أصحاب السعادة الزوجية

(حجرة استقبال … حسني وزوجته علية في ثياب السهرة، جالسان ينتظران بصبرٍ نافد، وأعيُنهما تتطلَّع إلى أحد الأبواب المُغلقة.)

حسني (يلتفِت إلى زوجته) : هل عرفتِ مَن ستَزفُّ العروسَ الليلة مِن المطربات؟
علية : والله فاتني أن أتحرَّى لك هذا.
حسني : لا داعي للتحري … لم يعُد سرًّا … إن لي صِلة شخصية وثيقة بأكثر مُطربات البلد!
علية : نعم … إنك تُطلِعني أولًا بأول على كل صِلاتك وعلاقاتك!
حسني : إنها ليست كُلها بريئة!
عليَّة (بهدوء) : قلتَ لي ذلك أيضًا مِرارًا يا زوجي العزيز!
حسني : أنا كما تعرفين صريح … عيبي الأساسي أني رجل في غاية الصراحة.
علية : صراحتك لا تسوءُني على كل حال.
حسني : نعم … لا تسوءُك … لا شيء يسوءُك أو يؤلِمك أو يُزعجك أو يُثيرك … وهذا من حُسن حظي … فأنا رجل اعتدتُ أن أخونك مع كثيرٍ من النساء … لا رغبةً في جَرح إحساسك غير الموجود … بل لأني هكذا خُلقت … مُلتهِب العواطف … قلبي فُرن … فرن مُتَّسع … لا يكفيه أن يُلقَى فيه رغيف واحد … (يشير إلى زوجته).
علية (باسمة) : هذا الرغيف دخل الفرن منذ خمسة أعوام … لا بُد أن يكون قد احترق!
حسني (صائحًا) : أبدًا … لم يزَل عجينًا باردًا … وهنا المُصيبة … من أي مادةٍ أنت مصنوعة؟ … من حجر؟ … من أسمنت؟ … من حديد؟ … من صلب؟
علية : بل من الدقيق الرقيق الذي يُصنَع منه البسكويت.
حسني : بسكويت؟ … أنت؟ … ولا تتفتَّتِين مِن الغيرة على زوجك؟
علية : لقد منحتُ زوجي ثقتي الكاملة … أليست الثقة الكاملة هي خير ما تُعطيه الزوجة لزوجها؟
حسني : الثقة الكاملة … هذا شيء يفرح به السياسي والوزير والبرلماني … أما الزوج … الزوج يا سيدتي … الزوج …

(يُفتح الباب المغلق قليلًا … ويُسمَع من خلفه لغط.)

علية : صه … أُختي تحية انتهت من اللبس … أخيرًا.
حسني (وهو يرى الباب يُغلَق من جديد) : عادا وأغلَقا الباب.
علية : لتُناقش زوجَها … سنصِل إلى بيت العُرس آخِر الناس … لأنهما في حُجرتهما غارقان يتناقشان.
حسني (متحسرًا) : زوجان سعيدان!

(يُسمع صوت ضجيج وصياح في الحجرة المُغلقة، وأوانٍ تتحطَّم، وأثاث يُلقَى على الأرض … ثم لا يلبَث الباب أن يُفتَح، وتخرج تحية ولم تُتم كل لبسها … وخلفها زوجها صلاح.)

تحية : لن أذهب إلى هذا الفرح!
علية : لماذا … ما الذي جرى؟!
تحية (تُشير إلى زوجها صلاح) : سَلِي هذا الزوج الكاذب الغادر الخائن!
صلاح : لا حول ولا قوة إلا باللَّه.
علية : ماذا حدث؟
صلاح : المسألة في غاية البساطة.
تحية : بل في غاية الخطورة.
صلاح : بالطبع في غاية الخطورة لو أنها كانت قائمةً على أساس … ولكن مُجرد اتهام!
تحية : ليست المسألة مُجرد اتهام … إنها حقيقة لا تقبل الشك … حقيقة أُمسِكها بيدي … حقيقة أراها بعيني … إني أقسم … أقسم … أقسم!
صلاح : اعقلي يا تحية … اعقلي.
تحية : أُقسم أنك تخونني.
صلاح : أنا؟
تحية : أُقسم أنك مُتصل بكثيراتٍ من النساء … ومنهن مُطربة الفرح … الليلة.
صلاح : ما هذا الظلم يا ناس؟ … يالَها من زوجةٍ ظالمة!
حسني (كالمُخاطب نفسَه مُتحسرًا) : يالَه من زوج سعيد!
