الوطن

الحياة والموت، الحُلم واليقَظة، محطَّات للرُّوح الحائر يَقطعها مرحلةً بعد مرحلة، مُتلقِّيًا من الأشياء إشاراتٍ وغمزات، مُتخبِّطًا في بحر الظلمات، مُتشبِّثًا في عنادٍ بأملٍ يَتجدَّد باسمًا في غموض. عمَّ تبحث أيها الرحَّالة؟ أي العواطف يَجيش بها صدرك؟ كيف تَسُوس غرائزَك وشطحاتك؟ لِم تُقهقه ضاحكًا كالفُرسان؟ ولِم تَذرف الدَّمع كالأطفال؟ وتشهَد مَسرَّات الأعياد الرَّاقصة، وترى سيف الجلَّاد وهو يضرب الأعناق، وكلُّ فعلٍ جميلٍ أو قبيحٍ يستهلُّ باسم الله الرحمن الرَّحيم. وتستأثر بوجدانك ظلالٌ بارعةٌ براعةَ الساحر مثل الأمِّ والمُعلِّم والحبيبة والحاجب. ظلال لا تصمد لرياح الزمن ولكنَّ أسماءها تبقى مكلَّلة بالخلود. ومهما نبا بي المكان فسوف يظلُّ يقطر أُلْفةً، ويُسدِي ذكرياتٍ لا تُنسَى، ويحفِر أثرَه في شَغاف القلب باسم الوطن، سأعشق ما حييتُ نفثاتِ العطَّارين، والمآذن والقِباب، والوجه الصبيح يُضيء الزقاق، وبغال الحكم وأقدام الحفاة، وأناشيد الممسوسين وأنغام الرباب، والجياد الرَّاقصة، وأشجار اللَّبْلاب، ونَوح اليمام، وهديل الحمام، وتُحدِّثني أمي فتقول: يوم مولدك.

وتهزُّ رأسها جميل التكوين فأقول بحبور: بل يومك هو الأصل.

كان أبي محمد العنَّابي تاجر غلال مُترَعًا بالثراء، أنجب سبعة تجار مرموقين، وعُمِّر حتى جاوزَ الثَّمانين مُتمتِّعًا بالصحة والعافية، وفي الثمانين رأى أمي الجميلة فطُّومة الأزهري، وهي بنت سبعة عشر، آخر عنقود جزار يُدعى الأزهري قطائف فغزَت قلبه وتزوَّج منها وأقام معها في دارٍ رحيبة اشتراها باسمها مُحدِثًا في أسرته غضبًا وشغبًا. اعتبر إخوتي الزواج لُعبة قذرة غير مشروعة، واستعانوا على أبيهم بشفاعة القاضي وكبير التجار، ولكنه مرق من قبضتهم مروقَ عاشقٍ مسلوبِ الإرادة، فاعتدَّ الزواجَ حقًّا لا يقبل المناقشة، وفارِقَ السنِّ وهمًا يتعلَّل به المُغرضون، وراح ينهل من مَعينِ سعادته بقلبٍ مليءٍ بالثقة.

– وجاء مولدك مُؤكِّدًا للهزيمة مُجدِّدًا للغضب.

وأقول لها كثيرًا: لا حدَّ لطمَع الإنسان.

