجمة، فنشر ترجماتٍ لمسرحياتٍ من أعمال ديديرو (١٧٦٠م) عرَّفَت الجمهور الألماني به. وكان ديديرو قد سلَك أيضًا طريق التراجيديا البورجوازية، وأنتج فيها أعمالًا طيبة، فلا غرابة أن يهتم به صاحب «مس سارا سمبسون» اهتمامًا خاصًّا.

لكن هذه الأعمال كلها لم تكن تكفي لتثبيت أركان حياة لسينج من الناحية المالية. ورأى أصحابُه ما هو فيه من ضيق، فتدخَّلوا بنفوذهم، وبحثوا حتى وجدوا للسينج عملًا ثابتًا في معيَّة أحد الكُبراء. وهكذا دخل لسينج في خدمة الجنرال البروسي فون تاوتنسيين سكرتيرًا له. وانتقل لممارسة مهام وظيفته إلى برسلاو (سيليزيا)، وقال للمقرَّبين إليه إن الوقت قد حان ليملأ جيبه بالمال كما ملأ رأسه بالعلم، وليُخالط الناس كما خالَط الكتب. كان العمل في معية الجنرال البروسي على هوى لسينج؛ في الصباح إنجاز الأعمال الإدارية، وفي الظهر الاشتراك في اجتماعات الجنرال بمعاونيه، ومن بعد الظهر إلى اليوم التالي تحت تصرُّفه الخاص. وظل لسينج يمارس هذه الوظيفة أربع سنوات، كسب خلالها مالًا كثيرًا، صَرفَه كُله أو جلَّه؛ كان عليه أن يجاري الوسط الراقي الذي يُخالطه في المعيشة الفاخرة وأن يشاركه في لعب القمار من ناحية، وكان يُنفِق الكثير ليقتني كتبًا يُكوِّن بها بالتدريج مكتبةً خاصة من ناحيةٍ ثانية، وكان من ناحيةٍ ثالثة يُحوِّل إلى أبيه مبالغَ كبيرةً ليستعين بها على الحياة وعلى الإنفاق على أبنائه العديدين.

لم تحقِّق السنوات البرسلاوية للسينج إذن ما كان يرجوه من ثروة، ولكنَّها هيَّأَت له مادة عددٍ من أهم أعماله:

  • مينَّا فون بارنهلم.

  • لاوكون.

  • فن المسرح الهامبورجي.

في الوقت الذي لازَم فيه لسينج الجنرال فون تاونتسيين تمكَّن من جمع خبراتٍ إنسانية حيَّة من قطاعاتٍ كثيرة، أبرزُها قطاع الجيش؛ فقد صاحب لسينج الجنرال في زحفه على قلعة شفايدنيتس واستيلائه عليها، وفَهِم على الطبيعة معنى التحركات العسكرية، ورأى بعينه التخريب الذي تُحدِثه الحرب، وعلِم ما لم يكن يعلَم، وأحَسَّ أن الخبرات الجديدة التي اكتسَبها بلغَت به مرحلة النضج الحقيقي. في خريف عام ١٧٦٤م، وقبل مبارحته برسلاو بقليل، كتَب يقول: «ها أنا ذا أدخُل في الطَّور الجاد من حياتي، وأُصبِح رجلًا تغلَّب على البقية الباقية من حماقات الشباب.»

وانتهت السنوات البرسلاوية، وعاد لسينج إلى برلين ليعكُف على ما بدأ من روائعَ أثناء عمله مع الجنرال فون تاونتسيين. وعادت المُشكِلات المالية من جديد، وتدخَّل الأصدقاء يبحثون له عن عملٍ ثابت. وتصادَفَ أن خلا منصب مدير دار الكتب في برلين، فتوسَّط نفر من أصدقاء لسينج ومنهم من كان مُقرَّبًا من الملك، لدى الملك فريدريش الثاني ليُعيِّنه في ذلك المنصب، فرفض الملك، وكان لا يزال يذكر شكوى فولتير — الكيدية — من لسينج، هذا بالإضافة إلى أنه كان بطبعه يعتقد أن الأجانب يفضُلون الألمان، وعيَّن في المنصب فَرنسيًّا كان البون بينه وبين لسينج في الكفاءة شاسعًا. كان رفض الملك صدمة للسينج. لكنه تحملها بشجاعة واستأنف نشاطَه، فأخرج عام ١٧٦٦م كتابه العظيم «لاوكون»، وعاد إلى الترجمة التجارية يتكسَّب منها.

ولاحت بارقةُ أمل. كانت مدينة هامبورج بعد الحرب الثلاثينية (١٦١٨–١٦٤٨م) قد أولَت المسرح عنايتَها، ورصدَت لازدهاره المالَ الكثير. وكان أحب شيء إلى الجمهور الهامبورجي المسرح الواقعي الذي وصلَهم من هولندا ومن إنجلترا لتصويره حياة الناس وبخاصة حياة البورجوازيين في غير تعقيدٍ ولا مبالغة، بعكس المسرح الفرنسي الكلاسيكي الذي كاد أن يقتصر على تصوير حياة الطبقة الأرستقراطية في أزمانٍ غابرة، ويجعلها تتكلَّم ألوانًا من الشعر المقيَّد.

وتلقى لسينج من مسرحٍ هامبورجي يُسمِّي نفسه «المسرح القومي» دعوةً ليعمل به في وظيفة مستشارٍ في شئون الفن المسرحي، فقَبِلها. وكان في الوقت نفسه يشترك مع تاجرٍ ماهر اسمه «بوده» في إنشاء دارٍ للنشر، ويمنِّي نفسه بالحصول على أرباحٍ كبيرة منها، فحزَم حقائبه ليسافر إلى هامبورج، وأتَمَّ دُرَّته الفريدة «مينَّا فون بارنهلم» ونشرها عام ١٧٦٦م، ورآها الجمهور على المسرح الهامبورجي فأُعجِب بها كل الإعجاب، ثم مثَّلَتها مسارح ليبتسج وبرلين فلَقِيَت نجاحًا وحماسًا رائعًا.

وصل لسينج هامبورج في أبريل عام ١٧٦٧م، وبدأ المسرح موسمه بعد وصوله بقليل. وفي بداية الشهر التالي ظَهرَت بقلم لسينج أوَّل مقالةٍ في النقد المسرحي، أو بعبارةٍ أخرى أوَّل عددٍ من مجلة «فن المسرح الهامبورجي». كان المقرَّر أن تظهر هذه المجلة مرتَين أسبوعيًّا تنشر نقدًا أدبيًّا فنيًّا للقِطع التي تُمثَّل على المسرح. لكن المسرح ما لبث أن توقَّف في ديسمبر ١٧٦٧م، وفَشلَت كل محاولةٍ لبعث الحياة فيه نهائيًّا في نوفمبر ١٧٦٨م. مات المسرح ومات معه أمل لسينج وأصدقاء المسرح في إنشاء مسرحٍ قومي لا يعتمد إلا على الجمهور الواعي وعلى الإنتاج الفني التقدُّمي، وبَقِيَت ثمرة هذه التجربة تحملها ١٠٤ مقالات في النقد المسرحي بقلم لسينج، ما لَبثَت أن جُمعَت في مجلَّدَين بعنوان «فن المسرح الهامبورجي». فن المسرح الهامبورجي عملٌ هائل أثَّر على تطوُّر المسرح الألماني كلِّه تأثيرًا بالغًا من كل النواحي؛ التأليف، الإخراج، التمثيل … إلخ.