صلاح : ثِقوا أني لا أعرف مَن هذه المطربة.
تحية : ألم تسمع باسم المطربة الشهيرة «نهاد»؟
صلاح : سمعت … ولكني لا أعرِفها معرفةً شخصية.
تحية : هذا لا يمنع من أنك تعرِف كيف تُداعبها وتُغازلها.
صلاح : وهل هذا حصل؟
تحية : حصل … وشاهدتُه بعيني التي في رأسي.
صلاح : أين ومتى؟ … أين ومتى؟
تحية : صلاح، لا تُحاول الكذب على زوجتك.
صلاح : عقلي سيطير من دماغي!
علية : أأنتِ واثقة يا تحية ممَّا تقولين؟ … إن المعروف عن صلاح أنه في مُنتهى الاستقامة … وأنه لا يقلُّ في الاستقامة عن زوجي.
حسني (مُحتجًّا) : ومن قال لك إني مستقيم؟
علية : ثِقتي بِكَ التي لا حدَّ لها.
حسني : يا مُصيبتي … يا شقائي!
تحية : ظنوني دائمًا في محلها … ومع الأسف الشديد … اذهبوا أنتم بدوني … أرجوكم!
علية : العروس بنت خالتنا … وسيُكدرها تغيُّبك.
تحية : زوجي ينوب عني … قولوا إني مريضة.
صلاح : لن أذهب.
تحية : ستذهب … لن أحرمك من حضور هذه السهرة المُمتعة … ومِن مقابلة هذه المطربة الساحرة … ومن …
صلاح : كفى … لن أذهب بدونك!
تحية : لا … لا أُحب أن أحرجك بوجودي معك … أو أضطرك إلى مُغافلتي لاختلاس النظر إليها … اذهب وحدك … لتكون على راحتك.
صلاح : لن أذهب أنا … أبدًا … اذهبي أنت بدوني.
تحية : بدونك … نعم … لأنك تخشى أن أرى احمرار وجهك وأنت تُحادثها … وأن أسمع دقات قلبك وأنت تدنو منها.
صلاح : أُف … إذن … لا نذهب نحن الاثنين.
تحية : هذا هو الحل … الآن في رأيك … وقد انكشف أمرك … عليَّ وعلى أعدائي يا رب … أليس كذلك … فليكن … فلنخلع ثيابنا … ولنمكُث في بيتنا … ولأتحمل أنا إطراقك الطويل، وتقريعك الصامت لي، إذ كنتُ السبب في هذا التفريق الليلة بينك وبينها.
صلاح : بيني وبينها! … مَن هي يا ناس … إني سأُجن … يا علية … هل أُختك هذه في حالة طبيعية.
علية (تتجه نحو أُختها) : دعونا لحظة على انفراد!
حسني (يتشبث بمقعده) : لن أترك مكاني … ماذا ستقولين لها؟ … إنها في حالة طبيعية جدًّا … إنها الزوجة المثالية … إياك أن تُحاولي تغيير طباعها وإفساد أخلاقها.
علية : ابقيا إذن ها هنا … ولنترُك لكما نحن المكان … هلُمِّي بنا يا تحية إلى حجرتك … أساعدك على إتمام لبسك.
تحية : لن ألبس … ولن أذهب … أكان هذا الكلام كله في الهواء؟
علية : إذن هلُمِّي أساعدك على خلع ملابسك هذه … وارتداء ثياب البيت.
تحية : أما هذه فنعم … هيا بنا.
صلاح (كالمخاطب نفسه) : مُستحيل … إني لا أصدق!

(تدخلان الحجرة وتُغلقانها عليهما … يبقى الرجلان (الزوجان) في مكانهما.)

حسني : لا تصدق ماذا؟
صلاح : لا أُصدق أن زوجتك ستنجح في إقناع زوجتي!
حسني : إقناعها بماذا؟
صلاح : بأن تطرح هذه الظنون السيئة التي لا مبرر لها.
حسني : أتسمَح لي أن أطرح عليك سؤالًا؟
صلاح : تفضل!
حسني : جاوبني بصراحة … ما هي حقيقة شعورك الخفي الداخلي؟ … بماذا تشعُر في أعماق نفسك عندما ترى امرأتك تشكُّ هكذا في إخلاصك، وتظن في حُبك الظنون … وتنزعج … وتتألَّم … وتنفعِل … وتثور عليك؟!
صلاح : أشعر إني في جهنم!
حسني : كفى!