فمنذ حداثتي وأنا أتلقَّى أجملَ الكلمات رغم ارتطامي بأقبح الفِعال، وسمَّاني أبي «قنديل» ولكن إخوتي أطلقوا عليَّ «ابن فطومة» تبرُّؤًا من قرابتي وتشكيكًا فيها. ومات أبي قبل أن يطبع صورته في وعيي تاركًا لنا ثروةً نضمن حياة رغدة حتى آخر العمر. وقطعتِ الخصومة ما بيننا وبين إخوتي. وخافتهم أمي على نفسها وعليَّ؛ فأحاطت بها الوساوس والظنون حتى قرَّرَت ألَّا تُرسلني إلى الكتَّاب، فعهِدَت بي إلى الشيخ مغاغة الجبيلي — وكان جارًا لأسرتها — ليُلقِّنني العِلم في داري. وعنه تلقَّيت دروسًا في القرآن والحديث واللغة والحساب والأدب والفقه والتصوُّف والرحلات. كان في الأربعين، قويًّا مهيبًا، ذا لحيةٍ رشيقةٍ وعِمامةٍ عالية، وجُبَّةٍ أنيقةٍ، وعينين لامعتين ثاقبتَي النظرة، يمدُّ صوته المليء عند إلقاء الدرس، ويُرسِله على مهل وهدوء، ويذلِّل الصعب بجودة الشرح ورِقَّة الابتسامة. وكانت أُمِّي تتابع الدروس باهتمام مُستفيدةً من فراغها الطويل، تُنصت من وراء سِتارٍ ونحن في القاعة شتاءً، ومن وراء خَصاص، ونحن في السلاملك في بقيَّة الفصول. وكانت تقول لي: أراك سعيدًا بمُعلِّمك، وهذا حظٌّ حسَن.

فأقول لها بحماس: إنه شيخ عظيم.

وكان يُخصِّص وقتًا للمناقشة، فيطرح ما يرى من أسئلة، ولكنه يدعوني لإعلان خواطري، ويُعاملني مُعاملة الرَّاشدين.

ويومًا — لا أذكر في أي فترة من العمر — سألتُه: إذا كان الإسلام كما تقول فلماذا تزدحم الطرقات بالفقراء والجهلاء؟

فأجابني بأسًى: الإسلام اليوم قابع في الجوامع لا يتعدَّاها إلى الخارج.

ويفيض في الحديث فيُلهِب الأوضاع بنيرانه .. حتى الوالي لا يسلَم من شرره. وقلت له: إذن إبليس هو الذي يُهيمِن علينا لا الوحي.

فقال برضًا: أُهنِّئك على قولك، إنه أكبر من سِنَّك.

– والعمل يا سيدنا الشيخ؟

فقال بهدوء: أنت ذكي، وكل آتٍ قريب.

أمَّا حديثه عن الرحلات فمثارٌ للعشق والسرور. وتكشَّف في مجرى حديثه عن رَحَّالةٍ قديم. قال: عرَفتُ الرحلات في صحبة المرحوم أبي، فطوَّفنا بالمَشرِق والمغرب.

فأقول بلهفة: حدِّثني عن مشاهداتك يا سيدنا.

فحدَّثني بسخاء حتى عايشتُ بخيالي ديار المسلمين المُترامية، وتبدَّى لي وطني نجمًا في سماء مكتظة بالنجوم. وقال: ولكن الجديد حقًّا لن تعثر عليه في ديار الإسلام.

وتتساءل عيناي عن السبب فيقول: جميعها مُتقاربة في الأحوال والمشارب والطقوس، بعيدة كلُّها عن روح الإسلام الحقيقي، ولكنك تكتشف ديارًا جديدة وغريبة في الصَّحْراء الجنوبية.

أثار أشواقي لدرجة الاشتعال ثم قال: قمتُ بتلك الرحلة وحدي عَقِب وفاة أبي، فزرتُ ديار المشرق والحيرة والحلبة، ولولا الظروف المُعانِدة لَزرتُ الأمان والغُروب والجبل، ولكن القافلة وقفَت عند الحلبة بسبب قيام حرب أهليَّة في دار الأمان.

ويحدِجني بنظرة غريبة ثم يقول: وهي ديار وثنيَّة.

فهتفتُ: أعوذ بالله!

– ولكن الغريب لا يلقى فيها أو في الطريق إليها إلا الأمن لحاجتها المُلِحَّة إلى التجارة والسياحة.

فهتفتُ مرَّة أخرى: ولكنها ملعونة!

فقال بهدوء: لا حرَجَ على المشاهد.

