تمهيد

هل جرَّبت أن تقف أمام رسمٍ أو تمثال أو صورة فتحس كأنها تُحَدِّثك بلسان شاعر أو تسكب في أُذنَيك الأنغامَ والألحان؟ ربما قلت لنفسك متعجبًا: حقًّا! إنها لفكرة غريبة، لكنها فكرة عابرة خطرت لعابر سبيل. وتواصل جولتك في المتحف أو المعرض أو المرسم الذي تزوره متأملًا الرسوم والصور وأعمال النحت. قد تستغرق فيها وتتركها تؤثر على وجدانك وعقلك دون أن يتدخل بينك وبينها شيء، وقد تُزاحمك في لحظة التأمل أفكار وآراء ونظريات حصلت عليها من هنا ومن هناك، لكنك في أغلب الظن ستمضي لحالك دون أن تعيد النظر في تلك التجربة، أو تطيل الوقوف عند تلك الفكرة، ولو تصادف وفعلت لتبيَّن لك أن مئاتٍ من الشعراء والفنانين التشكيليين على مدى المئات من السنين قد تبادلوا التأثير والتأثر، فاستلهم الشاعر اللوحة والصورة والنقش والتمثال، والمعبد والمسلة والزهرية والأيقونة، وسجَّلَ إلهامه في قصيدة، كما استوحى الرسام والمصوِّر والمثَّال والخطَّاط ومصمم البناء والمعمار … إلخ، قصيدة شاعر من الشعراء، فرسم وصوَّر وخطَّط وجسَّمَ ما كان الشاعر قد تخيَّله وصوَّره بالكلمة والوزن والإيقاع …

وقصة هذا التأثير المتبادل بين الفنون — خصوصًا فن الشعر وفن الرسم — قصة طويلة يُقَدَّر عمرها بثلاثة آلاف سنة في تاريخ الأدب والفن، لا الغرب والشرق. وهي قصة مثيرة ومُحيِّرة تطرح أكثر من سؤال وجواب عن تلقي الشعراء لأعمال الفن، واستقبال الفنانين لفيض الشعراء، عن العلاقة بين الفنون الجميلة بوجه عام، وفني الشعر والتصوير بوجه خاص، عن البنية أو التكوين الأساسي الذي تشترك فيه كل الفنون بحيث يجعل منها إخوةً وأخوات، أو الاختلافات الجوهرية التي تُميِّز كلًّا منها عن الآخر تمييزًا صارمًا لا يسمح بالمقارنة بينها حتى لا تشيع فيها الفوضى والاضطراب … ومن هوميروس وفيرجيل إلى كيتس ورامبو ورلكه وجئورجه وأودين … إلخ، في الأدب الغربي، ومن امرئ القيس وذي الرُّمة وشعراء «الديارات» وأبي نُوَاس والبُحتري والمتنبي وابن الرومي وابن المعتز وابن زيدون، إلى شوقي ومطران وأحمد زكي أبو شادي وبعض شعراء حركة «أبولو»، وصلاح عبد الصبور وحجازي والبياتي وحميد سعيد وسعدي يوسف في شعرنا العربي الجديد، ومن شعراء في الشرقَين الأقصى والأدنى يصعب حصرهم من العصور الوسطى حتى يومنا الحاضر، سنجد من استلهم أعمال الفن التشكيلي في الرسم والتصوير والنحت والعمارة بل والموسيقى وسجَّلها في قصائد، كما سنجد — بدرجة أقل — رسومًا ولوحات وآثارًا فنية أخرى يمكن أن نصِفها تجاوزًا بأنها قصائد شعرية مُصوَّرة أو مُجَسَّمَة أو مُنَغَّمَة.

ولقد عرف تاريخ الأدب الغربي هذا الجنس الأدبي المتميِّز الذي يمكن أن نسميه قصيدة الصورة منذ العصرَين الإغريقي والروماني، حتى يمكن القول بأنها قديمة قِدَم الأدب والفن نفسَيهما، وأن الأعمال التشكيلية قد حرَّكَت الوجدان الشعري فحاول أن يُخلِّدها أو يُعَبِّر عن انطباعه عنها في صِيَغ لُغوية فنية كُتب لبعضه حظ البقاء، وأن قصيدة الصورة أقدم من النقد الفني، وربما كانت في رأي بعض المنظِّرين أعلى منه قيمة، وأن القرن العشرين يستطيع أن يزهو على القرون السابقة بعدد هائل من هذه الكنوز اللغوية التي تحظى اليوم باهتمام النقاد وحُب القُراء والمتذوِّقين١
بيد أن الحديث عن قصيدة الصورة حديث محفوف بالمخاطر والإشكاليات والمقارنة بين القصيدة والأصل الفني الذي حاول الشاعر أن يصفه، أو يُسجِّل خواطره عنه، أو يُعبِّر عن اندماجه في جَوِّه وروحه، أو يجعله مناسبةً لنقد العصر وقِيمه. هذه المقارنة نفسها ليست بالأمر الهيِّن البسيط؛ فهي بقدر ما تتيح لنا الموازنة بين عملَين فنيَّين ومعايشتهما في وقت واحد، تفتح أكثر من باب تهبُّ منه رياح الأسئلة عن طبيعة الفن ونظريته ووظيفته، وعلاقته بالحياة والواقع والمجتمع، وعلاقة الفنون بعضها ببعض. يقول الشاعر الأمريكي عزرا باوند: «إن العمل الفني المثمر حقًّا هو ذلك الذي يحتاج تفسيره إلى مائة عمل من جنس أدبي آخر. والعمل الذي يضم مجموعةً مُختارة من الصور والرسوم هو نواة مائة قصيدة.» هذه العبارة التي قالها شاعر كبير معروف بثقافته الواسعة، واطلاعه المذهل على الآداب واللغات العالمية، تُبيِّن أن استيحاء الشعراء للأعمال الفنية أمر مشروع، وأن العمل الفني الحق، هو الذي يوحي بأكثر من عمل فني؛ لأن الإبداع في فن من الفنون لا بد من أن يدفع المنتجين في الفنون الأخرى إلى المزيد من الإبداع. كل هذه أمور تتمشَّى مع ما تُؤكِّده فلسفة الفن والنقد الأدبي الحديث من أن قراءة القصيدة أو تأمُّل اللوحة نوع من إعادة خلقها، وأن القصيدة أو الصورة يمكن أن يوحي كلتاهما بعدد من الدلالات بقدر ما يُتاح لهما من قراءات. ومن الطبيعي بعد هذا أن تكون قصيدة الصورة حقيقةً ملموسة تُعزِّزها مئات الأعمال الشعرية في تاريخ الأدب الغربي بوجه خاص، وأن يكون التفاعل بين الفنون حافزًا على المزيد من الإبداع في الفن وفي نظرية الفن على السواء … ومع ذلك فقد عرف تاريخ الفن والنقد كثيرًا ممن ألقَوا ظلال الشك على هذا الجنس الأدبي، وحذَّروا من المبالغة في تضخيم أهمية الفن والأدب المقارنَين، ومن إلقاء ألفاظ مُبهَمة من نوع الإلهام، والاستيحاء، والتأمُّل المقارن، وشعر الرسم، ورسم الشعر، وغيرها من الألفاظ التي يحفل بها تاريخ النقد الفني منذ أن أطلق أرسطو وهوراس عباراتها المشهورة التي سنحاول الآن أن نقف عندها وقفةً أطول٢
تكاد العلاقة بين الفنون تكون أمرًا بديهيًّا لا يشك فيه أحد، ويكفي أن ننظر في بعض الكلمات والتعبيرات الشائعة في النقد الفني والأدبي لنعرف أنها توحي بهذه العلاقة الحقيقية والغامضة في آنٍ واحد؛ إيقاع البناء، معمار الرواية، تصوير الكلمة وموسيقاها، تجسيم الموقف والفكرة، لون النغمة والشخصية … إلخ. والفنون بأشكالها المختلفة — كما يؤكِّد أرسطو في بداية كتابه عن فن الشعر — تُصوِّر الحياة وتشترك في خاصية أساسية هي «المميزيس» أو المحاكاة. ولذلك ينبغي للشعر والتصوير — بوصفهما فنَّين قائمَين على المحاكاة — أن يستخدما مبدأً واحدًا بعينه للتكوين أو البناء، وهو الحكاية أو العقدة في المأساة (التراجيديا) والتصميم أو التخطيط في الرسم (فن الشعر، ٦، ١٩، ٢١)؛ فالشعر عند أرسطو فن، وهو فن محاكاة: إن الشاعر محاكٍ مثله مثل المُصوِّر أو أي محاكٍ آخر (فن الشعر، ١٤٦٠ ب–٨). ومن الطبيعي أن تقوم بين الفنون علاقات مُتبادَلة، وإن تكن كما قال شيشرون (من ١٠٦ إلى ٤٣ق.م. «بعد ذلك علاقات دقيقة رهيفة»، انظر خطبته دفاعًا عن أرخياس ١، ٢). وليس من الصعب على أي إنسان أن يربط لأول وهلة بين الشعر والموسيقى، وأن يُحس بنفسه أن العلاقة المباشرة بينهما تمد جذورًا في مفهوم الشعر نفسه؛ إذ يكفي أن يتذكَّر أن الشعر لا ينفصل عن الوزن والإيقاع والتنغيم والإلقاء، وأن كلمة الشعر الغنائي نفسها في أصلها اليوناني قد جاءت من الآلة الموسيقية (ليرا) التي كانت تُصاحب الغناء، كما أن الشعر بقيَ مرتبطًا بالغناء والعزف طوال العصر الوسيط — في المُوَشَّح الأندلسي، وأغاني الطروبادور في البروفانس، والمينة زانج عند الجرمان — حتى أصبحت الموسيقى المحضة عند الرمزيين في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي المثل الأعلى والمطلق للشعر والشعراء. ولو قلَّبت في تاريخ الفن والنقد والأدب لعثرت على نصوص كثيرة تُقَرِّب بين الفنون، وتلتمس الوحدة المشتركة بينها في البناء والغاية، على الرغم من اختلافها من حيث الترتيب على سُلَّم القيمة ومدارج القُدرة على التعبير. ولن تُعدم مثلًا مَن يصف بناء المعبد الإغريقي بأنه تكوين موسيقي، ومن يميل للمقارنة بينه وبين المأساة (التراجيديا) الإغريقية، أو من يُؤكِّد تأثير الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى على عمارة الكنيسة القوطية إلى حد التطابق الكامل بينهما في الدلالة على عظمة الله وروعة خلقه.٣

لا سبيل إذن لإنكار العلاقة بين الفنون، سواء تصوَّرناها علاقة توازٍ أو تبادلٍ وتفاعل وتأثير وتأثُّر عبر العصور والآداب. غير أن المسألة لا تبدو بديهيةً حين نتأمَّلها بشيء قليل من التفكير، وحين نبحث نوع هذه العلاقة بين الفنون من حيث طبيعتها ووظيفتها ووسائلها وأشكالها الجمالية. ولو حاولنا تتبُّع الأمر في تاريخ الأدب والفن والنقد لوجدنا أحكامًا متضاربة وآراءً متفاوتة إلى حد الخلط والاضطراب أو التشكُّك والارتياب؛ فأديب الرومانطيقية الألمانية وناقدها أوجست فيلهلم شليجل — على سبيل المثال — يرى أن الأدب الكلاسيكي أقرب بطبيعته إلى النحت، على حين أن الأدب الحديث والرومانطيقي أقرب إلى الرسم والتصوير. والناقد الفني المشهور هربرت ريد (في مقالته عن التوازي بين الرسم الإنجليزي والشعر ضمن كتابه في الدفاع عن شيللي ومقالات أخرى ١٩٣٦م) يذهب إلى أن أوزان الشعر عند الأنجلوسكسونيين يمكن أن تُقارَن بزخارفهم، وأن منظرًا طبيعيًّا رسمه الفنان جينز بورو «١٧٢٧–١٧٨٨م» في شبابه يذكِّرنا بقصيدة كولينز «١٧٢١–١٧٥٩م» أنشودة للمساء، بينما تذكِّرنا المناظر الطبيعية التي رسمها ذلك الفنان في أواخر حياته ببعض خصائص شعر وردزورث «١٧٧٠–١٨٥٠م». ومن النقاد من اكتشف تأثيرات من عمارة عصر الباروك على قصائد شعراء مثل طومسون ويونج وجراي وكولينز، بل لقد حيَّرَنا بعض هؤلاء النقاد عندما راح يقارن شعر كيتس «١٧٩٥–١٨٢١م» بالتصوير مرةً والنحت أخرى والموسيقى مرةً ثالثة!

فأنشودته المشهورة عن وعاء أفريقي تسمح بالمقارنة بينها وبين النحت البارز وبينها وبين الرسم. ولقد قال عنه الشاعر الأيرلندي الكبير «ييتس» إنه يرسم في شعره صورًا لا تُنسى، غنية بالإيقاع غِنى الرسم الصيني. ويأتي ناقد آخر فيُشبِّه اللون الأزرق عنده باللون الأزرق في لوحات المُصوِّر الإنجليزي رينولدز (١٧٢٣–١٧٩٢م)، كما يربط ناقد ثالث بين أنشودته إلى عندليب وبين الحركة البطيئة (الإندانتي) في السيمفونية الأولى لبرامز، ويُشبِّه ناقد رابع تأثير أشعارهما على نفوس قُرَّائها بتأثير صور تيرنر «١٧٧٥–١٨٥١م» على من يشاهدها ويتذوَّق جمالها.

هذه الأمثلة وغيرها تُبيِّن أن العلاقة بين الشعر والرسم قد شغلت الشعراء والنقاد أكثر بكثير من العلاقة بين الشعر وسائر الفنون. ولسنا بحاجة للجوء إلى الإحصاءات لنعرف أن الشعراء قد كتبوا عن الرسم والرسامين أكثر ممَّا كتبوا عن النحت والنحاتين والبناء والبنائين، وإن كان هذا لا يمنع أن تكون الفنون الأخيرة قد ألهمت عددًا من الشعراء طائفةً من أجمل قصائدهم، نذكر منهم هلدرين، ورامبو، ورلكه، وستيفان جئورجه. وتبقى الحقيقة مع ذلك ناصعةً ساطعة الضوء؛ إن الشعر قد استوحى الرسم أكثر ممَّا استوحى غيره من الفنون، ولن نجد — في الأدب الإنجليزي مثلًا — قصيدةً عن الرسم تفوق في روعتها وبساطتها قصيدة كيتس سابقة الذكر عن الوعاء الإغريقي، ويكفي أن نستشهد بأبيات من هذه القصيدة التي تبدأ هذه البداية:

أنت يا عروس السكون التي لم يمسسها أحد،
أنت يا من تبنَّاها الصمت والزمان الوئيد،
يا راوية الغابات، يا من تستطيعين أن تحكي
قصةً مزهرة أكثر عذوبةً من أشعارنا …٤

ويتساءل الشاعر عن الأسطورة التي صُوِّرَت على جوانبها، هل هي لآلهة أم لبشر أم لعذارى متمنِّعات؟ وعن الطراد المجنون، والنضال للهرب، والمزامير والدفوف التي يسمع نغماتها العذبة في نشوة عارمة، يسمعها بأذن الروح لا بالأذن الحسية. ويبدأ في تصوير المشاهد التي يراها ويسمعها في آنٍ واحد؛ فهناك الفتى الجميل الذي يجلس تحت الأشجار، لا يستطيع أن يترك أغنيته، كما لا تستطيع تلك الأشجار أن تتجرَّد من أوراقها. إنه هو المحب الجسور السعيد، وجسارته وسعادته ينبعان من قدرته على أن يعزف إلى الأبد أغاني جديدةً أبدًا. وإذا استحال عليه أن يُقبِّل حبيبته فلا ينبغي عليه أن يستسلم للحزن، فسيظل يحب، وستظل هي جميلةً إلى الأبد، وسيبقى حبه دافئًا فتيًّا متساميًا فوق كل العواطف الإنسانية، وسيبقى جمالها ربيعيًّا متجددًا إلى الأبد. ثم يستطرد في وصف الموكب الذي يقوده كاهن غامض لتقديم التضحية على المذبح:

من هؤلاء القادمون إلى التضحية؟
إلى أي مذبح أخضر، أيها الكاهن الذي يلفه الغموض،
تقود هذه البقرة التي يرتفع خُوارها إلى السماء،
وقد تزيَّنت كل جوانبها الحريرية بأكاليل الزهر؟
أي مدينة صغيرة مبنية على ضفة نهر أو شط بحر،
أو على جبل، تُحيطها قلعة آمنة،
أخلاها هؤلاء الناس، في هذا الصباح الورع؟
أيتها المدينة الصغيرة،
ستظل شوارعك أبدًا ساكنة،
وما من امرئ سيستطيع أن يعود
ليحكي لمَ أنت مُقفرة؟

وتنتهي القصيدة بمناجاة الشكل الجميل الذي يفيض بحركة الحب والحياة كما يُجسِّم في صمته سكون الأبدية:

يا شكلًا أفريقيًّا! يا هيئةً جميلة!
بنسيج يزينها، برجال وعذارى من الرخام،
بأغصان وغابات وعشب وطئته الأقدام.
أنت، أيها الشكل الصامت، تُخرجنا بالكدر عن أفكارنا
كما تفعل الأبدية، أيها النشيد الرعوي البارد!