صلاح : ماذا دهاك … لماذا تنظر إليَّ هذه النظرات!
حسني : أتأمَّلك وأفحصك وأدرسك … آه … لو لم أكن مُحاميًا … وكانت لي قدرة على التصوير وصناعة التماثيل … لكنتُ الآن قد صنعتُ لك تمثالًا أُطلق عليه اسمًا منطبقًا ناطقًا في لفظ واحد!
صلاح : ما هو؟
حسني : البطر.
صلاح : البطر؟!
حسني : نعم … البطر بالنعمة والكفر بالسعادة!
صلاح : أتمزح؟
حسني (وهو يتأمله) : تمثال يُصورك وأنت تتبرَّم بزوجة، تُحيطك بدفءِ الحرص وحرارة الاهتمام.
صلاح : الحرارة عندما ترتفع إلى درجة الغليان … ألا يُسمُّونها «الجحيم»؟!
حسني : لا يا عزيزي … «الجحيم» هو عندما تنخفِض الحرارة إلى ما تحت الصفر!
صلاح : اسمع يا حسني … إنك تدافع عن موقف تحية … لأنك محامٍ … لا بدَّ لك، بحكم مهنتك وطبيعتك، من شخصٍ تترافع عنه … حتى وإن كنتَ لا تنتظر «أتعابًا» … ولكن …
حسني : لا … ليس المُحامي الآن هو الذي يتكلَّم … ولست أدافع عن تحية ولا عن قضية.
صلاح : عن أي شيءٍ تدافع إذن؟
حسني : عن الحقيقة التي أعرفها وأُحسها وألمسها.
صلاح : إنك لا تعرف عنها شيئًا كثيرًا، هذه الحقيقة … وما رأيتَ منها الليلة أمامك ليس إلَّا قدرًا يسيرًا مما يقع بيني وبين تحية … ولو قصصتُ عليك ما نتبادلُه من أحاديث مُلتهبة ومناقشات طوال الساعات واللحظات …
حسني : قصَّ عليَّ … وأمتعني!
صلاح : إن عملي في «العيادة» مُرهِق كما تعلم … ما أكاد أنتهي منه وأعود إلى منزلي … حتى أجد «تحية» في استقبالي، بماذا؟ … بابتسامة؟ … لا … بخبرٍ لطيف؟ … لا … بحكاية ظريفة؟ … لا … أتدري بماذا تستقبلني؟
حسني : بماذا؟
صلاح : بفتح.
حسني : بفتح قلبها لك؟
صلاح : بفتح «محضر تحرِّي» لي … مَن جاء «العيادة» اليوم من النساء؟ … كم عددهن؟ … وهل هن جميلات؟ … ألم تُعجبك واحدة من بينهن؟ … ماذا قلتَ لهن؟ … ولماذا جئن إليك؟ … بأي مرض؟ … أوَلم تُحادثهن بغير هذه الكلمات؟ … أهذا معقول؟ … ألم تضرب لك إحداهن موعدًا؟ … ألم تنظر إليك واحدة منهن نظرةً ذات معنًى؟ … ماذا كن يرتدين من الثياب والزينة والحُلي عند حضورهن إليك؟ … لم تُلق بالًا إلى ذلك؟! … هاها … مَن تريد أن تستغفل بهذا الكلام ؟ … والشَّعر … ؟ ستقول أيضًا إنك لم تلتفت إلى «تسريحة الشعر»! … والعطر … ستزعم أنك «مزكوم» … وأحمر الشفاه ستقول إنه في عينك قد انقلب أصفر! … والنطق «بدلَع» ودلالٍ ستزعم أنه لم يقرع طبلة أذنك! … تُريد من زوجتك التي شاء لها سوء الحظ والطالِع أن يكون في رأسها عقل ومنطق، أن تقتنِع بأنك في البيت سليم مُعافًى، وفي «العيادة» أعمى، أخنف، أخرس، أصم! … أيها الخائن … أيها الزوج القاتل، إنك تُعذِّب زوجتك … إنك تقتُلها … إنك تحرقها … إنك تُدميها … إنك تَشويها … ثم تأخُذ هذه الزوجة بعد هذا البرق والرعد تذرِف من عينَيها الدموع كأنها المطر.
حسني (ملتذًّا) : ما أجمل كل هذا! … وما أبدعه!
