ذكر من مات في هذه السنين من الأمراء والأعيان المعروفين

أخبارهم وتراجمهم على حسب الإمكان وما وصل إليه علمي من ذلك من الأمور الإجمالية

ومات الأمير علي بك ذو الفقار، وهو مملوك ذو الفقار بك خشداش عثمان بك، ولما دخلوا على أستاذه وقت العشاء وقتلوه كما تقدم كان هو إذ ذاك خازنداره كما تقدم، فقال المترجم بأعلى صوته: «الصنجق طيب هاتوا السلاح» فكانت هذه الكلمة سببًا لهزيمة القاسمية وإخمادهم إلى آخر الدهر، وعد ذلك من فطانته وثبات جأشه في ذلك الوقت والحالة، ثم أرسل إلى مصطفى بك بلغيه فحضر عنده وجمع إليه محمد بك قطامش وأرباب الحل والعقد، وأرسلوا إلى عثمان بك فحضر من التجريدة، ورتبوا أمورهم وقتلوا القاسمية الذين وجدوهم في ذلك الوقت وبعده، وقلدوا المترجم الصنجقية، وتزوج أستاذه، وسكن ببيت محمد أغا تابع إسماعيل باشا في الشيخ ظلام، وسكن الحال إلى سنة ست وأربعين.

فلما تولى عثمان باشا الحلبي ولاية مصر أرسل إلى المترجم وجعله قايمقامه، فحضر إليه المسلِّم ودخل إلى بيته فتلقاه ورحَّب به، ثم قال له: «قم بنا إلى الديوان وتلبس قفطان القايمقامية» فقال له: «الخيل فيها سلامان، ولعل ذلك لعلي بك قطامش، فإن رياسة مصر الآن له ولسيده، وأما أنا وخشداشي عثمان بك فمن المتروكين» فقال له الأغا: «ألم تكُ علي بك خازندار المرحوم ذي الفقار بك؟» قال: «نعم» فأعطاه الفرمان فلما قرأه علم أنه هو المعنيُّ بذلك، فركب صحبته إلى الديوان وخلع عليه عبد الله باشا القفطان، ونزل إلى منزله فخلع على إسماعيل بك وأبي قلنج أمين السماط، وحضر إلى المترجم محمد بك قطامش وباقى الأمراء والأغوات والاختيارية، وخشداشه عثمان بك وهنوه، وسلَّموا عليه.

ولما وقف العرب بطريق الحجاج في العقبة سنة سبع وأربعين، وكان أمير الحاج رضوان بك، أرسل إلى محمد بك قطامش فعرفه ذلك، فاجتمع الأمراء بالديوان، وتشاوروا فيمن يذهب لقتال العرب، فقال المترجم: «أنا ذاهب إليهم، وأخلص من حقهم، وأنقذ الحجاج منهم، ولا آخذ من الدولة شيئًا بشرط أن أكون حاكم جرجا عن سنة ثمانٍ وأربعين» فأجابوه إلى ذلك، وألبسه الباشا قفطانًا، وقضى أشغاله في أسرع وقت، وخرج في طوايفه ومماليكه وأتباع أستاذه، وتوجه إلى العقبة وحارب العرب حتى أنزلهم من الحلزونات وأجلاهم، وطلع أمير الحاج بالحجاج، وساق هو خلف العرب فقتل منهم مقتلة عظيمة، ولحق الحجاج بنخل ودخل صحبتهم، ولما دخل توت سافر إلى ولاية جرجا فأقام بها أيامًا ومات هناك بالطاعون، فأرسل خشداشه عثمان بك إلى كتخدا وقايمقامه بأن يكملوا السنة، ويخلصوا المال والغلال، ويحضروا إلى مصر، وقلدوا عوضه مملوكه حسن الصنجقية، وصالح على حصصه بحلوان قليل.

ومات الأمير مصطفى بك بلغيه تابع أغا بلغيه، تقلد الإمارة والصنجقية في أيام إسماعيل بك ابن إيواظ سنة خمس وثلاثين وماية وألف، ولم يزل أميرًا متكلمًا، وصدرًا من صدور مصر أصحاب الأمر والنهي والحل والعقد إلى أن مات بالطاعون على فراشه سنة ثمانٍ وأربعين وماية وألف، وقلدوا عوضه في الإمارة والصنجقيه مملوكه إبراهيم أغا وفتح بيت أستاذه.

ومات أيضًا رضوان أغا الفقاري، وهو جرجي الجنس تقلد أغاوية مستحفظان عندما عُزل علي أغا — المقدم ذكره — في أواخر سنة ثمانِ عشرة وماية وألف، ثم تقلد كتخدا الجاويشية، ثم أغات جملية في سنة عشرين وماية وألف، وكان من أعيان المتكلمين بمصر، وفر من مصر وهرب مع من هرب في الفتنة الكبرى إلى بلاد الروم، ثم رجع إلى مصر سنة خمس وثلاثين باتفاق من أهل مصر بعد ما بيعت بلاده وماتت عياله، ومات له ولدان، فمكث بمصر خاملًا إلى سنة ست وثلاثين، ثم قلده إسماعيل بك ابن إيواظ آغوية الجملية فاستقر بها نحو خمسين يومًا، ولما قُتل إسماعيل بك في تلك السنة نفي المترجم إلى أبي قير خوفًا من حصول الفتن، فأقام هناك، ثم رجع إلى مصر، واستمر بها إلى أن مات في الفصل سنة ثمانٍ وأربعين وماية وألف.

ومات كل من إسماعيل بك قيطاس، وأحمد بك أشراق ذي الفقار بك الكبير، وحسن بك وحسين بك كتخدا الدمياطي، وإسماعيل كتخدا تابع مراد كتخدا، وخليل جاويش قجابيه، وأفندي كبير عزبان، وحسن جاويش بيت مال العزب، وأفندي صغير مستحفظان، وأحمد أوده المطرباز، ومحمد أغا ابن تصلق أغات مستحفظان، وحسن جلبي بن حسن جاويش خشداش عثمان كتخدا القازدغلي … وغير ذلك، مات الجميع في الفصل سنة ثمانٍ وأربعين وماية وألف.

ومات أحمد كتخدا الخربطلي، وهو الذي عمّر الجامع المعروف بالفاكهاني الذي بخط العقادين الرومي بعطفة خوشقدم، وصرف عليه من ماله مائة كيس، وأصله من بناء الفائز بالله الفاطمي، وكان إتمامه في حادي عشر شوال سنة ثمان وأربعين وماية وألف، وكان المباشر على عمارته جلبي شيخ طائفة العقادين الرومي، وجعل مملوكه علي ناظرًا عليه ووصيًّا على تركته، ومات المترجم في واقعة بيت محمد بك الدفتردار سنة تسع وأربعين ومائة وألف مع من مات، كما تقدم الإلماع بذكر ذلك في ولاية باكير باشا.

ومات الأمير عثمان كتخدا القازدغلي تابع حسن جاويش القازدغلي والد عبد الرحمن كتخدا صاحب العماير، تنقل في مناصب الوجاقات في أيام سيده وبعدها إلى أن تقلد الكتخدايه ببابه، وصار من أرباب الحل والعقد وأصحاب المشورة، واشتهر ذكره ونما صيته، وخصوصًا لما تغلبت الدول وظهرت الفقارية، ولما وقع الفصل في سنة ثمانٍ وأربعين، ومات الكثير من أعيان مصر وأمرائها — غنم أموالًا كثيرة من المصالحات والتركات.

وعمَّر الجامع المعروف بالأزبكية بالقرب من رصيف الخشاب في سنة سبع وأربعين، وحصلت الصلاة فيه ووقع به ازدحام عظيم حتى إن عثمان بك ذو الفقار حضر للصلاة في ذلك اليوم متأخرًا فلم يجد له محلًا فيه فرجع وصلى بجامع أزبك، وملوا المزملة بشربات السكر، وشرب منه عامة الناس، وطافوا بالقلل لشرب مَن بالمسجد من الأعيان، وعمل سماطًا عظيمًا في بيت كتخدا سليمان كاشف برصيف الخشاب، وخلع في ذلك اليوم على حسن أفندي ابن البواب الخطيب والشيخ عمر الطحلاوي المدرس وأرباب الوظايف خلعًا، وفرق على الفقراء دراهم كثيرة، وشرع في بناء الحمام بجواره بعد تمام الجامع والسبيل والكتَّاب.

