البداية

عند الفجر غادرَت القافلة دار الغروب. لأول مرة يستأثر بها الرحَّالة والمهاجرون، ولا يُرى بها تاجر واحد. ولفَّنا قلَق، وحزن وإشفاق لِما حلَّ بدار الغروب، ولانقطاعنا الإجباري عن التدريب، وتمنَّيتُ أن تسنَح في الطريق فُرَص لمعاودة التركيز والاجتهاد تخفيفًا من العناء المُنتظَر. وكشف الشروق عن صَحْراء مستوية، تكثُر في أرجائها عيون المياه. وسِرنا شهرًا حتى اعترض سبيلنا الجبل الأخضر مُمتدًّا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وكان علينا أن نَعبُر الجبل صعودًا وهبوطًا، وترامى أمامنا فَجٌّ واسع يتدرَّج في صعوده تدرُّجًا هيِّنًا رفيقًا، فاتَّجهَت إليه القافلة. وتساقط الرذاذ في أوقات متقطِّعة فآنس من وحشتنا. وجعلنا نسير بالنهار ونُعسكِر في الليل حتى بلغْنا السطح بعد انقضاء ثلاثة أسابيع. كان سطحًا عريضًا غزير الأعشاب، وعند حافَّته قال الشيخ وهو يُشيرُ بيده: هاكم دار الجبل.

كان يُشير إلى جبلٍ آخَر، يفصل بينه وبين الجبل الأخضر صَحْراء، وعلى سطحه قامت الدار عالية مُترامية هائلة القِباب والمباني تنطق بالعظمةِ والسموِّ. نظرتُ صوبها بذهول وافتتان. لم تَعُدْ حُلمًا ولكنها حقيقة، وحقيقة قريبة، فليس بيننا وبينها إلا أن نهبط السفح ونقطع الصَّحْراء القصيرة، ثم نصعد الجبل الآخر، فنجد أنفسنا أمام مداخلها، ومدير الجمرك يقول لنا: أهلًا بكم في دار الجبل، دار الكمال.

وقلَّ صبرُنا وتَعجَّلنا الرحيل فهبطَت القافلة سفح الجبل في أسبوعين، حتى بلغنا الصحراء. ودهمتنا دهشة إذ ترامت الصَّحْراء أمامنا كأنها بلا نهاية، ولم نكَدْ نرى الجبل من شدة إيغاله في البُعد. عجِبتُ لخداع البصر، وأيقنتُ من أنه ستمضي أيام وأسابيع قبل أن نصل إلى الجبل الآخر الذي تقوم على سطحه دار الجبل. وسرنا أسابيع وأسابيع، وضاعَف من طول المسافة اعتراض التلال والهضاب؛ مما اضطرَّنا إلى الانعطاف إلى اليمين تارة، وإلى اليسار تارة أخرى، حتى خُيِّل إليَّ أنه انقضى عمر قبل بلوغنا سفح الجبل الآخر. ووقفنا أسفله ننظر إلى أعلاه فوجدناه يعلو على السحب ويتحدَّى الأشواق. وإذا بصاحب القافلة يقول: هنا ينتهي سَيْر القافلة يا سادة.

فلم أصدِّق أُذني وقلت: بل تصعد بنا حتى دار الجبل.

فقال الرجل: الممرُّ الجبليُّ ضيقٌ كما سترَون لا يتَّسع لناقةٍ أو جمَل.

وهُرعنا إلى شيخنا فقال بهدوء: صدَق الرجل.

– وكيف نواصل رحلتنا؟

فقال بلا مبالاة: على الأقدام كما واصلها السابقون.

وقال صاحب القافلة: من يشقُّ عليه السَّيْر فليرجع مع القافلة.

ولكن لم تَهُن عزيمةُ أحد، وصمَّمنا على المغامرة. وفكَّرتُ في ذاتي وفيمن خلَّفتُ وفيما قد يصادفني من أسباب تحول دون عودتي، فكَّرتُ في ذلك فخطَر لي خاطر، وهو أن أعهد بدفتر رحلتي إلى صاحب القافلة ليُسَلِّمه إلى أمي، أو إلى أمين دار الحكمة، ففيه من المشاهد ما يستحق أن يُعرف، بل به لمحات عن دار الجبل نفسها تبدِّد بعض ما يُخيِّم عليها من ظلمات، وتُحرِّك الخيال لتصوُّر ما لم يُعرف منها بعد. ولا بأس بعد ذلك أن أُفرد دفترًا خاصًّا لدار الجبل، إذا قُيِّض لي زيارتها والرجوع منها إلى الوطن. وقبِلَ الرجل القيام بالمهمَّة، فنفَحتُه بمائة دينار، وقرأنا الفاتحة. تخفَّفتُ بعد ذلك من وساوسي، وتأهَّبتُ للمغامرة الأخيرة بعزيمة لا تُقهر.

•••

بهذه الكلمات خُتم مخطوط الرحَّالة قنديل محمد العنَّابي الشهير بابن فطومة.

ولم يرِدْ في أيِّ كتاب من كتب التاريخ ذِكْر لصاحب الرحلة بعد ذلك.

هل واصل رحلته أو هلَك في الطريق؟

هل دخل دار الجبل؟ وأي حظٍّ صادَفه فيها؟

وهل أقام بها لآخر عمره أو عاد إلى وطنه كما نوى؟

وهل يُعثر ذات يومٍ على مخطوط جديد لرحلته الأخيرة؟

عِلْمُ ذلك كلِّه عند عالِم الغَيْب والشَّهادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