صلاح : كارثتي الكُبرى هي أني لم أكذب قطُّ يومًا على زوجتي، ومع ذلك فهي تأبى أن تُصدِّق حرفًا واحدًا مما أقول … ثِق أني أُحب امرأتي … ولا أُحب النظر إلى غيرها أبدًا من نساء الأرض … ولكنها إذا رأتني أُلاطف عجوزًا شمطاء … أو أُحادث خادمةً حقيرة … أو أُجامل زائرة عابرة … فإنها تُوقِن لساعتها أن خيانةً قد وقعَت أو في طريق الوقوع … وتطوي الأمر في صدرها أيامًا … ويُجسِّمه الوهم حتى يُصيِّرُه حقيقة … فإذا هي تُعاملني كما لو كنتُ مجرمًا … إنها أحيانًا تُخيفني وتضعني في مواضع الحرج … بلا ضرورة ولا مُبرر … زارتها صديقة لها ذات يوم … وكنتُ على وشك الخروج إلى العيادة، فأصرَّت على أن أمُرَّ بالصالون وأحيِّي الضيفة … فلمَّا فعلتُ ما أرادت قالت لي الضيفة مازحة:
«ما من أحدٍ يراك إلا في عيادة أو في حالة مرض! … أتمنَّى أن أراك في ظرفٍ سار … ما رأيك لو دعوتُك إلى تناول الغداء أو العشاء وقدَّمتُ إليك اللون الذي تُحبه من الطعام؟» فوعدتُها خيرًا وانصرفتُ لشأني، فلمَّا عدتُ إلى البيت في المساء وجدتُ امرأتي مُتجهمة تقول «لماذا كانت مُهتمَّةً بك كل هذا الاهتمام؟» فقلت: «لم أُلاحِظ اهتمامًا غير عادي.» فقالت في غيظٍ مكتوم: «انتظر إذن دعوتَها!» فقلت: «هذا مزاح … أأخذْتِهِ مأخذ الجد؟ … إنها كانت تمزح.» أوَتدري يا حسني ماذا حدث في اليوم التالي؟!
حسني : ماذا حدث؟
صلاح : خاطبتني بالتليفون هذه الضيفة حقيقة … طلبتني في العيادة … ودعتني إلى العشاء، وقالت لي إنها أعدَّت لي لونًا من الطعام سيُعجبني.
حسني : وقبلتَ الدعوة؟
صلاح : أأنا مجنون؟
حسني : ماذا قلتَ لها إذن؟
صلاح : سألتُها: «هل اتصلتِ بزوجتي ودعوتها؟» … فأجابت: «لا» … فقلتُ لها عندئذٍ بلهجةٍ خشنة جافية … «وهل تظنِّين أني أقبل حضور عشائك بدونِ أن تكون زوجتي معي؟» ووضعتُ السماعة بدون أن أنتظر منها كلامًا.
حسني : ياللأمانة والوفاء … بادرتَ طبعًا وأخبرتَ زوجتك بموقفك الشريف!
صلاح : لا … لم أُخبرها بشيءٍ على الإطلاق.
حسني : ولماذا لم تُخبرها؟
صلاح : لأني أعرف طباع تحية زوجتي … إنها لن تتلقَّى منِّي الخبر بالشكر والحمد … بل ستقول لي مُهتاجةً مُنتصرة «ألم أؤكد لك أنها ستدعوك؟ … إنَّ شعوري لا يُخطئ … إنها مُهتمَّة بك.» أما موقفي المُشرِّف فإنها لن تُصدِّقه أبدًا ولو حلفتُ لها الأيمان المُغلظة على المصحف والبخاري … هذا إذا كانت صديقتها حقًّا هي التي خاطبَتْني في التليفون.
حسني : ألستَ إذن واثقًا؟
صلاح : إني أستبعِد كثيرًا أن تكون هذه الصديقة قد خاطبتني حقًّا … فهي سيدة فاضلة، لم يُعرَف عنها عوج ولا طيش، وزوجها رجل محترم، لا شكَّ أنها تخلص له، ومن غير المقبول عقلًا أن تتصرَّف هذه السيدة هذا التصرُّف الشاذَّ غير اللائق فتدعوني بمُفردي إلى بيتها … على غير عِلمٍ من صديقتها زوجتي، ومعرفتي بها، كما ذكرتُ لك، سطحية عابرة.
حسني : ومَن التي خاطبتك إذن؟
صلاح : هنا اللغز!
حسني : ألَم تتبيَّن الصوت؟
صلاح : أصوات النساء في التليفون تتشابَه … خصوصًا لمن كانت صِلتك بهنَّ ضعيفة، ولكنِّي مُوقن بأن الصوت على كل حال ليس صوت زوجتي.