– ولِمَ لمْ تُعاود الكرَّة؟

– ظروف الحياة والأسرة أنسَتني أهمَّ هدفٍ من الرحلة وهو زيارة دار الجبل.

فسألته بشغف: وما خطورة دار الجبل؟

فقال مُتنهِّدًا: تسمع عنها الكثير، كأنها معجزة البلاد، وكأنها الكمال الذي ليس بعده كمال.

– لا شك أنَّ كثيرين من الرحَّالة قد كتبوا عنها.

فقال بنبرة لم تخلُ من أسًى: لم أُصادف في حياتي آدميًّا ممن زاروها، ولا وجدتُ كتابًا عنها أو مخطوطًا.

فقلتُ بضيق: إنه أمرٌ عجيبٌ لا يُصدَّق.

فقال بكآبة: إنها سِرٌّ مُغلَق.

وكأيِّ سرٍّ مُغلَق شدَّني إلى حافَّته، وغاص بي في ظلماته، وضرَّم النَّار في خيالي، وكلما ساءني قولٌ أو فِعلٌ رَفَّت روحي حول دار الجبل، وراح الشيخ مغاغة الجبيلي يُنوِّر عقلي وروحي ويُبدِّد الظلام من حولي، ويُوجِّه أشواقي إلى أنبل ما في الحياة. وسعِدَت أُمي بما أكتسبه يومًا بعد يوم، وشاركت في تكويني بحبها وجمالها. متوسطة الطول كانت، رشيقة العود، تنضح بشَرتها بالبياض والصفاء والملاحة. ولم تتردَّد مرَّة في إعلان إعجابها بجمالي، ولكنها قالت لي بنفس الصراحة: كلامك كثيرًا ما يُكدِّر صفوي.

وتساءلتُ عن السبب فقالت: كأنك لا ترى إلا الجانب القبيح من الحياة.

ولم تكن تُنكِر أقوالي أو ترى فيها مبالغة، ولكنها أفصحت عن إيمانها قائلة: الله صانعُ كلِّ شيء، وله في كل شيء حكمة.

فقلتُ مندفعًا: ساءني الظلم والفقر والجهل.

فقالت بإصرار: الله يُطالبنا بالرِّضا في جميع الأحوال.

وطرحتُ الموضوع للمناقشة مع الشيخ، ولكن موقفه كان واضحًا تمامًا؛ فهو يؤمن بالعقل وحرية الاختيار، ولكنه همَس في أُذني برقة: تجنَّبْ إزعاج والدتك.

وهي نصيحة انسقتُ إلى اتباعها مدفوعًا ومدعمًا بحبي الكبير لها، ولم أجد في ذلك مشقَّة؛ فقد كانت سذاجتها تعادل جمالها نفسه، غير أنَّ الأيام التي وهبتني الدرس والتربية دفعَت بي أيضًا إلى مشارف الشباب فهطلت السماء بأمطار جديدة، وتجلَّت مشاهدها على ضوء مشاعل جديدة، ويسألني الشيخ مغاغة الجبيلي: ماذا نويتَ أن تعمل في هذه الحياة التي لا تكتمل إلا بالعمل؟