كان لسينج منذ أول عهده بالمسرح في ليبتسج يرى أن المسرح المبني على قواعدَ جامدة — خاصة تلك المنقولة عن المسرح الفرنسي الكلاسيكي — لا يناسب الروح الألمانية، ويرفض لذلك دعوى جوتشد إلى ربط عجلة المسرح الألماني في الحصان الفرنسي. وكان يرى أن إنتاج الإنجليز الذي يدور حول حياة الناس الواقعية أقربُ إلى المزاج الألماني، وما علينا إلا أن نذكُر «مس سارا سمبسون» وإشارتَه إلى أهمية شيكسبير في رسالته الأدبية رقم ١٧. ولا يعني هذا أن لسينج كان يُنكِر قيمة المسرح الفرنسي، وإنما يعني أنه كان يرى أن كلَّ إنتاجٍ مقيَّدٌ بظروف وزمان ومكان ظهوره، وأن على كل أمةٍ أن تختار من الإنتاج الثقافي الأجنبي ما يتفق مع ذوقها، وأن تشُق طريقها أصيلةً تُبدِع ولا تقلِّد تقليدًا أعمى. كل هذه الآراء وكثيرٌ غيرها مما ضمَّنه «فن المسرح الهامبورجي» بدأَت عصرًا جديدًا واعيًا، ومهَّدَت لمسرحٍ ألماني حقيقي بدأَه لسينج، ووصَل به العصرُ الكلاسيُّ الألماني إلى القمة.

لم يحقِّق عمل لسينج بهامبورج ما كان يُرجى منه من ربح، ولكن إقامة لسينج بهامبورج أتاحت له فرصة الاتصال بشخصياتٍ هامة كثيرة، وعقد الصداقات الوطيدة، بالإضافة إلى توسيع خبرته بالمسرح علمًا وعملًا، وتدريب أسلوبه النثري على ألوان الحديث المختلفة ليُصبِح ذلك الأسلوبُ النثري أسلوبَ الأجيال القادمة. اتصل لسينج بالقس جوتسه وبزميله «ألبرتي» وتعرَّف بعائلة «رايماروس»، وكان رايماروس من رجال التعليم البارزين في هامبورج، وتوطَّدَت بين لسينج وبين «إليزه» ابنة رايماروس صداقةٌ متينة. كذلك تعرَّف على عائلة «كونيج»، وكان إنجلبرت كونيج تاجرًا يتَّجر في الحرير. وتصادف أن قرَّر إنجلبرت كونيج أن يقوم برحلةٍ طويلة، فتَركَ زوجتَه وأولادَه الأربعة في رعاية صديقة لسينج. كذلك اتصل لسينج بفيليب إيمانويل باخ وكان يُشرِف على الموسيقى في كنائس هامبورج، وبالأديب الألماني «ماتياس كلاوديوس» وكان في ذلك الوقت يمارس بعض أعمال التحرير في هامبورج.

هكذا كان لسينج لا يخرج من محنة إلا ليدخل محنةً جديدة، ولا تلوح له بوارقُ الأمل إلا لتختفي بعد حين. أقفل مسرحُه القومي أبوابَه، وفشل مشروع دار النشر في تحقيق الثروة المرموقة، وفكَّر لسينج في مخارجَ تنقذه من ورطته؛ فكَّر مثلًا في الرحيل إلى فيِنَّا ليتصل بيوزف الثاني (ابن ماريا تريزيا)، الذي اشتُهر بتشجيعه الأدباءَ والفنانين وأهل الفكر، خاصة بعد أن نجحَت بعضُ مسرحياته على مسرح فيِنَّا وعَرفَه الجمهور النمساوي. وفكَّر في الرحيل إلى روما حيث كان منصب مدير عام الآثار قد خلا بموت فنكلمان عام ١٧٦٨م، ولكنَّه لم يُخرِج مشروعاته هذه إلى حيِّز التنفيذ، وأخيرًا توسَّط له بعض أصدقائه لدى ولي عهد براونشفايج ليُعيِّنه أمينًا لمكتبة «فولفنبوتل» المعروفة باسم «ببليوتيكا أوجوستيا»، وهي المكتبة التي كان الفيلسوف الشهير «لايبنتس» أمينًا لها، ونجحَت الوساطة. وانتقل لسينج عام ١٧٧٠م إلى مقر عمله الجديد، ليظل به ١١ عامًا من النشاط الفكري الكبير وقد انتهت مشكلاته المالية تمامًا.

ولم تكن مشكلاته المالية لتنتهي إلا لتُفسِح مكانًا لمشكلاتٍ من نوعٍ آخر، بعضُها عائلية وبعضُها دينية. كان لسينج قبل مبارحته هامبورج قد تلقى خبر وفاة صديقه كونيج في الخارج، فوفَّى بوعده الذي قطَعه على نفسه برعاية الأسرة وظل يرعاها حتى مات. وقد تحوَّلَت صلته بأرملة كونيج إلى ميلٍ متبادَل ثم إلى خطبة في عام ١٧٧١م، ولم تؤدِّ الخطبة إلى قرانٍ إلا عام ١٧٧٦م؛ فقد كانت الأرملة كونيج منهمكةً في إدارة تجارة زوجها الراحل، وكان العمل يَضطَرها إلى السفر إلى فيِنَّا، بل وإلى الإقامة بها سنوات. وأخيرًا انتظمَت التجارة وتم عقدُ القران.