حسني : زوجتك … وما دخل زوجتك هنا … آه … أتظنُّ أنها …
صلاح : أظن؟ … بل أُرجِّح أنها هي التي دبَّرَت حكاية مُخاطبتي بالتلفون على هذه الصورة لتمتحِنني.
حسني : لقد نجحتَ في الامتحان … بتفوُّق! … فما خوفك في هذه الحالة من إخبارها؟
صلاح : انتظرتُ أن تُفاتِحَني هي … قائلة لي بحنان وإيمان: «عرفت إخلاصك أيها الزوج الأمين الوفي».
حسني : أوَلَم تُفاتِحك؟
صلاح : أبدًا … مضى الآن على ذلك الحادث نحو أسبوعين، فمُها لم يُفتَح بحرف، ووجهها لم يبْدُ عليه أثر لشيء … حتى أخذ الشكُّ يدبُّ في نفسي من جديدٍ وبدأتُ أقول لنفسي: ربما كانت هي بريئةً بعيدةً عما حدث، وأن تكون تلك السيدة الفاضلة قد فقدت عقلها حقًّا وارتكبت تلك الحماقة بالفعل.
حسني : وبعد؟
صلاح : لا يُوجَد بعد … المسألة واقفة عند هذا الحد … إني أكتم عنها للآن أمرَ تلك المحادثة التليفونية لأني حائر مُحرَج … لا أستطيع الجزْم بحقيقة مَن خاطبني … ولا أستطيع التكهن بنتيجةِ إخباري … ولا بما سيكون من موقفها حيالي … لعلها أول مرةٍ أكذب فيها على زوجتي … أو على الأصح أُخفي فيها شيئًا عنها … ولكن ثِق أنها هي التي تُرغِمني على هذا الإخفاء بظُلمها وسوء ظنِّها.
حسني : ما أحلى هذا الظلم!
صلاح : ماذا تقول؟
حسني : لا شيء … استمر، استمر.
صلاح : هذا كلُّ ما في الأمر.
حسني : لا … لا تقل إنَّ هذا كل ما في الأمر … قُص عليَّ البقية … بقية ما يحدُث بينكما … تكلم … أفصح … واشرح، واسرد لي التفاصيل.
صلاح : أيُعجِبك هذا الموضوع؟
حسني : جدًّا.
صلاح : عجبًا … أوَلم يحدُث لك مِثل هذا؟
حسني : أنا؟ … (يتنهَّد) … آه!
صلاح : كُلنا في الهمِّ سواء … أليس كذلك؟ … ما زوجتك إلَّا أخت زوجتي … فلا بد أنه يحصل لك مثل ما يحصل لي.
حسني (صائحًا) : اسكُت من فضلك … لا تجعلني أنفجر؛ إني على وشك الانفجار … إني لحمٌ ودم يا ناس … إني إنسان … إني زوج. لا أستطيع أن أبقى متفرجًا. أشاهد كل هذا … ولا أبكي حظِّي وأندُب مِحنتي ومُصيبتي وطامَّتي؟!
صلاح : طامَّتك؟ … إلى هذا الحد؟ … أنت أيضًا؟!
حسني : نعم … طامَّتي ومُصيبتي ومِحنتي!
صلاح : ولكنَّ المعروف أن زوجتَك أعقل من زوجتي بكثيرٍ وألينُ عريكةً وأربطُ جأشًا وأضبطُ أعصابًا … وأهدأ روعًا!
حسني (صائحًا) : هنا المصيبة … هنا المصيبة.

(يُفتَح باب الحجرة … وتظهر تحية ومعها عليَّة وتسمع تحية الكلمة.)

تحية (مُتجهمة) : تتحدثان عن مصيبة؟!
حسني : مُصيبة أخرى … لا مؤاخذة … أقصد …
علية (مبتسمة) : تقصدني أنا بالطبع.
حسني (مُتحديًا) : بدون شكٍّ أقصدك أنت.
علية : لأني ناقشتُك الحساب، وضيَّقتُ عليك يومًا الخناق؟
حسني : أبدًا.
علية : لأني عنَّفتُك يومًا وأنَّبتُك ووبَّختُك؟
حسني : أبدًا.
علية : لأني أهدرتُ يومًا حُريتك وعارضتُ إرادتك؟
حسني : أبدًا.
علية : لأني ارتبْتُ يومًا في سلوكك … وشككتُ في تصرفاتك؟
حسني : أبدًا.
علية : إذن لماذا أنا مُصيبة؟!
