الفصل الأول

قبل زمن الخروج

علاقة القبيلة الإسرائيلية ببلاد مصر، علاقةٌ وطيدة تلمسها بطول الكتاب المقدس (العهد القديم) وعرضه، هناك مصر دومًا وباستمرار، ويحكي المقدس التوراتي أن أول علاقة للقبيلة العبرية بمصر، قد حدثت في زمن أول البطاركة وأبيهم، ذلك الذي عرفه التاريخ باسم أبي الكثرة أو أبي الرهام أو إبراهيم، كناية عن وصف الكتاب المقدس لنسله الآتي، بأنه سيكون في الكثرة العددية كرمال الصحراء ومياه البحر، رغم أنه لم ينجب إلا بعد أن بلغ من عمره عتيًّا.

ولنبدأ الحكاية التوراتية من البداية …

يأتي البطرك إبراهيم إلى فلسطين غريبًا من بلادٍ بعيدة، يقول المقدس مرة إنها أور الكلدانيين، ومرة إنها بلاد حاران داخل الحدود التركية الآن شمالي بلاد الشام الأقصى، وقد انتهينا في كتابنا النبي إبراهيم والتاريخ المجهول إلى قدومه من منطقة أرمينيا الحالية، وأن وصف التوراة لسلف القبيلة الإسرائيلية بأنه كان أراميا «أراميًّا تائهًا كان أبي.» كان يعني بلاد أرمينيا الحالية تحديدًا.

وعند وصول إبراهيم إلى فلسطين، كان يعيش إلى جوار أهلها الكنعانيين أقوامٌ أخر، منهم الفلسطينيون القادمون من جزر البحر المتوسط، والحيثيون القادمون من تركيا، مع عددٍ آخر من العروق البشرية دوَّنتها التوراة بتكرارٍ مفصل.

ومن البداية تظهر مصر في تاريخ التوراة، فتحكي التوراة أنه قد حدثت في فلسطين مواسم من الجفاف، دفعت بإبراهيم لنزول مصر هربًا من المجاعة. والغريب أن إبراهيم في تلك الرحلة يتمكن من الاقتراب من القصر الملكي المصري، عن طريق مَلاحة زوجته سارة وجمالها، ثم يخرج من مصر بأموالٍ جزيلة، أهداها له الفرعون. «لكن المقدس لا يعلمنا بمن كان هذا الفرعون؟ ولا باسمه؟ ولا في أي مدينة كان يعيش؟ ولا السر وراء اهتمامه بهذا الراعي البسيط؟ سوى حكاية سارة غير المقبولة بذوقنا القيمي اليوم، وإن كان المفسرون يرون تلك الروايات، دلالة صدق الكتاب المقدس بسرده سقطات الآباء القيمية.»

ويعود إبراهيم إلى فلسطين ثريًّا موسرًا، يعيش جنوبها ينتقل بين مدائن الجنوب أو النقب، يعيش حياة البداوة في الخيام مع سوائمه، التي ترعى وتتحرك ويتحرك معها وراء الكلأ.

وينجب إبراهيم من سريته المصرية هاجر ولده إسماعيل، لكن السياسة الأيديولوجية التأسيسية للكتاب المقدس، تستبعد إسماعيل من التركة المقدسة؛ لأن إبراهيم قد أنجب بعده ولدًا حرًّا من زوجته سارة هو إسحاق، وينجب إسحاق: عيسو ويعقوب، ومرةً أخرى تتم التصفية والغربلة، فيستبعد عيسو السلف البعيد للشعب الآدومي، ليبقى يعقوب وحده في المصفاة، ويحمل يعقوب اسم إسرائيل في شبابه، وينجب اثنى عشر ولدًا أو سبطًا، ومع الأسباط يعود ذكر مصر مرةً أخرى، فقد حنق الأسباط المكرمون على أخيهم الحلوم الصغير يوسف، لما تميز به عند أبيه يعقوب من حظوة، ومن هنا يتآمرون على الصغير المليح، ويلقونه في بئرٍ جافة، فتلتقطه قافلة تجار، وتبيعه في مصر … وفي مصر يشتريه «فوطي فار» رئيس الجند أو «… رئيس الشرط»، وهو اسمٌ مصريٌّ قح «بادي بارع» أي «من يعطيه رع»، و«رع» هو رب الشمس المصري ورب الدولة.