وبنى زاوية العميان بالأزهر، ورحبة رواق الأتراك والرواق أيضًا، ورواق السليمانية، ورتب لهم مرتبات من وقفه، وجعل مملوكه سليمان الجوخدار ناظرًا ووصيًّا وألبسه الضلمة.

ولم يزل عثمان كتخدا أميرًا ومتكلمًا بمصر وافر الحرمة مسموع الكلمة، حتى قُتل مع من قُتل ببيت محمد بك الدفتردار مع أن الجمعية كانت بإطلاعه ورأيه، ولم يكن مقصودًا بالذات في القتل.

ومات الأمير الكبير محمد بك قيطاس المعروف بقطامش وهو مملوك قيطاس بك جرجي الجنس، وقيطاس بك مملوك إبراهيم بك ابن ذي الفقار بك تابع حسن بك الفقاري، تولى الإمارة والصنجقية في حياة أستاذه، وتقلد إمارة الحج سنة خمس وعشرين وطلع بالحج مرتين، وتقلد أيضًا إمارة الحج سنة ستٍّ وأربعين ماية وألف وسنة ثمان وأربعين.

ولما قُتل عابدي باشا أستاذه بقراميدان سنة ست وعشرين وماية وألف — كما تقدم ذكر ذلك — عصى المترجم وكرنك في بيته هو وعثمان بك بارم ديله، وطلب بثأر أستاذه ولم يتم له أمر، وهرب إلى بلاد الروم فأقام هناك إلى أن ظهر ذو الفقار في سنة ثمانٍ وثلاثين، وخرج جركس هاربًا من مصر، فأرسل عند ذلك أهلُ مصر يستدعون المترجم، ويطلبون من الدولة حضوره إلى مصر، فأحضروه وأرسلوا إلى مصر وأنعموا عليه بالدفتردارية، ولما وصل إلى مصر فلم يتمكن منها حتى قَتل علي بك الهندي، فعند ذلك تقلد الدفتردارية وظهر أمره ونما ذكره.

وقلد مملوكه علي صنجقًا، وكذلك إشراقه إبراهيم بك، ولما عزل باكير باشا تقلد المترجم قايمقامية وذلك سنة ثلاث وأربعين، وبعد قتل ذي الفقار بك صار المترجم أعظم الأمراء المصرية وبيده النقض والإبرام والحل والعقد، وصناجقه علي بك ويوسف بك وصالح بك وإبراهيم.

ولم يزل أميرًا مسموع الكلمة وافر الحرمة حتى قُتل في واقعة بيت الدفتردارية كما تقدم، وقُتل معه أيضًا من أمرايه: علي بك وصالح بك، وعلي بك هذا هو الذى كان أميرًا على تجريدة محمد بك جركس صحبة عثمان بك ذي الفقار، وحضر برأسه إلى مصر وهو والد عمر بك، وطلع أميرًا بالحج سنة سبع وأربعين، وحصل بينه وبين عربان ينبع البر معركة، ونهبت الغلمان السوق، وأقام بمكة خمسة أيام زائدة عن المعتاد، ورجع على قلعة الوِش ولم يرجع على الينبع.

ومات معهم أيضًا يوسف كتخدا البركاوي، وكان أصله جربجيًّا بباب العزب، وطلع سردار بيرق في سفر الروم، ثم رجع إلى مصر فأقام خاملًا قليل الحظ من المال والجاه، فلما حصلت الواقعة التي ظهر فيها ذو الفقار، واجتمع محمد باشا وعلي باشا والأمراء، وحصرهم محمد بك جركس من جهات الرميلة من ناحية مصلى المؤمنين والحصرية وتلك النواحي، وتابعوا رمي الرصاص على مَن بالمحمودية وباب العزب والسلطان حسن بحيث منعوهم المرور والخروج والدخول، وضاق الحال عليهم بسبب ذلك، فعندها تسلق المترجم وخاطر بنفسه ونط من باب العزب إلى المحمودية والرصاص نازل من كل ناحية، وطلع عند الباشا والأمراء، وطلب فرمانًا خطابًا لكتخدا العزب بأنه يفرد بيرقًا بمائة نفر وأوده باشه، ويكون هو سر عسكر، ويطرد الذين في سبيل المؤمنين، وهو يملك بيت قاسم بك ويفتح الطريق، فأعطوه ذلك، وفعل ما تقدم ذكره، وملك بيت قاسم بك، وجرى بعد ذلك ما جرى، ولما انجلت القضية جعلوه كتخدا باب العزب، وظهر شأنه من ذلك الوقت، واشتهر ذكره وعظم صيته، وكان كريم النفس ليس للدنيا عنده قيمة، ولم يزل حتى قُتل في واقعة بيت الدفتردار.

ومات الأمير قيطاس بك الأعور، وهو مملوك قيطاس بك الفقاري — المتقدم ذكره — تقلد الإمارة في أيام أستاذه، ولما قتل أستاذه كان المترجم مسافرًا بالخزينة ونازلًا بوطاقه بالعادلية، وكان خشداشه محمد بك قطامش نازلًا بسبيل علَّام، فلما بلغه قتل أستاذه ركب هو وعثمان بك بارم ديله وأتيا إليه وطلباه للقيام معهما في طلب ثأر أستاذهم فلم يطاوعهما على ذلك، وقال: «أنا معي خزينة السلطان، وهي في ضماني فلا أدعها وأذهب معكما في الأمر الفارغ، وفيكم البركة» وذهب محمد بك وفعل ما فعله من الكرنكة في داره، ولم يتم له أمر إلى الديار الرومية، واستمر هناك إلى أن رجع كما ذكر، وعاد المترجم من سفر الخزينة فاستمر أميرًا بمصر، وتقلد إمارة الحج سنة اثنتين وأربعين، وتوفي بمنى ودُفن هناك.

ومات الأمير علي كتخدا الجلفي تابع حسن كتخدا الجلفي المتوفى سنة أربع وعشرين وماية وألف، تنقل في الإمارة بباب عزبان بعد سيده، وتقلد الكتخداية، وصار من أعيان الأمرا بمصر وأرباب الحل والعقد، ولما انقضت الفتنة الكبيرة، وطلع إسماعيل بك إلى ابن إيواظ إلى باب العزب، وقتل عمر أغا أستاذ ذي الفقار بك، وأمر بقتل خازنداره ذي الفقار المذكور — استجار بالمترجم وكان بلديَّه، وكان إذ ذاك خازندارًا عند سيده حسن كتخدا، فأجاره وأخذه في صدره، وخلّص له حصة قمن العروس كما تقدم، فلم يزل يراعي له ذلك حتى أن يوسف كتخدا البركاوي انحرف منه في أيام ذي الفقار وأراد غدره، وأسرَّ بذلك إلى ذي الفقار بك، فقال له: «كل شيء أطاوعك فيه إلا الغدر بعلي كتخدا، فإنه كان السبب في حياتي، وله في عنقي ما لا أنساه من المنن والمعروف، وضمانة عليَّ في كل شيء» وقلده الكتخداية.

وسبب تلقبهم بهذا اللقب: هو أن محمد أغا مملوك بشير أغا القزلار أستاذ حسن كتخدا كان يجتمع به رجل يسمى منصورًا الزتاحرجي السنجلقي من قرية من قرى مصر تسمى سنجلف، وكان متمولًا وله ابنة تسمى خديجة، فخطبها محمد أغا لمملوكه حسن أغا أستاذ المترجم وزوجها له، وهي خديجة المعروفة بالست الجلفية.

وسبب قتل المترجم ما ذكر في ولاية سليمان باشا بن العظم لما أراد إيقاع الفتنة، واتفق مع عمر بك ابن علي بك قطامش على قتل عثمان بك ذي الفقار وإبراهيم بك قطامش وعبد الله كتخدا القازدغلي والمترجم، وهم المشار إليهم إذ ذاك في رياسة مصر، واتفق عمر بك مع خليل بك وأحمد كتخدا عزبان البركاوي وإبراهيم جاويش القازدغلي، وتكفل كل منهم بقتل أحد المذكورين، فكان أحمد كتخدا ممن تكفل بقتل المترجم، فأحضر شخصًا يقال له: لاظ إبراهيم من أتباع يوسف كتخدا البركاوي وأغراه بذلك، فانتخب له جماعة من جنسه ووقف بهم في قبو السلطان حسن تجاه بيت آقبردي ففعل ذلك.

