موعد على العشاء!

وصلَت الطائرة «البوينج» التي تُقلُّ الشياطين إلى «لندن» في تمام الواحدة والنصف صباحًا … كانت سماء «لندن» تكسوها الغيوم، ولسعةِ هواء باردة تهبُّ على الوجوه … حين احتكَّت عجلات الطائرة بممر المطار الطويل، وظلَّت تجري بسرعة تناقضية حتى أصبحَت تسير ببطء إلى أن توقَّفَت أمام صالة الاستقبال … لم يكن بالمطار سوى طائرتين؛ إحداهما تستعد للإقلاع إلى «سنغافورة».

هبط الشياطين تباعًا، وكان «أحمد» أول مَن هبط وتَبِعه «بو عمير»، ثم «فهد» و«باسم» و«عثمان»، وأخيرًا هبطَت «إلهام» و«هدى» … تقدَّم «أحمد» ببذلته الرمادية وقد وضع وردة حمراء في جيب سُترته العلوي … ولم يكَد يخطو خطوات قليلة، حتى تقدَّم منه شابٌّ وسيمٌ قصيرُ القامة حليقُ الشارب أصفرُ الشعر. اقترب من «أحمد» ثم مدَّ يده مصافحًا «أحمد»، وقال بلكنة «إنجليزية» سريعة … مرحبًا بكم … اسمي «ستيفن نيكول» … وابتسم «أحمد» وهو يصافحه، ثم أشار إلى الشياطين أن يتبعوه.

لم تستغرق إجراءات الخروج من المطار سوى دقائق معدودة، وجد بعدها الشياطين سيارتَين بانتظارهما خارج المطار … أشار «ستيفن» للسائقَين فاقتربَا بالسيارتَين ناحية الشياطين، وهبطَا بسرعة ليحملَا حقائب الشياطين.

استقل «أحمد» و«بو عمير» و«إلهام» و«هدى» السيارة الأولى، بينما استقل الأخرى «عثمان» و«فهد» و«باسم» ومعهم «ستيفن»، وانطلقَت السيارتان تجوبان شوارع «لندن» الهادئة النظيفة إلى أن توقَّفتَا أمام أحد الفنادق الفاخرة … هبط «ستيفن» بسرعة بينما تَبِعه الشياطين إلى بهو الفندق … ولم تمضِ لحظات حتى كان الشياطين بغرفهم في الدور الرابع من الفندق، قال «ستيفن»: سأنصرف الآن على أن نلتقيَ في العاشرة صباحًا. وأكمل … لقد تغيَّر ميعاد السفر إلى موعد آخر لم يُحدَّد بعدُ … فقد تمكثون في «لندن» يومين أو أكثر قبل أن تُكملوا الرحلة إلى «الأرجنتين». ثم انحنى …«ستيفن» وهو يودِّع الشياطين قائلًا: أتمنى لكم وقتًا سعيدًا ﺑ «لندن» عاصمة الضباب، وابتسم وهو ينصرف.

كانت غُرَف الشياطين زوجية الأرقام؛ الأولى برقم «٨٦»، وبها «أحمد» و«فهد» و«باسم»، بينما كان «بو عمير» و«عثمان» في الغرفة رقم «٨٨»، وأخيرًا «هدى» و«إلهام» بالغرفة رقم «٩٠».

استقبل معظم الشياطين ليل «لندن» بالنوم باستثناء «بو عمير» و«عثمان»؛ فقد هبطَا إلى استراحة الفندق ليقضيَا بعض الوقت … كانت استراحة الفندق تعجُّ بالزبائن من هواة السهر … مع نغمات الموسيقى الأمريكية، ويصاحبها غناءٌ للمطرب الأمريكي الشهير «الفيس بريسلي» ملك «الروك» كما يُطلقون عليه.

جلس «بو عمير» و«عثمان» في ركن بعيد وقد طلبَا كوبَين من الشاي أحضرهما الجرسون، وهو في غاية الغرابة؛ فنادرًا ما يسهر أحدُ الزبائن ثم يطلب كوبًا من الشاي … فمن المتعارف عليه أن معظم رواد كافيتريا الفندق ممن يشربون السوائل الكحولية. ابتسم «بو عمير» في وجه الجرسون المندهش وشكره … وانصرف الجرسون وهو يودِّع الشيطانَين بنظرات الاستغراب.

