الفصل الثالث والثلاثون

قاطعو الأحجار

لوحة للفنان «جوستاف كوربيه (Courbet)» (١٨١٩–١٨٧٧م)، وقد رسمها سنة ١٨٤٩م، وظلَّت محفوظةً في متحف دريسدن حتى أُتلفت سنة ١٩٤٥م.

كوربيه رسام واقعي تغلب عليه النزعة الطبيعية المتطرِّفة. آمن بالواقعية ودعا إليها، وهاجم الكلاسيكية «الأكاديمية» والرومانطيقية السائدة في أيامه بقسوة ألَّبت عليه النُّقاد، وسببت له المتاعب في حياته.

وُلد في «أورنانز» بسويسرا بالقرب من الحدود الفاصلة بينها وبين فرنسا، ثم سافر إلى باريس سنة ١٨٤٠م، وعلَّم نفسه بنفسه عن طريق نسخ اللوحات في «اللوفر» والتردُّد على المرسم (الأتيلييه) السويسري. اتجه إلى النزعة الطبيعية مع التأثر بفن مدرسة البندقية التي اهتمَّت بالتفاصيل الدرامية وتفاعل النور والظلال، وبأعمال كارافاجيو (١٥٧٣–١٦١٠م) ببساطتها وواقعيتها التي ألهمت العديد من كبار الفنانين. استمدَّ موضوعاته من الحياة اليومية ومعاناة الفقراء، وتصوير الوجوه والأجساد العارية، والحياة الساكنة والأزهار، ومناظر البحر والطبيعة التي تعكس في الغالب البيئة الجبلية بالقرب من مسقط رأسه في أورنانز، كما أدخل فيها أحيانًا مناظر نساء عاريات، ورحلات صيد، وغزلانًا وسط الثلج. غير أن شهرته ترجع إلى تصوير حياة الفقراء والكادحين من العُمال والفلاحين، على نحو ما ترى في صورته هذه عن قاطعي الأحجار. وفي لوحته الكبرى «دفن الموتى في أورنانز» (رسمها سنة ١٨٥٠م وتوجد في اللوفر) التي تضم أكثر من أربعين شكلًا بشريًّا، ولوحته الضخمة «رسام في مرسمه» (١٨٥٥م، اللوفر)، التي وصفها بعض النُّقاد بأنها «مانيفستو» (بيان) فلسفي!

كان كوربيه فيما يبدو شديد العداء للكنيسة ورجالها، وقد رفضت المعارض لوحته «العودة من المؤتمر» التي صوَّر فيها قساوسةً سكارى، ثم اشتراها كاثوليكي مُتعصِّب لكي يدمِّرها! وجلب على نفسه المزيد من الحقد والاضطهاد بتدخُّله في السياسة واشتراكه في ثورة ١٨٤٨م الديمقراطية، وفي «كومونة باريس»١ سنة ١٨٧١م، ممَّا أثار غضب السلطة التي سجنته وحكمت عليه بغرامة مالية كبيرة عقابًا له على دوره في تدمير نصب نابليون التذكاري في ميدان «فيندوم»، ممَّا أدى في النهاية إلى هربه إلى سويسرا سنة ١٨٧٣م، حيث مات بعد ذلك بسنوات قليلة.

يُتَّهم كوربيه بعدائه للثقافة والمثقفين، على الرغم من روابط الصداقة التي جمعت بينه وبين الشاعر «بودلير» والفيلسوف والكاتب الاشتراكي بيير جوزيف برودون (١٨٠٨–١٨٦٥م صاحب العبارة المشهورة: «الملكية سرقة»، التي وردت في كتابه، ما الملكية؟ وصاحب الكتاب المشهور نظام التناقضات الاقتصادية، أو فلسفة البؤس الذي انتقده ماركس وشهَّر به في كتاب بؤس الفلسفة). وقد رفض كوربيه النزعة المثالية في الفن، كما أدان معها الكلاسيكية والرومانطيقية، وحقَّر من شأن الموضوعات الأدبية التي تستنفد جهود أصحابها بدلًا من الاتجاه إلى الواقع، وتصوير العُمال والفلاحين الذين اعتبر حياتهم أنبل موضوع يمكن أن يتناوله الفنان.