كان العمل في مكتبة فولفنبوتل تحوُّلًا صعبًا في حياة لسينج الذي كان ظل طُول حياته — باستثناء الفترة البرسلاوية — كاتبًا حرًّا، لا يتقيَّد بوظيفة بعينها، ولا يلتزم بالبقاء في مكانٍ بعينه، فإذا به الآن يُدعى ليلتزم مكانًا صغيرًا بمدينةٍ صغيرة تركَها أمراؤها وسكنوا بعيدًا عنها، وليعيش عيشةً روتينية ترسم ظروفُ العمل صورتَها. وكان يتسلى عن ذلك بالكتب التي أُغرم بها — كانت المكتبة تضم نحو ٧٠٠٠٠ مجلد — وبالرد على استفسارات العلماء ردًّا علميًّا مستندًا على المراجع النادرة بالمكتبة، ثم شَرعَ ينشُر مقالاتٍ علميةً متفرقة عن محتويات المكتبة، جمعها بعد ذلك في ست مجلداتٍ تحت عنوان «في التاريخ والأدب: من كنوز المكتبة الأميرية بفولفنوبوتل». كذلك أتم مسرحية «إميليا جالوتي» التي كان قد بدأَها في ليبتسج عام ١٧٥٨م، وأخرجَها للناس عام ١٧٧١ / ١٧٧٢م، عملًا فريدًا يحمل بين طياته تعبيرًا صامتًا عن أحاسيسِ فنانٍ لم يغرُب الأسى عن قلبه، وظل سنين يكافح ويكافح، وأخيرًا لم ينل من الدنيا سوى الوحدة والعزلة والفراق. كتاباته كلها في ذلك الوقت تدُل على ألمه لبعد خطيبته عنه، حتى إنه فكر في ترك العمل بمكتبه فولفنوبوتل والانتقال إلى فيِنَّا حيث كانت الأرملة كونيج تُقيم مؤقتًا، وشجَّعه على هذا التفكير نجاح مسرحيته «إميليا جالوتي» نجاحًا كبيرًا في فيِنَّا عام ١٧٧٥م، واهتمام ماريا تريزيا ووزيرها كاونيتس به، ولكنه ظل في فولفنبوتل، ورافَق الأمير ليوبولد في رحلةٍ إلى إيطاليا دامت بضعة شهور.

كان لسينج في معرض اهتمامه بتقَصِّي أصول الثقافة الأوروبية، واستجلاء ما غمُض منها، يهتم إلى جانب العنصر الإغريقي اللاتيني بالعنصر المسيحي، ويجتهد في فهم اللاهوت وعلوم الدين المسيحي بطريقةٍ جديدةٍ تتفق مع روح العصر الذي سيطَرَت عليه طرق البحث العلمي ومذاهب الفلسفة العقلية. وتصادَف أن وجدَت ابنة الأستاذ الهامبورجي «هرمن رايماروس» (تُوفي عام ١٧٦٨م) في مخلَّفات أبيها مؤلَّفًا يعالج أمور الدين، فسلَّمَته إلى لسينج وصرَّحَت له بنشره. وكان المعروف عن رايماروس أنه في حياته كان يبشِّر كفلاسفة التنوير ﺑ «دين الفطرة» و«مذهب العقل» ولكنه لم يكن يمسُّ المسيحية مسًّا مباشرًا. أما كتابه الذي وقع في يد لسينج فكان فيه هجومٌ صريح على المسيحية بشكلها الكنسي التقليدي وعلى أصولها المختلفة، يعتمد فيه على شواهدَ من الفلسفة والتاريخ. واستحسن لسينج الكتاب وبدأ يجرِّب نشره قطعةً قطعة، فنشَر في الكراسة الثالثة من مقالاته عام ١٧٧٤م، أول قطعة، دون الإشارة إلى اسم مؤلِّفها، ثم عاد بعد مُضيِّ بضع سنواتٍ إلى نشر قطعةٍ أخرى كان فيها هجوم على موضوعاتٍ أساسية في الدين، منها الإلمام والوحي والإعجاز، وأبرز لسينج طريقة التدليل التاريخي في صورةٍ ناضجة، وفتح بذلك بابًا جديدًا هامًّا في ميدان الفكر.

تسبَّب نشر هذه القطعة في إثارة معركة كبيرة هاجمه فيها الكثيرون هجومًا عنيفًا، فردَّ على الهجوم بمقالاتٍ حاسمة منها «إثبات الروح والقوة» و«إنجيل يوحنا»، وتأجَّجَت المعركة. ووقف أمام لسينج أساسًا «يوهان ملشيور جوتسه» الراعي الأول في «سانت كاتارينا». وكان لسينج قد تعرَّف عليه في هامبورج وشرب معه خمرًا معتَّقة من مخزون الراعي، وتناقَش معه آنئذٍ في موضوعاتٍ عديدة، مناقشاتٍ من نوع تبادُل الآراء، فإذا به يتحوَّل الآن إلى غريمٍ لا يتورَّع في هجومه عن اللجوء إلى التشهير والافتراء، وقد ردَّ عليه لسينج بسلسلةٍ من المقالات بعنوان «ضد جوتسه».

لم تكن جبهة «جوتسه» هي الجبهة الوحيدة التي يقف فيها لسينج؛ فقد شاء القدَر أن يمتحنه في جبهةٍ أخرى. كانت حياة لسينج قد بدأَت تستقر بزواجه من إيفا كونيج، وظن الاثنان أن سعادتهما بدأَت تكتمل باقتراب مولد طفلٍ لهما، ولكن ظنهما كان سرابًا، فمات الطفل بعد مولده، وتبعَتْه أمه. وبقي لسينج يعاني أقسى محنةٍ مرت به، لكنه تمالك نفسه وترك الحياة تسير في بيته عادية، وظل يرعى أولاد زوجته بحنانٍ أبوي فياض، ولكن أعراض الإعياء كانت قد بدأَت تظهر عليه.

لم يتوقَّف لسينج عن متابعة نشر مقتطفاتٍ أخرى من كتاب رايماروس؛ ففي عام ١٧٧٨م، نشر قطعةً بعنوان «هدف يسوع وتلاميذه» تحتوي على تشكيك في صعود المسيح وذهابٍ إلى أنه من اختراع التلاميذ. واشتد الهجوم الذي كان الجمهور يتابعه بحماسٍ بالغ. ورأى أعداء لسينج أنهم لن يغلبوه بالنقد العلمي، فلجَئوا إلى القوة واستعملوا نفوذهم لدى السلطات، فصدر في ١٣ يوليو ١٧٧٩م، قرار بوضع نشريات لسينج تحت رقابةٍ شديدة، ومنعه من التعرُّض للموضوعات الدينية، وبمصادرة مؤلَّفات رايماروس. وعارض لسينج القرار دون جدوى، فنقل ميدان المعركة إلى هامبورج، وكان القرار الصادر ضده من سلطات براونشفايج لا يسري إلا عليها. ونشَر في هامبورج مقالًا بعنوان «رد ضروري على سؤال لا ضرورة له»، ثم قرَّر أن يعتلي منصَّته الحقيقية، منصَّة المسرح، ويوجِّه إلى جوتسه وغيره من المكابرين ردًّا بليغًا، فكتب قصيدته المسرحية الخالدة «ناتان الحكيم» يدعو فيها إلى التسامُح، وإلى السمو بالإنسانية فوق المهاترات. وظَهرَت المسرحية في شتاء ١٧٧٨ / ١٧٧٩م، فنَفدَت الطبعة فورًا، وتكرَّر طبعها مرارًا في عامٍ واحد، فكان استقبال الجمهور لها بمثابة استفتاءٍ شعبي صوَّتَت فيه الأغلبية للتسامُح والإنسانية، ورفضَت التعصُّب والتزمُّت.