قال: «بو عمير» موجهًا حديثه ﻟ «عثمان»: غريب أمر هذا الجرسون … لقد كانت نظراته حادة!

ردَّ «عثمان»: هذا صحيح. وأكمل: فلم نرتكب ذنبًا سوى كونِنا نشرب شايًا.

قال «بو عمير»: صحيح. هنا الأمر يختلف، ولكن ليس بهذه الدرجة.

فقال «عثمان»: لعله لا يحب الشاي، وضحك «بو عمير» على قفشة «عثمان»، وأخذَا بعدها يتجولان ببصرهما بأرجاء الكافتيريا ذات الصالة الواسعة، وكانت الزبائن قد بدأت في الانصراف، ولم يبقَ إلا القليل، وسرعان ما تغيَّرَت موسيقى «الروك» ليبدأ فاصلًا آخر من الموسيقى الهادئة، تثاءب «عثمان» عليها، فضحك «بو عمير» وهو يجذبه ويقول: فلنصعد إذن لننام بدلًا من النوم في الشارع! وابتسم «عثمان» وهو يتأبط ذراع «بو عمير» ويصعدان درجات السُّلم إلى غُرَفهم بالطابق الرابع … وما كادَا يصلان إلى الدور الثاني حتى سمعَا صيحاتٍ خلفهما، فالتفتَا ناحية الصوت فشاهدَا رجلًا طويلَ القامة، ذا لحية طويلة يقترب منهما … وألقى عليهما التحية، ثم خاطب «عثمان» قائلًا: إنني شاهدتك من قبل … وتحدَّثت إليك، ألَا تتذكرني؟ … فحملق فيه …«عثمان» … لحظات، وأجاب وقد بدَا على وجهه علامات الذهول والاستغراب مصحوبتَين بالدهشة والتساؤل: إنني لا أتذكر بالضبط!

فردَّ الرجل على الفور: إذن فلنُكمل حديثنا غدًا؛ لأنني أراك قد غلبك النوم، فهزَّ «عثمان» رأسه بالإيجاب ثم حيَّا الرجل وانصرف بصحبة «بو عمير».

قال «بو عمير» وهو يوجِّه حديثَه ﻟ «عثمان»: تُرى، هل شاهدت هذا الرجل من قبل.

فردَّ «عثمان»: لا أعتقد أنني شاهدته من قبل، ولكن ربما حدث هذا ذات يوم، ولا تسعفني ذاكرتي الآن، فالنوم يا صديقي يُذهب العقل. ثم تثاءب مرة أخرى … وكانت الساعة تقترب من الثالثة والنصف صباحًا حين أوَى «عثمان» و«بو عمير» إلى فراشهما؛ ساعدهما في ذلك سكون «لندن» بجوها البارد على النوم بسرعة، ولم تمضِ لحظات حتى غطَّ الشيطانان في نوم عميق.

وأتى الصباح في مدينة الضباب مشمسًا جميلًا … واستيقظ الشياطين تباعًا … وكان «عثمان» و«بو عمير» آخر مَن استيقظ من الشياطين، ومع طعام الإفطار اجتمعوا، وسرعان ما انضم إليهم «ستيفن» الذي أكد أن ميعاد السفر قد تحدَّد اليوم في الحادية عشرة مساء، وأنه سوف ينصرف ثم يعود إليهم في الساعة العاشرة ليتجهوا جميعًا إلى المطار.

انصرف «ستيفن نيكول» تاركًا الشياطين في ردهات الفندق الواسعة … كان الجو صحوًا والسماء صافية على غير العادة … وتابع الشياطين حركة المرور الانسيابية من شرفات الفندق، وقد كسَت وجوهَهم علاماتُ الإعجاب والانبهار؛ فكل شيء دقيق ومُعَد بعناية في «لندن»، بل في معظم بلدان أوروبا إن لم تكن كلها.

قال «أحمد» مخاطبًا «بو عمير»: إن الأوروبيِّين قد عشقوا النظام والعمل … وبه حققوا كلَّ شيء … ثم أكمل قائلًا: إن أجمل ما في الحياة أن تكون منظمًا جادًّا فيما تفعل … فأومأ «بو عمير» برأسه موافقًا ومؤيدًا ثم قال: إن الإجادة والنظام … طريق التفوق والنجاح.