ولكني كنتُ أرى حليمة عدلي الطنطاوي بعين جديدة، طالما رأيتها على عهْد الصِّبا، وهي تقودُ أباها الضرير قارئ القرآن. لهم بيت قديم في حارتنا التي تقوم فيها دارنا مُتألِّقة كالكوكب. وكان اهتمامي يتجاوزها إلى أبيها بقامته النحيلة، وعينيه المطموستين، وأنفه الغليظ المجدور. أثار عطفي ودهشتي، وأعجبني صوته وهو يُؤذِّن للصلاة مُتطوِّعًا أمام باب داره، وحوَّلتني الأيام اللاهثة إلى البنت فاكتشفتها من جديد. كانت أرض الحارة زلقة غِبَّ مطرٍ خفيف، وكان الشيخ يسير بحذَر مُسلِّمًا يسراه لابنته ويمناه على عصاه الغليظة تتحسَّس له مواضع قدميه بضربات متتابعة، كمنقار دجاجة تنقِّب عن حَبٍّ. وسايرَته حليمة غائصةً في جلبابٍ فضفاضٍ غامقِ اللون، لا يظهر من خمارها المسدَل إلا عينان، ولكن هيئتها تمثَّلت لعينيَّ المُشرَبتين بماء الفتوَّة أنثى كاملة، تتجسَّد جواهرها المستورة كُلَّما خفَق النسيم بجلبابها كأنها جمرات تحت رماد. وزلَّت قدمها أو كادت فشدَّت عضلاتها بسرعة لتحفظ توازنها فتحرَّك رأسها حركة نافرة أطاحت بطرَف الخمار عن وجهها؛ فانطبع بتمامه على بصري غارسًا حُسْنَه في أركان وجداني. تلقَّيت في لحظة عابرة رسالة طويلة مشحونة بكافَّة الرموز التي تُقرِّر مصير قلب، وسألتني أمي بناءً على ما سمعَته من حديث الشيخ مغاغة عن العمل الذي تكتمل به الحياة: ألا توافقني أنه لا يَصلُح لك إلا التجارة؟

فأدهشتُها إذ قلت: إني أفكر في الزواج أولًا.

ورحَّبَت بحرارة مُؤجِّلة الحديثَ عن «العمل»، وراحت تَصِف لي بعض بنات التجار، ولكني أدهشتها مرَّة أخرى وأنا أقول: وقع اختياري على حليمة بنت الشيخ عدلي الطنطاوي.

تلقَّت أمي صدمةً لم تدارِها، وقالت: إنها دون المطلوب في كل شيء.

فقلت بإصرار: ولكني أريدها.

فقالت باستياء مُتجهِّمةَ الوجه: ستُشمِت بنا إخوتك.

ولكن إخوتي كانوا كشيء لم يكن. وشعوري بأني رجل الدار كان يتعاظم مع الوقت. وهي لم تُعاندني، وإن ضنَّت عليَّ بالموافقة، وفي الوقت نفسه لم تفقد الأمل. وإذا بالأمور تجري مع رغباتي، وإن يكن بثمن باهظ. مضَت معارضة أمي تخفُّ حتى قالت لي مُسلِّمةً: سعادتك أغلى عندي من أي شيء أو اعتبار.

وفي الحال قامت بما يُنتظَر منها؛ فذهبت من السراي إلى البيت المُتهرِّئ وخطبَت لي حليمة. ومرة تالية صحِبَتني معها، فجالسنا الشيخ عدلي الطنطاوي وحرَمه، ودخلَت العروس فأبدت ما يسمح به الشرع بإبدائه من الوجه واليدين، ومكثَت دقائق معدودة ثم ذهبت. ومضى الاستعداد للزواج بسرعةٍ محمودة، ولاحظت يومًا أن أستاذي الشيخ مغاغة الجبيلي يُعاني ارتباكًا غير معهود، وأنَّه يحدِّثني بنبرة جديدة تمامًا، قال بهدوء وهو ينظر إلى مركوبه: ثمَّة أمرٌ هامٌّ يا قنديل.

فأثار اهتمامي لأقصى درجة فقلتُ: رهْن إشارتك يا مولاي.

فقال بأسًى: لم أعُدْ أطيق وَحْدتي.

كان الشيخ أرملًا، وقد أنجب ثلاث بنات تزوَّجْن وقَرَرْن في بيوتهن. سألته ببراءة: ولمَ تبقى وحيدًا؟ .. ألم يتزوج النبيُّ عليه الصلاة والسلام عَقِب وفاة السيدة خديجة؟!

– صدقت، وهذا ما أُفكِّر فيه.

فقلت بحماس: وإنك لَرجلٌ تُرحِّب به كِرامُ الأُسَر.

