الفصل السبعون

العلم

وكان الحسين بعد ذهاب لمياء قد أحس بشيء أذكره حبيبتَه فلم تعد تذهب صورتُها من ذهنه وهو لا يدري السبب الذي بعث على ذلك. ولكن السبب أن صوتها وهي تخاطبُهُ لم يَخْلُ من غنة تَعَوَّدَ قلبُهُ أن يطرب لها يوم اجتماعه بها فطرب لها الآن وهو لا يعلم أن مخاطبته خطيبته — وكثيرًا ما يحدث ذلك والناس لا ينتبهون له — قد يخطر لك أمر يتردد في ذهنك وأنت لا ترى باعثًا على تَذَكُّرِهِ. وإنما تذكرته؛ لأنك رأيت أو سمعت شيئًا تعودت أن تراه أو تسمعه مرافقًا لذلك الأمر.

قضى الحُسينُ ليلتَه وهو يفكر في لمياء وأين هي، وتذكر قولها يوم وداعه أنها ستُلاقيه في الفُسطاط وتصور تَحَمُّسَها ووثوقها بالظفر من ذلك الحين. فاختلج قلبُهُ وأَحَسَّ بشوقٍ إلى رؤيتها أو معرفة خبرها ولم يكن نَسِيَها من قبل لكنه تذكرها على الخُصُوص في ذلك اليوم.

مضت أيامٌ ولم ترجع لمياء بالجواب من جوهر فقلقت بنت الإخشيد وهي في كل يوم يترجَّحُ عندها النصر للفاطميين فأصبحتْ تخاف على حياتها وإنما طمأنها كونُ الحسين بن جوهر أسيرًا عندها تحتمي به عند الحاجة ولما اشتد قلقها بعثت إليه فجاءها فسألته عما يراه من أمر تلك الحرب.

فقال: «لا ريب عندي بفوز جندنا يا سيدتي.»

قالت: «عَجَبًا … كيف تؤكد ذلك؟»

قال: «لأننا متحدون قلبًا وقالبًا في خدمة أمير المؤمنين نساءً ورجالًا ليس فينا إلا من يفدي أمير المؤمنين بروحه فهل أنتم كذلك؟»

فقالت وقد غلبت على عواطفها «لا يا بني … لسنا كذلك لسوء الحظ …» وغصت بريقها.

قال: أما نحن فإن أحدنا لا هم له إلا التفاني في نصرة الخليفة. أضرب لك مثلًا عن ذلك فتاة خطبتها في القيروان وجاء ذكر الحملة على مصر فأبت أن يتم الاقتران إلا في الفسطاط بعد فتحها. ثم هي هجرت بيتها وسافرت في خدمة مصلحة الدولة تمهيدًا لهذا النصر لا يعلم أحد أين هي. ولا أنسى قولها ساعة الوداع: «سنلتقي في الفسطاط في قصر مولاي المعز لدين الله على ضفاف النيل. ذلك هو مقدار وثوقها بالنصر والجند لم يتحرك من القيروان. واعترف لك يا سيدتي أني أعتقد صحة قولها وإن ذلك لا بد من إتمامه.»

فاستغربت بنت الإخشيد قوله وقالت: «لله درها من فتاة نادرة المثال وأين هي الآن؟ وكيف قلبك عليها؟»

قال: «قلبي على مثل الجمر ولكنني أثق أننا سنلتقي هنا.»

قالت: «يظهرُ أن نساء بلادكم أقوى من نساء بلادنا وأشد حماسة؛ فإني عرفت جارية مغربية أهداها إليَّ يعقوب بن كلس بالأمس لم تر عيني أَعْقَلَ منها ولا أَطْيَبَ من قلبها، وهي مع ذلك شجاعةٌ باسلةٌ لا تبالي بارتكاب الأخطار وقد قالت إنها تعرفُك وتعرف أباك والخليفة وتعرف أيضًا الأميرين السجلماسيين اللذَين حملاك إلينا أسيرًا.»

قال: «ما اسمها.»

قالت: «سلامة …»

قال: «هي التي أتتني متنكرة بثوب جندي وأخذت الكتاب إلى والدي.»

قالت: «نعم هي بعينها لله درها … إني لم أعهد مثل هذه الحماسة والبسالة في النساء حتى قلت لها مرة: ليست هذه الأخلاق من أخلاق الجواري.»

فرأى الحسين مشابهة بين أخلاق لمياء وما سمعه عن سلامة وتذكر خُرُوجَ لمياء من القيروان لخدمة المعز … فأطرق وهو يقول في نفسه: «هل يُمكن أن تكون سلامة هي لمياء متنكرة؟»

واستبطأتْ بنتُ الإخشيد جوابَه ورأتْ إطراقه فتصورتْ أنها جددتْ ذكرى خطيبته وهو بعيد عنها فلم ترد أن تشغله عن تأملاته فحولت بصرها نحو النافذة المطلة على النيل والجيزة وراءه فرأت الروضة تعج عجيجًا بالناس وفيهم الفرسان بالرماح والسيوف والمشاة بالحراب في غير زي المصريين وقد تطايرت السهام وأبرقت السيوف فصاحت: «ويلاه هذه هي الحرب … قد دخل العدو بلدنا.»