حسني : لأنك … لأنك … ماذا أقول يا ناس؟!
علية : اعقل يا حسني … اعقل.
حسني : أف! … العقل العقل العقل «صائحًا» إني زوج غير سعيد … وكفى!
علية : فلنؤجِّل الكلام في سعادتك حتى نكون في بيتنا! … نحن الآن في بيت تحية … ويجب أن نتكلَّم في شأنها هي … لقد حاولت إقناعها … ولكنها تُريد قبل كل شيءٍ أن تستفسر من زوجها عن أمر … ها هو ذا صلاح أمامك يا تحية … تكلمي.
تحية : صلاح … أتعتقِد أني أتَّهِمك ظلمًا؟
صلاح : بالتأكيد.
تحية : أتُقسِم لي إذن أنك لم تكذِب عليَّ مرةً ولم تكتم عني شيئًا؟
صلاح (يلتفت إلى حُسني في حيرة وحرج) : أسامع؟!
تحية (لصلاح) : أجب!
صلاح (لحسني) : لو كنتَ في مكاني الآن يا حُسني ماذا تصنع؟
حسني : إني لستُ في مكانك … إني في مكانٍ آخر … أنت في النعيم ولا تدري … أما أنا ففي …
تحية (لأختها) : أرأيت يا علية؟! … إنه يتردَّد … إنه يُخفي عنِّي أمرًا.
صلاح : وأنت … أتُقسِمين أنك لا تُخفين أمرًا عني؟
تحية : لا تهرب من الإجابة بالسؤال … أجبني أنت أولًا … وبعد ذلك أُجيبك أنا.
صلاح : ما هو سؤالك بالضبط؟
تحية : ألم تكتم عني شيئًا؟
صلاح : شيئًا؟ … من أي نوع؟ … ممَّا له صلة بك طبعًا؟
تحية : طبعًا!
صلاح : شيءٌ لا يُخزيني ولا يَشينُني أن أُخبرك به؟
تحية : هذا لا يُشترط.
صلاح : شيء لو أخبرتُك به لكان ذلك في مصلحتي؟
تحية : لو كان ذلك في مصلحتك لما كتمتَهُ عني.
صلاح : سمعتَ يا حسني؟! … ألم أقل لك؟!
تحية : أجِبني ولا تُراوغ.
صلاح : وأنتِ لماذا كتمتِ عنِّي هذا الأمر ولم تفاتحيني به؟
تحية : أي أمر؟
صلاح : هذا الذي تُلمحين إليه.
تحية : أفصح.
صلاح (مترددًا) : صديقتك.
تحية : صديقتي مَن؟
صلاح : التي خاطبَتْني بالتليفون.
تحية : ماذا تقول؟
صلاح : أوَلَا تعرفين شيئًا عن هذا الموضوع؟!
تحية : وكيف تُريد منِّي أن أعرف؟ … هل أخبرتَني أنت؟
صلاح (كالمُخاطِب نفسه) : آه … انزلقَتْ قدمي وانتهى الأمر.
تحية : وماذا قالت لك تلك الصديقة في التليفون؟ … ومَن هي؟ … لا بدَّ أنها تلك التي كانت مُهتمةً بك ذلك الاهتمام … شعوري لا يُخطئ … دعتْك طبعًا إلى العشاء.
صلاح : ولكني رفضت.
تحية : ولماذا رفضت؟
صلاح : أوَكنتِ تنتظرين منِّي أن أقبل؟
تحية : ماذا قلت لها؟
صلاح : قلت لها: «كان الواجب أن تُوجهي الدعوة إلى زوجتي … لأني لا أذهب بدونها».
تحية : أتدري لماذا قلتَ لها ذلك؟ … لأنك اعتقدتَ أني بجوارها في التليفون أُراقب إجابتك.
صلاح : يا حفيظ!
تحية : أتُقسِم أن هذا لم يكن اعتقادك في تلك اللحظة؟
صلاح : أف! … أنت زوجة؟ … أنت نائب عمومي.
تحية : لا يكره النائب العمومي غير المُذنِب.
صلاح : لستُ أكرهك ولستُ مذنبًا.
تحية : لماذا تَضيق إذن بمجرد استفسار مني؟
صلاح : لأن حياتنا تضيع بحماقةٍ في سين وجيم … بينما الدُّنيا مملوءة بأشياء أخرى نقولها، وأحاديث أخرى نتبادلها.
حسني : تريد أحاديث في السياسة، في الانتخابات، في هيئة الأمم، في مجلس الأمن!