فقال بحياء: ولكن مطلبي في أسرتك بالذات.

فدهِشتُ وأحدق بي انزعاج شامل. تساءلت: أسرتي؟!

فأجاب بخشوع: أجل، الست والدتك.

فقلت بعجَلة: ولكن والدتي لا تتزوج.

– لِمَ يا قنديل؟

فحِرتُ قليلًا ثم قلت: إنها أمي.

فقال بهدوء: الزواج شريعة الله سبحانه، ولن يهون عليك أن تتزوج وتترك أمك وحيدة.

وصمتَ قليلًا ثم قال: الله يهدينا إلى سواء السبيل.

في وَحْدتي تلاطمَت أفكاري، وترتَّبت الأحداث في خيالي في صورة جديدة كئيبة. قلت لنفسي: إنَّ إذعان أمي المفاجئ لرغبتي في الزواج بحليمة ليس إلا نتيجة لرغبتها في الزواج من الشيخ مغاغة الجبيلي. حصلت أمور بريئة من وراء ظهري، ولكنها اعترضت حلقي، وجدت نفسي في موقف دقيق حرِج ما بين أعزِّ شخصين في حياتي وبين غضبي وسخطي وحيائي. وهتفت من أعماقي: اللهم جنِّبني الظلم والحمق!

الحق أنني سلكتُ سلوكًا هو أحقُّ بشخص أكبر مني سنًّا وتجربةً، تركت الأمور تجري كما يشاء الله، وأقنعت نفسي المُتمرِّدة بأنَّ الزواج حقٌّ للرجل والمرأة، وأن أُمِّي ليست أمًّا خالصة ولكنها امرأة أيضًا، وأننا خُلقنا لنُكابد الحقيقة، ونصمُد لها، ونتلقَّى نصيبنا من السرور والألم بشجاعة المؤمنين، وحملتُ التجربة بكافة أبعادها على عاتقي، وفاتحتُ أمِّي بالموضوع بصراحتي المألوفة، وأبدت دهشة أحنقتني وتمتمت: ما خطَرَ لي ذلك ببال.

فقلت ببرود: ولكنه حق وعدل.

ومضيتُ أهضم خيبتي على حين قالت هي في تلعثُم: أُريد فرصة للتفكير.

اعتبرتُ ذلك أول إشارة للموافقة لتناقضه الشديد مع أسلوب الرفض الواضح، وانتظرت بقلب كئيب، حتى همسَت لي في حياء وارتباك: لتكُنْ مشيئة الله!

وتأمَّلتُ كيف نزخرف أهواءنا بكلمات التقوى المضيئة، وكيف نداري حياءنا بقبسات الوحي الإلهي، وجرى الاستعداد المألوف لزواج الابن والأم، وتمَّ الاتفاق على انتقال أمي إلى دار الشيخ مغاغة وهي دار حسنة، وانتقال حليمة إلى السراي. وصمَّمتُ على أن ألوذ بالسعادة المتاحة نافضًا عن ذيلي رواسبَ الأكدار، ولكن هبط علينا قدَرٌ فنسفَ خطَّتنا. زحم حياتنا الهادئة الحاجب الثالث للوالي فاقتحمَنا كعاصفة. رأى ذات يوم حليمة فقَرَّر أن يجعل منها زوجته الرَّابعة، وذُعر الشيخ عدلي الطنطاوي، وقال لأستاذي الشيخ مغاغة: لا قِبَل لي بالرفض.

وفسخ الخطوبة وهو يرتعد، فزُفَّت حليمة إلى الحاجب الثالث ما بين يوم وليلة. انطويت على نفسي ذاهلًا وأنا أتساءل عن قلب حليمة، عن مشاعرها الدَّفينة، هل شاركتني ألمي أو أن لألاء الملك أسكرها وبهر عينيها، ووجدتُني في وَحْدتي أقول لنفسي: خانني الدين، خانتني أمي، خانتني حليمة، ألا لعنة الله على هذه الدار الزائفة!