وتُختَتَم الأنشودة بعناق نادر يحتضن فيه الشعر الفكر، ويتلاحم الأدب والفلسفة:

عندما تُضني الشيخوخة هذا الجيل،
ستبقى أنت وسط حزن آخر
غير أحزاننا، صديقًا للإنسان،
تقول له: الجمال هو الحق، والحق هو الجمال،
هذا هو كل ما تعلم على الأرض،
وكل ما تحتاج أن تعلم.
لعل أقدم نص نعرفه في تاريخ الأدب والنقد الغربي عن هذه العلاقة الساحرة الغامضة بين الشعر والفنون التشكيلية هي العبارة المنسوبة إلى سيمونيدس الكيوسي (من جزيرة كيوس في بلاد اليونان، وقد عاش حوالي سنة ٥٥٦ إلى حوالي سنة ٤٦٨ق.م.) التي يقول فيها إن الشعر صورة ناطقة أو رسم ناطق، وإن الرسم أو التصوير شعر صامت.٥

ولا تلبث أن ترد على الخاطر تلك العبارة من كتاب «فن الشعر» للشاعر الروماني هوراس (٦٥–٨ ق.م.)، وهي التي يُشبِّه فيها القصيدة بالصورة (كما يكون الرسم يكون الشعر، فن الشعر، ٣٦١)، كما يطالب ببذل الجهد لصقل البيت الشعري وتشكيله.

والمهم في هذه العبارة التي تعدَّدت شروحها عبر العصور أنها أكَّدَت التشابه بين الفنون — وخصوصًا بين الشعر والرسم — إلى الحد الذي جعل النقاد في عصر النهضة يقرءونها على الوجه الآخر: كما يكون الشعر يكون الرسم. ولقد كانت هذه العبارة القصيرة وراء التأمُّلات العديدة التي دارت حول نظرية الفن والعلاقة بين الفنون، خصوصًا منذ القرن السادس عشر إلى معظم القرن الثامن عشر. وبينما ذهبت قلة من الشعراء إلى تفوُّق الرسم على الشعر لا محاكاة الطبيعة البشرية، جعلت الأغلبية من نفسها حماةً للشعر، وراحت تؤكِّد أن الشعراء هم أعظم الرسامين. ومنذ أن وصف الكاتب الإغريقي الساخر لوكيان «من حوالي ١٢٠ إلى حوالي ١٨٠م»، شاعر الإغريق الأكبر هوميروس بأنه رسَّام مجيد (في كتابه الصور أو الأيقونات، ٨–)، وأيَّده في هذا شاعر عصر النهضة بترارك «١٣٠٤–١٣٧٤م» انطبقت صفة الرسامين أو المصوِّرين العِظام على عدد كبير من الشعراء يمتد من ثيوكريتيس، وفرجيل، وتوركواتو تاسو، وأوريوستو إلى سبنسر، وشكسبير، وملتون وجماعة الشعراء الذين سمَّوا أنفسهم في القرن التاسع عشر باسم «السابقين على رافائيل»،٦ والبارناسيين وعدد كبير من شعراء العصر الحديث. ولم يخلُ الأمر من ناحية أخرى من وجود نُقَّاد يؤكِّدون أن الرسامين والمصوِّرين شعراء، وأن فنانًا رائع الخيال مثل أنجلو يشهد على شاعرية فن الرسم ويسمح بمقارنة الرسامين الشعراء بالشعراء الرسامين!

ومهما يكن الأمر فإن عبارة «هوراس» المشهورة قد نجحت في تأكيد العلاقة القائمة بين الشعر والرسم وغيرهما من الفنون، وأثَّرت على نظريات الشعر والفن عبر العصور، وهدت العديد من الشعراء والفنانين التشكيليين على دروب الإلهام ومسالكه الغامضة، وحفزتهم على مواصلة نشاطهم الإبداعي المثمر.

غير أن العبارة نفسها قد أثَّرت كذلك على الاتجاه المضاد الذي يُنكر أصحابه تراسل الفنون وتجاوبها ويرفض مبدأ المقارنة بينها رفضًا حاسمًا وكأنه «وباء علم الجمال الحديث» … فقد حذَّر شافتسبري «فنون النحت ١٧١٢م» من عقد المقارنات بين الرسم والشعر، ووصفها بأنها محاولات عقيمة وباطلة. ثم جاءت الضربة الكبرى لهذا الاتجاه كله من كتاب هام ذائع الصيت هو كتاب «لائوكون» (١٧٦٦م) لأديب عصر التنوير والكاتب والناقد المسرحي «ليسنج»؛ فقد نظر إلى الشعر والرسم من حيث علاقتهما بالزمان والمكان على الترتيب، وميَّزَ الأشكال الزمانية في الفن تمييزًا حادًّا من الأشكال المكانية، وبيَّنَ عواقب الخلط بينها في العمل الفني الواحد والتأثيرات الناجمة عن البنية الداخلية المختلفة في الشعر عنها في الرسم. ولقد كانت النظريات الفنية التي استندت إلى مبدأ «هوراس» هي في رأيه السبب الرئيس للاضطراب والخلط المؤسف بين الفنون في عصره. ثم جاء في عصرنا الحاضر من ألَّفَ «اللائوكون الجديد، مقال عن الخلط بين الفنون» (المؤلفة أيرفنج بابيت ١٩١٠م)، فأيَّدَ حجج ليسنج وشواهده — التي استمدَّها من الأدبَين الإغريقي والروماني — بحجج جديدة تؤكِّد عبث المحاولة كلها وتبسيطها المخل لطبيعة الفن والواقع على السواء.٧
لكن علاقة القرابة بين الشعر والرسم لم تلبث أن ظهرت مرةً أخرى منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أيامنا الحاضرة … وكانت فنون الشرق التي تعَرَّف عليها الغربيون على نطاق واسع منذ ذلك الحين هي المسئولة عن هذا التحوُّل؛ فقد أحسَّ الناس بشاعرية الرسوم الشرقية، وبنزعة الشعر الصيني والياباني إلى الرسم والتصوير. وتزايدت الدراسات النقدية التي تُوضِّح العلاقة الوثيقة بين الشعر والرسم، كان الشعراء الصينيون في معظم الأحيان رسامين، كما كان النقاد — في القرنَين الحادي عشر والثاني عشر بوجه خاص — قد أكَّدوا التوازي بين الشعر والرسم في عبارات قريبة من العبارات المأثورة عن سيمونيد وهوراس. وها هو ذا واحد منهم — وهو كورسون — يقرِّر أن الرسم والكتابة فن واحد، وأن الشاعر يستطيع أن يرسم الشعر كما يستطيع الرسام أن يكتب قصائد بلا صوت … وقد أدَّى هذا بعدد من الشعراء الأوروبيين والأمريكيين إلى اتباع القواعد التي حدَّدها اليابانيون للقصائد والقوانين التي وضعها الصينيون للرسم. وبلغ الأمر ببعض هؤلاء الشعراء أن كتبوا ورسموا قصائد «شرقية»؛ أي صورًا تتجه إلى العين مباشرة، وانطباعات حرةً في عدد محدود من المقاطع والسطور، وإيحاءات مُركَّزة عن طريق تمثُّل الطبيعة لا عن طريق نسخها، وأبيات مقتصدة شديدة التركيز والأحكام من نوع «الأبيجرام»٨ المعروف في الغرب منذ عهد الإغريق. ومهما يكن الأمر فيبدو أن عددًا كبيرًا من الشعراء والفنانين الذين ستَطَّلع على أعمالهم المشتركة قد تأثَّروا قليلًا أو كثيرًا بهذا التراث العريق عن العلاقة بين الشعر والرسم — بوجه خاص — ومع أن الشعر الحديث والمعاصر قد تطور وتعقَّد مثله مثل الرسم الحديث والمعاصر بحيث لم يعد كلاهما يسمح بتحديد مفهوم الشعر أو الرسم تحديدًا تتفق عليه الآراء، فإن القصائد التي كتبها هذا العدد الكبير من شعراء العصر عن الصور واللوحات وأعمال النحت القديمة والوسيطة والحديثة تشهد شهادةً كافية على «علاقة الرحم» التي تجمع الفنون ببعضها والشعر والرسم بوجه خاص٩

نعم! ما أكثر ما ينظر الشعر بعينه إلى الفنون الأخرى ويستعير منها، كما تنظر هي أيضًا إليه وتستعير منه! والأمثلة على هذه الصلة المتبادلة في الآداب المختلفة أمثلة كثيرة لا حصر لها، ويكفي أن نذكر هذا العدد القليل منها على صورة رءوس موضوعات لا يسمح المجال بالدخول في تفصيلاتها؛ وَصْف هوميروس لدرع أخيل في الإلياذة (النشيد ١٨، السطور من ٤٧٨ إلى ٦٠٨)، ووصف فرجيل في النشيد الثامن من الإلياذة لدرع إنياس (السطور من ٤٧٨ إلى ٦٠٨)، ووصف فرجيل في النشيد الثامن من (السطور من ٦٢٥ إلى ٧٢١)، وصف دانتي «وحديثه المرئي» عن تمثال البشارة لمريم العذراء، وتمثالَي داود وتراجان في النشيد العاشر من المطهر (أو الأعراف) من كوميدياه الإلهية، الموت المنتصِر والموت المهزوم في فن الكلمة وفن التصوير في عصر الباروك، تصوير الأعمال الأدبية منذ العصور الوسطى والرومانطيقية إلى التكعيبية في عصرنا الحاضر في أعمال ديران وبيكاسو ودوفي، الصور التي رسمها شكسبير في مسرحياته، الصور الرمزية والشعارات «الإمبليمات» التي ارتبطت بنصوص شعرية وازدهرت في القرنَين السادس عشر والسابع عشر بوجه خاص، قصيدة كيتس التي قدَّمناها قبل قليل عن الوعاء أو الزهرية الأفريقية بجانب قصائده التي كتبها متأثرًا بلوحات تسيان وبوسان، الأبنية الرمزية والشكلية في شعر والت ويتمان ومشابهتها للأبنية الموسيقية، تأثير الفنون التشكيلية الحديثة، وبخاصة أعمال رودان وسيزان وباوكليه وبيكاسو على شبر «رلكه» المتأخِّر إلى حد التناظر في التعبير عن الشعور عنده وعند أولئك الفنانين، بجانب قصائده عن الكاتدرائيات، السمات التصويرية في التعبير الشعري لدى بعض الشعراء التعبيريين الألمان مثل جورج هايم، وجورج تراكل، وأرنست شتادلر، القالب السيمفوني في رواية هيرمان بروخ «موت فرجيل»، السمات القصصية في صور الفنانين السيرياليين كيريكو وماكس أرنست، قصائد «الفردوس غير المفقود» التي كتبها الشاعر الألماني أرنست شونفيزة لرسوم المصور والمثال إرنست بارلاخ على الحجر، مدرسة التصويريين في الشعر الإنجليزي والأمريكي الحديث التي تزعَّمها عزرا باوند، وبرز من أبنائها ت. س. إليوت، وكلاهما قد نهل من معين الحداثة (المودرنية)، أو بالأحرى الثورة المعرفية التي جاءت مع الفنون البصرية والتشكيلية الحديثة في النظرية والتطبيق وخصوصًا مع التكعيبية والدوامية والسريالية، ناهِيَك بعد هذا كله عن اجتماع فنَّين في شخصية مبدعة واحدة مثل مايكل أنجلو، وفاجنروت. أ. هوفمان، ووليم بليك، وجبران خليل جبران، وجبرا إبراهيم جبرا، ورمسيس يونان، وحسن سليمان، وصلاح جاهين، وأحمد مرسي، وغيرهم ممن لا تحضرني الآن أسماؤهم. ومن الصعب أن نحصر عدد القصائد التي «وصف» فيها الشعراء لوحات الفنانين وصفًا شعريًّا، وخصوصًا لوحات الطبيعة كما صوَّرها الفنانون الرومانطيقيون مثل كلود لوران «١٦٠٠–١٦٨٢م»، وسلفاتور روزا «١٦١٥–١٦٧٣م». وأصعب من ذلك أن نحصر عدد القصائد التي استلهمت صورًا ورسومًا وتماثيل ونقوشًا وأعمالًا نحتية منذ العصور الإغريقية والرومانية حتى القرن العشرين الذي ازدهر فيه هذا الفن الشعري إلى حد مذهل، وساهم فيه شعراء كبار مشهورون وآخرون مبتدءون لم يكد يسمع عنهم أحد! والعكس كذلك صحيح؛ فعدد الفنانين الذين رسموا وصوَّروا قصائد لشعراء مشهورين — من هوميروس وفيرجيل ودانتي وشكسبير وملتون ولافونتين وجوته وبيرون وبودلير إلى الشعراء المعاصرين — عدد يفوق الحصر. وما أكثر القصائد التي ألهمت أكثر من فنان فلحَّنها مؤلف موسيقي، ورسمها رسام، وعبَّر عنها مثَّال! ويكفي أن نذكر قصيدةً للشاعر الرمزي مالارميه (١٨٤٨–١٨٩٢م)، وهي قصيدة «عصر إله الغاب» التي صوَّرها الرسام التأثيري مانيه، ولحَّنَها الموسيقي التأثيري ديبوس، وحوَّلها فنان الباليه نيجنسكي سنة ١٩١٢م إلى باليه …

لو تركنا الفنون والفنانين وانتقلنا إلى النقد والنقاد لَمَا وجدنا هؤلاء أقل حماسًا أو اهتمامًا ببيان التقارب والتجاوب بين الفنون المختلفة والنقاش والجدل حول طبيعة العلاقة بينهما؛ فالشاعر والناقد الإنجليزي درايدن «١٦٣١–١٧٠٠م» يكتب عن التوازي بين الشعر والرسم «١٦٩٥م» مُؤكِّدًا أن الاستعارات الجريئة في الشعر تساوي الألوان القوية المتوهِّجة في الرسم، وأن التأثير الناتج عن بعض التشبيهات والكنايات وأشكال التعبير الشعري تُشبه التأثير المنبعث من الألوان والظلال والأضواء على لوحة الرسام. وأديب الرومانطيقية وناقدها أوجست فيلهلم شليجل (١٧٦٧–١٨٤٥م) يطالب بترجمة الصور ترجمةً شعرية، ويكتب عن بعض الصور الفنية مجموعة من السوناتات التي كان لها تأثير كبير على تطور قصيدة الصورة وإن لم تكن ذات قيمة أدبية كبيرة. والناقد الفني المعاصر «ماريو براز»١٠ قد لمح صورة الشاعرَين رامبو ولوتريامو — بجانب عالم التحليل النفسي فرويد! — في رسوم بيكاسو وسلفادور دالي، كما قارن بين الرسم السريالي وبين الأبيات التسعة التي تأتي بعد هذا البيت في قصيدة «إليوت» المشهورة «الأرض الخراب»، من الجزء الثالث الذي وضعه الشاعر تحت عنوان «موعظة النار»:
لقد زحف فأر في خفة بين المزروعات
وهو يجرُّ بطنه الدبقة على الضفة،
بينما كنت أصطاد السمك في القناة المعتمة
ذات أمسية من أمسيات الشتاء خلف مستودع الغاز
وأنا أُفكِّر في حطام أخي الملك
وفي موت أبي الملك من قبله.
أجساد بيضاء عارية على الأرض الوطيئة الرطبة،
وعظام مُلقاة في غرفة صغيرة ضيقة جافة على السطح
لا يكاد يطؤها غير أقدام الفأر من عام إلى عام.
لكني ما أنفك أسمع من وراء ظهري بين الحين والحين
صوت الأبواق والمحرِّكات التي ستُعيد
سويني إلى مستر بورتر في الربيع.١١

وأخيرًا فقد كشف هذا الناقد نفسه (وهو ماريو براز) عن العلاقة الوثيقة بين الفن التجريدي وقصائد الشاعر جيوم آبوللينير «كاليجرام»، كما ذكرته قصائد الشاعر كمنجز (١٨٩٤–١٩٦٢م) برسوم وصور موندريان وكاندنسكي وباول كليه، بل لقد وصف بعض قصائد هذا الشاعر بأنها شعر ورسم في آنٍ واحد، وأنها تطبيق جديد للمبدأ القديم الذي عبَّر عنه هوراس عندما قال «كما يكون الرسم يكون الشعر» …

ومهما يكن من تحذير بعض نُقاد وفلاسفة الفن من الغلوِّ في هذه المقارنات بين الفنون إلى درجة الاضطراب والغموض وتذويب الحدود بينها (مثل رينيه ويليك، وإتيين سوريو وجيمز مربمان)، فلا يمكن أن نتجاهل التأثيرات المتبادلة بينها، ولا أن نُجَرِّد رؤية الفنان للقصيدة من كل قيمة، ولا أن نُغفل الثمار التي جناها الأدب والفن التشكيلي من التجاوب الروحي والعملي بينهما. ولا شك في أننا مهما ميَّزنا الفنون بعضها عن بعض وأبرزنا الفروق البنيوية التي تجعلها تُعبِّر عن عوالم مختلفة بوسائل مختلفة، فإن الوظيفة الرمزية واحدة في كل أنواع التعبير الفني (كما تقول الفيلسوفة سوزان لانجر)، كما أن كل التقسيمات والتصنيفات والتصورات الجمالية المختلفة تنتهي في أعماقها العميقة إلى وحدة واحدة (كما يقول كروتشه في كتابه عن الشعر). وسواء فهمنا من هذه الوحدة الأخيرة أن جميع الفنون تطمح إلى أن تصبح انسجامًا وموسيقى، أو أن تتحوَّل في النهاية إلى عبادة وصلاة، فإن هذه الوحدة المأمولة تدل في كل الأحوال على الصلة الحميمة بين جميع الفنون …