ووقف مع من اختارهم بالمكان المذكور ينتظر مرور علي كتخدا وهو طالع إلى الديوان، وأرسل إبراهيم جاويش إنسانًا من طرفه سرًّا يقول له: «لا تركب في هذا اليوم صحبة أحمد كتخدا فإنه عازم على قتلك» فلما بلغته الرسالة لم يصدق ذلك، وقال: «وأنا أي شيء بيني وبينه من العداوة حتى يقتلني؟» وأعطى الرسول بقشيشًا وقال له سلم على سيدك، وبعد ساعة حضر إليه أحمد كتخدا فقام وتوضأ، وقال لكاتبه التركي: «خذ من الخازندار الفلاني ألف محبوب ندفعها فيما علينا من مال الصرة» فأخذها الكاتب في كيس وسبقه إلى الباب، وركب مع أحمد كتخدا وإبراهيم جاويش وخلفهم حسن كتخدا الرزاز وأتباعهم، فلما وصلوا إلى المكان المعهود خرج لاظ إبراهيم وتقدم إلى المترجم كأنه يقبِّل يده، فقبض على يده وضربه بالطبنجة في صدره فسقط إلى الأرض، وأطلق باقي الجماعة ما معهم من آلات النار، وعبقت الدخنة؛ فرمح ابن أمين البحرين وذهب إلى بيته، وطلع أحمد كتخدا وصحبته حسن كتخدا الرزاز إلى الباب.

ولما سقط علي كتخدا سحبوه إلى الخرابة وفيه الروح فقطعوا رأسه، ووضعوها تحت مسطبة البوابة في الخرابة، وطلعوا إلى الباب، وعندما طلع أحمد كتخدا واستقر بالباب أخذ الألف محبوب من الكاتب وطرده، واقترض من حسن كتخدا المشهدي ألف محبوب أيضًا، وفرق ذلك على من بالباب من أوده باشيه والنفر.

وحضر شريف على أفندي بطلب رمة المقتول من أحمد كتخدا فأنكرها، فقال له إسماعيل كتخداه: «أى شيء تعمل بالرمة؟ أعطها لهم يدفنوها» فأرسل صحبة سرّاج بأمارة فدخل إلى الخرابة فوجده مرميًّا على الزبالة وهو عريان من غير رأس، فوضعوه فى النعش وفتشوا على الرأس فأشار بعض جيران المحل على الدولاب فأخذوها منه، وأتوا به إلى بيته بالخرنفش، فغسلوه وكفنوه، وأخرجوه في مشهد عظيم إلى الأزهر فصلّوا عليه ودفنوه بمدفنهم في حومة الإمام الشافعى — رضى الله عنه.

ولما بلغ خبر قتل علي كتخدا عثمان بك ذي الفقار اغتم غمًّا شديًا؛ لكونه صديقه وصديق أستاذه من قبله، وطلب رضوان چربجي وسليمان چربجي أتباع علي كتخدا، وقال لهم: «اجمعوا عندكم أنفارًا قادرة بسلاحها، ولازموا بيت المرحوم أستاذكم، وإن أتاكم أحد اضربوه واطردوه» فأحضر شخصًا يقال له: أبو مناخير فضة، فجمع إليه نحو المائتي نفر من وجاق العزب وجلسوا في بيت المرحوم، فحضر إليهم جاويش وقابجية وسراجون وأرادوا أن يختموا على مخلفاته فطردوهم، فرجعوا إلى أحمد كتخدا وأخبروه، وحضر حسين بك الخشاب عند إبراهيم جاويش، وسأله هل عنده علم بقتل الجلفي؟ فقال: نعم، وأرسلت إليه ألا يركب فلم يسمع لأجل القضاء، وأعلم أن هذا من الباشا، وكان مراده يملك باب الينكجرية بحيلة فلم يتمَّ له ذلك، والخبر كله عند عمر بك ابن علي بك، وحضر عمر بك عند إبراهيم بك فقال له: «يا ولدي، أي شيء يحصل لك من قتلي؟ أنا أعطيك بلدًا أو بلدين، وجامع عندك المبغضين، وتصرف عليهم مالك!» فاعتذر إليه وأخبره بالقضية.

فركب إبراهيم بك قطامش، وأخذ صحبته عمر بك، وذهبا إلى عثمان بك فوجد عنده إسماعيل بك قلنج وحسين بك الخشاب وابن الدالي وإبراهيم بك بلغيه، وحضر أيضًا يوسف بك قطامش الدفتردار، وكان عثمان بك يحبه؛ لعقله، وقلة تداخله في الأمور، فقال إبراهيم بك لعثمان بك: «اسمع حكاية عمر بك» فلما سمع قال عثمان بك: «قوموا بنا نعزل الباشا، ثم ندبر تدبيرًا في ملك باب العزب» فقال الخشاب: «أنا أملك باب العزب بحيلة، وأنزل أحمد كتخدا إلى بيته».

ثم إن الأمراء ركبوا إلى الرميلة وطلع حسين بك بطايفته وأولاد خزنته إلى باب العزب عند أحمد كتخدا فوجد عنده إسماعيل كتخداه وحسن كتخدا المشهدي وكتخدا الوقت، والباب ملآن عسكرًا، فجلس يتحدث معه، وقال: «أنا كنت عند عثمان بك لما أرسل لك كتخداه يقول: لأي شيء عملت هذه العملة؟» فقال باش أوده باشه: «القاتل منا والمقتول منا، وأي شيء أدخل الصناجق فينا؟» فقال حسين بك: «قوة وجه» وإن الأمراء حضروا ينزلوا الباشا فعند نزوله راحت على من راحت، وانزلوا إلى بيوتكم فلم يبقَ شر.

ثم إن الأمراء والأغوات والإسباهية والينكجرية أرسلوا إلى الباشا، وأمروه بالنزول إلى قصر يوسف فركب ومر على الينكجرية فأراد يدخل هناك فرفعوا عليه البنادق ومنعوه، فدله حسن جاويش النجدلي على قصر يوسف فدخل إليه فوجده خرابًا، فأنزلوه بيت الأغا، وانتقل الأغا إلى السرجي، وما زال حسين بك خلفهم حتى نزل الجميع، فأرسل إلى عثمان بك وعرفه بخلو الباب، فأرسل كتخداه بطايفة فملكوا الباب، وأنزلوا الكتخدا المتولي بمتاعه إلى بيته، وسكن الحال.

وركب عثمان بك بعد الغروب، وحضر عند يوسف بك الدفتردار، وأحضر رضوان جربجي وسليمان جربجي وكامل أتباع حسن كتخدا وعلي كتخدا ويوسف أبو مناخير فضة وصحبته اليلداشات، فقال عثمان بك: «نعمل رضوان چربجي صنجقًا، وسليمان جربجي كتخدا العزب» فقال خشداشينهم: «إن عملتم رضوان جربجي صنجقًا قتلناه، لا لنا ولا لكم، وإنما لبسوه كتخدا العزب، وعاونوه يخلص ثأر أستاذه ويفتح بيته» فوقع الاتفاق على ذلك، وركبوا بعد العشاء إلى منازلهم وعبوا ما يحتاج إليه الحال من فراشٍ وقهوة وشربات، وحملوها عند الفجر إلى الباب مع الفراشين، وأولاد الخزنة ينتظرون حضور الكتخدا، ولما طلع النهار حضرت الجاويشية وباشجاويش والملازمون والاختيارية والجربجية إلى بيت علي كتخدا بالخرنفش، وركب رضوان كتخدا في موكب عظيمٍ لم يتفق نظيره لغيره، وطلع إلى الباب، وجلس على البشتختة، وعمل إسماعيل أفندي باش أوده، وظهر أمر رضوان كتخدا من ذلك الوقت.

ومن مآثر علي كتخدا المترجم: القصر الكبير الذي بناحية الشيخ قمر المعروف بقصر الجلفي، وكان في السابق قصرًا صغيرًا يُعرف بقصر القبرصلي، وأنشأ أيضًا القصر الكبير بالجزيرة المعروفة بالفَرشة تجاه رشيد، الذي هدمه الأمير صالح الموجود الآن زوج الست عائشة الجلفية في سنة اثنتين ومائتين وألف وباع أنقاضه، وله غير ذلك مآثر كثيرة وخيرات، رحمه الله.

