سالم جبر

عرفت اسم سالم جبر ككاتب مقال بجريدة كوكب الشرق عام ١٩٢٦، كان بدر الزيادي أول من نوَّه به أمامي فوصف كتابته بالبلاغة والفائدة، ووجدته داعيًا مُتحَمِّسًا للحضارة، والاستقلال الاقتصادي وتحرير المرأة، كما دعا إلى اتخاذ القبَّعة غطاء للرأس بدلًا من الطربوش. وكان حقوقيًّا ولكنه لم يشتغل بالقانون، وكان يقوم بجولة ثقافية في إنجلترا وفرنسا كل عام تقريبًا، ولمَّا قامت ثورة ١٩١٩ اشترك فيها ضمن طلبة مدرسة الحقوق، وأُصيب برصاصة في كتفه يوم الهجوم على الأزهر، ثم عمل في الصحافة الوفدية، وظل يعمل في الصحافة حتى اليوم. وتغيَّر موقفه السياسي بعض الشيء منذ تولي سعد زغلول الوزارة عام ١٩٢٤، وقد قال لي يومًا بعد أن جمعتنا صداقة متينة ملقيًا ضوءًا على تلك الفترة من حياته: كان من رأيي ألا يتولى سعد زغلول الوزارة، وأن يظل الوفد وراءه في الميدان الشعبي حتى تتحقق رسالة الوفد الوطنية.

فسألته: خرجت وقتذاك على الوفد؟

– كلَّا، ولكن تحوَّل اهتمامي الحقيقي إلى ناحية أخرى.

أجل، تحوَّل إلى اعتناق الشيوعية، وعُرف بذلك منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، ولم ينسَ أنه صحفي في جريدة الوفد، فتجنَّب مناقشة الموضوعات الجديرة بإحراج الزعيم، واختطَّ لنفسه منهجًا خاصًّا في الكتابة ينفِّس به عن عقيدته الجديدة بطريق غير مباشر، ولا يتنافى في مظهره مع سياسة الوفد، فراح يدعو إلى حرية المرأة والعلم والصناعة. وتقدَّم خطوة أخرى فألَّف رسالة في المذاهب الاقتصادية مؤرِّخًا ضمنًا للاشتراكية! وحوالي عام ١٩٣٠ أصدر رسالته الثانية عن «كارل ماركس ورسالته» وسرعان ما صادرتها السلطة، وتعرَّض بسببها لحملة عاتية من الجهات المحافظة التي اتهمته بالإلحاد والفوضوية. تعرَّفت به وأنا طالب بالجامعة في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم بالمنيرة، وكنا نلتقي كثيرًا بالصالون أو في مكتبه بالجريدة.

وقدَّمت إليه من زملائي رضا حمادة، وجعفر خليل، وكنا نتحادث في السياسة والاشتراكية، ولم نفتح صدورنا لما قال عن صراع الطبقات ودكتاتورية الطبقة العاملة، وقلتُ له: اشتراكية تجيء عن طريق البرلمان، هذا ما أحلم به!

فقال مُتحديًا أفكاري: أنا عَدُوٌّ للوفد!

– أنت تقول ذلك؟

– ونصير للملك وأحزاب الأقلية.

فضحكت غير مصدق فقال: الوفد أفيون الشعب!

ثم وهو يضرب مكتبه بقبضة يده: الوفد هو المسئول عن استسلام الشعب لأحلام لن تتحقق أبدًا، وسيعجز دائمًا عن تقديم أي خدمة حقيقية للشعب، أمَّا إذا سيطر الملك وأحزابه، واستشرى الفساد واستوطن، يئس الشعب وتوثب لثورة حقيقية!

فسألته: وما جدوى ذلك والإنجليز يكتمون أنفاسنا؟

– توقَّع المعجزات عند اليأس.

وآنس الدكتور إبراهيم عقل مني ميلًا لترديد بعض آراء سالم جبر فقال لي: احذر فلسفة سالم جبر الكاذبة!

فأخذت بموقفه وقلتُ له: الحق أنِّي أول ما سمعتُ عنكم كان لدى قراءة مقال له يدافع فيه عنكم!

فقال ساخرًا: لم يكن دفاعًا، ولكن كان إحراجًا فهو لا يرضى عن مُفكِّر إلا إذا أشهر إلحاده أو فوضويته.

وكان ذلك بحضور الأستاذ عباس فوزي بصالون المنير.

فقال عبَّاس منضمًا للأقوى كعادته: إنه رجل فاجر ومن آي ذلك أنه لا يؤمن بالزواج!

فقلت بدهشة: ولكنه متزوج، وقدَّمني للمدام في حديقة الأورمان!