ومات جوتسه، وماتت مقالاته وتشهيراته وبقي العمل العظيم، العمل الخالد، بقي «ناتان الحكيم»، بقيت دعوة التسامُح والإنسانية والتقدُّم ضمن مقدَّسات الأمة الألمانية — على حد قول جوته — بل ضمن مقدَّسات البشرية كلها.

كان لسينج قد وضع آخر قوَّته في «ناتان الحكيم»، وختم به حياته الأدبية الحافلة. وفي ١٥ فبراير ١٧٨١م، لفَظ أنفاسَه الأخيرة وله من العمر ٥٢ عامًا، على أثَر نوبةٍ قلبية لم تُمهِله.

(١-١) أعمال لسينج (وينطق لسينغ أيضًا)

(أ) النقد

  • رسائل خاصة بالأدب الحديث (١٧٥٩–١٧٦٥م).

  • لاوكون، أو حدود التصوير والشعر (١٧٦٦م).

  • فن المسرح الهامبورجي (١٧٦٧–١٧٦٩م).

  • كيف صوَّر القدماء الموت (١٧٦٩م).

(ب) المسرح

  • «العالِم الشاب» (١٧٤٨م).

  • مس سارا سمبسون (١٧٥٥م).

  • فاوست (١٧٥٩م) صفحات من قطعةٍ مفقودة.

  • فيلوتاس (١٧٥٩م).

  • مينَّا فون بارنهلم (١٧٦٧م).

  • إميليا جالوتي (١٧٧٢م).

  • ناتان الحكيم (١٧٧٩م).

(ﺟ) منوَّعات

  • أمثلة (٣ كتب) (١٧٥٩م).

(د) موضوعات دينية

  • أرنست وفالك (١٧٨٠م).

  • تربية الجنس البشري (١٧٨٠م).

(٢) مينَّا فون بارنهلم وحرب السنين السبع

كان النقَّاد القدماء يُجمِعون على فقر الأدب الألماني في نوع الكوميديا، ويضعون كل الكوميديات في جانب، ويُفرِدون لست كوميدياتٍ جانبًا عليًّا وهي:

  • مينَّا فون بارنهلم: لسينج.

  • القدَر المحطم: كلايست.

  • ليونس ولينه: بوشنر.

  • فراء الجارود: هاوبتمان.

  • ويل لمن يكذب: جريلبارتسر.

  • الصحفيون: فرايتاج.

ولسنا بحاجة إلى تكذيب القدماء ولا إلى الحط من قَدْر حصرهم. ويكفينا أن نشير إلى أن عمليات الحصر في ميدان الإنتاج الإنساني المتجدِّد تؤدي إلى نتائجَ تعسُّفية، ولكن المؤكَّد أن الكوميديات الست التي احتفَوا بها بنوعٍ خاص، واعتبروها قمة الإنتاج في هذا النوع هي — دون حصر أو تقييد — بلا ريبٍ كذلك.

وأحداث «مينَّا فون بارنهلم» كما سبقَت الإشارة، تدور في أيام حرب السنين السبع (١٧٥٦–١٧٦٣م)؛ لذلك آثرنا أن نلخِّص الظروف التاريخية التي لابسَت حربَ السنين السبع حتى نفهم القطعة في زمانها ومكانها.

وينبغي لنا أن نعود إلى الوراء، إلى جذور حرب السنين السبع، لنُحسِن تصوُّرها، ولعل جذورها تبدأ من نشأة بروسيا وتحوُّلها إلى قوةٍ فعالة على يد الأمراء من آل هوهنتسوليرن. ويذكر التاريخ أن أسرة هوهنتسوليرن أصلها من منطقة شفابن المشهورة برجالها المُجدِّين المثابرين الأفذاذ إلى يومنا هذا، وأنها نزحَت إلى نورنبرج حيث أصبح أفرادٌ منها بورجرافات نورنبرج. حتى إذا جاء عام ١٤١٥م قرَّر القيصر الألماني زيجسموند رفع البورجراف فريدريش فون هوهينتسوليرن إلى مرتبة ماركجراف لمنطقة براندنبورج (المنطقة حول برلين، ولم تكن برلين في ذلك الوقت ذات شأن)، وبهذا أصبح ضمن الأمراء الألمان الناخبين؛ أي الذين يحق لهم الاشتراك في انتخاب قيصر الدولة الألمانية الذي يجمع الإمارات والمناطق المختلفة تحت لوائه. وظل أولادُ فريدريش فون هوهنتسوليرن وأحفادُه يُوسِّعون رقعة بلادهم حتى امتد مُلكُهم من الراين إلى الأودر (في صورة مناطقَ غيرِ متصلة)، بل وشمل منطقة شرق نهر الفايكسل داخل الأراضي البولونية، علاوةً على جزء من برويسنلاند كان الفرسان الألمان قد غزَوه حول عام ١٣٠٠م. وفي عام ١٦٥٧م نجح الأمير الناخب الأكبر في الحصول على استقلال بروسيا استقلالًا ذاتيًّا تامًّا، ومهَّد بذلك لتحويلها إلى مملكة، وخلَفه ابنه فريدريش الثالث وكان كأبيه أميرًا ناخبًا في الرايخ ينضوي تحت لواء قيصر الرايخ. وقرَّر أن يُتوِّج نفسه ملكًا معتمدًا على استقلال بروسيا ومتوسِّلًا بكافة الوسائل. وتم التتويج في ١٨ يناير ١٧٠١م بمدينة كونجسبرج (ضمَّتها روسيا إلى أرضها بعد الحرب العالمية الثانية ضمن الجزء الشمالي من بروسيا الشرقية)، وسمَّى نفسَه فريدريش الأول ملك بروسيا.

كان فريدريش فيلهلم الأول ملكًا حازمًا صارمًا، جنديًّا لا همَّ له إلا الجندية وتطوُّرها، حتى لقد أُطلق عليه اسم «ملك الجنود». وقد بذل جهدًا كبيرًا في خلق الجندي الذي يحترف الجندية ولا يمارس عملًا آخر سوى الدفاع عن الوطن وخوض المعارك، ويتحرك بدافعٍ سامٍ هو شرف الجندية وكرامة الجندية. وهكذا تحوَّلَت بروسيا إلى دولة جنود — كما يقولون — وأصبح لها جيشٌ من الطراز الأول سيظهر نشاطه في السنوات التالية. وكان فريدريش الأول يقسو على ابنه في التربية كل القسوة فأدخلَه الجيش وهو في العاشرة، ورقَّاه ضابطًا في سن الخامسة عشرة، وكلَّفه بكل أعمال الدولة من أبسطها إلى أصعبها، فكان يُمضي الليل واقفًا لحراسة المعسكرات طُول الليل كأي ديدبان في الجيش، وكان يقوم بالأعمال الكتابية والإدارية البسيطة، كأي كاتب في الحكومة. وهكذا منع فريدريش الأول ابنه عن ممارسة الأدب والموسيقى لاعتقاده أنها تُوهِن العزم، وفرض إرادتَه على ابنه على نحوٍ تعسُّفي حتى اضطُر ابنه إلى الفرار، فقبض عليه وحكم عليه بالإعدام وأصَرَّ على تنفيذ الحكم لولا تدخُّل كبار الضباط، ثم عفا عن ابنه، بعد سجنه، وتصالَح معه وعيَّنه قائدًا لسلاح المشاة ومنحه ضيعةً وقصرًا.