بدا كلُّ شيء كالحًا، وبَدْءًا من أبسط الأفراد مثل الشيخ عدلي الطنطاوي حتى الوالي نفسه، مرورًا بأُناس ومعاملات تستحقُّ الطوفان ليحلَّ محلَّها عالم جديد نظيف. لم أتأثَّر بعطف أمي وحزنها، ولا حِكَم الشيخ مغاغة التي ذرَّها عليَّ. بدَت لي الدنيا صفراءَ كريهةً لا تُحتَمل ولا تُعاشر. وقالت لي أمي: يجب أن تتزوج في أقرب وقت، ولعل الله يدَّخر لك أفضل مما اخترت!

فهززت رأسي رافضًا، فقال الشيخ مغاغة: اشرع في العمل بلا تأخير.

فهززت رأسي أيضًا .. فقال الرَّجل: لديك ولا شك خطة؟

فقلتُ مُعرِبًا عن عواطفي الجائحة: أن أقوم برحلة!

فتساءلت أمي في انزعاج: أي رحلة؟ .. إنك لم تكد تبلغ العشرين من عمرك!

فقلت: هي أنسب سنٍّ للرحلة.

ونظرتُ إلى أستاذي مليًّا وقلتُ: سأزور المشرق والحيرة والحلبة، ولكنِّي لن أتوقف كما توقفت بسبب الحرب الأهلية التي قامت في الأمان، سأزور الأمان والغُروب ودار الجبل، أي وقت يلزمني لذلك؟

فقال الشيخ مغاغة الجبيلي وهو يلحظ أمي بإشفاق: يلزمك عام على الأقل إن لم يزد.

فقلت بتصميم: ليس هذا بالكثير على طالب الحِكمة، أُريد أن أعرف، وأن أرجع إلى وطني المريض بالدواء الشافي.

وهمَّت أمي بالكلام، ولكني سبقتُها قائلًا بحزم: إنه قرار لا رجعةَ فيه.

واستحوذ عليَّ الحلم، وتلاشى الواقع، وتراءت دار الجبل لعين خيالي كنجم معشوق يعتلي عرشه وراء النجوم، فنضجت الرغبة الأبديَّة في الرحلة على لهيب الألم الدائم. وأذعن الشيخ مغاغة الجبيلي للواقع، فدعا صاحب القافلة للعشاء معنا. كان في الأربعين، يُدعى القاني بن حمديس، قوي البنيان والرأي. قال الشيخ مغاغة: أودُّ أن يذهب معك ويرجع معك.

فقال الرجل: هذا يتوقَّف على رغبته، نحن نُقيم في كلِّ دارٍ عشرة أيام، فيمضي معنا من يقنَع بها، ويتخلَّف من يروم المزيد، وعلى أيِّ حال توجد قافلة كلَّ عشرةِ أيام.

فقال لي الشيخ مغاغة: عشرة أيام فيها الكفاية.

فقلت: أعتقد ذلك.

أمَّا أُمِّي فركَّزت على مسألة الأمن، فقال لها الرجل بوضوح: لم تتعرَّض قافلة لهجوم أبدًا، إنَّ أهل البلاد لا يحظَون بعُشر معشار ما يحظى به الغريب من حماية.

وأخذتُ في الاستعداد للرحلة مُسْترشِدًا بأستاذي الشيخ مغاغة فملأت حقيبة بالدنانير، وثانية بالملابس، وثالثة باللوازم، ومنها الدفاتر والأقلام والكتب، ورأيتُ أن يتمَّ زواج أمِّي بالشيخ قبل رحيلي، غير أنَّ الشيخ انتقل إلى السراي حتى لا تُهجَر بلا ساكن، ولبستني حال جديدة، فقَلَّ تفكيري في أحزاني، وهيمنَت الرحلة على حواسِّي، وانفسَح أمامي مجالٌ غير محدود للأمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