فقال عباس فوزي ضاحكًا: إنها عشيقته، وهي أرملة فرنسية، فكيف تجهل ذلك؟

وتوكَّد لي أنها عشيقته بعد ذلك، وظل مخلصًا لها حتى توفيت عام ١٩٦٠. وروى لي حكاية غرامهما الأستاذ عبد الرحمن شعبان المُترجم فقال: إنَّ المرأة كانت زوجة لمهندس في شركة الكهرباء، وإنَّها أحبت سالم جبر في حياة زوجها، فلمَّا توفي اتفقا على المعاشرة دون زواج. وكانت امرأة حرة وشيوعية مثله، أملاكها في مصر ولكنَّها تحب السفر كثيرًا إلى فرنسا، وتكره فكرة الإنجاب.

وألَّف سالم جبر كتابًا عن الدين المقارن قبيل الحرب العظمى الثانية، عرض فيه الأديان بأسلوب علمي موضوعي، فأثار الكتاب ضجَّة، واتُّهم صاحبه بالافتراء على الدين الإسلامي، ومن أجل ذلك قُدِّم الأستاذ إلى المحاكمة، ولكنَّ المحكمة برَّأته وصادرت الكتاب. وفي أثناء الحرب شنَّ حملات صادقة على النازية والفاشستية كان لها صدًى حسن في دار السفير البريطاني.

ودُعي لإلقاء محاضرات أسبوعية في الإذاعة، وقلت له بمكتبه بجريدة المصري: يقولون إنك أصبحت من أصدقاء السفارة البريطانية.

فقال ساخرًا: لا عداوة تدوم ولا صداقة، أعترف بأنَّني في هذه الحرب حليف للإنجليز!

فقلتُ له: يبدو أنَّ نجمهم آخذ في الأفول!

فقال بحدَّة: لا خوف من انتصار النازِيَّة حتى إذا انتصرت، فإنَّ للتاريخ قوانينه وهي أقوى من الحرب والنصر.

ولمَّا جاءت حكومة الوفد عمل معها بإخلاص كشأنه قبل أن يتولى سعد زغلول وزارته، ولمَّا زحفت جيوش رومل نحو الحدود المصريَّة هرب مع الهاربين إلى السودان. ثمَّ رجع عقب انقلاب الميزان ليواصل جهاده الصحفي. وأذكر أنَّه جلس بيني وبين رضا حمادة في مأتم المرحوم جعفر خليل عام ١٩٥٠ فحدَّثنا عن أفراح الوطن بعودة الوفد ولكنه قال: لم يعد بوسع حزب من الأحزاب مهما تكن شعبيته أن يواجه الموقف.

وتكلم عن الولايات المتحدة باعتبارها روح الشر في العالم، قال: لا نجاة للعالم إلا بالشيوعية العالمية.

ولمَّا انصرف قال لي رضا حمادة: لا يوجد إنسان كهذا الرَّجل يُجمع الكل على بغضه!

فقلت بصدق: ولكنَّه رجل ذو عقيدة ومنزه عن الأغراض.

ولمَّا قامت ثورة يوليو ١٩٥٢ تكشَّف ذلك البناء المنطقي المنسجم مع ذاته عن تناقضات كالخيال في غرابتها، وهو في الظاهر لعب الدور المنتظر منه. كان حقيقة فكرية واضحة للصديق والعدو، عمل في جريدة الثورة واضعًا قلمه في خدمتها، ولكنه تكشف لخاصته المقربين عن حزمة من المتناقضات جعلت منه في النهاية شخصًا مجهول الهوية، تحمَّس لإلغاء النظام الملكي تحمُّسًا لا مزيد عليه واعتبره مُعجزة من المعجزات، ولكنه همس في فتور: ذهب الملك وحل محله عدد غير محدود من الملوك!

وفرح بالقضاء على الإقطاع وتحديد الملكية الزراعية ولكنه قال: المسألة هي ملكية أو لا ملكية، أما توزيع الأرض على الفلاحين فمن شأنه أن يقوي غريزة الملكية المتوارثة من عصور الظلام!

ولمَّا حُلت الأحزاب التي طالما حمل عليها، حزِن على الوفد حُزنًا غير مفهوم وقال: وكيف تمضي البلاد بلا قاعدة شعبية؟!

وقال أيضًا: التضحية بالحرية فعل مؤقت معقول من أجل الشيوعية، ولكننا نسير بلا حرية ولا شيوعية!

ولمَّا حاربت الحكومة الشيوعيين والإخوان المسلمين قال: ها هم يقضون على القوى الإيجابية في الأمة؛ فلا شيوعية، ولا إخوانية، ولا أحزاب، فعلى من يعتمدون في تحقيق سياستهم؟ ولم يبقَ إلا الموظفون المأجورون، وسيقيمون بنيانهم على قوائم من قش.

حتى الشيوعيُّون أنفسهم لم يكونوا بأحظى عنده من غيرهم، وما نالوا عطفه إلا في فترات الاعتقال أو السجن، وسرعان ما يرميهم بالتفسخ والانحلال والسقوط، واقتنعت أخيرًا بأنه شخص غريب خُلق ليكون معارضًا، حبًّا في المعارضة قبل كل شيء، فإذا كانت الدولة إقطاعية فهو شيوعي، وإن تكن يسارية فهو محافظ، أجل محافظ! فعندما ساند الاتحاد السوفييتي الثورة، وعاونها في الحرب والسلام، سمعت منه ما لم يجرِ على بالٍ، قال مرة والحنق يلتهم قلبه: الشيوعيَّة نظام عظيم حقًّا ولكن ما هو الإنسان الشيوعي؟ .. هو شيء ميكانيكي لا إنسان حي!