فلما مات فريدريش الأول عام ١٧٤٠م خلَفه على العرش ابنه هذا، يجمع بين خشونة العسكرية وميلٍ إلى الآداب والفنون والأفكار التحرُّرية الجديدة التي بثَّها فلاسفة عصر التنوير. وتصادَف أن مات في العام نفسه كارل السادس قيصر ألمانيا وكان من آل هابسبورج ويحكُم مُلكَ الهابسبورجيين (المجر، النمسا، سيليزيا … إلخ) الموروث، ولم يكن له ولد، فأوصى في حياته بأن ترث ابنته ماريا تريزيا حكم الأملاك الهابسبورجية، وجمَع الوعود من الحكام المختلفين في أوروبا ليسهروا على تنفيذ الوصية، ولكن هذه الوعود كانت حبرًا على ورق؛ فما كاد كارل يموت حتى تربَّصَت دولٌ أوروبية مختلفة بالأميرة الصغيرة تريد أن تلتهم أملاكها. وانتهز ملك بروسيا الجديد الفرصة وعرض على ماريا تريزيا أن تنزل عن منطقة سيليزيا ويتعهد لقاء ذلك بمساعدتها ضد المتربصين بها. واختلق أسبابًا واهية وإثباتاتٍ خبيثة يدلِّل بها على أحقِّيته في المنطقة. وكان هدف فريدريش فيلهلم الثاني واضحًا، كان يريد من ناحية أن يُحوِّل نهر الأودر إلى نهرٍ بروسي يجري في أملاكه وحده، وكان من ناحيةٍ ثانية، يريد أن يوسِّع ملكه ويُحوِّله إلى دولةٍ أوروبية عظمى. ورفضت ماريا تريزيا العرض فانقضَّ الملك البروسي على سيليزيا واستولى عليها. وتعرَّضَت النمسا في الوقت نفسه لهجوم جيوشٍ فرنسية وجيوشٍ بافارية، وبذلَت ماريا قصارى جهدها لصد الهجوم، وانتهى الأمر بصَد الجيوش الفرنسية والبافارية وردِّها، وضاعت سيليزيا عليها (الحرب السيليزية الأولى والثانية ١٧٤٠–١٧٤٤م).

وبدأَت فترةٌ من السلام دامت ١١ سنة، ثم تكَهرَب الموقف من جديد. كانت الأحوال في أوروبا قد تغيَّرت، وتغيَّرت بتغيُّرها سياسةُ الدول المختلفة، بروسيا تحوَّلَت إلى دولةٍ عظمى، روسيا وفرنسا والنمسا ومعها إماراتٌ ألمانية مختلفة تحوَّلَت إلى جبهةٍ تخاف بروسيا بل وتناصبها العداء صراحةً وتعلن في غير مواراةٍ أنها تُريد خلع تاج فريدريش الثاني وإعادته سيرته الأولى؛ ماركجرافًا لبراندبورج. وهكذا اندلعَت نيران حرب السنين السبع (١٧٥٦–١٧٦٣) التي أوشكَت أن تحطِّم مُلكَ فريدريش، إلا أن تدخُّل الحظ إلى جانب الإرادة الصلبة أنقذ فريدريش بل وأدخلَه في تاريخ العظماء باسم «فريدريش الأكبر».

كانت بروسيا (٦ مليون نسمة تقريبًا) تقف وحدها أو متحالفةً مع بريطانيا العظمى في وجه النمسا وفرنسا وروسيا والرايخ الألماني (تعداد أعدائها بلغ حوالي ١٠٠ مليون نسمة). بدأَت الحرب بزحف فريدريش على ساكسونيا فيما يُسمَّى بحربٍ وقائية حتى يضمن محاصرةَ كافة الميادين التي يمكن أن يسلُكها الأعداء، وأحكم قبضته على ساكسونيا. وزحفَت الجيوش المعادية كلها عليه، فكان تارةً يتغلَّب عليها وكانت تارةً تقهره، حتى أوشكَت أن تحيق به. وحدثَت معجزة، ماتت قيصرة روسيا وتولَّى قيصرٌ جديد (بطرس) كان يمُتُّ بصلة القرابة إلى فريدريش وتربطه بألمانيا البروسية وشائجُ عديدةٌ منها الإعجاب الشديد بشخصية فريدريش، فتحالَف معه، بعد أن كانت روسيا متحالفةً ضده، واختل الميزان، فلما قُتل القيصر بطرس وتولَّت عرشَ روسيا زوجتُه الآثمة كاتارينا آثرت أن تُخرِج روسيا من الحرب فلا تحارب مع فريدريش ولا ضده، وانتهت حرب السنين السبع.

(٣) أحداث مينَّا فون بارنهلم

والآن وقد أحطنا بالظروف التي خرجَت فيها كوميديا مينَّا فون بارنهلم إلى النور، وهي في الوقت نفسه الظروف التي تُصوِّرها المسرحية في طيَّاتها، نستعرض الأحداث ونتتبَّع تقدُّمها.

تبدأ المسرحية بتصوير الحال التي انتهى إليها الرائد فون تلهايم بعد أن أُحيل إلى الاستيداع على أثَر انتهاء حرب السنين السبع، وأصبح لا يمتلك من المال ما يسدِّد به إيجار حجرته بالفندق، ويدفعُ منه راتب خادمه، وينفقُ منه على حياته من نواحيها المختلفة. ويتجرأ صاحب الفندق، الذي لا يعرف غير المال ربًا، فيُخرِجه من حجرته الجيدة وينقله إلى حُجرةٍ رديئة، ليؤجِّر الحجرة الجيدة إلى آنسةٍ ثرية وصلَت برلين لتوِّها آتيةً من ضياعها بساكسونيا. ويغضب الرائد ويثور لكرامته المجروحة ويقرِّر أن يترك الفندق لصاحبه الوقِح، وينصرف دون أن يعرف إلى أين، ثم ما نلبث أن نتبيَّن أن هذه الآنسةَ الثريةَ ليست سوى خطيبة الرائد فون تلهايم، وأنها أتَت تبحث عنه لمَّا انقطعَت أخبارُه رغم انتهاء الحرب.