ولا بد من القول بأن تأكيد هذه الصلة الحميمة لا يعني ببساطة أن القصيدة الشعرية يمكن أن «تمثِّل» الصورة أو العمل التشكيلي بحيث تكون مطابقةً لها، أو أن هذَين الأخيرَين يمكنهما أن يترجما المشاعر والأخيلة، والمواقف النفسية والعقلية التي تنطوي عليها القصيدة؛ فمن الفنانين أنفسهم من يحدِّثنا عن صعوبة استيحاء المضمون الشعري وتحويله إلى صورة. وقد اعترف الفنان الألماني «باول كليه» بأن من العسير إيجاد تشكيل فني يطابق الموضوع (أو الموتيف) الشعري مطابقةً تامة. والعكس كذلك صحيح؛ فمن الصعب أن نعثر على الأعمال الفنية اللغوية (أي القصائد) التي تناظر الصور والتماثيل، أو تعكس على الكلمة ما أظهره الفنان في اللون والظل والخط والتشكيل. وسوف يتبيَّن لنا بعد قراءة عدد من «قصائد الصور» أن من الشعراء من اكتفى بوصف الصورة، ومنهم من راح يمجِّدها ويمجِّد صاحبها، أو ينقدها ويتهكَّم عليها، ومنهم كذلك من أخذ يخاطبها ويناجيها أو تركها تخاطبه وتناجيه، ومن ذَكرَ مضمونها وروى قصة نشأتها وحياتها، ومن استخدمها مناسَبةً للاسترسال في تأملاته وتجاربه الشخصية. وربما فوجئنا بالشاعر الذي يكتب عن صورة فيُخَيَّل إلينا أنه هبط إلى ذلك الأساس أو الأصل الخفي الذي تكمن فيه قوانين الوجود، وتتلاقى الرياضيات والأحلام، وتنبثق كل الصور والكلمات كأنها تتدفَّق من نبعٍ جياش. ولا بد أن نحس عندئذٍ كأن الشاعر الفريد قد جرَّبَ ذلك الانسجام الأصلي ومعه ذلك الانشقاق الأصيل اللذَين تصدر عنهما الحياة الواعية واللاواعية التي تعمل عملها في كل الفنون …

إن تجميع الصور والقصائد على النحو الذي تراه في هذا الكتاب سيُتيح لك المقارنة بين الصورة والنص الذي كُتب عنها، كما سيتيح لكلٍّ من الشعر والرسم أن يُلقي أحدهما الضوء على الآخر ويتواصل معه؛ فالنص الشعري لا يُفَسَّر بنص نثري، وإنما يُفَسَّر بشيء مستقل عنه ينتمي لميدان فني آخر، شيء يمكن أن يُرَى وأن يُقارَن بالنص. ولمَّا كانت قصيدة الصورة تقوم على أساس الاختلاف القائم بين الفن اللغوي وفن التصوير، ولا تمس الحواجز الفاصلة بينهما، فإنها تستطيع بوسائلها اللغوية والإيقاعية أن تفسِّر ما تمثِّله الصورة بوسائلها العِيانية في وسط آخر. ولا تخفى الفائدة التي يمكن أن يجنيها الفن والأدب من أمثال هذه المقارنات، بل إن الأمر ليتخطى حدود الفن والأدب لينعكس على علوم الاجتماع والنفس واللغة والأدب المقارن والجمال؛ ففي إمكان المهتم بأحد هذه العلوم أن يقوم بهذا اللون الفريد من البحث المقارن ليلتمس فيه الإجابة على مشكلة تشغله. في إمكان عالم الاجتماع — على سبيل المثال — أن يعرف كيف تلقَّى الناس عملًا من الأعمال الفنية في عصر مُعيَّن بكل ما ينطوي عليه تلقي الفن من مضامين اجتماعية ودلالات على روح العصر وثقافة المجتمع وميول الطبقات المختلفة. وفي استطاعة عالم النفس أن يتوسَّل بالنص الشعري للتغلغل في نفسية الفنان والاطلاع على أسرار صنعته وإبداعه. ولن يتردَّد عالم اللغة عن دراسة القصيدة ليكشف عن دلالة الكلمات والصور والتكوينات اللغوية والإيقاعية، وهل اقتصرت كلمة الشاعر على الإشارة والوصف، أم حملت قوة الرمز وقدرته على الإشعاع والإيحاء والتلوين. أمَّا مؤرخ الفن وناقد الأدب وفيلسوف الجمال فسيجدون في هذه المقارنات موضوعات للبحث لا تنفد، وربما وجدوا فيها حلولًا لمشكلات لم يكن من السهل الإجابة عليها قبل ولوج هذه الأرض الحرام التي كانت تفصل بين الفن التشكيلي والأدب، فإذا بها تزدحم أمامه بعشرات من الفنانين والشعراء الذين تجمَّعوا من بلاد وعصور مختلفة، واخترقوا حدود الجنسيات واللغات لكي يلتقوا على هدف إبداعي وإنساني واحد …

غير أن القارئ الذي أدعوه للاستمتاع بقراءة هذه القصائد واللوحات ستواجهه مشكلة عويصة أو بالأحرى مشكلتان؛ كيف يقرأ القصيدة، وكيف يقرأ الصورة؟! لا شك في أن القراءات تتعدَّد بتعدد القُرَّاء، وربما اختلفت عند القارئ الواحد من لحظة إلى أخرى، ومن مرحلة من العمر إلى مرحلة، وفي كل مرة يكتشف طبقةً من طبقات النص كانت خافيةً عليه … ستُسعفه قراءاته السابقة بطبيعة الحال، وربما أعانته تجاربه الأدبية والفنية التي اكتسبها من خبرته بالتراثَين الأدبي والفني على الغوص في تلك الأعماق. وعلى قدر العمق الذي بلغته هذه الخبرة الحية يكون عمق القراءة. ومن الأمور المتفق عليها اليوم أن قراءة الشعر نوع من الخلق والإبداع؛ فنحن عندما نقرأ شعرًا نتمثَّل ما فيه من مشاعر وتجارب وأخيلة، وتنفتح لعيون بصيرتنا مجموعة من الصور والمناظر والمواقف التي «رسمها» الشاعر ودفعنا على رسمها من جديد لنعايشها بحالة شاعرية وشعورية تكاد تكون قريبةً من ذات الحالة التي صادفته عندما كتب قصيدته. وربما يكون الحال كذلك مع الصور واللوحات وأعمال النحت التي نتأمَّلها ونحاول أن ندخل إلى عالمها؛ فهي تجسِّم أو تظهر — بالخط واللون والضوء والظل، أو بالحجر والخشب والنحاس … إلخ — مجموعةً من المشاعر والأفكار والتجارب التي اختلجت في عقل الفنان ووجدانه، وفي الحالَين نجد أنفسنا مدعوين للمشاركة في تكوين أو تشكيل أو بناء خاص انصهرت فيه الألفاظ والصور والأوزان والإيقاعات من ناحية، والخطوط والألوان والمساحات والظلال من ناحية أخرى. وتزداد صعوبة المشكلة مع قصائد نُقلت — على جسر الترجمة الواهن! — من لغة إلى لغة أخرى مختلفة عنها في نظامها الصوتي والنحوي والتركيبي والدلالي. والواقع أن كلمات الشعر — بل أحرف هذه الكلمات! — بترتيب سياقها في القصيدة، وبجرسها ورنينها الخاص، هي مفتاح الباب الضيق — أو الباب المغلق! — الذي ننفذ منه إلى عالم الشعر السحري، أصل النشوة والعجب و«التعجيب» الذي يأخذ بألبابنا عند قراءته. ولم يبالغ القاضي الجرجاني عندما وصف كلام الشاعر بأنه «أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار …»١٢

ولكن ما العمل إذا كانت القصائد لا تُقَدَّم في لغاتها الأصلية؟ وإذا كانت الترجمة تضحى مضطرةً بصوت اللفظ الذي هو جزء لا يتجَّزأ من معناه، بل تنقل اللفظ الأصلي بجرسه الخاص إلى نظام لغوي آخر ينقُله إلى لفظ آخر إلى صوت وجرس مختلفَين؟ أليس معنى هذا أن تُصبح قراءة النص الشعري أمرًا مستحيلًا لمجرَّد أنه نص مُترجَم؟

كل هذه مشكلات وأسئلة تطرح نفسها على الترجمة الأدبية بوجه عام وترجمة الشعر بوجه خاص. وليس هذا هو مجال مناقشة هذه المعضلة التي تتفرَّق حولها الآراء من قائل إن الشعر لا يُترجَم — كالجاحظ في عبارته المُشْهَرَة — أو إن جوهر الشعر نفسه هو الذي يذهب مع الترجمة، أو إن ما يبقى منه بعدها أكثر ممَّا يضيع منه … إلخ. ولا خلاف على أن ترجمة الشعر — حتى لو قُيِّض لها أشعر الشعراء في لغاتهم الأصلية! — تُمثِّل العقبة الكبرى أمام قراءته قراءةً حقيقية يصحبها الفهم العميق والذوق الدقيق لدلالات الألفاظ وإيحاءاتها الصوتية والصورية والرمزية. ولقد تمنَّيت لو جاءت الترجمة العربية في مواجهة النص الأصلي في لغته التي قرأته بها، لكن ظروف النشر في عالمنا العربي لا تسمح بهذا العمل الواجب، وربما يزيد من أعباء النشر والطبع التي لا ضرورة لزيادة ثقلها. أضف إلى هذا أن القراءة المثالية إذا كانت قد أصبحت مستحيلةً أو بعيدة المنال، فإن فرصة القراءة الممتعة التي تتيحها المقارنة بين النص والرسم بجانب مقارنة النصوص الشعرية بعضها ببعض لم تنعدم ولا يمكن أن تنعدم.

ولنجرب الآن — بوسائلنا النثرية الفقيرة — أن نقرأ بعض الصور التي ستجدها في هذه المجموعة المختارة، ولنحاول أن ننظر إليها بعيون الشعراء الذين عرفوا كيف ينظرون، فربما نتعلم منهم شيئًا من فن الرؤية الذي برعوا فيه، بينما نسير نحن في دروب هذا العالم كالذين يفتحون أعينهم ولا يرون …

لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن العمل الفني الحقيقي أشبه بمنجم غني بكنوز الأسرار وأسرار الكنوز، وكل من يتأمل ذخائره لا بد من أن يفعل هذا من وجهة نظر معينة تتحكَّم فيها عوامل لا حصر لها، ويستخرج منه هذا الجوهر الثمين أو ذلك حسب قدرته وموهبته وثقافته وخبرته ونظرته للحياة والكون والفن. ولن نستطيع بطبيعة الحال أن نقف أمام جميع الصور والأشعار التي يقدِّمها هذا «المتحف» الصغير؛ لأن ذلك يفسد الغاية من إتاحة الفرصة لكل قارئ لكي يتذوَّق ويُجرِّب بحريته الكاملة؛ ولذلك سأكتفي بمحاولة النظر إلى ثلاث لوحات اخترتها من أكثر من أربعين لوحة، مع علمي أن المحاولة لا تخرج عن إلقاء بعض الأسئلة التي تُحفِّز القارئ على الدخول في عالم هذه القراءة الفريدة، وتُشجِّع على القيام بالمغامرة، وتغري الشاعر والمصوِّر بمد أيديهما إلى بعضهما …

وربما يسأل القارئ: كيف يمكنني أن أُفسِّر قصيدة الصورة؟ وكيف أقارن بين نص لغوي وآخر مرئي؟ والإجابة على هذَين السؤالَين وأمثالهما متروكة لكل قارئ على حدة، وهي تعتمد — كما سبق القول — على ذوقه وتجربته، وثقافته ووجهة نظره في النقد والحياة. وإذا صحَّ ما يقوله بعض نُقَّاد الشعر من أن القراءات تتعدَّد بتعدُّد القُرَّاء، وأن كل قارئ يُعيد إبداع القصيدة على طريقته ولا يقتصر على استحضار تجربة الشاعر الأصلية، فلا غنى لهذا القارئ نفسه عن — ٢٤ — بعض الموجِّهات النظرية التي تهديه داخل المتاهة السحرية. ولذلك سنطرح بعض الأسئلة التي يمكن أن تساعد الإجابة عليها على القراءة المنظمة، ولا نقول العلمية أو الموضوعية حتى نترك للتذوُّق الحر مجالًا يتحرَّك فيه؛١٣ كيف ومتى التقى الشاعر بالصورة، وفي أي موقف من مواقف حياته وعصره ومجتمعه تمَّ هذا اللقاء؟ هل نشأت قصيدته في مناسبة مُعيَّنة، كأن تكون هذه المناسبة زيارةً لمتحف أو مرسم أو معرض صور، أو احتفالًا بذكرى فنان، أو حتى الحصول على بطاقة بريدية طُبعت عليها الصورة؟ وكيف كان تأثير هذه الصورة عليه؟ هل جذبته إليها أم نَفَّرته منها؟ هل شعر بغرابتها وغموضها، أم أحسَّ أنها تُحرِّك عاطفته وتُلهمه وتقدِّم له الراحة والعزاء؟ وهل نجح في أن ينقُل مضمونها وشكلها إلى لغة القصيدة بحيث تعكس بنية القصيدة بعض العناصر المكوِّنة لها؟ وإذا كان قد نجح في هذا فما هي الوسائل والأدوات الفنية التي لجأ إليها؟ كيف استطاع أن يجعل الصور الساكنة تنطق وتتحدَّث إلينا من طوايا الماضي البعيد أو الحاضر المباشر؟ وإذا كان قد وُفِّق في التعبير عن بعض معالم الصورة وتفصيلاتها الدقيقة، فهل أغفل تفصيلات أخرى، ولماذا فعل ذلك؟ هل تمكَّنت القصيدة من تقديم تفسير للصورة، وما هي الوسائل التي استعانت بها لتحقيق ذلك؟ ثم ماذا كان هدف الشاعر من كتابة قصيدته عن صورة مُحدَّدة؟ هل كان الهدف هو نقد عصره ومجتمعه، مثل معظم الشعراء الشباب الذين ستجدهم يكتبون عن «كآبة» دورر أو «جوكندا» دافنشي، فيُدينون عصر القلق والأورام والرعب النووي وقواعد الصواريخ؟ أم كانت غاية الشاعر هي إطلاق العِنان لخواطره ومشاعره، وإلقاء الضوء على الوجود الإنساني بوجه عام، ومحاولة الاقتراب من سره ومعناه؟ أم كان الهدف في النهاية غير مرتبط بأي هدف، اللهم إلا متعة التأمُّل والتذوُّق المنزَّهة عن كل هدف أو غرض، وهي المتعة التي جعلها «كانت» محور التذوق الفني والاستمتاع والمسرة الجمالية؟

وربما ينتقل القارئ إلى أسئلة أخرى أكثر ارتباطًا «بحرفية» القصيدة وصنعتها فيسأل: كيف عالج الشاعر قصيدته و«وظَّفَ» كلماتها وعباراتها وصورها ورموزها؟ هل سلك طريق الوصف المباشر، أم سار على درب القصة والحكاية، أم لجأ إلى الحوار بينه وبينها؟ هل اتبع الأسلوب الغنائي أم التقريري أم أسلوب التعليم وضرب المثل؟ وهل أوجز وكثَّف أم أسهب وأطنب؟ في أي قالب وضع قصيدته ورتَّبَ أبياتها ومقاطعها؟ وهل التزم أوزانًا من بحر مُعيَّن ونوع القوافي، أم فضَّلَ الشعر الحر وبالغ في بعض الأحيان وكتب على طريقة الشعر المُجَسم (الذي كان آخر صيحة في عالم الشعر وتنظيم سطوره حتى عهد قريب)؟! هل يغلب على النص طابع التعبير العاطفي، أم طابع الإيماء والإيحاء، أم الدعوة إلى انفعال أو فعل مُعيَّن؟ وهل يتكلم الشاعر عن الصورة نفسها أم عن الفنان الذي رسمها أم عنهما معًا؟ وهل وُفِّق آخر الأمر في «توصيل» تجربته أو «رسالته» أو «كلمته» والملاءمة بين أسلوب القصيدة وبنائها وبين الحقائق التي تمخَّضت عنها الإجابة على الأسئلة السابقة؟ إن هذه الأسئلة تصب كما ترى في تذوُّق القصيدة وتعيُّن الإجابة عليها على تحقيق غاية المتعة الجمالية التي لا يختلف حولها أحد …

فلنحاول أن نقرأ معًا بعض الصور القليلة التي تجدها في هذا الكتاب على ضوء القصائد التي قيلت عنها. ولنتذكر أن قراءتنا ليست سوى قراءة واحدة من بين قراءات أخرى ممكنة؛ أي إنها تُقدِّم تفسيرًا واحدًا ولا تزعم أنه هو التفسير الوحيد. ولنبدأ ﺑ «الجوكوندا» أو «الموناليزا» التي تُعَد من أشهر كنوز الفن، كما تُعَد ابتسامتها المميَّزة لغزًا أبديًّا ربما يفوق في غموضه وحنانه وسخريته ابتسامة أبي الهول …

ماذا تقول هذه الابتسامة التي لا تنطق؟ وبماذا تتحدَّث هذه النظرة الهادئة المُفعمة بالتعاطف والأسى والدعابة والتعالي؟ إن الرزانة والصبر تحيطان هذه السيدة الإيطالية البيضاء المُنعَّمة، ويداها المشبوكتان على صدرها كحمامتَين تتناجيان فتزيدان من الإحساس بالرضى والاستسلام والحنان. كل شيء فيها ومن خلفها يكرِّس هذا الإحساس ويُقلقه في آنٍ واحد؛ المنظر الطبيعي الساكن الذي يوشك أن يحيلها هي نفسها إلى طبيعة ساكنة، البحر البعيد والصخور البلَّورية والسماء المتلاشية الزرقة، والماء الفضي المنحدر من الجبل، والشجر وجذوع الشجر ناصعة البياض، والظل الراسخ الداكن الذي يتحدَّد على «الخلفية»، ولا يفلح لمعان الماء الفضي ولا نصوع الجبين الوضاء والصدر المرمري وأنوار الفجر المتوهِّج من بعيد، لا تفلح كلها في زحزحة هذا الظل الجاثم ومعه الأُفول والنضوج والحكمة المترفِّعة.