فالتفت الحسين إلى الروضة وأجال نظره في تلك الجهات فقال: «قضي الأمر يا مولاتي هذا جندنا يقطع الجسر وهذه أعلامنا ولا يلبث أن يدخل الجند الفسطاط ظافرًا … لكن كوني مطمئنة أني أفديكم بدمي ها أني نازل لأقف بالباب وأمنع رجالنا من دخوله طمئني أهل القصر جميعًا.» قال ذلك وأسرع نحو الباب الخارجي الكبير وكان مقفلًا وقد أوصدوه. فرأى جنديًّا مغربيًّا يتسلقه وخدم القصر يستغيثون به ويتقدمون إليه أن لا يفعل؛ لأنهم لا يحاربون وهو لا يبالي، فصاح فيه الحسين: «أنزل يا رجل إن الذي يخاطبك هو الحسين بن جوهر.»

فلم يكترث الجندي لقوله بل ظل في عمله حتى وصل إلى عتبة الباب العليا فاستخرج من جيبه علمًا أخضر نصبه فوقها، وتحول إلى الداخل، وأشار إلى أهل القصر أن يتركوا الباب مقفلًا. فنظر الحسين في وجهه فرآه ملثمًا فقال له: «من أنت يا رجل؟ لماذا لم تجبني.»

فأومأ إليه بوضع السبابة على شفته: «أن اسكت الآن.» ودخل مسرعًا فتذكر الحسينُ الجارية سلامة كيف تركته متنكرة بثوب جندي مصري وما خامره من الشك فيها عند سماع خبرها من بنت الإخشيد. فأصبح شديدَ الميل إلى تحقيق ذلك، فلحق بها ولم ينتبه له أحدٌ من أهل القصر؛ لاشتغالهم بالحذر والخوف وبما قام من الضوضاء في المدينة بين عويل وصياح.

ودخول ذلك الجندي المغربي أرعبهم لكنهم ما لبثوا أن رأوه ينصب الراية الخضراء حتى اطمئنوا ولكن الذين رأوه داخلًا يعدو ولم يروا الراية؛ ذعروا.

أما الحسين فما زال مسرعًا حتى دخل القاعة وطلب إلى الحاجب أن يدعو له السيدة بنت الإخشيد، فناداها فأتت ولم ترسل الستر بينها وبينه وإنما اكتفت بالنقاب وحالما وقع نظره عليها استغرب ما عليها من الأثواب الثمينة والحلي وهو يسمع بما عليه أهل مصر من الضنك. أما هي فحالما رأته صاحت: «ماذا جرى؟»

قال: «كل شيء في أمان وهذا علم والدي قد نُصب فوق الباب وهو علامةُ الأمان فلا يجسر أحد أن يمس هذه الدار بسوء، كوني في اطمئنان.»

قالت: «ومن غرسه هناك.»

قال: «جندي مغربي أظنه نفس الجندي الذي حمل رسالتي إلى والدي وقد أسرعت لأراه …»

قال: «أتظن سلامة رجعت؟ أين هي …» وصفقت فأتت القهرمانة وهي تلهث من الخوف فضحكت بنت الإخشيد من منظرها وقالت لها: «ما بالك يا خالة لماذا تلهثين؟»

قالت وهي تقطع صوتها: «إن الأعداء دخلوا … الفسطاط … و… و… دخل رجل منهم هذه الدار …»

قالت: «لا تخافي إن هذا الجندي جاءنا بعلم الأمان من قائد جند المغاربة. كوني مطمئنة لا بأس علينا. وهذا الحسين بن ذلك القائد … أين سلامة الجارية.»

قالت: «لم أعد أراها منذ أيام.»

قالت: «ابحثي عنها في غرفتها الآن وادعيها إلينا حالًا.»

وقعدت وأشارت إلى الحسين أن يقعد فقعد وعيناه شائعتان نحو الباب ينتظر وُصُول تلك الجارية ولحظت بنتُ الإخشيد قلقه فقالت: «ما لي أراك قلقًا كأنك تنتظر أن تأتيك سلامة بكتاب من والدك؟»

قال: «كلا، فإن هذا العلم يكفي جوابًا … ولكنني أتوقع أن تكون سلامة هذه غير ما تتوهمينها.»

قالت: «وكيف ذلك؟»

قال: «تمهلي ريثما نرى.»

وإذ بالقهرمانة عادتْ وهي تقول: «لم أجد سلامة هناك ولكنني رأيتُ جنديًّا فخفت ورجعت.»

فنهض الحسين وقال: «أين هو ذلك الجندي؟ أوصليني إليه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