ووجدَت الآنسة مينَّا فون بارنهلم خطيبها الضابط، في حالةٍ يُرثَى لها، بلا مال ولا عمل ولا كرامة؛ أما ماله فكان قد أقرضَه الجيشَ أثناء المعارك حتى لا يتأخر الزحف انتظارًا لوصول المال من الخزينة، وأما عملُه فقد أُخرِج منه على أثَر وشايةٍ بلغَت الملك وصدَّقها الملك، وأما كرامته فقد فقدَها لتصديق الملك الوشاية المهينة التي وصلَت إلى مسامعه والتي تتلخَّص في أن فون تلهايم زوَّر في الأوراق وادعى أنه نقَد الجيش ما لا يدفعه، وأنه كان بذلك يهدف إلى الثراء غير المشروع ويرتكب جريمةً مخلَّة بالشرف والكرامة.

ووجد الرائد فون تلهايم خطيبته، جميلةً نضرة غنية كلُّها أمل في أن تسعد بالزواج به والحياة معه حياةً رغدة كريمة، فقرَّر أن يحكِّم عقلَه وإرادتَه وأن يرفض — وحالتُه على ما بيَّنا — الزواج بمينا، زواجًا أصبح غير متناسب، وأصبح هو يرى فيه إما إهانةً شخصية له، اعتقادًا منه بأن مينا تريد الزواج به عطفًا عليه، أو جريمةً منه في حق الفتاة ذات الجمال والمال والحسَب والنسَب، إيمانًا منه بأنه انتهى إلى الأبد بالنسبة لها.

ولكن مينا، والحب الأصيل يعمُر قلبها وخادمتها فرنتسيسكا تساعدها، لا تَعدَم الحيلة، فتظاهرَت بأن أسرتها نبذَتها، وبأن خالَها الغني صاحب النهي والأمر قد قرَّر حرمانها من الميراث، فأصبحَت فقيرةً منبوذة تحتاج إلى العون، وهنا تحرَّكَت نخوة فون تلهايم، وقرَّر ألا يتخلَّى عنها مهما حدث.

وتنتهي المسرحية نهايةً سعيدة؛ إذ يأتي رسول من الملك يُبلِغ فون تلهايم أن الملك تبيَّن أن ما بلغه كان وشاية، وأنه قرَّر أن يعود تلهايم إلى عمله عزيزًا كريمًا، وأن تعيد إليه الخزانة ما دفعه من مَبالِغ، وأكَّد له أن الملك يقدِّر بطولتَه وتفانيَه. ومن ناحيةٍ أخرى يأتي خال مينَّا فون بارنهلم، ويتضح أن النَّبذ والحرمان من الميراث كانا محضَ اختلاقٍ من قبيل الكذب في سبيل المصلحة، وتعود المياه إلى مجاريها ويجتمع الشمل.

(٤) الشخصيات

كان جريلبارتسر يعتبر «مينَّا فون بارنهلم» أحسن كوميديا ألمانية على وجه الإطلاق، ولا يكاد ناقدٌ يخرج على الإجماع على أن القطعة من أجود ما أنتج الفن المسرحي الكوميدي في ألمانيا، لِما توفَّر لها من مادةٍ قويةٍ مأخوذة من صميم الحياة كما عاشها المؤلِّف، ولِما توفَّر لها من إتقان في تسيير الحوار وترتيب الأفكار، وأعظمُ ما فيها في رأينا تصوير الشخصيات، الرئيسية والثانوية على السواء.

الرائد فون تلهايم، يمثل الضابط البروسي بمعنى الكلمة، شجاع، مقدام، يُحب زملاءه وجنوده ويعرِّض حياته للخطر دفاعًا عنهم بغَض النظر عن الرتبة أو المركز، ويَحرِم نفسه ليُعطيَهم أو ليرعى أُسرهم بعد وفاتهم، لا يعرف للدنيا معنًى إذا خلت من الكرامة والشرف، وهو في الحب يعرف الحدود بين القلب والعقل، فلا يدع أحدهما يُغير على الآخر. لنسمع حديثه إلى مينَّا فون بارنهلم:

«إنكِ تُنادينني تلهايم، والاسم صحيح، لكنكِ تعتقدين أنني الآن ذلك التلهايم الذي كنتِ تعرفينه في وطنك، ذلك الرجل الباهر الطَّموح الممتلئ كَلفًا بالشهرة، ذلك الرجل المتمكِّن من جسمه كلِّه ومن روحه كلِّها، الذي انفتحَت أمامه حواجزُ الرفعة والسعادة، فأمل أن يزيد كل يومٍ جدارةً بقلبكِ ويدك، وإن لم يكن آنئذٍ جديرًا بك. أنا لستُ هذا التلهايم، تمامًا كما أني لست أبي. ذلك التلهايم — تمامًا كذلك الأب — كان وانتهى، أما أنا فتلهايم المُحال إلى الاستيداع، تلهايم المشوَّه، الشحَّاذ. لقد كنتِ مخطوبةً يا آنستي لذلك التلهايم الآخر.»

ثم يقول لها في موضعٍ آخر:

«أردتُ أن أقول: إذا كانوا يمنعون عني مالي على هذا النحو المخزي، وإذا لم يكونوا سيردُّون إليَّ شرفي على أكمل وجه، فلن يمكنَني أن أكون لك يا آنستي. الدنيا كلُّها لا تعتبرني جديرًا بك. من حق الآنسة فون بارنهلم أن تنال رجلًا لا غُبار عليه. إن الحب الذي لا يخشى أن يتعرَّض موضوعه للازدراء، حُب دنيء.»

ويُحيط بالرائد فون تلهايم رجالٌ أوفياء؛ رجلٌ صلب الرأي ضيق الأفق، عنيد، ثائر، متعلِّق بسيده كالكلب المخلِص لا يفارقُه مهما حدث، ورجلٌ شجاع، واسع الحيلة نسبيًّا، يُحب الجندية ولا يعرف له غيرها عملًا، يُضحِّي بماله وحياته من أجل الضابط الذي عمل تحت رئاسته؛ أما الأول فهو «يوست»، وأما الثاني فهو «باول فرنر».