ومات أحمد كتخدا المذكور، قاتل علي كتخدا المذكور، ويُعرف بالبركاوي؛ لأنه إشراق يوسف كتخدا البركاوي، وخبر قتله أنه لما تم ما ذُكر، ونزل أحمد كتخدا من باب العزب بتمويهات حسين بك الخشاب وملكه أتباع عثمان بك ندم على تفريطه ونزوله، وعثمان بك يقول: «لا بد من قتل قاتل صاحبي ورفيق سيدي قبل طلوعي إلى الحج وإلا أرسلت خلافي وأقمت بمصر، وخلصت ثأر المرحوم» وأرسل إلى جميع الأعيان والرؤساء بأنهم لا يقبلوه، وطاف هو عليهم بطول الليل فلم يقبله منهم أحد؛ فضاقت الدنيا في وجهه، وتوفي في تلك الليلة محمد كتخدا الطويل، فاجتمع الاختيارية والأعيان ببيته؛ لحضور مشهده، فدخل عليهم أحمد كتخدا في بيت المتوفى، وقال: «أنا في عرض هذا الميت» فقال له: «اطلع إلى المقعد واجلس به حتى نرجع من الجنازة» فطلع إلى المقعد كما أشاروا إليه، وجلس لاظ إبراهيم بالحوش، وصحبته اثنان من السراجين، فلما خرجوا بالجنازة أغلقوا عليهم الباب من خارج، وتركوا معهم جماعة حرسجية، وأقاموا مماليك أحمد كتخدا في بيته يضربون بالرصاص على المارين حتى قطعوا الطريق، وقتلوا رجلًا مغربيًّا وفراشًا وحمارًا.

فأرسل عثمان بك إلى رضوان كتخدا يأمره بإرسال جاويش ونفر وقابجية بطلب أحمد كتخدا من بيته ففعل ذلك، فلما وصلوا إلى هناك ويقدمهم أبو مناخير فضة فوجدوا رمي الرصاص فرجعوا، ودخلوا من درب المغربلين، وأرادوا نقب البيت من خلفه فأخبرهم بعض الناس، وقال لهم: الذي مرادكم فيه دخل بيت الطويل، فأتوا إلى الباب فوجدوه مغلوقًا من خارج فطلبوا حطب، وأرادوا أن يحرقوا الباب فخاف الذين أبقوهم في البيت من النهب فقتلوا لاظ إبراهيم ومن معه، وطلعوا إلى أحمد كتخدا فقتلوه أيضًا وألقوه من الشباك المطل على حوض الدادوية، فقطعوا رأسه، وأخذوها إلى رضوان كتخدا فأعطاهم البقاشيش، وقطع رجل ذراعه، وذهب بها إلى الست الجلفية، وأخذ منها بقشيشًا أيضًا، ورجع من كان في الجنازة، وفتحوا الباب، وأخرجوا لاظ إبراهيم ميتًا ومن معه وقطعوه قطعًا، واستمر أحمد كتخدا مرميًّا من غير رأس ولا ذراع حتى دفنوا بعد الغروب، ثم دفنوا معه الرأس والذراع، وانقضى ذلك.

ومات الأمير سليمان جاويش تابع عثمان كتخدا القازدغلي الذي جعله ناظرًا ووصيًّا، وكان جوخداره، ولما قُتل سيده استولى على تركته وبلاده، ثم تزوج بمحظية أستاذه الست شويكار الشهيرة الذكر، ولم يعطَ الوارث الذي هو عبد الرحمن بن حسن جاويش أستاذ عثمان كتخدا سوى فايظ أربعة أكياس لا غير، وتواقع عبد الرحمن جاويش على اختيارية الباب فلم يساعده أحد، فحنق منهم، وانسله من بابهم، وذهب إلى باب العزب وحلف أنه لا يرجع إلى باب الينكجرية ما دام سليمان جاويش حيًّا، وكان المترجم صحبة أستاذه وقت المقتلة ببيت الدفتردار فانزعج وداخله الضعف ومرض القصبة.

ثم انفصل من الجاويشية، وعمل سردار قطار سنة إحدى وخمسين، وركب في المركب وهو مريض، وطلع إلى البركة في تختروان وصحبته الطبيب فتوفي بالبركة، وأمير الحاج إذ ذاك عثمان بك ذو الفقار، وكان هناك سليمان أغا كتخدا الجاويشية وهو زوج أم عبد الرحمن جاويش، فعرف الصنجق بموت سليمان جاويش ووارثه عبد الرحمن جاويش، واستأذنه في إحضاره، وأن يتقلد منصبه عوضه فأرسلوا إليه وأحضروه ليلًا، وخلع عليه عثمان بك قفطان السردارية، وأخذ عرْضه من باب العزب، وطيّب سليمان أغا خاطر الباشا بحلوان قليل، وكتب البلاد باسم عبد الرحمن جاويش وأتباعه، وتسلم مفاتيح الخشاخين والصناديق والدفاتر من الكاتب، وحاز شيئًا كثيرًا، وبرَّ في قَسمه ويمينه.

ومات الأمير محمد بك ابن إسماعيل بك الدفتردار، وهو الذى كانت ببيته الجمعية، وقتل الأمراء المتقدم ذكرهم في بيته، ووالدته بنت حسن أغا بلغيه.

وخبر موته أنه لما حصل ما حصل وانقلب التخت عليهم اختفى المترجم في مكان لم يشعر به أحد، فمرضت والدته مرض الموت فلهجت بذكر ولدها، وصارت تقول: «هاتوا ولدي أنظره بعيني قبل أن أموت» فذهبوا إليه وقنعوه، وأتوا به إليها من المكان المختفي فيه بزي النساء، فنظرت إليه وتأوهت وماتت، ورجع إلى مكانه.

وكانت عندهم امرأة بلَّانة فشاهدت ذلك وعرفت مكانه، فذهبت إلى أغات الينكجرية وأخبرته بذلك، فركب إلى المكان الذي هو فيه التبديل، وكبسوا البيت، وقبضوا عليه، وأركبوه حمارًا، وطلعوا به إلى القلعة فرموا عنقه، وكانوا نهبوا بيته قبل ذلك في إثر الحادثة، وكان موته أواخر سنة تسع وأربعين وماية وألف.

ومات عثمان الكاشف ورضوان بك أمير الحاج سابقًا ومملوكه سليمان بك، فإنهم بعد الحادثة، وقتل الأمراء المذكورين، وانعكاس أمر المذكورين — اختفوا بخان النحاس في خان الخليلي، وصحبتهم صالح كاشف زوج بنت إيواظ الذي هو السبب في ذلك، فاستمروا في اختفائهم مدة، ثم إنهم دبروا بينهم رأيًا في ظهورهم، واتفقوا على إرسال عثمان كاشف إلى إبراهيم جاويش قازدغلي، فغطى رأسه بعد المغرب ودخل إلى بيت إبراهيم جاويش، فلما رآه رحَّب به وسأله عن مكانهم، فأخبره أنهم بخان النحاس وهم فلان وفلان يدعون لكم ويعرفون همتكم، الظهور على أي وجه كان، فقال له: «نعم ما فعلتم».

وآنسه بالكلام إلى بعد العشاء عندما أراد أن يقوم فقال له: «اصبر» وقام كأنه يزيل ضرورة فأرسل سرَّاجًا إلى محمد جاويش الطويل يخبره عن عثمان كاشف بأنه عنده، ويقول له: ارسل إليه جماعة يقتلوه بعد خروجه من البيت، فأرسل إليه طايفة وسرَّاجين وقفوا له في الطريق وقتلوه، ووصل الخبر إلى ولده ببيت أبي الشوارب فحضر إليه وواراه، وأخذ ولده المذكور إبراهيم جاويش رباه، وطلع إبراهيم جاويش في صبحها إلى الباب فأخبر أغات مستحفظان فنزل، وكبس خان النحاس وقبض على رضوان بك وصحبته ثلاثة، فأحضرهم إلى الباشا فقطع رءوسهم.