وبغير حياء سألني مرَّة: لِمَ يود الناس أن يهاجروا إلى الولايات المُتَّحدة؟

فأجبت بسخرية واضحة: لأنَّهم يجدون هناك الخبز والحرية!

فقال بامتعاض: لا قيمة للحياة بلا حرية فلا تكن مُتعصبًا.

فقلت وأنا أضحك: أنت الذي علمتني ذلك!

فقال بمزيد من الامتعاض: مُتنا .. متنا .. فمتى نُبعث؟

وقلت له بشيء من الصراحة: أحيانًا يتعذر فهمك.

فقال بحدة: أنا واضح كالشمس ولكنكم اعتدتم الشروح المطولة والهوامش وهوامش الهوامش!

وقد علمت بوفاة صديقته الفرنسية عرضًا في بار الأنجلو، بعد مرور أيَّام على وفاتها، فبادرت إلى زيارة مسكنه بشارع قصر النيل، ولكني وجدته مغلقًا لا يرد، ولم أجده بمكتبه بالجريدة كذلك، ثم تبين أنَّه سافر عقب دفنها إلى أسوان، فخلا إلى نفسه شهرًا كاملًا. ولما قابلته بعد ذلك وجدته يُمارس حياته بنشاطه المعهود، ولكن مسحة من الكآبة طبعت وجهه بطابعها، فلم تفارقه دهرًا طويلًا، ولم يكن يحبُّ الخوض في شئونه الخاصة، فلم يُحدثني بكلمة واحدة عن حُبِّه أو أسرته أو طفولته، وكأنَّه إنسان عام فحسب، عام في الظاهر والباطن، في الحضور والغياب، وسألته مرة: ألم تأسف مرَّة على أنك لم تتزوج ولم تنجب؟

فأجاب بسخرية: الندم عادة دينيَّة سخيفة.

ولكني شعرت — إن صدقًا وإن وهمًا — بأنه يُعاني مرارة الوحدة في الشيخوخة، وحفلت تلك الفترة من حياته بالمناقشات الحادة التي بلغت في أحايين كثيرة حد المصارحة الجارحة في مخاطبة أصدقائه. قال مرة لرضا حمادة: عليك أن تعترف بأنك رجعيٌّ ترسب في مجرى الزمن.

وقال مرة أخرى للدكتور زهير كامل: أنت لا تنقد ولكنَّك تقتل القِيم.

وسأله جاد أبو العلا عن رأيه في أدبه فأجابه على مسمع منا: من الخير لك أن تُوفِّر وقتك لتجارة التحف!

وكان من بين الذين سُروا في أعماقهم بالكارثة التي حَلَّت بالوطن في ٥ يونيو ١٩٦٧! وهو موقف غريب، ولكن تبناه جميع أعداء الثورة، وشاركهم فيه ذلك الرجل الشاذ الذي خُلق ليعارض الدولة، وليقف منها موقف النقيض دائمًا وأبدًا. قال مُنَفِّسًا عن حقده: ما جدوى أن نتحرر من طبقة لنقع في قبضة الدولة الفولاذية؟ السلطة الحاكمة أثقل من الطبقة، أثقل من الشيطان نفسه!

ولكنَّ الثورة لم تتلاشَ، بل مضت تُضَمِّد جراحها، وتُجدد حيويتها وتتأهب لمعركة جديدة. ومضى هو يحنق من جديد ويتمزق بين المتناقضات، وإن حافظ في الظاهر على شخصيته التي عُرف بها منذ عام ١٩٢٤ وإن ظلَّ قلمًا أمينًا من أقلام الثورة. ورغم بلوغه السبعين من عمره، ورغم وحدته وخلوه من روح الدعابة، فهو يتمتع بصحة جيدة ونشاط موفور، ولعله المصري الوحيد من معارفي الذي لم أسمعه يمزح أو يُنكِّت أبدًا، ولا عرفت له هواية فنية، حتى الغناء لا يتذوقه، والأدب النادر الذي يطَّلع عليه يقرؤه قراءة سياسِيَّة خاصة كأنه خَلْق شاذ مقطوع الصلة بالإمتاع والجمال. وركَّز في الأيام الأخيرة على الإيمان بالعلم، إيمانًا نسخ إيمانه القديم بالأيديولوجية، ويتساءل مرارًا: متى يحكم العِلْم؟ .. متى يحكم العلماء؟!

هذه هي آخر هتافاته، وهي خليقة بإشباع معارضته الأزلية لجميع أنواع الدول، حتى قال رضا حمادة: إنه رجل مجنون، هذه هي الحقيقة!

فقلت: وثمة حقيقة أخرى وهي أنَّ أقواله التي تَنكَّر لها خَلقت في أجيال أثرًا لا يُمحى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