ويرتفع شأن يوسف في مصر زمن مجاعة، نجت منها مصر بالحكمة اليوسفية، ويرتقي سدة الوزارة العظمى آنذاك، وهي وزارة الخزانة أو المالية، وكان توليه شئون مصر الاقتصادية، مدعاةً لدخول متغيرات جوهرية، على أنظمة مصر الاقتصادية، ومن ثم الاجتماعية، فبعد أن كان الناس يعيشون أحرارًا يملكون أرضهم، ويتعبدون لمن شاءوا بين مئات الآلهة، ليس لملكهم عليهم سوى سلطان مركزية الدولة ومصالحها، يقول المقدس:

اشترى يوسف كل أرض مصر لفرعون، إذ باع المصريون كل واحد حقله؛ لأن الجوع اشتد عليهم، فصارت الأرض لفرعون. فقال يوسف للشعب: إني اشتريتكم اليوم وأرضكم لفرعون، فقالوا أحييتنا ليتنا نجد نعمة في عيني سيدي، فنكون عبيدًا لفرعون، فجعلها يوسف فرضًا على أرض مصر إلى هذا اليوم. (تكوين، ٤٧: ٢٠–٢٦)

ويستدعي يوسف أهله ليقيموا معه في مصر «وسكن إسرائيل في أرض مصر في أرض جاسان وتملكوا فيها وأثمروا وكثروا جدًّا» (تكوين، ٤٧: ٢٧).

وهذه أسماء بني إسرائيل الذين جاءوا إلى مصر، مع يعقوب جاء كل إنسان وبيته، رأوبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون وبنيامين ودان ونفتالي وأشير، وكانت جميع نفوس الخارجين من صلب يعقوب سبعين نفسًا، ولكن يوسف كان في مصر، ومات يوسف وكل إخواته وجميع ذلك الجيل، وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا كثيرًا جدًّا، امتلأت الأرض منهم، «ثم قام ملكٌ جديد على مصر، لم يكن يعرف يوسف» فقال لشعبه: هو ذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا، هل نحتال لهم لئلا ينموا، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا، ويحاربوننا ويصعدون من الأرض، فجعلوا عليهم رؤساء تسخير، لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن: فيثوم ورعمسيس. (خروج، ١: ١–١١)

وكثيرًا ما أثار دهشة الباحثين تعبير التوراة أن السبعين شخصًا الذين دخلوا مصر قد صاروا أكثر عددًا من المصرين أنفسهم، ويعطي سفر التكوين صورةً هائلة لعدد هؤلاء عندما خرجوا من مصر تحت قيادة موسى «فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت نحو ستمائة ألف ماشٍ من الرجال عدا الأولاد» (خروج، ١٢: ٣٧). وبحسبةٍ بسيطة تضع الأولاد والنساء في التعداد سنجد الخارجين لا يقلون بحال عن المليونَين من البشر، هذا ناهيك عن زيادة أخرى على هذا لرقم، لأنه «صعد معهم لفيف كثير أيضًا.» ولا نعلم من هم هؤلاء اللفيف (سيأتي الحديث عنهم في موضعه من هذا الكتاب)، لكنهم على أية حال كانوا زيادةً عدديةً أخرى.