وأما صالح كاشف فإنه قام وقت الفجر فدخل إلى الحمام فسمع بالحمام قتل عثمان كاشف في حوض الدادوية، فطلع من الحمام وهو مغطى الرأس، وتأخر في رجوعه إلى خان الخليلي، ثم سمع بما وقع لرضوان بك ومن معه فضاقت الدنيا في وجهه، وقال: «لم يبقَ لنا عيشة بمصر» فذهب إلى بيته عند هانم بنت إيواظ فودعها وعبى خرج حوايج وما يحتاج إليه، وحمّل هجينا وأخذ صحبته خدامًا ومملوكًا راكبًا حصانًا، وركب وسار من حارة السقايين على طريق بولاق على الشرقية، وكلما أمسى عليه الليل يبيت في بلد حتى وصل عربان غزة، ثم ذهب في طلوع الصيف إلى إسلامبول، ونزل في مكان، ثم ذهب عند دار السعادة، وكان أصله من أتباع والد محمد بك الدفتردار فعرفه عن نفسه، فقال له: «أنت السبب في خراب بيت ابن سيدي» واستأذن في قتله فقتلوه بين الأبواب في المحل الذي قتل فيه الصيفي سرَّاج جركس فكان كما قيل:

إذا لم يكن عون من الله للفتى
فأول ما يجني عليه اجتهاده

أو كما قيل في المعنى:

فلا تمد للعلياء منك يدًا
حتى تقول لك العلياء هات يدك

فكان تحرك هؤلاء الجماعة وطلبهم الظهور من الاختفاء كالباحث على حتفه بظلفه.

ومات الأمير خليل بك قطامش أمير الحاج سابقًا، تقلد الإمارة والصنجقية سنة تسع وأربعين، وطلع بالحج أميرًا سنة ثمانٍ وخمسين، ولم يحصل في إمارته على الحجاج راحةٌ وكذلك على غيرهم، وكان أتباعه يأخذون التبن من بولاق ومن المراكب إلى المناخ من غير ثمن، ومنع عوائد العرب، وصادر التجار في أموالهم بطريق الحج، وكانت أولاد خزنته ومماليكه أكثرهم عبيد سود يقفون في حلزونات العقبة، ويطلبون من الحجاجي دراهم مثل الشحاتين.

وكان الأمير عثمان بك ذو الفقار يكرهه ولا تعجبه أحواله، ولما وقع للحجاج ما وقع في إمارته، ووصلت الأخبار إلى مولاي عبد الله صاحب المغرب، وتأخر بسبب ذلك الركب عن الحج في السنة الأخرى، أرسل مكتوبًا إلى علماء مصر وأكابرها ينقم عليهم في ذلك، ويقول فيه: «وإن مما شاع بمغربنا — والعياذُ بالله — وذاع، وانصدعت منه صدور أهل الدين والسنة أيَّ انصداع، وضاقت من أجله الأرض على الخلائق، وتحمل من فيه أيمانٌ لذلك ما ليس بطايق، من تعدي أمير حجكم على عباد الله، وإظهار جراءته على زوَّار رسول الله، فقد نُهب المال، وقُتل الرجال، وبُذل المجهود، في تعديه الحدود، وبلغ في خبثه الغاية، وجاوز في ظلمه الحد والنهاية، فيالها من مصيبة ما أعظمها، ومن داهية دهماء ما أجسمها، فكيف يا أمة محمد يُهان أو يُضام حجاج بيت الله الحرام، وزائرو نبينا ؟ وبسببها تأخر الركب هذه السنة لهنالك، وأفصحت لنا علماء الغرب بسقوطه لما ثبت عندهم ذلك، فيا للعجب كيف بعلماء مصر ومن بها من أعيانها لا يقومون بتغيير هذا المنكر الفادح بشيوخها وشبانها؟ فهي والله معرةٌ تلحقهم من الخاص والعام» إلى آخر ما قال.

فلما وصل الجواب واطلع عليه الوزير محمد باشا راغب، أجاب عنه بأحسن جواب، وأبدع فيما أودع من درر وغرر تسلب عقول أولي الألباب، يقول فيه: «بعد صدر السلام، وسجع الكلام، ينهي بعد إبلاغ دعاء نبع من عين المحبة وسما، وملأ بساط أرض الود وطما، إن كتابكم الذي خصصتم الخطاب به، إلى ذوي الإفاضة الجلية النقية، سلالة الطاهرة الفاخرة الصديقية، إخواننا مشايخ السلسلة البكرية، تشرفت أنظارنا بمطالعة معانيه الفائقة، والتقطت أنامل أذهاننا درر مضامينه الكافية الرائقة، التي أدرجتم فيها ما ارتكبه أمير الحاج السابق في الديار المصرية، في حق قُصَّاد بيت الله الحرام، وزوار روضة النبي الهاشمي — عليه أفضل السلام — فكل ما حررتموه صدر من الشقي المذكور، بل أكثر مما تحويه بطون السطور، لكن الزارع لا يحصد إلا من جنس زرعه، في حَزَن الأرض وسهله، ولا يحيق المكر السيِّئ إلا بأهله؛ لأن الشقي المذكور لما تجاسر إلى بعض المنكرات في السنة الأولى حملناه إلى جهالته، واكتفينا بتهديدات تلين عروق رعونته، وتكشف عيون هدايته، فلم تفِد في السنة الثانية إلا الزيادة في العتو والفساد، ومن يضلل الله فما له من هادٍ، ولما تيقنا أن التهديد بغير الإيقاع كالضرب في الحديد البارد، أو كالسباخ لا يرويها جريان الماء الوارد، هممنا بإسقائه من حميم جزاء أفعاله؛ لأن كل أحد من الناس مجزي بأعماله، فوفقني الله تعالى لقتل الشقي المذكور، مع ثلاثة من رفقائه العاضدين له في الشرور، وطردنا بقيتهم بأنواع الخزي إلى الصحاري، فهم بحول الله كالحيتان في البراري، وولينا إمارة الحج من الأمراء المصريين من وُصَف بين أقرانه بالإنصاف والديانة، وشهد له بمزيد الحماية والصيانة، والحمد لله حق حمده رفعت البلية من رقاب المسلمين، خصوصًا من جماعة ركبوا غارب الاغتراب بقصد زيارة البلد الأمين، فإن كان العائق من توجه الركب المغربي تسلط الغادر السالف، فقد انقضى أوان غدره على ما شرحناه وصار كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، والحمد لله على ما منحنا من نصرة المظلومين، وأقدرنا على رغم أنوف الظالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، والحمد لله رب العالمين، تحريرًا في سادس عشر المحرم، افتتاح سنة إحدى وستين وماية وألف». وأجاب أيضًا الأشياخ بجواب بليغ مطوَّل أعرضت عن ذكره لطوله.

ومات خليل بك المذكور قتيلًا في ولاية راغب باشا سنة ستين ومائة وألف، قتله عثمان أغا أبو سيف بالقلعة، وقتل معه أيضًا عمر بك بلاط وعلي بك الدمياطي ومحمد بك قطامش الذي كان تولى الصنجقية، وسافر بالخزينة سنة سبع وخمسين عوضًا عن عمر بك ابن علي بك، ونزلت البيارق والعسكر والمدافع لمحاربة إبراهيم بك وعمر بك وسليمان بك القطامشة، فخرجوا بمتاعهم وعازقهم وهجنهم من مصر إلى قبلي، ونهبوا بيوت المقتولين والفارين وبعض من هم من عصبتهم.

ومات محمد بك المعروف بأباظة، وذلك أنه لما حصلت واقعة حسين بك الخشاب وخروجه من مصر كما تقدم في ولاية محمد باشا راغب، حضر محمد بك المذكور إلى مصر وصحبته شخص آخر فدخلا خفية، واستقرا بمنزل بعض الاختيارية من وجاق الجاويشية، فوصل خبره إلى إبراهيم جاويش، فأرسل إليه أغات الينكجرية فرمى عليه بالرصاص وحاربه، وحضر أيضًا بعض الأمراء الصناجق فلم يزل يحاربهم حتى فرغ ما عنده من البارود، فقبضوا عليه وقتلوه في الدادوية، ورموا رقبة رفيقه بباب زويلة.