لم تلقَ أعماله بوجه عام — على الرغم من فوزه سنة ١٨٤٩م بالميدالية الذهبية من معرض باريس — سوى التجاهل والنقد المرير. وقد عرض لوحاته عرضًا مستقلًّا أثناء المعرضَين الدوليَّين اللذَين افتُتِحا في باريس عامَي ١٨٥٥ و١٨٦٧م، مُحاوِلًا بذلك أن يرد على الجحود والتجاهل الرسمي الذي فُرِض عليه، فلم يلقَ غير المزيد من التجاهل والجحود! وحال هروبه من فرنسا سنة ١٨٧٣م دون التعرف من قريب على الحركة التأثيرية وحضور معرضها الأول الذي افتُتِح في باريس سنة ١٨٧٤م (وشارك فيه عدد كبير من أعلامها مثل مونيه ورينوار وسيزان وديجا وسيسلي وبيسارو وجيومان وبودان)، والواقع أنه أثَّر على هؤلاء التأثيريين الذين اعترفوا بفضله، سواء بأسلوبه في تنفيذ المناظر الطبيعية أو في كراهيته للنزعة الأكاديمية والذهنية، أو في ضرب المثل لهم بإقامة المعارض الخاصة. وقد شابت أعمال كوربيه و«تقنيته»، أو أسلوبه في تنفيذها، عيوبٌ فنية كثيرة — ليس أقلها اختياره لموضوعات واقعية ذات صوت ميلودرامي صارخ، وافتقاره للحساسية في ألوانه ولمسات فرشاته — ولكن يبدو أن عيوبه الشخصية والخلقية من غرور وسلاطة لسان وحدَّة طبع قد ساهمت بنصيب كبير في الجناية على حياته المضطربة البائسة.

(١) رينيه شار (René Char) (١٩٠٧م–…)

وُلد الشاعر الفرنسي الكبير سنة ١٩٠٧م في «ليل-سور-سورج» بمقاطعة بورفانس. ظلَّ سيرياليًّا حتى سنة ١٩٣٨م، وكتب الشعر كما كتب عن الفن. شارك في الحرب الأهلية الإسبانية ضد الفاشيين من أتباع فرانكو، كما شارك مشاركةً فعَّالة في حركة المقاومة للاحتلال النازي لبلاده، وكان قرب نهاية الحرب العالمية الثانية في صفوف فرقة المظلات. ظهرت قصيدته عن لوحة كوربيه «قاطعو الأحجار» أول مرة سنة ١٩٣٨م في ديوانه «في الخارج يحكم الليل»، ثم نُشرت بعد ذلك في مجموعة أشعاره التي ترجمها إلى الألمانية شاعر كبير مثله هو باول سيلان.٢

«قاطعو الأحجار»

الرمل، القش، يعيشان حياةً ناعمة،
النبيذ لا يتكسَّر عليهما،
من الحَمام حصدا الريش،
من عنق الزجاجة أخذا اللسان الشره،
إنهما يُعطِّلان كعوب الفتيات
اللائي يخرقان عرائسهن
على هيئة فراشات.
والدم الذي يستعذبان عذابه
يسقط في دعابة خفتهما.
نحن نلتهم طاعون النار الرمادية في كوم الحجارة،
وعندما تُحاك الدسائس في المجلس البلدي،
نشعر فوق الطُّرق المهدمة بأنا في أحسن حال،
هنالك حيث الطماطم في البساتين،
تحملها إلينا الريح في غسق الفجر،
«وتحمل معها» نسيان الخبث الذي نلقاه من نسائنا،
ومرارة العطش المنساب في ركبنا.
يا ولدي إن أعمالنا المغبرة بالتراب
سوف تُرى هذه الليلة في السماء،
وها هو زيتنا الرصاصي يصحو من جديد.
١  ثورة عُمال باريس من ١٨ إلى ٢٧ مايو سنة ١٨٧١م، الذين حاولوا الاستيلاء على السلطة في المدينة بعد أن رُفع عنها حصار البروسيين. وقد أُطيح «بالكومونة» أو المجلس الثوري الذي أقاموا بعد قتال وحشي إثر قيام الجيش النظامي لمدينة «تيتر» بمحاصرة المدينة.
٢  راجع إن شئت مختارات من شعر رينيه شار في الجزء الثاني من كتابي: ثورة الشعر الحديث. القاهرة، هيئة الكتاب، ١٩٧٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