ويطرح السؤال نفسه: كم قضى هؤلاء من الزمن في مصر، حتى يبلغوا هذا العدد الهائل؟ وتأتينا الإجابة: «وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر، فكانت أربعمائة وثلاثين سنة» (خروج، ١٢: ٤٠)، لكن الأغرب والأكثر تناقضًا في هذه الرواية، أن الإسرائيليين منذ دخولهم أسباطًا زمن شقيقهم يوسف إلى زمن خروجهم، لم يستغرقوا سوى أربعة أجيال فقط، حيث تروي التوراة أن لاوي شقيق يوسف أنجب قهات، وأن قهات قد أنجب عمران، وأن عمران قد أنجب موسى، الذي خرج بهم من مصر (خروج، ٦: ١٤–٢٠) «فقط، وهكذا؟! أربعة أجيال عاشت أربعة قرون وثلث القرن، بل وأنجب هؤلاء الأربعة الملايين من البشر!!» لكن في موضعٍ آخر نجد المقدس، يحيطنا علمًا أن فترة إقامتهم في مصر، لم تتجاوز حياة جيلٍ واحد، وهو لم يصرح بذلك، لكنه ما يفهم مما سجله، ففي سنوات يوسف الأخيرة يشهد يوسف ولادة أولاد أحفاده «وأولاد ماكير بن منسي [ابن يوسف] أيضًا ولدوا على ركبتي يوسف» (تكوين، ٥٠: ٢٣) ثم نرى أولاد ماكير أبناء حفيد يوسف (لأن ماكير بن منسي بن يوسف) يخرجون مع موسى من مصر إلى فلسطين (يشوع، ١٣: ٣ و١٧: ١)، وهو ما يعني أن المدة الفاصلة بين دخول مصر والخروج منها، لم تتجاوز حوالي المائة عام؛ لأن الذين ولدوا في مصر في حياة يوسف، هم من خرجوا من مصر مع موسى، وهم من دخلوا فلسطين مع يشوع خليفة موسى.

وما أكثر المدهشات بالكتاب المقدس، لكن أكثرها إدهاشًا ما تعلق منها بقصة موسى، الذي قاد بني إسرائيل في رحلة خروج كبرى عبر سيناء إلى فلسطين، فقد هرب هؤلاء من تسخير وعبودية مصر، «ومعهم مواشٍ وأغنام كثيرة» (خروج، ١٢: ٣٨)، الأمر الذي يتناقض والأوضاع المعلومة للعبيد.

والفرعون حسب التوراة قد خشي من الكثرة العددية للمستعبدين لديه، وسخرهم في بناء مدينتَيه الكبيرتَين؛ فيثوم أو بالمصرية بي توم، أي مقر الإله آتوم، ورعمسيس/مدينة رمسيس؛ لذلك أمر الفرعون بقتل من يولد لبني إسرائيل من الذكور «كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها» (خروج، ١: ٢٢). وفي هذا الظرف العصيب …

ذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي، فحبلت المرأة وولدت ابنًا، ولما رأته أنه حسن خبأته ثلاثة أشهر، ولما لم يمكنها أن تخبئه بعدُ، أخذت له سفطًا من البردي وطلته بالحمر والزفت، ووضعت الولد فيه ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر، ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يُفعل به؟ فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل، وكانت جواريها ماشيات على جانب النهر، فرأت السفط بين الحلفاء فأرسلت أمتها وأخذته، ولما فتحته رأت الولد وإذا هو صبيٌّ يبكي فرقَّت له وقالت: هذا من أولاد العبرانيين، فقالت اخته لابنة فرعون هل أذهب وأدعو لك امرأة مرضعة من العبرانيات لترضع لك الولد؟ فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي. فذهبت الفتاة ودعت أم الولد، فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي، وأنا أعطيك أجرتك، فأخذت المرأة الولد وأرضعته، ولما كبر الولد جاءت به إلى ابنة الفرعون فصار لها ابنًّا، ودعت اسمه موسى وقالت: إني انتشلته من الماء. (خروج، ٢: ١–١٠)

لكن موسى حسب رواية التوراة بعدما يفع واجتاز مرحلة الصِّبا إلى الرجولة لم ينسَ أصله رغم أنه قد أصبح أحد نبلاء البلاط، فقتل مصريًّا انتصارًا لإسرائيلي، فطلبه القصاص القانوني، فهرب من مصر إلى مكان تصفه التوراة بأنه: «أرض مديان» (خروج، ٢: ١٥) ويبدو أنها كانت أرضًا صحراوية؛ لأن موسى عندما ذهب هناك «جلس عند البئر» (خروج، ٢: ١٥) ويبدو أنها كانت قرب مخرج مصر، حيث لا تفاصيل بالتوراة، عن رحلةٍ طويلة لموسى؛ مما يعني أن المديانيين كانوا ينتشرون في سيناء، حتى حدود مصر الشرقية مع سيناء.