ومات الأجلُّ الأمثل المبجل الخواجا الحاج قاسم بن الخواجا المرحوم الحاج محمد الدادة الشرايبي، من بيت المجد والسيادة والإمارة والتجارة، وسبب موته: أنه نزلت بأنثييه نازلة فأشاروا عليه بفصدها، وأحضروا له حجامًا ففصده فيها بمنزله الذي خلف جامع الغورية، ثم ركب إلى منزله بالأزبكية فبات به تلك الليلة، وحضر له المزين في ثاني يوم ليغير له الفتيلة، فوجد الفصد لم يصادف المحل، فضربه بالريشة ثانيًا؛ فأصابت فرخ الأنثيين، ونزل منه دم كثير فقال له: «قتلتني، انجُ بنفسك» وتوفي في تلك الليلة، وهي ليلة السبت ثاني عشر ربيع الآخر سنة سبع وأربعين ومائة وألف، فقبضوا على ذلك المزين، وأحضروه إلى أخيه سيدي أحمد فأمرهم بإطلاقه فأطلقوه، وجهزوا المتوفى، وخرجوا بجنازته من بيته بالأزبكية في مشهد عظيم حضره العلماء وأرباب السجاجيد والصناجق والأغوات والاختيارية والكواخي حتى إن عثمان كتخدا القازدغلي لم يزل ماشيًا أمام نعشه من البيت إلى المدفن بالمجاورين.

ومن مآثره الجامع المعروف به الذى أنشأه بالقرب من الرويعي المطل على بركة الأزبكية، وكان بناؤه سنة خمس وأربعين ومائة وألف، وتنصب مكانه في رئاسة بيتهم أخوه المكرم الخواجا عبد الرحمن بن محمد الدادة، وألبسوه الجربجية بباب مستحفظان، وذلك بعد وفاة أخيه بنحو شهر.

ومات الأمير حسن بك المعروف بالوالي الذي سافر بالخزينة إلى الديار الرومية فتوفي بعد وصوله إلى إسلامبول وتسليمه الخزينة بثلاثة أيام، ودفن بأسكدار، وألبسوا حسن مملوكه إمارته، وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين ومائة وألف.

ومات الوزير المكرم عبد الله باشا الكبورلي الذي كان واليًا في مصر في سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف، وقد تقدم أنه من أرباب الفضائل، وله ديوان وتحقيقات، وكان له معرفة بالفنون والأدبيات والقراءات، وتلا القرآن على الشهاب الأسقاطي، وأجازه، وعلى محمد بن يوسف شيخ القراء بدار السلطنة، وللشيخ عبد الله الشبراوي في مدحه قصائد طنانة، (ومن شعره):

دموعك أخجلت نوء الثريا
فحيَّ بوبلها ربعًا وحيًّا
يشوقك أن يهب نسيم نجد
فيروي عن أهيل الحي ريّا
خيالك من نسيم ظل يُهدى
إلى مَن في الحمى أرج الحميا
أعد خبر العذيب وساكنيه
وكرر طيب ذكرهم عليا
فإنهم وإن هجروا وصدوا
أحبُّ الناس كلهم إليا
وبى رشأ رأيت الناس رشدا
على كلفي به والرشد غيا
إذا نشرت محاسنه لعيني
طويت على هواه القلب طيا
فقل لمعنفي جهرًا عليه
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا

وأنشدني السيد الأديب الفاضل خليل البغدادي له أيضًا، وقد أحسن جدًّا قوله:

أرى أيديًا نالت غنى بعد فترة
لأَ لْأَم قوم في أخس زمان
فضنت بما نالته شُلّ بنانها
وإن رمت جدواها فشل بناني

وأخذ المترجم عن العلامة الشيخ أحمد العماوي الكتب الستة والمواهب وألفية المصطلح رواية ودراية وإجازة، ورأيت إجازته له بخط الشيخ يقول فيها بعد الخطبة: «وكان أكبر ساعٍ في تحصيل هذا الشأن، وأجل متوجه بأتم الاعتقاد وأصدق الإيقان، وأسرع مبادر إلى تحصيل العلوم، وأحكم حاكم بين مراتب المنطوق والمفهوم، صادق الهمة والعزم، بارع المروءة والحزم صنديد ميدان الفصاحة جحجاح محفل البلاغة والبراعة، ناشر رايات النزال وقد صعب المجال، ثاقب الذهن إذا اضلخم موج الجدال، إذا أحجم القوم أقدم، وإذا وقفوا تثبت، وعن الصواب ترجم، بحيث إذا أبصره المبصر في البحث البهيم، يقول: «ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم» كم استخرج الصواب وقد استحكم الإشكال، وكم فتح باب المعنى وقد أحكمت الأقفال، وهو مع ذلك على التؤدة والتأني، على وجازة بيان عن الإطناب والتطويل مغني، خلاصة رأيه كافية، وتسهيله للحزن طريقته وافية شافية، قطر ندى مكانته منهل، وبيانه مع ذلك مهذب مفصل، شطب ران الجهالة عن كل ذي نية مهذبة، ففاح نشره بكل رائحة طيبة، إذا حركته لعلم الإعراب، شاهدت الخليل، أو لعلوم القرآن شاهدت أسرار التنزيل، أو لعلم الحديث إذا ذاكرته أعربت أسانيده عن الكتب الستة، أو عن فنون الخصائص والمناقب، أعرب عن الشقاء والمواهب، المولى الكبير والجهبذ العلم الفرد الشهير حضرة عبد الله كبرى زاده، بلغه الله من كل خير مراده، ومنحه الحسنى وزيادة، وحقق له أسنى مراتب السعادة، وقد تبسم الدهر على خلاف عادته، وسمح لنا بلقائه وصحبته، فإذا هو قد استكمل أنواع الأسانيد، وأحاط بطرق السنَّة بما ليس عليه من مزيد، فطلب استيعاب ما معنا على طريق الإجازة، ثم شرع فى قراءة الكتب الستة وما يذكر معها فأدرك جميع ذلك وحازه، ولقد أخذ عني البخاري دراية من باب الإيمان إلى كذا والباقى بالإجازة، وصحيح مسلم من أوله إلى باب كذا والباقى بالإجازة» إلى آخر ما كُتب من ذكر ما تلقى عنه وسند أشياخه.

ثم قال: «وأوصيه مع ذلك بالبر والتقوى، فإنها هى السبب الأقوى، وألا ينساني من صالح دعواتهن، وأوصيه مع ذلك أن يكثر من هذا الدعاء: (اللهم ألهمنا رشدنا، وصحح إليك قصدنا، وأعذنا من شرور أنفسنا، ولا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا، وأحسن منقلبنا إليك ومردَّنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، أعذنا بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك وبك منك بلا إله إلا أنت، اهدنا بك إليك، واجمعنا بك عليك، أقول هذا واستغفر الله لى وله ولجميع المسلمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)».

ذكر خبر الأمير عثمان بك ذي الفقارة

هو وإن لم يمت لكنه خرج من مصر ولم يعد إليها إلى أن مات بالروم، وانقطع أمره من مصر، فكأنه صار في حكم من مات، وليس هو ممن يهمل ذكره أو يذكر في غير موضعه؛ لأنه عاش بعد خروجه من مصر نيفًا وثلاثين سنة، ولجلالة شأنه جعل أهل مصر سنة خروجه منها تاريخًا لأخبارهم ووقايعهم ومواليدهم إلى الآن، من تاريخ جمع هذا الكتاب أعني سنة عشرين ومائتين وألف، أحسن الله عاقبتها، فيقولون: جرى كذا سنة خروج عثمان بك، وولدتُ سنة خروج عثمان بك أو بعده بكذا سنة أو شهرٍ، أو كان عمري في ذلك الوقت كذا شهر أو سنة إلى غير ذلك.

فنذكر من خبره ما وصل إليه علمنا على سبيل الإجمال فنقول:

هو تابع الأمير ذو الفقار تابع عمر أغا، تقلد الإمارة والصنجقية سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة وألف بعد ظهور أستاذه من اختفائه، وخروج محمد بك جركس من مصر، فتقلد الإمارة، وخرج بالعسكر للحوق بجركس وصحبته يوسف بك قطامش والتجريدة، فوصلوا إلى حوش ابن عيسى وسألوا عنه فأخبرهم العرب أنه ذهب من خلف الجبل الأخضر إلى درنة، فعاد بالعسكر إلى مصر وتقلد عدة مناصب وكشوفيات الأقاليم في حياة أستاذه، ولما رجع محمد بك جركس في سنة اثنتين وأربعين خرج إليه بالعسكر، وجرى ما تقدم ذكره من الحروب والانهزام، وخروجه صحبة علي بك قطامش، ولما قتل سيده بيد خليل أغا وسليمان أبي دفية قبل صلاة العشاء وجرى ما تقدم، أرسلوا إليه وحضر من التجريدة، وجلس ببيت أستاذه، وتقلد خشداشه على الخزندار الصنجقية وتعضد به، ومات محمد بك جركس ودخل برأسه علي بك قطامش، ثم تفرغوا للقبض على القاسمية فكانوا كلما قبضوا على أمير منهم أحضروه إلى محمد باشا فيرسله إلى المترجم فيأمر برمي عنقه تحت المقعد حتى أفنوه طائفة القاسمية قتلًا وطردًا، وتشتتوا في البلاد، واختفوا في النواحي، والتجأ الكثير منهم إلى أكابر الهوارة ببلاد الصعيد، ومنهم من فر إلى بلاد الشام والروم ولم يعد إلى مصر حتى مات.