لكن روعة المنظر الطبيعي الملتف في ثوب الغروب أو في ثوب الحداد لا تستطيع أن تشغلك عن النظر إلى العينَين اللتَين لا تتحوَّلان عنك، ولا يمكنك أن تُحول عينَيك عنهما! وهي تعجز بالتأكيد عن تشتيت انتباهك إلى الابتسامة التي لا تدري هل تفتَرُّ عن الحب أم عن القسوة؟ وهل هي ابتسامة الأنثى الخالدة التي تجذبك إليها، أم ابتسامة النمرة المتربصة التي تُغوي ضحيتها وتُهلِّل لقرب انتصارها عليها؟ …

وتهز رأسك حيرةً وعذابًا، ثم ترفعه وتُثبت عينَيك على عينَيها وشفتَيها. لا شك في أنها تريد أن تقول شيئًا أو أشياء، لكن هل تقوله للفنان الذي كان عاكفًا على رسم صورتها، أم تقوله لكل من سيقف أمامها في مستقبل الأيام والأجيال، أم تخاطب به نفسها في عزف منفرد يصمت في نطقه وينطق في صمته؟ إن النظرة الممتلئة بالحياة — على الرغم من سكونها الظاهر — والبسمة التي تختلج على الشفتَين محاولةً الإفلات من اللون والظل والمكان الذي قُيِّدَت فيه منذ أكثر من خمسة قرون، لترقص وتهتز وتتحرك في الزمان، إنها جميعًا لتحيِّرك فلا تدري هل تتوقَّف أمامها وتملأ عينَيك من جمالها وحنانها وحبها ودفئها، أم تلوذ بالفرار قبل أن تُعرَّى من ثياب عاداتك، وتنفذ في صندوق أسرارك، وتفضح تفاهة عالمك المزهو بغروره وسخافاته وظلماته، وتُجرجر لنفسك «نسخة» منها قبل أن تخرج من الباب. وتظل الحيرة من لغز الموناليزا أو ألغازها تطاردك؛ هل كنت أمام المرأة أم العروس أم «الهولي» أم القديسة البتول؟ هل تكلَّمت إليَّ بصوت العرَّافة القديمة، أم رتَّلت صلوات المؤمنة الراضية؟ هل ضحكت أم بكت؟ وهل رحَّبت بزيارتي أم طردتني من بيتها؟ أتُراها حملتني بهداياها — النور مع الموسيقى زادًا لبقية عمري — أم أثقلت روحي برموزها وأسرارها، وأرهقت ضميري بالبحث عن سري ورمزي ولغزي؟ وليت شعري هل اقتربت منها أم ابتعدت؟ وإذا وضعت صورتها في بيتي — كما يفعل ملايين الناس — فهل ستكون نعمةً أم نقمة؟ وهل أتمكَّن يومًا من فض اللغز الأبدي؟ إن الفنان العظيم قد رسم «فلسفته» عندما رسم هذه المرأة — الهولي أو هذه الحواء — الملاك، ولكنه — شأنه شأن كل فيلسوف حق — قد دعانا للمشاركة والحوار، وصان رؤيته من التمذهب والتحجُّر والتعصُّب … وليت صغار المتسلِّطين والمستبدِّين في الأدب والفن والعلم والحياة يعرفون أخيرًا أن هذه المفاهيم نفسها تُناقض التسلُّط والاستبداد ولا تليق إلا بالبهيم والجماد …

وننتقل في الزمان سنوات قليلةً بعد ليوناردو دافنتشي (١٤٥٢–١٥١٩م) والجوكوندا التي صوَّرها حوالي سنة ١٥٠٣م، لنقف أمام لوحة هي آخرُ ما رسم فنان آخر من أصحاب الرؤية، وهو بيتر بروجل الأكبر (من حوالي ١٥٢٥م إلى ١٥٦٩م). إن العميان الستة (وقد رسمها حوالي سنة ١٥٦٨م) يجتاحهم الرعب، ويتحسَّسون الطريق واحدًا بعد الآخر متشبثين بعصًا أو قضيب طويل يمسك أولهم وآخرهم بطرفَيه. كلٌّ منهم يضع يده على كتف المتقدم عليه في الصف، والذي يستند عليه قد ارتُج جسده واختل توازنه. ما السر وراء الزلزلة أو العاصفة أو الموت الداهم؟ إن الثاني في الصف يعرف وإن كان مثلَهم لا يرى؛ فلقد وقع الرائد والقائد في حفرة، وانهار فوقع التالي وانهار عليه، أمَّا الأربعة الباقون فقد استشعروا الخطر وفتحوا المحاجر الجوفاء على اتساعها كأنهم يريدون أن يرَوا الظلمة المُطبقة ويتأكدوا من أنها ازدادت كثافةً وإطباقًا … من هم هؤلاء الرجال الستة؟ أيسيرون على طريقهم المعتاد كل يوم؟ هل وقعوا في هذه الحفرة من قبل أم فاجأتهم على غير توقُّع؟ من بعيد تظهر بعض بيوت القرية والكنيسة الريفية الصغيرة والأشجار الراسخة والبحيرة. ولمَ يسعَون أو يوشكون على السقوط في الحفرة دون أن يشعر بهم أحد؟ كيف اندفعوا في الليل الأعمى؟ مَن حرَّكهم؟ هل هو مثلهم قدرٌ أعمى؟ ولماذا يتخلَّى عنهم؟ ولماذا لم ينتظروا أن يُشرق فجر أو تطلع شمس نهار؟ هل دار بخاطرهم أن الرؤية بالليل تكون أتمَّ؟

الأعمى، يتبعه أعمى، يمسك بعصًا يمسكها أعمى، يضع يدَيه على كتفَي أعمى … والكل تعثَّر وسيسقط حتمًا في الحفرة … أهي رؤية ونبوءة؟ هل رسم الفنان هؤلاء العميان أم كان كأفلاطون في أسطورة الكهف (آخر الكتاب السادس وبداية الكتاب السابع من الجمهورية) يُقدِّم رمزًا أو أُمثولة؟ هل نحن العميان المقصودون، والموت أو القدر الأعمى أو ما شئت من المِحن الكبرى هو تلك الحفرة؟ ألَا تنطبق الرؤية أو النبوءة علينا نحن في هذا العصر، عصر الاضطراب الشامل الذي نشقى به، والكوارث الكبرى والصغرى التي تتجسَّد أمامنا في كل مكان، عصر يشن فيه الجميع الحرب على الجميع، ويتوقَّعون الكوارث كل يوم، ويقتاتون عليها كل صباح، ويأخذونها إلى نومهم كل مساء؟ ألَا يمكن أن نقول مع أحد الشعراء الذين «قرءوا» العميان إنها ليست مجرَّد صورة، بل وصية، في زمن جمع أصحاب الرؤية من أمثال بروجل (رابليه ومونتني وشكسبير)، وجسَّدَ الرعب من المجهول وما أفظع تخريبه للأفراد والشعوب؟ أم نقول أخيرًا إن عميان بروجل يرَون بأعينهم أكثر ممَّا نرى، ويُحسُّون بنا أكثر ممَّا نُحس بأنفسنا؟ هم أسرى القيد المجهول. من فينا إلا وهو اليوم أسير مثل العميان، سجين أو مشنوق؟

وتوسيع خطاك وأنت تنتقل عبر الزمن لتجد لوحةً أخرى لراءٍ آخر؛ إنه فنسنت فان جوخ (١٨٥٣–١٨٩٠م)، ولوحته هي حقل القمح مع الغربان التي كانت آخر ما رسم قبل إقدامه على الانتحار بأيام قليلة. انظر الصورة وحاول أن تقرأها قبل أن تضاهيها بنصوص الشعراء. سيفاجئك إلى حد الدهشة طوفان القمح الذهبي، وستُمسك أنفاسك خوفًا أو عجبًا من أسراب الغربان السوداء الطافية على سطح الموج، ودائرة النار ووهج البريق، وتلبد السحب وزفير الأرض، أهي غضبة الوجود وحريقه أم رماد العدم المتبقي بعد الثورة؟ أم هو قلق الفنان المتمزِّق بهواجسه «الميتافيزيقية» التي لوَّنَها بالأحمر والأصفر الفاجعَين (من الأسف أن الصورة بالأبيض والأسود لا بالألوان الأصلية!)١٤

هل كان هذا الفنان يتضرَّع لله أن يُخلِّصه من يأسه فكانت الصورة هي نشيجه وبكاءه، وكانت الألوان هي صَلاته، لكن الفنان قد أطلق آخر سهم في جَعبته، والسهم اتجه إليه وغار في لحمه، وانفتح الجرح كما تنفتح الهاوية السوداء. هل هو جرح وجود الإنسان على الأرض، في زمن الجوع، القسوة، والتعذيب، أم هو جرح الفنان البائس، جرح العين التي «رأت» من هول الحقيقة أكثر ممَّا تطيق عين البشر؟ وها نحن أولاء نرى بعض ما أصابها بالدوار فيصيبنا الدوار …

بقي علينا أن نعرج على أدبنا العربي ونطرح هذا السؤال: هل نجد أثرًا لقصيدة الصورة في تراثنا الشعري والنقدي قديمه وحديثه ومعاصره؟ وإذا صحَّ توقُّعنا للجواب فهل يمكننا — إزاء التراث العريق ومراعاةً لمقتضى الحال في مثل هذا التقديم! — أن نتتبع الخيوط الأساسية للاهتمام بالصورة في جانبها الذي يؤكِّد المقارنة القديمة بين الشعر من ناحيةٍ والتصوير أو الرسم من ناحية أخرى؟

من الطبيعي أن نجد الصورة الفنية على اختلاف أنواعها ومستوياتها ووظائفها في الشعر العربي، شأنه في ذلك شأن كل شعر آخر؛ فقد كانت الصورة ولم تزَل هي جوهر الشعر الثابت ووسيلته التي لا يُستغنى عنها في الكشف عن الحقائق الشعرية والإنسانية التي تعجز اللغة العادية واللغة العلمية عن الكشف عنها وتوصيلها. ومن الطبيعي أيضًا أن يحظى بحث الصورة بعناية النقاد والبلاغيين القُدامى، وأن يستفيد من جهود اللغويين والمفسرين والمتكلِّمين في تحديد مفاهيم التشبيه والاستعارة والمجاز، كما يستفيد من شروح الفلاسفة المسلمين لنظرية المحاكاة لأرسطو على ضوء كتبه في الشعر والخطابة والنفس وما بعد الطبيعة.

وربما يكون «الجاحظ» هو أول من التفت إلى طبيعة الشعر من حيث هو «ضرب من النسيج وجنس من التصوير»، وأول من طرح في تاريخ النقد العربي بعض الأفكار الهامة التي سيطرت على أجيال طويلة من البلاغيين والنقاد من بعده، ولو قرأنا عبارته المشهورة في كتاب الحيوان (٣ / ١٣١–١٣٢) لتبينَّا الدلالات المختلفة التي يفهمها من كلمة التصوير، والمبادئ التي يقوم عليها هذا الفهم: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي والمدني، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجَودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير.»

والعبارة تُقدِّم لنا مصطلح التصور الذي يُهمنا في هذا السياق. والجاحظ يستخدمه في العبارة السابقة وفي كتبه ووسائله استخدامًا يمكننا أن نستشف منه ثلاثة مبادئ؛ أولها: أن للشعر أسلوبًا خاصًّا في صياغة الأفكار أو المعاني، وهو أسلوب يقوم على إثارة الانفعال واستمالة المتلقي إلى موقف من المواقف. وثانيها: أن أسلوب الشعر في الصياغة يقوم على تقديم المعنى بطريقة حسية؛ أي إن التصوير يترادف مع ما نسميه الآن بالتجسيم. وثالث هذه المبادئ أن التقديم الحسي للشعر يجعله قرينًا للرسم ومشابهًا له في طريقة التشكيل والصياغة، والتأثير والتلقي، وإن اختلف عنه في المادة التي يصوغ بها ويُصوِّر بواسطتها،١٥ ومن الواضح أن المبدأ الأخير يُشير إلى دلالة كلمة التصوير على رسم لوحة أو تشكيل تمثال، بحيث يُصبح معنى الصورة مرادفًا للوحة المرسومة، ويكون ربط الشعر بالرسم أمرًا ناتجًا عن إدراك أن التقديم الحسي للمعنى أو التجسيم عنصر مشترك بين الشعر والرسم؛ لأن كلًّا من الرسام والشاعر يقدِّم المعنى بطريقة بصرية.
ومع أننا نفتقد الأساس النظري لفكرة المقارنة بين الشعر والرسم في كتابات الجاحظ المعروفة، كما نفتقد التطبيق العملي لها على نصوص الشعر، فإن بعض أحكامه النقدية تؤكِّد مَيله إلى هذه المقارنة، وإلى ذلك النوع من الشعر الذي يقدِّم مشهدًا أو منظورًا واضحًا لمخيِّلة المتلقي كأنه لوحة يرسمها رسام. وربما كانت رواية ابن الأثير (في المثل السائر، ٢، ٢٤٦–٣٤٧) — وهي الرواية التي تتكرَّر في أخبار أبي نُوَاس لابن منظور (ص ٣٩، ٤٠) — لأبيات أبي نُواس المشهورة في وصف الكأس وصورة كسرى في أسفله والمها والفوارس التي ترميها بالقِسي، ثم قوله على لسان الجاحظ إنها أفضل ما عرفه من شعر أبي نُواس، بل من الشعر قديمه وحديثه، ربما كانت هذه الرواية تؤكِّد أن مصطلح التصوير عند الجاحظ بقدر ما يشير إلى قدرة الشاعر كصانع على التأثير في الآخرين، فهو يُشير في الوقت نفسه إلى أن الشاعر يستعين في صناعته بوسائل تصويرية تقدِّم المعنى تقديمًا حسيًّا، ممَّا يجعله نظيرًا للرسام ومثيلًا له في طريقة التقديم.١٦ والمهم أن الجاحظ عندما طرح فكرة التصوير على هذا النحو كان يطرح لأول مرة في النقد العربي فكرة الجانب الحسي للشعر وقدرته على إثارة صور بصرية في ذهن المتلقِّن، وهي فكرة تُعَد المقدمة الأولى للعلاقة بين التصوير والتقديم الحسي للمعنى. وقد التقط منه البلاغيون والنقاد واللغويون والمفسِّرون والشُّراح — كالرماني وابن جني والعسكري والزمخشري والمرزوقي وابن سنان وابن رشيق — خيط هذه الفكرة، وبدءوا يلتفتون إلى التصوير الأدبي ويهتمُّون بتأمُّل خصائصه الحسية وطريقته الخاصة في تمثيل المعنى للحواس، كما جعلهم يتوقفون إزاء النص القرآني لاكتشاف أسرار إعجازه، وبلاغة تشبيهاته واستعاراته التي تكمن في قدرتها على تصوير المعنى المجرَّد وتقديمه تقديمًا محسوسًا عن طريق ربطها المعنوي المجرَّد بالحس العيني، أو ربطها الصور الحسية بأخرى أشد منها تمكُّنًا في الصفات الحسية.١٧
ويصل الكلام عن الصورة والتصوير الشعري إلى ذروته عند عبد القاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم المشهورة. إنه يحتج في معرض دفاعه عن الصورة (في دلائل الإعجاز، ٣٣٠) بعبارة الجاحظ السابقة والاستعارة والتمثيل وجمالها وتأثيرها إلى قدرتها على تجسيم المعنوي وتقديمه تقديمًا حسيًّا وتشخيصه وبث الحياة والحركة فيه حتى ليكاد تراه العيون … ويبدو أن تركيز عبد القاهر على الجانب البصري الخالص من التقديم الحسي للمعنى وتجسيمه وتشخيصه أمام العين قد جعله يرد روعة الشعر إلى براعة التصوير ويقارن بين عمل الشاعر وعمل الرسام، على أساس أن الاحتفال والصنعة في التصويرات والتخييلات الشعرية تفعل فعلًا شبيهًا بما يقع في نفس الناظر إلى «التصاوير» التي يُشكِّلها الحُذَّاق من الرسامين أو المصوِّرين: «فكما أن تلك تُعجب وتخلب وتروق وتدخل النفس من مشاهدتها حالةً غريبة لم تكن قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا يُنكَر مكانُه ولا يخفى شأنُه، كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصور ويُشكِّله من البدع ويوقعه في النفوس من المعاني التي يتوهم بها الجِياد الصامت في صورة الحي الناطق، والموات الأخرس في قضية الفصيح المعرب والمبين المميز، والمعدوم المفقود في حكم الموجود المشاهد.»١٨ ولا شك في أن استخدام عبد القاهر لمصطلح الصورة والتصوير في «الدلائل» ومصطلح التخييل في «الأسرار»، فضلًا عن مقارناته بين تخييلات الشاعر و«تصاوير» الرسام، يكشف عن مدى مساهمة شُراح أرسطو من فلاسفة الإسلام (من الفارابي إلى ابن سينا الذي أصبحت صِلته به في حكم المؤكدة) في بلورة مفهومه عن التصوير والتمثيل، بأن في استخدام كلمات مترجمي أرسطو وشُرَّاحه مثل التصوير والتخطيط والنقش والأصنام التي وردت في تلخيص ابن سينا لكتاب أرسطو في الشعر.١٩ ولا شك أيضًا في أن العلاقة بين الشعر والرسم، على النحو الذي فُهِمَت به في التراث النقدي، كانت وراء فكرة التقديم الحسي، أو التجسيم البصري لمعاني الشعر، والإلحاح على الجوانب الحسية للتصوير الشعري، ثم إن ربط الشعر بالرسم كان يفترض أن الشاعر مثل الرسام يقدِّم المعنى بطريقة حسية، هذا عن طريق المشاهد التي يرسمها على اللوحة فيتلقاها المشاهد تلقيًا بصريًّا مباشرًا، وذلك عن طريق لغته التي تُثير في ذهن المتلقي صورًا يراها بعين العقل.٢٠
وقد ازدهر مبحث المقارنة بين الشاعر والرسم عند شراح أرسطو الذين تقبَّلوا فكرته عن أن الشعر والرسم نوعان من أنواع المحاكاة قد يتمايزان في المادة التي يحاكيانها — فأحدهما يتوصَّل باللون والظل، والآخر يتوصَّل بالكلمة — لكنهما يتفقان في طبيعة المحاكاة وطريقتها في التشكيل وتأثيرها على النفس — ولولا ضيق المجال في هذا التقديم المحدود لاسترسلنا في الحديث عن نظرية المحاكاة لأرسطو، وعن أوجه التشابه بين الشعر والرسم في محاكاتهما للواقع والممكن، وبين طريقة الشاعر والرسام في إحداث أقصى قدر ممكن من التآلف والتناصب بين عناصر مادتهما وإحداث تأثير خاص في نفوس المتلقِّين على نحو يدفعهم إلى انفعال، أو يحثهم على فعل مُعيَّن؛ وذلك كما بيَّنها شُرَّاح أرسطو من فلاسفة الإسلام، وكما تأثر بها بعض البلاغيين والنقاد بدرجات مختلفة تفاوتت في قوتها ووضوحها ودقتها بين قدامة بن جعفر والباقلاني، وابن طَباطبا، وابن سنان، وعبد القاهر الجرجاني، إلى أن بلغت أدق فهم لها وأعمقه عند أنبغ تلاميذ أرسطو من النقاد العرب، وهو حازم القرطاجني الذي كان الناقدَ العربي الوحيد الذي استطاع أن يدرك الطبيعة الحسية للشعر، وقدرة صوره على التقديم الحسي، ضمن تصوُّر متماسك لطبيعة الشعر وأهميته في نفس الوقت.٢١