والتقى موسى ببعض غيد مديان عند البئر، فاستقى لهن بشهامة، فذهبن وأخبرن أباهن «فقلن رجلٌ مصري أنقذنا من أيدي الرعاة، وأنه استقى لنا» (خروج، ٢: ١٩)، ولحسن حظ موسى كان أبوهن كبيرًا من وجهاء مديان، فهو «رعوئيل» أو «يثرون» سيد وكبير كهنة مديان، وتنتهي أحداث هذا الجزء بالحدث السعيد، ويتزوج موسى من صفورة بنت يثرون، وينجب منها ولدين هما جرشوم وألعازر.

واشتغل موسى برعي غنم حميه يثرون، وبينما هو مع أغنامه عند سفوح الجبل المقدس المعروف بجبل الله أو جبل حوريب «جبل الله حوريب» (خروج، ٣: ١) من عبارة «هو الرب» العبرية، رأى ظاهرةً عجيبة، نبات مضيء؟ نبات يبدو مشتعلًا بالنار لكنه لا يحترق؟ واقترب موسى المشدوه بالمشهد، لكن ليكتشف أن ذلك الضوء ضوءٌ إلهي مصحوب بصوتٍ يناديه: «لا تقترب إلى ههنا، اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرضٌ مقدسة» (خروج، ٣: ٥).

ويتعارف الاثنان، ويقدم هذا الإله نفسه لموسى هكذا: «أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، رأيت مذلة شعبي الذي في مصر؛ فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرضٍ جيدة وواسعة» (خروج، ٣: ٦–٨).

ويبدو أن «موسى كان يجهل اسم «إيل»، رب البطاركة» الأوائل المفترض أنهم أسلافه؛ لذلك سأل الإله عن اسمه وصدق إجابته فورًا، في حوارٍ سأل فيه موسى ربه «فإذا قالوا لي ما اسمه؟ فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى: أهيه الذي «أهيه … يهوه» إله آبائكم … هذا اسمي إلى الأبد» (خروج، ٣: ١٣–١٥).

وكانت خطة يهوه هي إخراج بني إسرائيل من مصر إلى فلسطين، بترتيباتٍ إلهيةٍ مدعومة بالمعجزات، فأعطى موسى آياتٍ سحرية كالعصا الثعبانية وإضاءة يده، إذا أدخلها في جيبه أو «عبه» بتعبير التوراة، وكانت الخطة هي إيهام الفرعون أن الإسرائيليين بحاجةٍ إلى إقامة احتفالٍ دينيٍّ خاص بهم، يذبحون فيه حيوانًا مقدسًا عند المصريين؛ لذلك فهم بحاجةٍ إلى الابتعاد عن مساكن المصريين «نمضي ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا» (خروج، ٣: ١٨)، وبعد ابتعاد مسيرة ثلاثة أيام في الصحراء يكونون قد أصبحوا بعيدين بمسافةٍ كافية، ويمكنهم الاستمرار في الهرب وهم آمنون من اللحوق بهم، لكن كان عليهم أيضًا بأمر يهوه أن يستعيروا حلي المصريات ومصوغاتهن الذهبية زينة للعيد، ثم يفرون بها، أو كما أمر يهوه موسى قائلًا: «وأعطي نعمة لهذا الشعب في عيون المصريين، فيكون حينما تمضون لا تمضون فارغين، بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا، وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين» (خروج، ٣: ٢١، ٢٢)، لكن موسى كانت لديه حجةٌ أخرى جعلته مترددًا في تنفيذ أوامر يهوه، وهو أنه «ثقيل الفم واللسان»، فجعل له يهوه من أخيه هارون ناطقًا بما يريد ومبلغًا.