ومات خشداشه علي بك بولاية جرجا سنة ثمانٍ وأربعين، فقلد عوضه مملوكه حسن الصنجقية، ولما حصلت كائنة قتل الأمراء الأحد عشر ببيت محمد بيك الدفتردار وكان المترجم حاضرًا في ذلك المجلس وأصابه سيف فقطع عمامته، فنزل وركب وخرج من باب البركة وسار إلى باب الينكجرية، واجتمع إليه الأعيان من الاختيارية والجاويشية، وأحضروا عمر بن علي بك قطامش فقلدوه إمارة أبيه، وضموا إليهم باب العزب، وعملوا متاريس، وحاربوا المجتمعين بجامع السلطان حسن حتى خذلوهم وتفرقوا واختفوا كما تقدم، وعزلوا الباشا، وظهر أمر المترجم بعد هذه الواقعة، وانتهت إليه رياسة مصر، وقلد أمراء من إشراقاته، وحضر إليه مرسوم من الدولة بالإمارة على الحج فطلع بالحج سنة إحدى وخمسين، ورجع سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف في أمن وأمان، وسخاء ورخاء.

ولما حصلت الكائنة التي قُتل فيها علي كتخدا الجلفي تعصب المترجم أيضًا لطلب ثأره، وبذل همته في ذلك وعضد أتباعه، وعزل الباشا المتولي، وقلد رضوان كتخداية العزب عوضًا عن أستاذه، وأحاط بأحمد كتخدا قاتل المذكور حتى قُتل هو ولاظ إبراهيم كما تقدم، وقلد مملوكه سليمان كاشف الصنجقية، وجعله أميرًا على الحج، وسافر به سنة ثلاث وخمسين، ورجع سنة أربع وخمسين في أمنٍ وأمان، طلع عمر بك ابن علي بك قطامش سنة خمس وخمسين وذلك في ولايه يحيى باشا، وفي تلك السنة عمل المترجم وليمة ليحيى باشا في بيته، وحضر إليه، وقدم له تقادم وهدايا، ولم يتفق نظير ذلك فيما تقدم بأن الباشا نزل إلى بيت أحد من الأمراء، وإنما كانوا يعملون لهم الولائم بالقصور خارج مصر مثل قصر العيني أو للقياس.

وطلع بالحج تلك السنة ورجع سنة ست وخمسين في أمن وأمان، وانتهت إليه الرياسة، وشمخ على أمراء مصر، ونفذ أحكامه عليهم قهرًا عنهم، وعمل في بيته دواوين لحكومات العامة، وإنصاف المظلوم من الظالم، وجعل لحكومات النساء ديوانًا خاصًّا، ولا يجري أحكامه إلا على مقتضى الشريعة، ولا يقبل الرشوة ويعاقب عليها، ويباشر أمور الحسبة بنفسه، وعمل معدل الخبز، وغيره حتى الشمع والفحم ومحقرات المبيعات شفقةً على الفقراء، ومنع المحتسب من أخذ الرشوات وهجَّج الشهود من المحاكم، وكان يرسل الخاصكية أتباعه في التعايين حتى على الأمراء، ولم يعهد عليه أنه صادر أحدًا في ماله أو أخذ مصلحة على ميراث، ومات كثير من الأغنياء وأرباب الأموال العظيمة مثل عثمان حسون وسليمان جاويش تابع عثمان كتخدا فلم تطمح نفسه لشيء من أموالهم، ولما ورد الأمر بإبطال المرتبات وجعلوا على تنفيذها مصلحة للباشا وغيره فأفرزوه له قدرًا امتنع من قبوله، واقتدى به رضوان بك وقال: «هذا من دموع الفقراء، وإن حصلت الإجابة كانت مظلمة، وإن لم تحصل كانت مظلمتين».

وكان عَلِيَّ الهمة حَسَن السياسة ذكي الفطنة يحب إقامة الحق والعدل في الرعية، وهابته العرب، وأمنت الطرق والسبل البرية والبحرية في أيامه، وله حسن تدبير في الأمور، طاهر الذيل شديد الغيرة، ولم يأتِ بعد إسماعيل بك ابن إيواظ في أمراء مصر من يشابهه أو يدانيه، لولا ما كان فيه من حدة الطبيعة إذا قال كلامًا أو عاند في شيء لا يرجع عنه كما سمعت ذلك من لفظ الشيخ الوالد؛ وكان له به صحبة أكيدة ومحبة زائدة، وصاحبه في سفر الحج ثلاث مرات، وكان لا يجالس إلا أرباب الفضائل مثل المرحوم الشيخ الوالد والسيد أحمد النخال والشيخ عبد الله الإدكاوي والشيخ يوسف الدلجي وسيدي مكي الوراثي، وقرأ على الشيخ الوالد تحفة الملوك في المذهب، والمقامات الحريرية، وكتبها له بخطه التعليق الحسن في خمسين جزءًا لطافًا، كل مقامة على حدتها، وألَّف لأجله مناسك الحج المشهورة في جزء لطيف.

ومما اتفق له أنه لما قلد مملوكه حسن بك كشوفية البحيرة فقبض على رجل بدوي من أعيان عربان الطرانة، فحضر إليه بعض أعيانهم وتشفعوا عنده بأن يفرج عنه، وعملوا له مائة دينار، فلم يرضَ، فأتوا إلى سيده بمصر وذكروا له ذلك، فقال لكاتبه: «خذ منهم المائة دينار واحسبها من أصل مال الكشوفية المطلوب من حسن بك» وكتب لهم مكتوبًا بالإفراج عن البدوي وأرسله إليه مع بعض الأجناد، فلما وصل إليه وجده نازلًا بساحل البحر فأعطاه المكتوب، فلما قرأه وفهم ما فيه اغتاظ وأحضر ذلك البدوي فأعطاه لريس معاش، وأمره بأن يربطه في العيار، ويصعده إلى أعلى الصاري، ثم يهبطه إلى البحر، فكتفوه وربطوه وسحبوه بالحبال إلى الأعلى وأنزلوه حتى غطس في الماء، فعلوا به كذلك مرتين أو ثلاثة حتى شرق ومات، فأخذه أقاربه ودفنوه، ورجع الرسول فأخبر الصنجق بما فعل حسن بك بالبدوي، فهز رأسه وسكت.

وفي أثناء ذلك أيضًا أذن لخازنداره بإرخاء لحيته، وأعطاه مكتوبًا إلى حسن بك المذكور، وأمره بأن يجعله قائمقام العمل، فلما وصل إليه وأعطاه المرسوم فلم يجبه إلى ذلك، وقال: «إنى قلدت ذلك لشخص من مماليكي من أول السنة، وخضر البرسيم للعسكر، فارجع إلى مخدومك الذى أرسلك يقلدك منصبًا غير هذا أو كشوفية» فذهب الخازندار عند كاشف الطرانة، وأرسل مكتوبًا إلى أستاذه يخبره بما حصل، فاحتد وأرسل إليه علي قرفاش بطائفة فقبض عليه، وأنزله إلى أبى قير وقتله، وألقاه في البحر المالح، ثم ندم على قتله؛ لأنه كان بطلًا شجاعًا، وأرسل إلى مصطفى كاشف تابع أحمد جربجي عزبان وليلة، وكان مشهورًا بالعسف والظلم، وركب عليه يوسف كتخدا في أيام دولته، وقتله وأخذ بعده البلاد، وانتقلت إلى شاهين جربجي فولى عليها مصطفى كاشف هذا، وكانت العربان تخافه، ولا يسرح إلا ومعه جمل محمل بالخشوت. فلما حضر من ناحية المنية قلده الصنجقية عوضًا عن حسن بك، ومصطفى هذا هو مصطفى بك المعروف بالقرد، وهو من القاسمية، وهو أستاذ صالح بك الآتى ذكره.