تدخَّلت «إلهام» في الحديث وهي تؤكد على ما قاله «أحمد»، وأضافَت قائلةً: إن الحضاراتِ كلَّها بُنيَت على العمل الجاد، وأنه لا فرق بين التقدم والتخلُّف إلا بالعمل، وما كادت أن تُكمل جملتها حتى التفتوا جميعًا ناحية الصوت الآتي من خلفهم، وكان نفس الرجل الذي قابل «بو عمير» و«عثمان» أمس، وكان يتجه ناحية «عثمان» وهو يناديه بلكنة إنجليزية غير سليمة «ماي دير»، وأعقبها بكلمة أخرى «دير فرند»، وسرعان ما صافح «عثمان» الذي استدار ونظر إلى «أحمد» و«بو عمير»، وتلاقَت عيناه بعينَي «فهد» و«باسم» … فَهِم الشياطين من خلال النظرات ماذا يقصد «عثمان».

كانت دعوة الرجل صريحة ﻟ «عثمان»: هيَّا نتناول قهوة الصباح بكافيتريا الفندق.

استجاب «عثمان» لدعوة الرجل … الذي قال: نيم …«إدوار»، فضحك «عثمان» وهو يردِّد: نيم «هنري».

واتجهَا «إدوار» بصحبة «هنري» إلى كافتيريا الفندق وسط دهشة الشياطين.

قال «بو عمير» مخاطبًا الشياطين: إنني أشمُّ رائحة المغامرة الجديدة من خلال السيد «إدوار».

فقال «أحمد»: قد يكون ذلك صحيحًا … وقد تكون مجردَ مصادفة أو تشابه في الخواطر؛ فكثيرًا ما ترى أحد الأشخاص وتتخيل أنك قد رأيته من قبل ثم يتضح بعد ذلك أنك لم تشاهده إطلاقًا … بل هو شبيه لأحد أصدقائك القدامى.

وافق «باسم» على رأيِ «أحمد»، وقال: لقد حدث مثل هذا الموقف.

وهزَّ «فهد» رأسَه علامةً على الموافقة على ما يقوله «أحمد» ويؤكده «باسم». كان «عثمان» في تلك الأثناء يجلس مع الرجل الطويل ذي اللحية السوداء والذي عرف نفسه باسم «إدوار».

ودار نقاش طويل بين «إدوار» المكسيكي وبين «هنري» النيجيري، وانتهى النقاش على الالتقاء ثانية ﺑ «الأرجنتين» بعد الوصول بيوم واحد بأحد المطاعم الشهيرة في «بيونس آيرس» عاصمة «الأرجنتين».

كانت الساعة تقترب من العاشرة حين انتهى الشياطين من مناقشة حديث «إدوار» المكسيكي ودعوته ﻟ «عثمان» ومحاولته للتعرف على أصدقاء «هنري» النيجيري … ويقصد الشياطين.

كان «عثمان» قد أبلغ الرجل … أن هؤلاء الأصدقاء من هواة السفر والترحال … وأنهم في طريقهم إلى «الأرجنتين» ليقضوا فيها بعضَ الوقت قبل أن يتجهوا إلى «المكسيك».

وكان أشد ما أدهش الشياطين أن الرجل قد عرف ميعاد سفرهم إلى «الأرجنتين» وأنه سيشاركهم نفس الرحلة ونفس الطائرة … كان «أحمد» في غاية التعجب، فهل هذه صدفة أخرى … أم أن وراء هذا الرجل لغزًا آخر؟!

لم يستغرق الشياطين وقتًا طويلًا في التفكير؛ فقد أتى «ستيفن» وصاح وهو يُحيي الشياطين قائلًا: هل أنتم جاهزون الآن؟

سرعان ما كانت الإجابة التوجه إلى مطار «لندن» الدولي ليستقلوا الطائرة المتجه إلى «الأرجنتين».

لم تستغرق إجراءات السفر سوى دقائق معدودة، صَعِد بعدها الشياطين إلى الطائرة «الجامبو» العملاقة … وما إن دارَت محركات الطائرة وانطلق صوت المذيعة ليُعلن عن بدء الرحلة حتى وقعَت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