«وقال الرب لموسى في مديان: اذهب ارجع إلى مصر؛ لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك» (خروج، ٤: ١٩)، وبموت الفرعون، الذي كان يطلب القصاص من موسى لقتله المصري، بات موسى آمنًا في العودة إلى مصر، وذهب موسى وهارون فور العودة إلى قصر الفرعون، يطلبون منه السماح بارتحال بالمستعبدين في أعمال المعمار، إلى البوادي الشرقية ليذبحوا لإلههم، فرفض الفرعون، لكن يهوه أعلن لشعبه: «أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين، وأنقذكم من عبوديتهم، وأخلصكم بذراعٍ ممدودة وبأحكامٍ عظيمة وأتخذكم لي شعبًا وأكون لكم إلهًا» (خروج، ٦: ٦-٧)، وهكذا اختار يهوه شعبًا خاصًّا له ليتأله عليه، وحمل هذا الشعب من يومها لقب «الشعب المختار».

ويبدأ يهوه ألاعيبه ليثبت أنه أشد سحرًا من السحرة المصريين، وأنه أقوى من فرعون الذي كان أقوى ملوك العالم، وكان الانتصار عليه انتصارًا عالميًّا بل وكونيًّا، فقام يهوه يركز غضبه على عصب الحياة والاقتصاد والزراعة المصري، فيقوم بضرب نهر النيل ليتحول إلى دم، ليضطر المصريون إلى الحياة كالبدو والرعاة بحفر الآبار للشرب، كي لا يموتوا عطشًا (خروج، ٧: ١٩–٢٤)، وينشر الضفادع في بلاد النيل (خروج، ٨: ٥، ٦)، ثم البعوض (خروج، ٨: ١٦)، ثم الذباب (خروج، ٨: ٢٠–٢٤) ثم ينشر الوباء بين البشر والسوائم (خروج، ٩: ٣–٦)، مع دمامل وبثور (خروج، ٩: ٨–١٠)، ثم يسلط ظواهر الطبيعة الرديئة على الوادي الغني ليفقره، كالبرد الثلجي والنار والرعود (خروج، ٩: ٢٢–٢٦)، ويلحق بها الجراد ليقضي على البقية الباقية من خيرها (خروج، ١٠: ١٢–١٥)، ثم ينزل بالبلاد جميعها ظلامًا دامسًا وقت النهار (خروج، ١٠: ٢١–٢٣)، حتى تأتي ضربة يهوه العاشرة وهي قتل الصبية المصريين من الأبكار، وكذلك أبكار السوائم أيضًا:

وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحو منتصف الليل أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحا، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخٌ عظيم في كل أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحا، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخٌ عظيمٌ في كل أرض مصر. (خروج، ١١: ٤–٦)

وإبان ذلك جميعه، تصرُّ دراما الفزع والرعب التوراتي، على تأكيد أن المصريين وحدهم، هم من عانى تلك الضربات، بينما كان الإسرائيليون يسكنون أرض جاسان في مصر، ولم تصبهم ولا أرض جاسان التي سكنوها أيٌّ من شرور يهوه الكونية تلك، لكن يبدو أن المحرر التوراتي لم ينتبه، وهو يؤكد تلك العناية والرعاية، من يهوه لشعبه المختار، أنه قد جعل من جاسان حيث يقيم شعبه، مقرًّا للبلاط الملكي الذي استحق كل هذا الدمار والغضب اليهوي، والذي لا شك لم يلحقه بدوره هذا الدمار، لوجوده في مقاطعة جاسان، التي لم تصب بأي أذًى، ولكن ذلك لم يكن شاغلًا للمحرر، فهو متأكد من وجود جاسان بعيدًا عن الضربات، وهو ما أصرَّ المحرر على تأكيده مع كل ضربةٍ يهوية، انظره يقول مثلًا:

أنا أرسل عليك وعلى عبيدك وعلى شعبك وعلى بيوتك الذبان، فتمتلئ بيوت المصريين ذبانًا وأيضًا الأرض التي هم عليها، «ولكن أميز في ذلك اليوم أرض جاسان حيث شعبي مقيم حتى لا يكون هناك ذبان». (خروج، ٨: ٢١، ٢٢)

فماتت جميع مواشي المصريين «وأما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها واحد». (خروج، ٩: ٦)

فأعطى الرب رعودًا وبردًا وجرت نار على الأرض … «إلا أرض جاسان حيث كان بنو إسرائيل، فلم يكن فيها برد». (خروج، ٩: ٢٣–٢٦)

ثم قال الرب لموسى مد يدك نحو السماء، ليكون ظلام على أرض مصر … «لكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم». (خروج، ١٠: ٢١–٢٣)

ثم يختتم يهوه وعصاته الثعبانية تلك المغامرات المدمرة واللذات الشاذة بإغراق المصريين جميعًا مع فرعونهم وجيوشهم في لجج البحر المفلوق بالعصا السحرية الثعبانية (خروج، ١٤).

لكن وسط كل هذا الصخب الأسطوري والضجيج السحري، يضع المحرر شروحاتٍ جغرافيةً بينية، لخط سير الخروج، تلتقي إلى حدٍّ مدهش مع أوضاع الجغرافيا في شرقي الدلتا المصرية المتصل بالصحاري السينائية، فهناك كان بداية طريق حورس الحربي الكبير المؤدي إلى فلسطين، والمسمى أيضًا طريق فلسطين، لكن يهوه ينحرف بشعبه عن هذا الطريق الأسهل، لتحاشي قتالٍ متوقَّع، ويأمر أتباعه بالاتجاه نحو بحر باسم بحر سوف، ومن مدينة باسم «سكوت» — وردت بذات الاسم بالوثائق المصرية القديمة أيضًا — يتحركون نحو بادية باسم إيثام في طرف الصحراء، ومن هناك ينزلون على بحر سوف بين ثلاثة إحداثيات جغرافية هي: مجدل، وبعل صفون، وفم الحيروث، وعند نقطة فم الحيروث تفلق العصا الحية البحر، ليعبر الإسرائيليون بينما يغرق الفرعون وجنده عند مطاردتهم للإسرائيليين، إذ ينطبق عليهم البحر المفلوق (خروج، ١٣: ٢٠، ١٨؛ ١٤: ٢).

والغريب أن الخارجين لم يكتفوا باصطحاب أنعامهم الوافرة، بل حملوا معهم من مصر ذهبًا هائل الوفرة، لم يجد له المحرر التوراتي سوى تكرار تفسير يقول: «وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين أمتعةً فضةً وأمتعة ذهبًا وثيابًا، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم، فسلبوا المصريين، فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس» (خروج، ١٢: ٣٥–٣٧).

وهكذا يخرج بنو إسرائيل من مصر تحت قيادة موسى في خط سير جغرافي شديد التدقيق (بالتوراة)، يتجهون معه نحو جبل الله حوريب المقدس في عمق سيناء، ويستغرق رحيلهم سنتَين كاملتَين، حتى يحطوا في قادش في أقصى شرقي سيناء، ليعيشوا هناك ثمانية وثلاثين عامًا كاملة، ومن قادش تبدأ رحلة غزوهم لفلسطين بعبور الأردن، من شرقيِّه عند جبل نبو إلى غربيِّه عند أريحا، رغم أن قادش كانت تقع في النقب جنوبي فلسطين، دون أي عوائق أو موانعَ جغرافية مع فلسطين شمالها، لذلك يظل السؤال ينتظر إجابة: لماذا اجتاز الإسرائيليون مانعَين هامَّين؟ الأول هو مانع سيادي حيث اجتازوا دولة آدوم مشرِّقين، ثم التفافهم من الشرق إلى الغرب بعبور مانعٍ جغرافي هو نهر الأردن، لماذا كل هذه الالتفافة وفلسطين على مسيرة يوم أو يومَين شمالي قادش؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