علية : اسكت أنت ولا تتدخَّل بينهما.
حسني (يضع رأسه في كفَّيه) : سكتُّ.
تحية (لزوجها) : ومَن المسئول عن ضياع حياتنا بهذا الشكل؟ … أليس هو أنت؟ … أنت … لو أنك فتحتَ لي قلبك لأقرأ كل ما فيه!
صلاح : فتحتُ لك قلبي من أول يوم … بصفحته البيضاء النقية … ولكنك تقرئين ما في ذهنك أنت … لا ما في قلبي أنا.
تحية : ذِهني أنا هو الذي جعلني أكتشِف الحقيقة.
صلاح : تكتشفين الحقيقة؟ … أي حقيقة؟ … مَن يسمعك تقولين هذا، يعتقِد أنك ضبطتني مُتلبسًا، أو رأيتني رؤية العين! … ماذا حدث منِّي؟ … ماذا حصل؟ … ألم تضعيني تحت المُلاحظة الدقيقة … كما يضعون المشبوهين؟ … ألستُ أخرج في ميعادي وأعود في ميعادي؟ … هل تأخرت؟ … هل سهرت؟ … ألم تُجري لي امتحانًا نجحت فيه؟
تحية : ومَن قال إنك نجحت؟
صلاح (صائحًا) : سقطت؟!
تحية : وماذا كنت تنتظر إذن؟
صلاح : سقطتُ لأني رفضت الدعوة؟ … وماذا كان يجب أن أصنع لأنجح؟ … أكنتُ أقبل؟ … مُستحيل! … ما هي إذن الإجابة الصحيحة؟ … من فضلك، أرجوك، عقلي سيذهب … دُلِّيني على الإجابة المطلوبة؟
تحية : لقد غششت! … رتَّبتَ الإجابة لأنك عرفتَ الامتحان … وفهمتَ أني موجودة خلفَ كل هذا … ولو كان الموضوع طبيعيًّا؛ وكانت المرأة التي خاطبتك بعيدة عني غير معروفة لي؛ لكنتَ قبلتَ دعوتها؛ وذهبتَ إلى موعدها.
صلاح : وكيف تحكُمين بذلك؟
تحية : إني متأكدة.
صلاح : يا زوجتي! … ارحميني! … ماذا فعلتُ في دنياي يا ربي! … إني مُوقِن لو أن الله تعالى أرسل لي ملكَيْن من السماء؛ لمُلازمتي وتتبُّع خُطاي … وجاءا إليك بعد ذلك يا تحية؛ يشهدان لي بالاستقامة وحُسن السير والسلوك … لاتَّهمتِهِما بالمُداراة عليَّ والتحيُّز لي … ومكثتِ على ظنك السيئ بي … لا فائدة ما دامت الثقة معدومة … حياتنا الزوجية يا تحية تعسة … مريضة … تعاني فقرًا شديدًا؛ ونقصًا في «فيتامين» اسمه «الثقة» … لو استطعتِ فقط أن تحصُلي لي منهُ على ذرة … حبة … جرام … جرام «ثقة»!
حسني (كالمخاطب نفسه) : وأنا عندي تضخُّم في «الثقة»!
تحية : إني يا صلاح لا أتمنَّى شيئًا إلا أن أمنحك كلَّ ثقتي … ولكن يجب أيضًا أن تُساعدني أنت على تحقيق هذه الأمنية؟
صلاح : أنا رهن إشارتك … ماذا تطلُبين؟
تحية : جاوِبْني فقط بصراحة … بصراحة مُطلقة … عن هذا السؤال.
صلاح : تفضلي!
تحية : ما مدى معرفتك بنهاد؟
صلاح : نهاد؟! … مَن هي نهاد؟!
تحية : مطربة الفرح الليلة.
صلاح : أُقسِم لك أني لا أعرفها.
تحية : حذارِ من الكذب!
صلاح : أقسم لك.
تحية : ألَمْ تُقابلها؟
صلاح : قلت لا أعرفها … تحية اصدُقيني أنتِ … لماذا تتهمينني هذه التهمة؟ … على أي أساس؟ … أهي وشاية؟ … أهو خبر مدسوس؟ … أهي إشاعة؟ … أخبريني ما هو أصل الموضوع.
تحية : رأيتُها وهي تُداعبك … ورأيتُك وأنت تُغازلها.
صلاح : رأيتِنا بعينَيكِ؟
تحية : بعينَيَّ.
صلاح : أين؟ … أين ذلك؟
تحية : في الفرح.