هل يمكننا الآن أن نلتقط من تراثنا القديم بعض النماذج الشعرية التي توضِّح الآراء النظرية السابقة، وتقترن برسم أو تصوير أو عمل فني محدد؟

إن أول ما يخطر على البال هو سينية أبي نُوَاس (من ١٣٠ﻫ/٧٤٧م إلى ١٩٠ﻫ/٨٠٦م تقريبًا)، التي سبق أن أشرنا إلى أن الجاحظ قد أُعجب بها وفضَّلها على غيرها من شعر أبي نُواس نفسه، ولا يُستبعد أن تكون وراء عبارته الشهيرة التي أكَّد فيها الصلة بين الشعر والتصوير، وقدَّمَ الشعر الذي يرسم المشاهد ويجسِّم المناظر على غيره.

وكان أبو نُواس قد أخذ بعض صحبه ومرَّ على المدائن مقر الأكاسرة، فرأى بعض حاناتهم ودُور لهوهم وأنسهم التي لم يبقَ منها غير أطلال، فكتب قصيدته الشهيرة:

ودار ندامى عطَّلوها، وأدلجوا
بها أثر منهم جديدٌ ودارسُ
ما حبُّ من جرَّ الزقاق على الثرى
وأضغاث ريحان جنيٌّ ويابسُ
أقمنا بها يومًا ويومًا، وثالثًا
ويومًا له يومُ الترحُّل خامس
تدور علينا الراح في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارسُ
قرارتها كسرى، وفي جنباتها
مهًا تدَّريها بالقسيِّ الفوارسُ
فللخمر ما زُرَّتْ عليه جيوبُها
وللماء ما دارت عليه القلانسُ٢٢

والأبيات الثلاثة الأخيرة تصف الكأس الذهبية الحافلة بألوان من التصاوير الفارسية؛ ففي أسفلها صورة كسرى، وعلى جوانبها صور بقر وحشي وفوارس تختلها، وتحتال عليها لترميها بالنشاب. وقد مُلِئَت الكئوس بحيث بلغت الخمر إلى مواضع الجيوب، أو الحلوق من تلك الصور، وصُبَّ الماء عليها حيث الرءوس التي تدور عليها القلانس، أو أغطية الرأس الشائعة في ذلك الحين. ومع أن الكأس التي وصفها أبو نُواس قد زالت بما نُقِش عليها من تصاوير، زالت الدار والندامى الذين كانت تُدار عليهم، ومع أن فرصة المقارنة الجمالية بين صور القصيدة والتصاوير الفارسية قد ضاعت إلى الأبد، فإن المشاهد التي رسمتها أبياتها الثلاثة الأخيرة لم تزَل متدفقةً بالحياة. وإن وضعناها في سياق القصيدة وفي علاقتها بالأبيات الثلاثة المتقدمة عليها، لاستشعرنا «جدلية» الحياة والموت بكل قسوتها وصدقها. لقد خلت الدار وصارت أطلالًا دارسة، لم يبقَ فيها من الندامى الذين هجروها سوى آثارٍ من جَر الزقاق على الثرى، وبقايا ريحان جَنِي ويابس. وفي إطار الزوال والفناء، الذي زاده الرحيل حزنًا على حزن، وضع الشاعر أحداث الماضي في صورة تثبته، وتجعله حاضرًا في خيال كل ناظر إليه أو قارئ لسطوره أو مستمع لشعره. تُرى كيف كان يبدو كسرى في قرار الكأس؟ هل كان يجلس على العرش؟ وكيف بدت ملامح وجهه ونظرات عينَيه. والفوارس والمها، وفعل الصيد بمختلِف عناصره ومكوِّناته وزخارفه وحركاته وظلاله؟ … لا جدوى من الأسئلة التي كان يمكن أن تُثري الإجابة عليها إحساسنا بالقصيدة وتذوقنا لها؛ فنحن أمام قصيدة تصوُّر، لا قصيدة صورة أو تصوير لم يبقَ لهما للأسف أثر!

يمكننا أيضًا أن نقف عند رائعة البُحتري (من ٢٠٤ إلى ٢٨٤ﻫ تقريبًا)، الشهيرة في وصف إيوان كسرى بالمدائن ومطلعها:

صنْتُ نفسي عما يدنِّس نفسي
وترفَّعتُ عن جدا كل جِبْس

وسنكتفي منها بالأبيات (من ٢٢ إلى ٢٨) التي وقف فيها البُحتري أمام صورة مُسَجَّلة على جدران القصر الذي كان فيه الإيوان. وهي صورة معركة حربية دارت عند مدينة أنطاكية بين الفرس والروم سنة ٥٤٠م. ويبدو أن المصوِّر قد أجاد التصوير حتى شعَر البُحتري بالرهبة أمامها، وخُيِّل إليه أن الموت ماثلٌ فيها، بينما كان أنوشروان واقفًا تحت علمه الكبير يُحرِّض جنده على القتال. وكان المصوِّر أو النحات (إذ لا ندري هل كان الشاعر يصف مشاعره ورؤاه أمام صورة، أو يصف نحتًا بارزًا على جدار!) لوَّن ثوب كسرى باللون الأخضر، كما صبغ جواده بالأصفر، وصوَّر القتال الدائر في صورة بلغت من الحيوية أن وصفتهم عين الشاعر بأنهم «جد أحياء». ولولا أنهم كانوا مُقَيَّدين على الجدار بألوان الصورة وخطوطها وظلالها أو مأسورين في بروز النحت ونقوشه الحجرية، لَمَا أحسَّ خفوت صوتهم وسكون جرسهم، ولا خُيِّل إليه أنهم خرس يتبادلون الإشارة. ولقد بلغ التصوير من الحيوية حدًّا جعل الشاعر يندفع إلى الصورة بيده ليرى أصورةً هي أم حقيقة!

وإذا ما رأيت صورة أنطا
كيَّة ارتعت بين رومٍ وفُرس
والمنايا مواثلٌ، وأنوشر
وان يُزجي الصفوف تحت الدِّرَفْس٢٣
في اخضرار من اللِّباس على أصـ
ـفر يختال في صَبيغة وَرْس٢٤
وعِراك الرجال بين يديْه
في خُفُوت منهم وإغماض جرس
من مُشيح يهوي بعامل رُمْح
ومُليح من السِّنان بتُرْس٢٥
تصف العين أنهم جدُّ أحيا
ء لهم بينهم إشارةُ خُرْس
يغتلي فيهمُ ارتيابيَ حتى
تتقرَّاهمُ يداي بلمْس٢٦

ولا بد أن نذكر قصيدة المتنبي (٣٠٣–٣٥٤ﻫ/٩١٥–٩٦٦م) التي قالها في مدح سيف الدولة أثناء مقامه في أنطاكية (جمادى الأولى ٣٣٧ﻫ/تشرين الثاني ٩٤٨م)، وهي التي وصف فيها فازة — أي خيمة أو مظلة — من الديباج نُقِشَت عليها صورة ملك الروم، وصور أنواع مختلفة من الوحش والحيوان، حيث جلس سيف الدولة لاستقبال وفود أنطاكية.

والقصيدة من أصعب شعر المتنبي المعروف بصعوبة تركيبه وتعقيده، وهي مُتْقنة الصنع إلى حد التصنُّع كما يشهد على ذلك مطلعها الشهير:

وفاؤكما كالرَّبْع أشجاه طاسمُه
بأن تُسعدا والدمعُ أشْفاه ساجمُه
وتبدأ بمقدمة غزلية (الأبيات ١–١٣) متبوعة باستطراد غنائي (١٤–١٧) يؤدِّي إلى المديح، حتى يبلغ الأبيات التي تُهمنا (١٨–٢٥):٢٧
وأحْسَنُ من ماء الشبيبة كلِّه
حَيَا بارق في فازة أنا شائمُه
عليها رياضٌ لم تُحكْها سحابه
وأغصانُ دَوْح لم تغنِّ حمائمُه
وفوق حواشي كل ثوب موجَّه
من الدرِّ سِمطٌ لم يثقِّبْه ناظمُه
ترى حَيَوان البرِّ مُصْطلحًا بها
يحاربُ ضدٌّ ضدَّه ويُسالمه
إذا ضربتْه الريحُ ماج كأنه
تجُول مَذاكيه وتدْأى ضَراغمُه
وفي صورة الرومي ذي التاج ذلة
لأبْلج لا تيجان إلا عمائمُه
تُقبِّلُ أفواهُ الملوك بساطَه
ويكبُرُ عنها كُمُّه وبراجمه
قيامًا لمن يَشْفي من الداء كيُّه
ومَن بين أُذْني كلِّ قَرْمٍ مَوَاسمُه

إن المتنبي يتطيَّر إلى سيف الدولة الجالس في خيمته ويترقَّب جُوده وكرمه كما يترقَّب الناظر إلى السحاب ذي البرق اللامع ما يجود به من المطر. وهو يبدأ في وصف الصور المرسومة على قبة الخيمة أو ما نسميه اليوم الطبيعة الصامتة، فيتعجَّب لرياض لم يُنبتها غيث من السحاب، وأغصان شجر عظيم عليها حمائم لا تُغنِّي، وبذلك يومئ منذ البداية إلى أنها صور مُمَثَّلة، ونسيج حاكته يد الإنسان لأيدي الطبيعة. ثم يجول بعينَيه في حواشي الأثواب التي اتُّخِذت منها الخيمة، فيرى عليها دوائر ونقوشًا بيضاء كأنها قلائد من الدرِّ الذي يثقبه ناظمه لأنه ليس بدرًا حقيقيًّا، كما يشاهد صور وحوش وحيوانات متحاربة بطبيعتها، يستدرك على الفور فيتذكَّر ويذكِّرنا بأنها تبدو في الوقت نفسه حيوانات مسالمة؛ لأنها مجرَّد صور لا روح فيها. ومع ذلك فإن اللوحة الدرامية التي صوَّرها في قوله «يحارب ضدَّه ويسالمه»، لا تلبث أن تُغريه بحيويتها وحركتها فيقول إن الريح إذا ضربت تلك الثياب ماجت وكأن الحيل المسنَّة (المُذاكي) التي عليها تصول وتجول، وكأن الأسود تختل الظباء لتصيدها. وقد كان من الممكن أن نعيش التجربة وأن يستغرقنا المنظر المائج بالحركة والصراع، لولا أن الشاعر قد استخدم «إذا» و«كأن» ليذكرنا مرةً أخرى بأنها صور محاكية. وهو يسارع إلى تأكيد هذا في البيت التالي الذي يبدأ بصورة ملك الروم وهو ساجد لسيف الدولة. ومع أن الملك متوَّج فإن التاج الحقيقي هو العِمامة التي تُزيِّن رأس سيف الدولة؛ لأن تيجان العرب هي عمائمها. ثم يزيد الشاعر في تصوير ذلِّ الملوك الذين يغلبهم سيف الدولة كما غلب هذا الملك، فيقول إنهم يُقَبِّلون بساطه لأنهم لا يقدرون على تقبيل كمه أو يده. ولا ندري إن كانت الصورة التي سجَّلَها لنا المتنبي قد حوت إلى جانب ذلك الملك الرومي ملوكًا آخرين أذلَّهم سيف الدولة وشفاهم من غيِّهم وطغيانهم، وترك عليهم آثار قهره لهم، أم إن سجود ملك الروم المرسوم على الخيمة قد ألهب خياله فابتداع صورًا أخرى في تمجيد ممدوحه وتعظيم شجاعته وقوته. ومهما يكن الأمر فيبدو أن التفاصيل السابقة هي كل عناصر الصورة التي رآها المتنبي، وأن كل ما تلاها صور فنية من إبداع خياله لا من وحي الصورة المرسومة على قبة المفازة التي جلس تحتها سيف الدولة ليستعرض وفود الأسرى والشعراء …

لا شك في أن النماذج القليلة السابقة تقرِّبنا خطوةً من قصيدة الصورة دون أن تفي بمقوِّماتها، أو تتيح المقارنة الجمالية به النص اللغوي والأصل الفني الذي أتت عليه يد الفناء. وقد يستطيع الباحث أن يعثر على نماذج أخرى في ديوان الشعر العربي من عصوره القديمة حتى عصر البعث أو الإحياء (ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض قصائد شوقي المشهورة مثل قصيدته عن معبد أنس الوجود أو قصيدته عن أبي الهول)، ولكن الحقيقة التاريخية تقول إن قصيدة الصورة بمعناها المفهوم في الشعر العالمي لم تظهر بصورة محدَّدة إلا على يد الشاعر العالم الدكتور أحمد زكي أبو شادي (١٨٩٢–١٩٥٥م) رائد جماعة أبولو، ومؤسس مجلتها التي حفلت أعدادها (بين سبتمبر ١٩٣٢م وأكتوبر ١٩٣٤م) بنماذج منها وضعها في باب مستقل سماه «شعر التصوير». والغريب أن «أبا شادي» هو الذي انفرد بكتابة هذا النوع من الشعر، ولم يشاركه فيه غير شاعرَين اثنَين هما إسماعيل سرِّي الدهشان — الذي كتب قصيدةً بعنوان الصائدة المتجرِّدة أمام صورة فوتوغرافية لحسناء تقف إلى ركبتَيها في مياه البحر٢٨ — وأحمد مخيمر الذي استوحى مع أبي شادي صورةً أخرى لرسام فرنسي اسمه «ماناسيه»، فكتب أبياتًا قليلة تحت العنوان الذي وُضع لتلك الصورة وهو ملاك أم شيطان.٢٩
قدَّمَ أبو شادي من هذا الشعر التصويري كما سمَّاه سبع عشرة قصيدةً أرفق بها الصور نفسها، وهي صور توضيحية مطبوعة بالألوان في أغلب الأحوال، خالية من أي قيم فنية حقيقية. والقليل من هذه الصور أو اللوحات المُصوَّرة منسوب إلى أسماء أصحابها الذين سقطوا من ذاكرة تاريخ الفن، أو لعلهم لم يعلقوا بها أبدًا لأنهم كانوا في الغالب من رسامي المجلات المُصوَّرة (مثل إيفلين بول، وج. دي جلن، وماناسيه)، وليس من بينها سوى لوحة واحدة يُحتَمَل أن تكون لمصور كبير (وهي اللوحة التي وُضعت أيام قصيدته عن إيليا وصموئيل). وبمراجعة هذه القصائد من الشعر التصويري نجد أنها تقف عند حدود التصوير بمعناه الوصفي التوضيحي المباشر لتفاصيل الصورة المنشورة معها، كما نجد أنها تتسق مع التيار الوجداني الذي سارت فيه حركة أبولو مهتديةً بشعر الرومانطيقية الإنجليزية والفرنسية من ناحية، وبشعر مطران ومدرسة الديوان وشعراء المهجر من ناحية أخرى. وعناوين القصائد وموضوعاتها لها دلالتها الكافية على معالم التجديد كما تصوِّره هذه الجماعة التي أسَّسها أبو شادي، واختار أن يسميها باسم رب الفنون في الأساطير اليونانية، بالإضافة إلى دلالتها على ثقافته المتنوِّعة واطلاعه الواسع على الشعر الإنجليزي بوجه خاص؛ فبجانب ثلاث قصائد معبرة عن الروح الرومانطيقية بوجه عام (وهي المساء في الصحراء، في الواحة، ملاك أم شيطان)، نجد سائر القصائد مُستَمَدَّة من تاريخ مصر القديمة وأساطيرها (مثل نفرتيتي والمثال، في المعبد، أوزوريس والتابوت، إيزيس والطفل الأمير، إيزيس تغادر بيبلوس، موسى في اليم) أو من الأساطير اليونانية القديمة (مثل زيوس ويوروبا، أفروديت وأدونيس، بلوتو وبرسفون، أبولو ودفني)، أو من أسفار العهد القديم (إيليا وصموئيل). فهل ينطبق على قصائد الصورة هذه وصف أبي شادي نفسه بأنها أمثلة معتدلة من النظم الحر الجامع بين الشعر القصصي وشعر التصوير؟ وهل يصدق عليها ما قاله في العدد الأخير من مجلة أبولو٣٠ ضمن هواجسه النقدية التي راح فيها يدافع عن التصوير في شعره ويرد اتهام المحافظين والتقليديين وعيبهم عليه بالإسراف في تطبيق ملكة التصوير على المحسوس والمُتَخيَّل، «كأن الشعر وقف على التصوير العاطفي وحده وليس له أن يصوِّر المظاهر الفنية في الكائنات والأشياء، ولا أن يجسِّم الأخيلة الفنية التي هي بمثابة حقائق للشاعر وإن كانت عدمًا أو وهمًا لغيره!» هل نجح أبو شادي في تصويره الشعري الذي زعم أنه يعبِّر عن الدقة المنوَّعة في إبراز شتى الحالات من المخيلة والوجدان في تصاوير مختلفة نابضة بالحياة سواء أكانت تصاوير ذاتية أم تصاوير قصصية؟ وهل استطاعت قصائد الصور التي كان أول من حاول كتابتها أن تحقِّق مزاعمه النظرية والنقدية الطموح أم قصَّرت أجنحة شعره عن التحليق في أجوائها البعيدة؟