ولنستمع إلى يوست وهو يصوِّر شخصيته، يقول موجِّهًا الحديث إلى سيده فون تلهايم:

«قَبِّحْ فيَّ ما شئت، فلن أتصوَّر نفسي مع هذا أسوأ من كلبي؛ فقد كنت يومًا في الشتاء الماضي أسير ساعةَ الغروب على القناة فسمعتُ أنينًا، فنزلتُ واتجهتُ إلى مصدر الصوت، واعتقدتُ أنني أُوشِك أن أُنقِذ طفلًا، فإذا بي أُخرِج من الماء كلبًا صغيرًا، فقلتُ في نفسي: لا بأس. لكن الكلب ظل يتبع خُطاي، ولست من مُحبِّي الكلاب، فطَردْتُه، لكن طردي لم يُجدِ نفعًا، فانهلتُ على الكلب ضربًا حتى أُبعدَه عني، فلم يُجدِ ضربي شيئًا، فلما جنَّ الليل لم أدَعْه يدخُل حجرتي، فظل على الباب قابعًا عند العتبة. وكان كلما اقترب مني ركلتُه بعيدًا، فيصيح وينظر إليَّ مُلوِّحًا بذنَبه. وبالرغم من أنه لم يكن قد تلقَّى من يدي كِسرةَ خبز، فإنه كان لا يُطيع غيري، ولا يسمح لغيري بلمسه. وكان يقفز أمامي ويعرض عليَّ دون طلب مني أفانينَه. صحيحٌ أنه كلبٌ قبيح ولكنه طيب جدًّا. ولو ظل على هذه الحال فسوف أكُف عن بُغض الكلاب.»

ثم يضيف قوله:

«أنا لا غنى عني لك؛ إنني — دون تمجيد لذاتي، يا سيدي الرائد — خادمٌ إذا تأزمَت الأزمة فوق تأزُّمها يستطيع أن يتسوَّل وأن يسرق من أجل سيده.»

باول فرنر، محاربٌ بروسي حانق لعودة السلام لأن السلام حال بينه وبين القتال، وها هو يبحث عن ميدانٍ جديد:

«ألا تعرف الأمير هيراقليوس؟ الرجل الشجاع الذي اجتاح فارس ويستعد الآن لنسف الباب العالي العثماني في الأيام القادمة؟ الحمد لله أن الحرب ما زالت موجودةً في مكانٍ ما في الأرض، وقد طال الأمد على أملي أن تعود الحربُ إلى الاشتعال هنا؛ فجنودنا يقعدون ويُعالِجون جلودهم. لا، لقد كنت جنديًّا، ولا بُد أن أعود فأصبح جنديًّا.»

وباول فرنر لا يهدأ بالًا منذ علم بمحنة الرائد، ويعمل كل ما في وسعه لمساعدته دون أن يُحِس الرائد أن تلك مساعدة، وقد بلغ تفاني فرنر في حب الرائد أن بدأ يبيع ما لديه ليجمع بعض المال يضعه في يد رئيسه المنكوب، لكن رئيسه يمتنع بإباءٍ وشَممٍ فيقول له:

«لا تريد أن تكون مدينًا لي؟ هذا لو لم تكن قد أصبحتَ مدينًا لي من قبلُ بالفعل، يا سيدي الرائد، أولستَ مدينًا بشيء للرجل الذي صد عنك مرةً ضربةَ سيف كادت تشجُّ رأسك، ومرةً قطع ذراعًا كانت تُوشِك الضغط على زناد بندقية فتنطلق منها رصاصةٌ تستقر في صدرك؟ هل هناك دَينٌ أكبر من هذا يمكن أن تكون مدينًا به لهذا الرجل؟ أو هل رقبتي أقلُّ قيمةً من مالي؟»

الرائد فون تلهايم، ويوست وباول فرنر يقفون في صف، إن صَحَّ هذا التعبير، وفي صَفٍّ أمامهم تقف الآنسةُ مينَّا فون بارنهلهم ووصيفتُها فرنتسيسكا.

مينا بارنهلم من تورنجن في ساكسونيا حيث تمتلك الضِّياعَ الواسعة، تعرَّف الرائد فون تلهايم عليها أثناء عسكرته هناك، فتحوَّلَت إلى حبيبةٍ متيَّمة، فلما انقطعَت أخبار حبيبها ضاقت الدنيا في وجهها، وراحت تبحث عنه، حتى وجدَته. وقد نجح لسينج في تصويرِ مشاعرِ مينا نجاحًا كبيرًا. ها هي مثلًا تُهلِّل لاستعادتها حبيبها: «لقد استعدتُه يا فرنتسيسكا، أترين؟ لقد استعدتُه. لا أعرف من فَرْط الفرحة أين أنا. افرحي معي يا عزيزتي فرنتسيسكا، ولكن، لماذا أنت؟ بل افرحي، عليك أن تفرحي معي. تعالَي، يا عزيزتي، سأقدِّم لك هديةً حتى تستطيعي أن تفرحي معي. تكلَّمي يا فرنتسيسكا، ماذا تُحبين أن أقدِّم لك؟ ماذا يُعجِبك من حاجياتي، ماذا تُحبين؟ خذي ما يحلُو لك، المهم أن تفرحي.»

وتصل في التعبير عن فرحها إلى القمة عندما تقول:

«هل هناك أحبُّ إلى الخالق من التطلُّع إلى مخلوقٍ فرحان؟»

فلما التقت بحبيبها، ابتَعَد عنها حتى لا يؤدِّي بؤسه إلى إتعاسها، ولكن قلبها العامر بالحُب الخالص لم يتزعزع، ولم يخدعه تظاهُر تلهايم بالتنكُّر، فكان حديثها إلى تلهايم:

«صبرًا، أنت ما زلتَ تُحبُّني، هذا يكفيني. ما هذه اللغة التي وقعتُ فيها وأنا أُحادثُك؟ إنها لغةٌ منفِّرة، حزينة، مُعدِية. سأعود إلى لغتي. أي حبيبي التعِس، ما زلتَ تُحبني، وما زالت مينا لك ثم لا تزالُ تعِسًا؟! أي مخلوقٍ موهوم، غريب الأطوار كانت حبيبتُك مينا وما زالت؟ كانت تحلُم، وما زالت تحلُم، بأنها هي سعادتُك كلُّها. أسرِع واطرحْ من جَعبتكَ ما لديكَ من بؤس، حتى يمكنها أن تقارن هذه السعادة بهذا البؤس أيهما يرجح. هه؟»

ومينا تُجيد الحوار حتى إنها توشك أن تقنع الرائد العنيد. ها هي تضحكُ من مُبالغتِه تصويرَ محنته وتهوِّن عليه خَطْبه:

«ولِمَ لا؟ ما اعتراضُك على الضحك؟ ألا يستطيع الإنسان أن يكون جادًّا جدًّا وهو يضحك؟ يا عزيزي الرائد، إن الضحك يُبقي علينا عقلَنا أكثر مما يفعل العُبوس، والدليل ماثل بين أيدينا. صاحبتك الضاحكة تقدِّر الظروف خيرًا منكَ أنت. أنت تُسمِّي نفسك مصابًا في شرفك لأنكَ أُحلتَ إلى الاستيداع، وتُسمِّي نفسك مشوهًا لأنك تلقَّيْتَ رصاصةً في ذراعك. هل هذا صحيح؟ أليست هذه مبالَغة؟»