صلاح : أي فرح؟
تحية : فرح الليلة.
صلاح : الليلة؟ … وهل نحن ذهبنا إليه بعد؟
تحية : رأيتُه البارحة في المنام … وما أراه في المنام يصدُق دائمًا … ولا يخيب أبدًا … رأيت الفرح وحفلة الزفاف … والمُطربة «نهاد» تزفُّ العروسة على السُّلَّم … وأنا في ثَوبي هذا الذي سأذهب به … وثوب أُختي «علية» هذا الذي ترتديه … وكل التفاصيل الدقيقة واضحة لعَيني كأنها حقيقة لا حلم. وإذا بي أراك تُغافلني وتنسلُّ من جانبي وتلحق بالمطربة نهاد وتُلاطفها وتُضاحكها … وهي تُمازحك وتُداعبك … وتكاد تسهو عن الحفلة وتُشغَل بك … ثم أخذتَ في مُغازلتها على نحوٍ فاضح مكشوف تهامَسَ له المدعوون والمَدعوات … بينما الدم يغلي في عروقي من الحنَق؛ ويصبغ وجهي من الخجل … ولا أجد لنفسي من هذا الموقف مخرجًا.
صلاح : طبيب مُحترم مثلي يصنع ذلك في حفلة عرس؟
تحية : هذا ما رأيتُه.
صلاح : رأيتِه في أوهامِكِ.
تحية : في حلمي الذي لا يخيب وستَرَى أن كلَّ هذا سيتحقَّق.
صلاح (صائحًا) : شاهدة يا علية؟ … يُعجبك هذا من أختك؟ … تتَّهِمُني هذه التُّهَم … وتغضب هذا الغضب … وتثور هذه الثورة … لحكاية: أوَّلًا … رأتها في المنام … ثانيًا … لم تحدُث بعد!
تحية : ستحدُث.
علية : هذا كثير يا تحية … كثير … أكثر … أكثر من اللازم … أنت مجنونة … مجنونة … اعقلي اعقلي.
حسني (لزوجته) : لا تُعنِّفيها هكذا … أيتها العاقلة! … آه منكم يا حضرات العقلاء! … كل من كان واسِع الخيال ترمونه بالجنون! وتقولون له اعقل.
علية (لتحية وهي تتناول ذِراعها) : هيا بنا إلى الفرح؟ … لقد أضعتِ علينا الوقتَ بهذه المزاعم الوهمية.
تحية : سيُضايقني أن أرى وجه «نهاد»!
علية : انسَي يا تحية هذا الحلم … لا تظلمي الناس بناءً على رؤيا في المنام!
تحية : إنك لا تعرفين أحلامي … إنها دائمًا …
علية : وهل حلمك هو الذي قال إن نهاد ستكون مطربة الفرح؟ … أو إن مصدر عِلمك العروس أو أهلها؟ … إني لم أحاول بعدُ الاستعلام.
تحية : ومَن سيُحضرون غير «نهاد»؟ … إني أقرأ اسمَها دائمًا في الصحف والمجلات في مناسبات الزفاف.
علية (تلتفت حولها بسرعة) : أين التليفون؟
صلاح (يتَّجِه إلى التليفون ويديره لها) : تطلُبين رقمًا؟
علية : خالتنا … بيت الفرح … تسمح … (تمسك بالسماعة وتُدير هي الرقم ثم تتكلَّم) ألو … مَن … خالتي … مساء الخير! … تأخَّرنا لأن تحية أبطأت في اللبس … نعم … أتكلَّم من عندها … حالًا … سنحضُر بعد لحظة … قولي لي يا خالتي … مَن مطربة الليلة؟ … مَن؟ … لا تُوجَد زفة … آه حفلة جد … مَن المطرب؟ … صالح عبد الحي؟ … فقط … متشكرة … (تضع السماعة).
تحية (بدهشة) : صالح عبد الحي؟
علية : نعم فقط … هذه هي أحلامك التي لا تخيب.
حسني (لزوجته) : خير من أحلامك التي لا صخب فيها ولا غضب … حتى الأحلام في بيتنا معقولة … لعنة الله عليها من حياة!
صلاح (لزوجته) : براءة؟
تحية : حالفك الحظ الليلة … مجرد مصادفة … ولكن غدًا … قد يكون هناك استئناف.
صلاح : مفهوم … لا أمل … محكوم على حياتي بالخنق … ما أنت إلَّا رباط رقبة … «كرافتة» من الحرير … تُزين الصدر … وتضغط على العنق!
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