الواقع أن «أبا شادي» ظاهرة أدبية وعلمية وفكرية نادرة في تاريخ أدبنا الحديث. لقد أوجد مُناخَ التجديد وبشَّرَ به بحماس وهمَّة لا نظير لهما، ولكن موهبته في الابتكار وريادة الآفاق المجهولة — سواء في تجديد الشعر والأدب، أو في الدجانة والنحل اللذَين خصَّهما بمجلتَين أخريين! — قد فاقت موهبته الشعرية الفقيرة إلى حدٍّ مأساوي مؤلم، فامتزج في شعره الغزير المتسرِّع قدر هائل من الفكر والعلم والتصوف والفلسفة جعله في الغالب الأعم نظمًا خاليًا من كل أثر لسحر الشعر وصدقه وتصويره وتعبيره عن الذات — أي من كل القيم التي دعا إليها وحارب من أجلها بشجاعة وتضحية وصدق — حتى ليندر أن تجد في دواوينه الكثيرة بيتًا واحدًا يمكن أن يتسلَّل إلى القلب، ويؤثِّر عليه بنغمة شجية أو صورة موحية. لقد كان شاعرًا مرحليًّا لم يتعدَّ عمرُه الفني عمرَه الزمني، من أولئك المنظِّرين الذين يُتقنون كتابة البيانات ووضع المشروعات الكبيرة ويُخفقون في تحقيقها في إنتاجهم الذي يُكَذِّب في معظمه مبادئهم وغاياتهم؛ ولذلك لم تبقَ لابتكاراته في المسرح الشعري والأوبرا والشعر التصويري نفسه إلا قيمة تاريخية لا يُحس بها إلا من يكلِّف نفسه مشقة تقليب صفحات التاريخ، أو متابعة قضية التأثير والتأثر بالشعر الغربي ليكتشف أن قصائده التصويرية قد وقفت عند التقليد المباشر والمحاكاة السطحية، ولم تبلغ مرحلة التوليد والإبداع الناضج التي بلغتها في نماذج عديدة من شعر المجدِّدين الكبار في حركة الشعر الحر منذ أوائل الخمسينيات.

ويكفي أن نطلع على قصيدة واحدة من القصائد التي ذكرناها لكي لا نُتَّهَم بظلم أبي شادي — الذي نُقدِّر دوره ودور جماعة أبولو كل التقدير — ولنقف وقفةً قصيرة عند القصيدة الأولى من تلك المجموعة التي ذكرناها لنتأكَّد من قصورها عن تأصيل هذا النوع الأدبي وإخفاقها في جذب الأنظار إليه. وقصيدة «المساء في الصحراء»٣١ هي أول قصيدة في تلك السلسلة الطويلة من نماذج الشعر التصويري التي راح فيها يحاكي نماذج غربيةً أو بالأحرى إنجليزيةً لا نعرفها على وجه التحديد. ستطالعنا لوحة ساذجة تحاول القصيدة أن تعبِّر عنها، وتمثِّل منظرًا صحراويًّا تظهر في خلفيته كثبان الرمل الرمادية الميَّالة إلى الخضرة الغامقة، يحدُّها من الجانب الأسفل للصورة مستطيل تقترب مساحته من البناء القاتم، وفيها نشاهد جملًا يقف أمامه عربي في بُردة بيضاء، وأمامهما ثلاثة أعراب يجلسون القرفصاء حول مجمرة يتصاعد منها نار ودخان. وليس في الصورة الراكدة شيء يمكن أن يُثير وجدان الشاعر وخياله، إلا أن تكون مناسبةً للحديث عن الصحراء والمساء بوجه عام:
دنا الليل والصحراء في روعة له
وإن لمحت في راحة وسكون
ولم يبقَ من شمس الغروب ونورها
سوى لوعة في صفرة وحنين
تُقبِّل كثبان الرمال وكل ما
تُقبِّل في وجْدٍ ويأس حزين
غزتها جنود الزنج والوقت مسعف
وكم داولتها في ألوف قرون
هو الوقت لا يرعى جمالًا برحمة
وكل سعيد عنده كغبين
دنا الليل والشمس السخيَّة أخلفت
حرارتها موتًا وبخل ضنين
وأقبل قر الليل قبل مجيئه
فيا لَخئُون سابق لِخئُون!
تهارب منه أهلها وتجمَّعوا
على النار مثل العابدين لدين
ومدُّوا الأيادي السائلات نوالها
فنادت عليهم في لسان مبين
ووزَّعت السحر الذي يرتجونه
حياةً وإيناسًا وأمن أمين
تكاد العيون الناظرات لهيبها
تناول منها ذخرها لسنين
وتبخل حتى بالدخان يفوتها
وتؤخذ من ألوانها بفنون
وقد وقف الجمَّال كالجمل الذي
أطلَّ عليها في خشوع مدين
كأن بها للشمس روحًا تنوَّعت
وقد سُجنت لكن كغير سجين!
وهل دانت الصحراء إلا لشمسها
جمادًا وحيًّا قبل جود عيون؟
كأنَّ تلال الرمل كنز أشعة
من الشمس فاعتزَّت بكل ثمين
دنا الليل فاخطفْ قبل موتٍ منوَّعًا
من الظل والأصباغ غير مهين
فهذي صنوف من حياة تبدَّدت
وهذي معانٍ من مُنًى ومَنون

ولا جدوى من اقتباس نماذج أخرى من هذا الشعر التصويري؛ لأنه لا يختلف كثيرًا عن هذه المنظومة. وإذا كان من الواجب علينا أن ننوِّه بفضل أبي شادي رحمه الله في التنبيه إلى هذا النوع الأدبي وريادة طريق التفاعل المتبادل بين فنَّي التصوير والشعر، فإن قصيدة الصورة لم تبدأ بدايتها الشعرية الحقيقية ولم تصبح الصورة موضوعًا متكاملًا للقصيدة إلا مع حركة الشعر الحر …

مضى الشعر الحر على الطريق الذي بدأه أبو شادي فيما بعد الستينيات (وربما يرجع السبب في هذا إلى انشغال الحركة الجديدة في الخمسينيات بتحسُّس طريقها والدفاع عن حقها في الوجود إزاء الهجوم الضاري عليها، والصراع بين بعض أعلامها حول أسبقيتهم إلى ريادتها!) وظهرت قصيدة الصورة التي تصف اللوحة الفنية أو التمثال فتستوحي مضمونهما أو شكلهما، أو تجعلهما مناسبةً لتقديم رؤية الشاعر للعالم، أو نقده للعصر والمجتمع، أو تأملاته عن وجود الإنسان ومعناه. وتعدَّدت أشكال هذه القصيدة وأنماطها المختلفة؛ فمن قصيدة يحاول فيها الشاعر أن يستلهم طريقة الفنان التشكيلي بوجه عام والرسام بوجه خاص في تشكيل القصيدة وبنائها، إلى قصيدة مُوَجَّهة إلى أحد كبار الفنانين والمُصَوِّرين العرب أو الغربيين، إلى قصيدة مُستوحاة من صور ولوحات فنية مُحدَّدة.

أمَّا النمط الأول فيطالعنا في قصيدة للمرحوم الشاعر صلاح عبد الصبور (من ديوانه شجى الليل) يدل عنوانها على أسلوبها ومنحاها «تقرير تشكيلي عن الليلة الماضية». الشاعر هنا — بقدر ما نعلم — يصف ولا يستوحي عملًا فنيًّا محدَّدًا، وإنما يشكِّل بكلماته وإيقاعاته وبنية عباراته صورةً مؤلَّفة من ثلاثة مقاطع، يقدِّم أولها عناصر الصورة من اللون والحركة، وإطار الاكتئاب المحيط بها:

عناصر الصورة:

لون رمادي، سماء جامدة
كأنها رسم على بطاقة.
مساحة أخرى من التراب والضباب،
تنبض فيها بضعة من الغصون المُتعَبَة،
كأنها مخدَّر في غفوة الإفاقة
وصفرة بينهما، كالموت، كالمحال،
منثورة في غاية الإهمال
(نوافذ المدينة المُعذَّبة).

الحركة:

محبوسة: ثقيلة: هامدة.

الإطار:

قلبي المليء بالهموم المعشبة،
وروحي الخائفة المضطربة،
ووحشة المدينة المكتئبة.

وليست هذه هي القصيدة الوحيدة التي يتحوَّل فيها الشاعر إلى رسام بالكلمات، ويغدو القلم ريشةً تلوِّن وتظلِّل، وتصبح البنية اللغوية والإيقاعية تشكيلًا فنيًّا نكاد نلمحه بأعيننا ونتحسَّسه بأيدينا. لقد جرَّب الشاعر هذا في قصائد أخرى عديدة (مثل رؤيا وتوافقات، واللوحات الأولى من مسرحيته الشعرية الأميرة تنتظر)، ولكن الجسارة والأصالة تتجليان في هذه القصيدة الفريدة التي يعترف فيها بأنه يقدِّم تقريرًا تشكيليًّا عن ليلة ماضية. ولسنا ندري — كما سبق القول — إن كان الشاعر قد تأثَّر بصورة لم يذكرها، فراح يحاكي ألوانها وخطوطها ومساحاتها محاكاةً توشك بما تحويه من كلمات اسمية أن تكون صورةً مطابقة للأصل الذي لا نعرفه ولا نؤكِّد وجوده — لاحظ تكرار كلمة كأن في المقطع الأول! — ولولا ورود فعل واحد (تنبض) في المقطع الأول، والإشارة إلى الحركة في المقطع الثاني — وإن تكن هي حركة السكون الهامد الثقيل — لرجَّحْنا أن تكون القصيدة نسخةً شعرية من صورة أصلية لا نراها. والواقع أن الشاعر قد وضعَنا في موقف يستعصي تحديده، فهل نقول إن قصيدته نمط جديد غير مألوف من قصيدة الصورة، أم نُخرجها من هذه الفئة بأكملها لمجرَّد أنها لا تقترن — مثل قصائد الصور في هذا الكتاب — باللوحة أو العمل الفني الذي تصفه أو تستوحيه؟ أم نقول إن همَّ الشاعر كان مقصورًا على رسم صورة فنية للاكتئاب الذي ملأ قلبه وروحه ومدينته، وأنها لا تخرج في النهاية عن أن تكون إحدى الصور الفنية التي يزخر بها شعره؟

وبمثل هذه الأسئلة الحائرة تواجهنا قصيدة الشاعر عبد الوهاب البياتي «ثلاثة رسوم مائية» من ديوانه «الكتابة على الطين»٣٢ فالشاعر ينظر بعين الرسام ويصوِّر بريشته، ولكنه لا يقدِّم تقريرًا تشكيليًّا، ولا يُعنى بالجانب الشكلي على الإطلاق. إنه سندباد حائر ثائر يرسم ثلاثة رسوم مائية في منفاه الوحيد، يتحسَّر في أولها على مغامراته الماضية في المرافئ والقلوب والمدن البعيدة، ويناجي في ثانيها المحبوبة (الحورية أو الحرية!) التي ارتحلت مثله «كما ارتحل المجوس بلا طقوس»، وراحت تموت مثله في المنفى «هربًا من الظلمات والأموات والليل الطويل»، بعد أن غدرت بهما الألوان والدنيا كما غدرت بعاشقها لعوب، ثم يخاطب هذه المرتحلة المجهولة التي تتنكَّر مرةً في زيِّ ساحرة، وأخرى خلف قناع أميرة، تضاجع البرق في قاع البحار، وتركض غزالةً في الجبال، تتراقص فراشةً على وجوه العاشقين، وتهاجر مع الطيور؛ وعلى زجاج نوافذ المقهى وفي ليل الشوارع تشعلين، نار الحنين، وعلى سطوح منازل المدن البعيدة تمطرين، بينما يموت الشاعر السندباد «كقطرة المطر الحزين»، وهو لا يستطيع أن يتحوَّل كل هذه التحولات التي نعرفها في شعره؛ لأن التحول الوحيد الذي يقدر عليه في منفاه هو أن يتنكر بقناعِ أعياد الطفولة أو بعناد الرافضين، ويظل يموت كقطرة المطر الحزين على وجوه العابرين …

ومن الصعب أن نفترض وجود لوحات أصلية صوَّرها الشاعر، أو استلهمها في رسومه الثلاثة بالألوان المائية. ويزيد من هذه الصعوبة أن الشاعر يعزف ألحانه المألوفة على أوتاره المعروفة — كالمنفى والرحيل والتحول — ويطلق منها ذكريات وأحداثًا زمنية يستحيل على المصور والرسام أن يمسكا بها في ألوانهما وظلالهما وخطوطهما. ولا شك في أنه وُفِّق غاية التوفيق عندما سمَّى هذه الصور الشعرية رسومًا مائية؛ فالماء والميناء والسفن والمنفى والرحلة والتحول دالات حية على هذا السندباد الثائر الذي حاول تشكيل المقاطع الثلاثة في أغنيته على نحو ما يشكِّل الرسام رسومه المائية، بحيث امتزجت الكلمة باللون إلى الحد الذي أوشكت معه مقاطع القصيدة أن تُصبح رسومًا بالكلمة، وكادت الألوان تُصبح ألحانًا مُلوَّنة …

ولا يقف الأمر عند الرسم بالألوان المائية، بل نجد الشاعر يعلِّق رسومه بنفسه على جدار! فها هو المرحوم الشاعر «أمل دنقل» يصف مقاطع إحدى قصائده بأنها رسوم مُعلَّقة في بهو عربي (من ديوانه العهد الآتي).٣٣ والنظرة الأولى إلى عنوان القصيدة تشف عن عالمها الماضي والواقع والممكن، ومقاطعها رسوم مُعَلَّقَة في بهو الزمن العربي المُثقل بالمحن والكوارث والأزمات، والقصيدة مُكوَّنة من أربعة رسوم، ألحق الشاعر بكل واحد منها نقشًا وختمها بكتابة في دفتر الاستقبال لزائرة متخيَّلة لمعرضه؛ فاللوحة الأولى من هذه الرسوم مُنتزَعة من ماضيه الذي ولَّى وخلَّف الحسرة في نفوس الأبناء والأحفاد. إن ليلى الدمشقية ترنو من شرفة الحمراء لمغيب شمس الأندلس، فترى الخيوط البرتقالية «وكرمةً أندلسية وفسقية، وطبقات الصمت والغبار». أمَّا النقش فتقول حروفه: مولاي لا غالب إلا الله، واللوحة الأخرى تعرض علينا المسجد الأقصى (قبل أن يحترق الرواق)، وقبة الصخرة والبراق، وآية تآكلت حروفها الصغار. أمَّا النقش فيصرخ محذرًا: مولاي لا غالب إلا النار. ونقف أمام اللوحة الثالثة فإذا هي دامية الخطوط واهية الخيوط، لعاشق محترق الأجفان كان اسمه «سرحان»، يمسك بندقيةً على شفا السقوط، والنقش المُلْحَق برسم هذا العاشق الثائر يقول: «من يقبض فوق الثورة، يقبض فوق الجمرة.» ثم تأتي اللوحة الأخيرة التي ترسم خريطة سيناء التي بدت لعينَي الشاعر قبل تحريرها لطخةً سوداء تملأ كل الصورة. أمَّا النقش المكتوب عليها فهو حديث شريف تصرَّف فيه الشاعر تصرُّفًا يلائم البعد السياسي لمعرضه الشعري ويتسق مع أسلوبه الخطابي المباشر الذي يلطِّف الوزن والقافية الداخلية من حِدَّته: الناس سواسية — في الذلِّ — كأسنان المشط، ينكسرون كأسنان المشط. ثم تنتهي مقاطع الصور والرسوم باتهامٍ قاسٍ يسجِّله الشاعر في دفتر الاستقبال، ويضمِّنه البيت المعروف لدِعبِل الخُزاعي:
لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا
لا تسألي … أبدا
إني لأفتح عيني (حين أفتحها)
على كثير ولكن لا أرى أحدا!