أما فرنتسيسكا فنموذجٌ للوصيفة اللطيفة النبيهة المُخلِصة التي تعيش أفراحَ سيدتها وأحزانَها، وتقف إلى جوارها بالنصيحة والدهاء والحيلة، وهي من الشخصيات القليلة في الكوميديا التي تُشيع المرح حقيقة. صاحب الفندق يأخذ بيانات عن الآنسة فون بارنهلم ومرافقتها، فيُسمِّي فرنتسيسكا «امرأة خادمة». هنا تثور فرنتسيسكا وتصحِّح الأمر على هواها:

«إذن فاكتب يا سيدي، بدلًا من امرأة خادمة، بنت خادمة؛ فقد سمعتُكَ تقول إن الشرطة دقيقةٌ جدًّا، وربما حدَث سوء فهمٍ قد يؤدي إلى مشاكل عندما أتقدم يومًا بطلَب عَقد قراني؛ فأنا ما زلتُ بنتًا حقًّا وصدقًا، اسمي فرنتسيسكا واسم أبي فيلليج؛ فرنتسيسكا فيلليج. وأنا أيضًا من تورنجن. كان أبي يعمل طحَّانًا في ضَيعةٍ من ضياع الآنسة الكريمة اسمها كلاين-رامسدورف. وقد آلت الطاحونة إلى أخي، والتحقتُ وأنا صغيرة ببلاط الآنسة الكريمة ونشأتُ معها، عُمرُنا واحد، سنبلُغ يوم زفة الشموع القادم الواحد والعشرين. لقد تعلَّمتُ كل ما تعلَّمَتْه الآنسة الكريمة، وأُحب أن تعرفني الشرطة جيدًا.» وتنسج فرنتسيسكا مع فرنر قصة حُب تنتهي بزواجهما.

وقد أبدع لسينج في تطوير شخصية صاحب الفندق وشخصية ريكو. أما صاحب الفندق فرجلٌ لا أخلاق له، بعبد المال ويتجسَّس على أسرار الآخرين، ويتظاهر بأنه ليس كذلك، ويلجأ إلى الحيلة والدهاء والكذب لإظهار الأمور على غير حقيقتها، فهو لا يتورَّع عن إخراج الرائد من حُجرته الجيدة ونقله إلى حُجرةٍ رديئة، ولا يتورَّع عن الادعاء بأن الحجرة الرديئة حجرةٌ جميلة، وأنها تمتاز بكذا وكذا من الصفات التي ليست فيها. وعندما يُحِس أن الرائد ما يزال يحتكم على بعض المال يُقرِّر أن يرشُوَ خادمه يوست بخمرٍ معتَّقة حتى يبقى الرائد في فندقه إلى أن يستنزف ما بقي لديه من مال. أما فضوله وتجسُّسه على نُزلائه فيظهر على أوضحِ صورةٍ في هذا الحوار بينه وبين فرنتسيسكا:

صاحب الفندق : لحظةً واحدة فقط. ألم تأتِ أخبارٌ جديدة من السيد الرائد؟ لا يمكن أن يكون ما حدَث هو الوداع.
فرنتسيسكا : ماذا؟
صاحب الفندق : ألم تقُصَّ عليكِ الآنسة الكريمة ما حدث؟ عندما تَركتُكِ في المطبخ، أتيتُ بالمصادفة إلى هنا، إلى هذه القاعة.
فرنتسيسكا : بالمصادفة؟! بل كنتَ تنوي التنصُّت.
صاحب الفندق : آه بُنيتي كيف تظُنين بي هذا الظن؟ لا يعيبُ صاحبَ الفندق عيبٌ أكثر من الفضول.

ويسترسل صاحب الفندق في رواية ما دار بين الرائد وبين الآنسة مينَّا فون بارنهلم، وكيف أنه لم يفهم المعنى الحقيقي لِما رأى، ثم يقول: «إنني مستعدٌّ لدفع أي شيء — وأنا ليست فضوليًّا — ولكني مستعدٌّ لدفع أي شيء، إذا أمكنَني الحصول على المفتاح؛ أعني الحصول على تفسير ما حدث.»

أما الشخصية الثانوية الأخيرة التي نريد التعرُّض لها في ختام هذه المقدمة، فشخصية ريكو. يسمِّيه لسينج «سينيور دي بريتو فول، دي لا برانش دي برنسدور» يعني «المتأهب للسرقة، من فرع لصوص الذهب»! مغامرٌ محتال يتظاهر بأنه صديقٌ للأمراء والوزراء وذوي النفوذ، وأنه يُدعى إلى موائدهم، ثم لا يتردَّد — عندما يرى بريقَ أموالِ الآنسة فون بارنهلم — في مدِّ يده والتسوُّل. يحكي للآنسة عن علاقته المدَّعاة بوزير الحربية:

«تذكَّرت. وزير الحربية. تناولتُ الغذاء — وأنا أتناول غذائي عادةً على مائدته — وجاءت سيرة الرائد تلهايم، فقال الوزير بيني وبينه؛ لأن سيادته من أصدقائي ولا يُخفي عليَّ شيئًا؛ أقصد أن صاحب السعادة أبلغَني أن قضية الرائد تُوشِك على الانتهاء، وعلى الانتهاء إلى نهايةٍ طيبة.»

ثم يحدِّث الآنسة عن نفسه:

«تُدهَشين يا صاحبة العصمة لأني أنحدر من عائلةٍ عظيمة، عظيمة إلى هذه الدرجة، عائلة يجري الدم الملكي في عروقها. لكن الحق ينبغي أن يُقال: أنا بلا شك أكثرُ أبناء العائلة ارتماءً في طريق المغامرة والمخاطرة.»

ثم يتحوَّل إلى التسوُّل:

«فماذا أملِكُ الآن؟ لنستعمل العبارة الصحيحة: لا أملك شَروَى نقير، وها أنا ذا اليومَ خاوي الوِفاض.»

فتَعرِضُ عليه الآنسة مالًا فيقبله فورًا، ويشرحُ لها أنه سيستخدمه في لعب القمار ليكسب نظرًا لأنه يعبُد الغِش، فتُنكِر عليه ذلك، فيقول:

«كيف هذا يا مدموازيل؟ تُسمِّين هذا غشًّا؟ إصلاح ما أفسده الحظ، التحكُّم في الحظ، التأكُّد من اللعبة، هذا ما يسمِّيه الألمان غشًّا؟ غِش؟ آه، يا لفقر اللغة الألمانية ويا لسذاجتها!»

•••

وبعدُ، فهذه دُرَّة مؤلفات لسينج المسرحية نقدِّمها إلى القارئ العربي الكريم، ولا نجد ما نختمُ هذه المقدمة خيرًا من رثاء جوته وشيلر للسينج:

«كنا في حياتك، نُمجِّدكَ كما تُمَجَّدُ الآلهة، وها هي روحك، في مماتِك، تسُودُ فوق الأرواح.»

مصطفى ماهر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