من الواضح أن هذه الرسوم الشعرية لا تقصد إلى إثارة خيال المتلقي، أو التأثير على حسِّه الجمالي، وإنما تستفزُّه إلى التمرُّد على زمن السقوط والانهيار، وتتوسَّل بالمبالغة والسخرية والخطاب المباشر لتثبيت صور الضياع في عقله ووجدانه؛ ولهذا لم يجد الشاعر نفسه بحاجة إلى إعمال خياله الخلَّاق أو اللجوء للوسائل الفنية والحيل البلاغية لرسم صوره؛ فالصور مُحدَّدة وواضحة لكل عربي، ولم يكن على الشاعر إلا أن يزيدها وضوحًا وتحديدًا، ويثبتها على جدار الضمير المذنب بمسامير الحقيقة القاسية!

إذا كانت بعض قصائد الشعر الحديث قد حاولت أن تشكِّل نفسها على غرار الصورة دون التقيُّد بصورة مُحدَّدة، فإن بعضها الآخر قد اتجه إلى استكشاف الألوان والخطوط والإيقاعات في عالم فنان بعينه دون التقيد كذلك بصورة محدَّدة من مجموع إنتاجه … (على نحو ما فعل عددٌ من الشعراء الذين تجدهم في هذا الكتاب مع عالم بروجيل وشاجال وبيكاسو وميرو). وتبرز في هذا الجانب قصيدة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي «آيات من سورة اللون» التي تتألَّف في الواقع من قصيدتَين متصلتَين كُتبت أولاهما سنة ١٩٧٤م للرسام «سيف وانلي»، وكُتبت الثانية سنة ١٩٧٧م للفنان عدلي رزق الله.٣٤ ولا شك في أن مهمة الشاعر مع الرسام الأول لم تكن يسيرة؛ إذ وجد نفسه يعيش لحظات انتظار إيحاءات وإلهامات شعرية من إيحاءات وإلهامات لونية! ولا بد من أنه شعر في لحظات الوجد والفناء تلك أن عالم الشاعر والرسام عالم واحد في جوهره، وإن اختلفت الوسائط والوسائل في كليهما: «يرقد العالم في بلورة يغسلها ماء المطر. ها هي ذي اللحظة تأتي. أهو اللون، أم الإيقاع ما تصطاده، أو ربما تسلمه نفسك، حتى يغمر الموج التجاعيد، ويلهو بخُصيلات الشعر؟!» ويتابع الشاعر رحلة اللون وهو يهبط من الياقوت للفضة للعشب، ثم يعلو سلم الصوت «فقاقيع من الأضواء لا تلبث حتى تنفجر». ويندمج الشاعر المتفلسف مع الرسام المتصوِّف في لحظات الجذب اللونية، حيث يتعانق اللون مع الإيقاع، ويستسلم الفنان لرؤاه الواردة عليه وهي تبدو في هيئة وَعْل نادر «ينعم بالألفة والدفء، ويجترُّ العكر»، أو ديك ينقر بخيمات السحر، أو بحَّارة أغراب يرقصون في الملهى. وكلها رؤًى تركض أمامه «ركض الغيم في وجه القمر»، ويتداخل فيها اللون مع الصوت، وعليه أن يستمع إلى نصيحة الشاعر فينتظر رجوع الصيف، ويحاول مرةً أخرى مع الضوء الذي لا ينتظر …

ويدخل الشاعرُ نفسه تجربةً أخرى مع الرسام عدلي رزق الله. ولوحات هذا الفنان بحار لونية تهدر فيها أمواج الأحمر والبرتقالي والأخضر والأصفر، يصوِّر فيها إحساسه بالطبيعة وتكويناتهما الأصيلة، ويعبِّر عن تفجُّر ينابيعها العميقة، ودفء جذورها العريقة، مع رهافة أضوائها وأوراقها وزهورها الشفافة، وتدفق صيرورتها المرتعشة بنبضات الحياة وتوتراتها الخلَّاقة. وهي تكوينات متكرِّرة يتفاعل فيها وهج الألوان الساطعة الفاقعة مع الألوان والخطوط والإيقاعات المتماوجة الحالمة، وكأنك أمام سيمفونية لونية تسمعها بالعينَين — إن جاز هذا التعبير — وتراها بالأذنَين، وتُفَاجَأ في كل مرة بأنغامها اللاهبة أو الشاحبة، وإيقاعاتها القاتمة أو الفاتحة: «قطرتان من الصحو، في قطرتَين من الظل، في قطرة من ندًى». ولمَّا كان اللون الأحمر بتدرجاته المختلفة هو الغالب على صور هذا الرسام، فقد استنبط منه الشاعر دلالات معنويةً على الحياة الحرة والثورة المنتظرة، وعبَّرَ عنها في إيقاعات قرآنية:

قل هو اللون!
في البدء كان،
وسوف يكون غدًا،
فاجرح السطح.
إنَّ غدًا مفعم،
ولسوف يسيل الدم!

وعندما يسيل هذا اللون بالحياة والخصب، وتنطلق الأغاني الخضر، سيُفاجَأ «السادة الأغراب» بقنابل موقوتة «كان أسلافنا خبئوها مع الخبز والخمر في خشب الموميات؛ لكي تتفجَّر في غرف الدفن حين تحين مواعيد عودتهم للحياة». وهكذا يفتقد الشاعر اللون الذي يتنفَّس بالحياة والحرية في عالمه الذي طغى عليه الأخضر الطحلبيُّ أو الأصفر المعدني … ولا عجب بعد ذلك أن يهيب بقُرَّائه أن «تعالَوا نلوِّن كما نشتهي هذه الأرض، أو نُشعل النار فيها»، فلعلها تحملنا وتطير، ثم «تُسقطنا مطرًا قزحيًّا، وتزرعنا شجرًا موقدًا».

ولم يكن غريبًا على الشاعر العربي أن يتجه إلى الرسام الأجنبي كما اتجه إلى الرسام العربي، وأن يكون اتجاهه إلى أولئك الذين تجمعه بهم وشائج التاريخ وقرابة الروح. في هذا الأفق العالمي والحميم في وقت واحد تبرز قصيدة عبد الوهاب البياتي إلى بابلو بيكاسو (من ديوانه النار والكلمات)٣٥ وقصيدة حميد سعيد٣٦ المرور في شوارع سلفادور دالي … الخلفية (من ديوانه الأغاني الغجرية)، ولمَّا كانت القصيدتان لا تستوحيان صورةً مُحدَّدة من صور الفنانين، وإنما تستلهمان عالمهما الثري بالغرائب والتضادات والمفارقات ثراء عالمهما الشعري، فسوف نتجاوز هاتَين القصيدتَين إلى قصيدتَين أُخريَين نلمس فيهما محاولة شاعرَين عربيَّين إعادة رسم لوحة بيكاسو المشهورة «جيرنيكا» التي ما زالت تتحدَّى المفسِّرين لقيمها التشكيلية والإنسانية المذهلة. والواقع أن هذه اللوحة الجدارية ليست مجرَّد لوحة غير عادية، وإنما هي انعطافة كاملة في مسار الفن العالمي بوجه عام، وفن بيكاسو بوجه خاص. وهي تشبه كونًا شاسعًا من التكوينات الرياضية الدقيقة والمساحات والزوايا والخطوط الهندسية الحادة التي تتفاعل مع أعلى درجات الحس التلقائي والبدائي، والتوتر الانفعالي الجياش بالغضب والتمزُّق والتقزُّز كارثة الحرب، بحيث تُصيب المتلقي بالدوار (ولا ننسى أن جيرنيكا هي القرية الإسبانية التي قاست من وحشية الفاشيين في الحرب الأهلية الإسبانية). لكن اللوحة تتميَّز — بجانب أساليب فنية عديدة تركت عليها آثارها — بإيقاع عربي يتمثَّل في روح «الأرابيسك» التي تتجلَّى في أشكالها وخطوطها اللانهائية المتشابكة. ولعل هذه الروح، بالإضافة إلى تعبيرها عن مأساة الحرب ورعبها وتشويهاتها، هي التي جذبت الشاعرَين العربيَّين للدوران في فلكها أو في دُوامتها …

والقراءة الأولى لقصيدتَي الشاعرَين حميد سعيد (محاولة إعادة رسم الجيرنيكا، ص٤٣٩ من ديوانه)، وأحمد عبد المعطي حجازي (جيرنيكا أو الساعة الخامسة من ديوانه كائنات مملكة الليل، ص٧١)، تكشف عن عدم تقيدهما بعناصر اللوحة، أو موضوعها الأصلي، على نحو ما فعل الشاعر الفرنسي إلوار في قصيدته المشهورة عنها. لقد استلهما عالمها المخيف الذي لا يزال يُطلق طاقات وإشعاعات تُنذر بالويل القائم مع كل الكوارث المشابهة. وقصيدة الشاعر حميد سعيد لا توحي بأي علاقة تربطها بلوحة بيكاسو؛ فما من شيء أو وصف أو رمز مباشر يذكِّر بها، وعبثًا نبحث عن الأشلاء المتضخِّمة المنشورة فيها، أو عن رأس الحصان الذي يصرخ من التمزُّق، أو رأس الثور المرعب، أو الأم التي تحمل طفلها الميت. سنجد في المقطع الأول عصافير قلقةً تتنقل من مكان إلى مكان، وتبدأ مشوارها بالحوار الصباحي وقراءة أشعار غارثيا لوركا (أعذب قيثارة في الشعر الإسباني المعاصر اغتالها الفاشيون). وننتقل إلى المقطع الثاني الذي يقرِّبنا من مجال اللوحة في جذبه وطرده؛ فقد بدأ السجناء القدامى «يحلُّون في الذاكرة، وراحت العصافير تبحث عن فرح واحد لم يرَ الحزن، عن مدن لم ترَ الشفرة القاطعة». وتظل العصافير على قلقها وبحثها عن «مقعد فارغ» وعن «ألكسندرة» التي كانت تسقيها الشاي؛ فتترجَّح من بعيد أن الاسم الأخير ربما ينوب عن المرأة التي مات طفلها. ونصل إلى المقطع الرابع فنجد الأرض تبحث منذ ثلاثين عامًا عن الفعل الذي «يخرج من دمها الضاحك»، كما تنتظر السيد «الذي يرث الجسد المترمِّل»؛ فقد كان أحد السجناء الذين ذكرهم المقطع الثاني يطرق أول باب يصادفه فتفتح الباب ألكسندرة. والقصيدة كما نرى أشبه بمحارة مُغلقة على أسرارها، ولا بد من أنها تحمل من تجربة الشاعر في إسبانيا مضامين ورموزًا لم يساعدنا على الاقتراب منها. ومع ذلك فنحن نُحس أنها تدور في عالم خرب ضاع منه الفرح، وهجره الأهل وسيطر عليه الحزن، وخيَّب أمل العصافير في الحب والمأوى، ولعل ضياعها في «خيخون» التي يرد ذكرها في المقطع الثالث ينطوي على الدلالة الأساسية التي أوحت بها اللوحة للشاعر: لم تعد ثمة مدن لم ترَ الشفرة القاطعة، ولا ثمة مدن يمكن أن تطمئن إليها العصافير …

أمَّا الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي فيستوحي لوحة بيكاسو في خمس لوحات شعرية ترتبط كالقصيدة السابقة ارتباطًا غير مباشر بدلالاتها الباقية عن زمن الحرب والرعب والاغتيال والقمع المستمر؛ فاللوحة الأولى تُصوِّر مصرع الخطيب والسياسي الإغريقي لوسياس أثناء إلقاء خطبته الأولى التي «توَّج فيها بامتشاق السيف أغنياته للحق». واللوحة الثانية قفزة أبعد منها في زمان الحزن والخوف؛ فهي تصوِّر بحارة ماجلَّان الذين يتمنَّون أن توقف الأرض دورانها ساعة يدفنون فيها ماجلان، هذه الأرض التي غصَّت — على امتدادها بين نيويورك وموسكو — بالقبور. وتضعنا اللوحة الثالثة في قلب مأساة عصرية فجعت أحباب الشعر بموت الشاعر الشيلي بابلو نيرودا على أثر سقوط الحكم الاشتراكي الوطني ومصرع صديقه الليندي الذي كان على رأسه. والعلاقة هنا بلوحة بيكاسو علاقة مباشرة؛ فالشاعر الذي مات في عام الستين قد أصبح عاجزًا عن ملاقاة الثور الخرافي الذي «يقوم الآن من لوحات بيكاسو ومن أشعار لوركا» كما كان يفعل وهو في الثلاثين. والثور المشهور في لوحة بيكاسو يأتي الآن «في هيئته العصرية النكراء، في حلَّته الصفراء»، بينما الشاعر المحتضر مُلقًى في فراش المرض الملعون … ويأتي المشهد الأخير من فيلم شهير (فيلم «زيد Z» الذي عالج موضوع القمع والإرهاب البوليسي في إحدى الدول الحديثة)، فيصوِّر الرئيس الاشتراكي المقتول مع حراسه القتلى، «وجنود الانقلاب جامدو الأوجه يُلقون على جثته القبض، ويصطفُّون كالأعمدة الجوفاء في البهو» …
وأخيرًا نصل إلى نموذج ناضج لقصيدة الصورة عند الشاعر سعدي يوسف في قصيدته التي جعلها عنوانًا لأحد دواوينه «تحت جدارية فائق حسن».٣٧ فالقصيدة — كما يشهد عنوانها — قد كُتبت تحت صورة أو بالأحرى رسم جداري لفنان عراقي، وكأنما هي نقش أو تعليق شعري عليها. ومع أن هذا وحده يجعلها شديدة القرب من مفهومنا عن قصيدة الصورة في هذا الكتاب، فلا نستطيع أن نجزم بشيء عن مدى ارتباطها بموضوع الرسم وتفاصيل تكويناته اللونية والشكلية والإيقاعية؛ ذلك أن الشاعر — شأنه في هذا شأن زملائه من شعرائنا المجدِّدين — لم يشأ لسبب أو لآخر أن ينشر صورة الرسم مع القصيدة، وبذلك حرمنا مثلهم من فرصة المقارنة بينهما وبين مدى تقيُّده بالصورة أو تحرُّره منها، وأضاع على قُرَّائه متعةً جمالية كان من الممكن أن تساعدهم على المشاركة الخلَّاقة في قراءة القصيدة والصورة معًا …

ومهما يكن الأمر فلا يبقى أمامنا إلا أن نتأمَّل تكوين القصيدة نفسها ونتابع جدل الصراع المحتدم بين عناصرها التي يُحتَمل أن تكون شبيهةً بعناصر الصورة. والمحور الأساسي الذي يدور حوله الصراع ويتخذ وجهته ويحدِّد هدفه هو الفقراء الجالسون في ساحة الطيران، يمدُّون أذرعهم للمقاول المستغل الذي سيشتري كدَّهم وعرقهم. وتبدأ القصيدة بالحمامات التي تطير في ساحة الطيران، معبِّرةً عن أحلام المناضلين ببناء مدينتهم الفاضلة:

«تطير الحمامات في ساحة الطيران، البنادق تتبعها، وتطير الحمامات، تسقط دافئةً فوق أذرع من جلسوا في الرصيف يبيعون أذرعهم.»

لقد طار المناضلون في المدينة كما تطير الحمامات التي أرادوا أن يُقيموا لها جدارًا ليس تبلغ منه البنادق، أو شجرًا للهديل القديم، وارتفعوا معًا في سماء الحمائم، وصاغوا من الحجر المتألِّق وجه الجدار، وقالوا لسعف النخيل وللسنبل الرطب: هذا أوان الدموع التي تضحك الشمس فيها، وهذا أوان الرحيل إلى المدن المقبلة. ولكن الحمامات رفضت أن تلوذ بالجدار؛ فقد رأت في سمائها ما لم يرَوه، وعرفت أن بلادهم هي بلاد البنادق، وأن المقاول الذي يشتريهم يجيء ومعه الجنود وأصحاب الحقائب الثقيلة: «المقاول يأتي، ويأتي إلى الجنود، وتهوي على الوطن المقصلة.» وتطير الحمامات مذبوحة، ويسقط دمها الأسود فوق الجدار الذي بنَوه، وأرادوا أن يكون بيتًا وملاذًا للحمام. ويقضي المُتعبون زمانًا يلمُّون فيه دماء الحمائم، ويرسمون في السر أجنحةً يطلقونها في القرى، ويرمِّمون الجدار قطعةً قطعة وحجرًا حجرًا، ويبنون «على هاجس الروح» مملكةً فاضلة لا يكادون ينتهون من بنائها حتى يهدمها المقاول والجنود الذين يساندونه فيبدءون من جديد … يغادر منهم من يغادر، ويُقتل من يُقتل، ويسقط من يسقط تحت الجدار، ولكنهم يبقَون على حبهم للوطن، وولائهم لزمان الجذور، وإصرارهم على بناء المدينة كلما خرَّبها المخربون.

تلك نماذج من القصيدة التصويرية في شعرنا القديم والحديث، ومن قصيدة الصورة في شعرنا الجديد. ربما غابت عني نماذج أخرى لم تصل إلى علمي، ولكنني لم أقصد إلى الإحصاء والاستقصاء بقدر ما قصدت إلى تتبُّع الفكرة نفسها جهد الطاقة. ولعلنا نخلُص من هذا الغرض السريع إلى نتيجة مشجِّعة على السير في الطريق، بحيث يكون لنا نوع أو نمط أدبي مستقل يُقبل عليه المبدعون والمتلقُّون على السواء، ويحقِّق المتعة الجمالية التي يوفِّرها التفاعل بين الفنون، ويعمل على نضوج قصيدة الصورة التي لم تحظَ حتى الآن بما تستحقه من عناية في أدبنا وفننا الحديث …

وأخيرًا فإن الصور والرسوم والتماثيل التي تطالعك في هذا الكتاب تتيح لكل عين وعقل أن يقرأها كما يشاء. ولقد تأمَّل شعراء غربيون من مختلِف العصور والجنسيات واللغات والآداب هذه الصور وغيرها. والشعراء أقدر على الرؤية مني ومنك (إلا إن كنت واحدًا منهم)؛ ولهذا تعدَّدت محاولاتهم للغوص في أغوار العمل الفني وفك طلاسم «شفرته». وتفاوتت بطبيعة الحال قدراتهم على ذلك بدءًا من الوصف المباشر، أو السخرية الفجة، إلى التأمل الهادئ ورؤية «الحقيقة» التي تجلَّت لهم من خلال الصورة أو التمثال. لا شك في أن قراءة كلٍّ منهم لا تخرج في النهاية — كما سبق أن قلت — عن أن تكون تفسيرًا واحدًا لا يحجر على تفسيرات أخرى ممكنة، ولا يُقيِّد حريتك في التأمل والتذوُّق والمقارنة. فتعالَ معي نقف أمام هذه اللوحات ونجرِّب حظَّنا في المتعة الحرة الصافية قبل كل شيء، ثم في التفكير والتأمل والحكم. ولنتذكَّر معًا أننا أحوج ما نكون إلى عالم الجمال بعد أن تراكم علينا القبح من الداخل والخارج. تشوَّهت نفوسنا في السنوات الأخيرة والتشوه قبح، فاض السيل من الألسن البذيئة والقلوب المريضة والصدور الجشعة المسعورة حتى أصبحنا نتصادم — لا في حندس كما قال أبو العلاء — بل في غابة القبح الكريه. ومن الغفلة بطبيعة الحال أن نتصوَّر خلاصنا الفردي أو الاجتماعي عن طريق تأمل صور في متحف أو معرض أو كتاب. إن ذلك لن يكون إلا وهمًا يتعزَّى به الطيبون والمتوحِّدون ويلوذون به من حصار القبح. ولا بد من أن يشارك كل من لا يزال يتذكَّر الجمال في إعلان الحرب على القبح بكل أشكاله (بدءًا من قبح النفس؛ لأن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم)، ولا مفر من أن يصبح الجمال وتربية الإحساس بالجمال في مقدمة همومنا القومية التي تكافح في سبيلها إرادة عربية. آن الأوان لكي تتحد وتنتبه وتصرَّ على الجمال وتحقِّقه في السلوك والحياة وفي البيت والشارع ومكان العمل إصرارها على الحرية والعلم والتقدم والتحضر؛ بذلك نؤكِّد وحدة القيم التي قلبنا سلمها قبل أن نغتالها وندوس على جثثها، ثم ننساها ونألف الحياة مع أضدادها ونقائضها من الشر والكذب والتزوير والادعاء والتظاهر وغيرها من أشكال القبح التي أصبح أربابها المُزَيَّفون يمارسونها وينفثون سمومها ويتباكَون عليها تباكي القاتل على قتلاه …

لكن فتح العين يمكن أن ينبِّهنا إلى البشاعة التي استقرَّت عناكبها في الباطن وأطبقت على الظاهر — فتح العين هو الدرس الخالد الذي نتعلمه من أصحاب الرؤية في الفن والفكر والحياة — إذ يمكننا أن نتذكَّر أو ننسى، أن نذهب أو نبقى، أن نتكلَّم أو نصمت. أمَّا الرؤية فهي الكلمة التي لا بديل لها ولا عنها؛ لأنها كالتنفس، لأنها كالحرية. بشرط أن نتعلم كيف نفتح أعيننا ونرى، وبشرط ألَّا نقتصر على أن نفتح عين الجسد، بل عين البصيرة والضمير التي طال نومها الثقيل.

وفي النهاية تقتضيني الأمانة وأداء واجب العرفان والامتنان أن أذكر أهمَّ المصادر التي استقيتُ منها نصوص القصائد، وهما كتابا الأستاذ جِسبِرت كرانس — أحد المختصين القلائل في قصيدة الصورة في الأدب الغربي عامة، والألماني بوجه خاص — والكتاب الأول «قصائد على صور»، مختارات ومعرض صور، ميونيخ، دار الجيب الألمانية، ١٩٧٥م (انظر الهوامش في المقدمة وثبت المصادر). قد كان نعم العون وبداية الطريق، وقد ساعدني مساعدةً لا تُقَدَّر في التعرف على هذا النوع الأدبي. والكتاب الثاني «صور ألمانية في القصيدة الألمانية»، قد أكمل بعض جوانب النقص في الكتاب الأول. أمَّا كتابه الثالث الذي قدَّم فيه محاولاته الطيبة في تفسير قصيدة الصورة وقراءتها وهو «سبع وعشرون قصيدة مفسَّرة»؛ فقد تعلَّمت منه ما لم يكن الشعراء والمصوِّرون أنفسهم ليستطيعوا تعليمه، وعشت مع تجاربه وتحليلاته الدقيقة الرقيقة التي جمعت علم الناقد إلى بصر الفنان وبصيرة الشاعر. وقد حرصت على التعريف بالمصوِّرين والنحاتين والشعراء ما وسعني الجهد، مع العناية بطبيعة الحال بتقديم نبذة طيبة عن الأعلام المؤثِّرين على تطور الفن والشعر، وإن كنت قد عجزت في بعض الأحوال عن التعريف الكافي بعدد من شعراء الشباب الذين لم تستوعبهم بعدُ معاجم الأدباء! ويمكن أن يرجع القارئ إلى الجزء الثاني من كتابي المتواضع «ثورة الشعر الحديث» (القاهرة، هيئة الكتاب ١٩٧٢م)، ليجد فيه المزيد من المعلومات والنصوص لعدد من كبار الشعر المذكورين في هذا الكتاب، وإلى الجزء الأول ليتعرَّف على بناء الشعر العربي الحديث والمعاصر الذي انعكس على العديد من قصائد الكتاب. أمَّا عن القصائد التي جاءت موزونةً على طريقة الشعر الجديد، أو شعر التفعيلة، فأعترف بأنها فرضت نفسها علَي، وتوخَّيت الأمانة والدقة في نقلها إلى العربية، مع وضع كل زيادة من عندي اقتضتها الصياغة أو القافية بين قوسَين، وهي محاولات وتجارب لا تجعل مني شاعرًا بطبيعة الحال بعد أن تخلَّيت إلى الأبد عن هذا الطموح.

وأخيرًا أتقدَّم بعاطر شكري إلى زميلة الدراسة السيدة إيفا بُومَر-بيلز التي أمدَّتني بكتب الأستاذ كرانس وبغيرها من المصادر الهامة، كما يطيب لي أن أشكر أخي الكريم الأستاذ الدكتور جابر عصفور الذي غمرني بعلمه وفضله. أمَّا راعي هذه السلسلة المرموقة الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، فله مني خالص الامتنان والتقدير على كريم تشجيعه وإتاحته الفرصة لهذا الكتاب لكي يرى النور.

ولله الحمد أولًا وأخيرًا، ومنه الهداية والتوفيق.

عبد الغفار مكاوي
١  جسبرت كرانس، قصائد على صور، مختارات ومعرض لوحات ميونيخ، دار نشر كتاب الجيب، ١٩٧٥م، ص٩–١٣.
Gisbert Vranz (Hrsg), Gediclte auf Bildet. Authologie und Galerie. München, DTV., s. 9–13.
٢  انظر موسوعة برنستون لفن الشعر Princeton Encyclopedia of Poetics مادة الفنون الجميلة والشعر، ومادة كما يكون الرسم — أو التصوير — يكون الشعر Ut pictura poesis، وهي عبارة هوراس المشهورة «الملحق».
٣  من الحقائق المعروفة أن تذوُّقنا للعمل الفني يعتمد أساسًا على حاسة البصر التي يمكن أن تُثير حواس أخرى كالسمع والشم والذوق. وكما يذهب بعض الشعراء — مثل رامبو — إلى أن للكلمات كيمياء خاصةً بها، وأن الكلمة يمكن أن توحي بالصورة والإيقاع والملمس والطعم واللون والرائحة، كذلك يرى بعض المصوِّرين — مثل الفنان حسن سليمان — أننا حين تمسح أعيننا صورةً ما لا نرى ألوانًا وخطوطًا فقط، بل نشم رائحةً ونسمع أصواتًا تتفاعل في بوتقة الخلق لتصبح طاقةً من الانفعال الذي يحدِّد لنا بدوره إيقاعًا ونغمًا، نتبعه بأعيننا على السطح المرسوم (كيف تقرأ صورة؟ القاهرة، هيئة الكتاب، ١٩٧٠م، المكتبة الثقافية، ص٢٤).
٤  عن ترجمة الأستاذَين الدكتور عبد الوهاب المسيري ومحمد علي زيد في كتابهما عن الرومانتيكية في الأدب الإنجليزي، القاهرة، مؤسسة سجل العرض، ١٩٦٤م، ص٢٩٧–٢٩٩.
٥  ذكرها المؤرِّخ والفيلسوف الإغريقي بلوتارك أو فلوطرخس «م٤٠ إلى ١٢٠م» في كتابه عن مجد الأثينيين ٣، ١٣٤٧، وتتكرَّر العبارة نفسها على لسان كاتب لاتيني متأخِّر هو سيدونيوس (من حوالي ٤٣٠ إلى حوالي ٤٨٥م)، حيث يقول إن التصوير شعر صامت والشعر صور ناطقة. ومن الواضح أن العبارتَين تقومان على ما أسمته الباحثة فرانسيس بيتس فن الذاكرة ومحاولة المزاوجة بين القدرة الإبداعية وقدرة الذاكرة على الاحتفاظ بانطباعات بصرية قوية وذلك في بحوثها عن الفن في عصر النهضة وتصوير «جوتو» للفضائل والرذائل.
٦  وهم مجموعة من الشعراء الذين استلهموا الفنانين الكبار الذين سبقوا رافائيل واعتمدوا في تصويرهم على الرؤية والتجربة المباشرة دون تقيُّد بالقواعد الفنية، ومن أهمهم «روسيت» الذي تجد ترجمته وبعض قصائده في هذا الكتاب.
٧  يوضِّح اللائوكون الجديد أُسس الرؤية الجديدة القائمة على مبادئ علمية وفكرية جديدة أعادت النظر في المفاهيم السابقة وأبرزت مفاهيم جديدة — تُحل التغير والتطور والتناقض محل منطق الثبات — وإذن فلم تُعَد المقارنة القديمة التي أقامها ليسنج في «لائوكونه» بين الشعر والرسم كافية؛ إذ كيف نتصوَّر أن يكون ذكر اللون مقابلًا للون، أو تكون الخطوط التي يكسرها الفنان على اللوحة مرادفةً لأي تكسير لغوي في الأدب؟ لقد أتاحت الوسائل المصرية التي يستخدمها الرسام حريةً كافية في إعادة الرؤى وتشكيل صور الواقع، أمَّا الأدب فما زال حبيس المنطق … (راجع للدكتور محمد عناني التصوير والشعر الإنجليزي الحديث، مجلة فصول، المجلد الخامس، العدد الثاني، ١٩٨٥م، الأدب والفنون، ص٢٧).
٨  قصيدة موجزة غالبًا ما تتألَّف من بيتَين كانت تُنقَش على قبور الموتى تخليدًا لذكراهم، ثم تطوَّرت إلى نوع أدبي مستقل.
٩  إذا كان الشعر ذاته — كما قال هوراس في عبارته السابقة — لا بد من أن يكون كالصورة فإنه يُتْرَك مع الفنون التصويرية أو المُصَوَّرة (كالرسم والنحت) في خاصية واحدة هي أنها جميعًا تعمل من خلال الصور، وقد أكَّد هذا أحد المفكرين في القرن السابع عشر وهو كلود فرانسوا ميسترييه في كتابه الذي نُشِر سنة ١٦٨٢م، وهو «فلسفة الصور» (راجع في العدد السابق الذكر من مجلة فصول من الأدب والفنون مقالًا بعنوان تصنيف الفنون للأستاذ ف. تاتاركيفتش، ترجمة الدكتور مجدي وهبة، ص١٧). وقد بلغ الأمر فيما يُسمَّى اليوم بالشعر المُجَسَّم إلى حد التعبير بالصورة المُجَرَّدة من اللغة، وإدخال الصور الفوتوغرافية والجرافيكية فيما يُسمَّى النص-الصورة، وكل هذا نتيجة تخلخل الحدود الفاصلة بين الأدب والفنون التشكيلية، والتعبير عن أزمة الأنواع الأدبية وتعرُّضها لفقدان هُويتها، وإسهام التكعيبية والمستقبلية والدادية والسريالية والتجريدية في ذلك …
١٠  في كتابه منيموزينه، التوازي بين الأدب والفنون البصرية، برنستون ١٩٦٧م.
١١  من ترجمة الدكتور ماهر شفيق فريد مع تغييرات طفيفة.
١٢  الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق وشرح المرحوم الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الرابعة، ١٩٦٦م، ص٤١٢.
١٣  جسبرت كرانس: صور ألمانية في القصيدة الألمانية، ميونيخ، دار نشر ماكس هوبر، ١٩٧٥م، ص٩٠.
Kranz, Gisbert, Deutucle Dildwepke im deutschen Gediclt. München, M. Hueber Verlag, 197 s. 90.
١٤  استُبدِل الأصل الملوَّن بالصورة التي بالأبيض والأسود. (الناشر)
١٥  راجع للدكتور جابر أحمد عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، القاهرة، دار المعارف، ١٩٧٣م، ص٢٨١–٢٨٣، وهو الكتاب الذي عالج الموضوع معالجةً تتسم بالتعمق والاستقصاء، وقد اعتمدت عليه اعتمادًا كبيرًا في عرض هذه اللمحات القليلة عن الصورة والتصوير في تراثنا النقدي القديم.
١٦  المرجع السابق نفسه، ص٣٨٦ وما بعدها.
١٧  المرجع نفسه، ص٢٨٧–٢٨٨.
١٨  عبد القاهر، دلائل الإعجاز ٣١٧، عن جابر عصفور، المرجع السابق من ٣٠٨، مع ملاحظة أن عبد القاهر لا يستخدم مصطلح الصورة بطريقة موحَّدة؛ إذ يحمل في طياته الدلالة على الصورة من حيث التقديم الحسي لمعاني الشعر في الاستعارة والتمثيل والتشبيه، وعلى الشكل أو الصياغة ممَّا يتفق مع دلالة مصطلح الصورة والعلة الصورية عند أرسطو.
١٩  راجع شكري محمد عياد، كتاب أرسطوطاليس في الشعر، القاهرة، المكتبة العربية، ١٩٦٧م، ص٢٦١.
٢٠  جابر أحمد عصفور، المرجع السابق، ص٣١٢ وما بعدها.
٢١  المرجع نفسه، ص ٣٢٧.
٢٢  ديوان أبي نُواس برواية الصولي، تحقيق الدكتور بهجت عبد الغفور الحديثي، بغداد، دار الرسالة للطباعة، ١٩٨٠م، ص١٥٩–١٦٢؛ وكذلك ديوان أبي نُواس الحسن بن هانئ، بتحقيق أحمد عبد الله الغزالي، القاهرة، مطبعة مصر، ١٩٥٣م، ص٣٧.
٢٣  يُزجي: يسوق. الدِّرَفْس: العلم الكبير.
٢٤  الورس: نبتة ذات صبغة صفراء.
٢٥  المشيح: الجاد الحريص. والمليح: الحذر. والترس: المِجَن.
٢٦  يغتلي: يزيد. تتقراهم: تتبعهم. راجع ديوان البُحتري بتحقيق وشرح المرحوم الشاعر حسن كامل الصيرفي، المجلد الثاني، ١٩٦٣م، ص١١٥٦؛ وكذلك حياة البُحتري وفنه للدكتور أحمد أحمد بدوي، القاهرة، الأنجلو المصرية، ص١٠٢–٢٠٥.
٢٧  راجع العَرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، للشيخ ناصيف اليازجي، الجزء الثاني، ص٢٦١–٢٦٧، وكذلك ديوان المتنبي بشرح العكبري، الجزء الثالث، ص٣٢٥–٣٤٢.
٢٨  مجلة أبولو، عدد يناير ١٩٣٣م، ص٥٧٨.
٢٩  مجلة أبولو، عدد يونيو ١٩٣٤م، ص١٠٠٢.
٣٠  مجلة أبولو، عدد ديسمبر ١٩٣٤م، ص٧٢٣–٧٢٦.
٣١  مجلة أبولو، عدد سبتمبر ١٩٣٢م، المجلد الأول ص٣٩.
٣٢  ديوان البياتي، الجزء الثاني، بيروت، دار العودة، ١٩٧١م، ص٣٠٥–٣١٠.
٣٣  أمل دنقل، الأعمال الكاملة، القاهرة، مكتبة مدبولي، ص٢٦٨–٢٧٢.
٣٤  كائنات مملكة الليل، بيروت، دار الآداب، ١٩٧٨م، ص٤٩–٥٧.
٣٥  ديوان البياتي، الجزء الأول، بيروت، دار العودة، ص٦٦٢.
٣٦  ديوان حميد سعيد، الجزء الأول، بغداد، شركة مطبعة الأديب، ١٩٨٤م، ص٣٤.
٣٧  سعدي يوسف، الأعمال الشعرية، بغداد، مطبعة الأديب البغدادية، ١٩٧٨م، ص١٤٩–١٥٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