ومما عُدَّ من فطانة المترجم أنه حضر إليه إنسانٌ وأخبره أن زوجته خرجت منذ أيام إلى الحمام ولم ترجع، وفتش عليها فلم يقع لها على خبر، فتفكر ساعة، ثم قال للرجل: «اذهب فتفقد ثيابها، وانظر هل ترى فيها شيئًا غريبًا وأخبرني» فذهب، ثم عاد ومعه يلك، وقال: «هذا لم أعرف ولم أفصله لها» فأمر بإحضار شيخ الخياطين وأطلعه عليه، وأمره أن يطوف به على الخياطين، ويعرف من خاطه ويأتي به، ففعل، وأحضر خياطًا، وأخبر أنه خاطه لفلان السرَّاج، وكان ذلك السرَّاج من أتباعه فأحضره وسأله فجحد ذلك، فأمر بتفتيش مكانه فوجدت المرأة مقتولة في المرحاض بعد تتبع الأثر فأخرجوها ودفنوها، وأمر الوالي بقطع رأس ذلك السرَّاج.

وبالجملة فكان المترجم من خيار الأمراء لولا ما كان فيه من الحدة، وهي التى نفَّرت قلوب المعاصرين له حتى استوحشوا منه، وحضر إليه يومًا علي باشجاويش اختيار مستحفظان الدرندلي في قضية فسبه وشتمه، وكذلك علي جاويش الخربطلي شتمه وأراد أن يضربه … وغير ذلك.

ذكر السبب في كائنه عثمان بك وخروجه من مصر

مبدأ ذلك تغير خاطره من إبراهيم جاويش، وتغير إبراهيم جاويش منه؛ لأمور وحقد باطني لا تخلو عنه الرياسة والإمارة في الممالك، والثاني: أن عليى كاشف له حصة بناحية طحطا، وباقي الحصة تعلق عبد الرحمن جاويش ابن حسن جاويش القازدغلي، فأجرها لعثمان بك، ونزل علي كاشف فيها على حصته وحصة مخدومه، فحضر إليه رجل وأغراه على قتل حماد شيخ البلد، ويأخذ من أولاده مائة جنزرلي وحصانًا، ويعمل واحدًا منهم شيخًا عوضًا عن أبيه ففعل ذلك، ووعده إلى أن يذهب منهم شخص إلى مصر، ويأتي بالدراهم من الأمين، وضمنهم الذي كان السبب في قتل أبيهم، فحضر شخص منهم إلى مصر، وطلب من الأمين مائة جنزرلي، وحكى له ما وقع، فأخذه وأتى به إلى إبراهيم جاويش القازدغلي وعرفه بالقصة، وما فعل علي كاشف بإغراء سالم شيخ البلد، وأنه ضمنهم أيضًا في المائة جنزرلي، وقد أتى في غرضين: تمنع عنه علي كاشف، وتخلص ثأره من سالم.

فركب إبراهيم جاويش وأتى بيت عبد الرحمن جاويش وصحبته الولد، فقال له على سبيل التبكيت: «إذا كنتم لا تقدرون على حماية البلاد لأي شيء تأخذونها؟» فقال له: «وما سبب هذا الكلام؟» فقال له: «اسمع كلام هذا الرجل» فقص عليه القصة وفهمها، فقال له: «قم بنا نذهب إلى عثمان بك يعزل علي كاشف ويقتل سالمًا» فقال إبراهيم جاويش: «وإن لم يفعل ذلك اعطني إيجار الناحية، وأرسل لها كاشفًا وعلي كاشف يأخذ فائظ حصته» ثم إنهم ركبوا وذهبوا عند عثمان بك فوجدوا عنده عبد الله كتخدا القازدغلي وعلي كتخدا الجلفي فسلموا وجلسوا، فقال إبراهيم جاويش: «نحن قد أتينا في سؤال» قال الصنجق: «خير؟» فذكر القصة، ثم قال له: أرسل اعزل علي كاشف وأرسل خلافه» فقال الصنجق: «صاحب قيراط في الفرس يركب، وهذا له حصة فلا يصح أن أعزله، وللحاكم الخروج من حق المفسود» وتراددوا في الكلام إلى أن احتد الصنجق، وقال له إبراهيم جاويش: «أنت لك غيرة على بلاد الناس، وسنتك فرغت، وأنا استأجرت الحصة» فقال له الصنجق: «انزل اعمل كاشفًا فيها» على سبيل الهزل، فقام إبراهيم جاويش منتورًا، وقام صحبته عبد الرحمن جاويش، وذهبوا إلى بيت عمر بك فوجدوا عنده خليل أغا قطامش وأحمد كتخدا البركاوي إسماعيل كتخدا ومحمد بك صنجق سته، وسمى بذلك لأن أم عمر بك تزوجت به وقلدته الصنجقية، فحكوا لهم القصة وما حصل بينهم وبين عثمان بك، فقال أحمد كتخدا عزبان: «الجمل والجمَّال حاضران اكتب إيجار حصة أخيك عبد الرحمن جاويش، وخذ على موجبها فرمانًا بالتصرف في الناحية».

فأحضروا واحدًا شاهدًا وكتبوا الإيجار، وبلغ الخبر عثمان بك فأرسل كتخداه إلى الباشا يقول: لا تعطِ فرمانًا بالتصرف في ناحية طحطا لإبراهيم جاويش، فلما خرجت الحجة أرسلها للباشا صحبة باشجاويش فامتنع الباشا من إعطاء الفرمان، فقامت نفس إبراهيم جاويش من عثمان بك، وعزم على غدره وقتله، ودار على الصناجق والوجاقلية وجمع عنده أنفارًا، فسعى علي كتخدا الجلفي، وبذل جهده في تمهيد النائرة، وأرسل إبراهيم جاويش ابن حماد، وقال له: «لما تطلع البلد وزع كامل ما عندك، وخليكم على ظهور الخيل، ولما يأتيكم سالم اقتلوه، واخرجوا من البلد حتى ينزل كاشف من طرفي أرسل لكم ورقة أمان ارجعوا وعمروا» فنزل الولد وفعل ما قاله له الجاويش، فوصل الخبر علي كاشف فركب خلفهم فلم يحصِّل منهم أحدًا، وأرسل إبراهيم جاويش كاشفًا من طرفه بطايفة ومدافع ونقارية، وورقة أمان لأولاد حمَّاد، واستمر علي كتخدا يسعى حتى أصلح بين الصنجق والجاويش، والذي في القلب في القلب كما قيل:

إن القلوب إذا تنافر ودها
مثل الزجاجة كسرها لا يجبرُ

ولما أخذ الخبر علي كاشف بالخصومة حضر إلى مصر قبل نزول الكاشف الجديد، وكانت هذه القضية أوائل سنة تسع وأربعين ومائة وألف قبل واقعة بيت الدفتردار وقتل الأمرا، وأما النفرة التي لم يندمل جرحها فهي دعوة برديس وفرشوط، وهو أن شيخ العرب همام رهن عند إبراهيم جاويش ناحية برديس تحت مبلغ معلوم لأجل معلوم، وشرط فيه وقوع الفراغ والتصرف بمضي الميعاد، فأرسل همام إلى المترجم يستعير جاهه في منع وقوع الفراغ بالناحية لإبراهيم جاويش، فأخبر عثمان بك الباشا، وقال له: «هوارة قبلي راهنون عند إبراهيم جاويش بلدًا، وأرسلوا يقولون: إن أوْقع فيها فراغه، وأرسل لها كاشفًا قتلناه، وقطعنا الجالب، فأنتم لا تعطونه فرمانًا في بلاد هوارة فإنهم يوقفون المال والغلال» فلم يتمكن إبراهيم جاويش من عمل الفراغ، ويطلب الدراهم فلا يعطيه.

وطالت الأيام وعثمان بك مستمر على عناده، وإبراهيم جاويش يتواقع على الأمراء والاختيارية فلم ينفذ له غرض، ويحتج عليه بأشياء وشبه قوية وحسابات وحوالات ونحو ذلك إلى أن ضاق خناق إبراهيم جاويش، فاجتمع على عمر بك وخليل بك وانجمعوا على رضوان كتخدا، وكان انفصل من كتخدائية الباب فقالوا له: «إما أن تكون معنا وإما أن ترفع يدك من عثمان بك» فلم يطاوع، وقال: «هذا لا يكون، وكيف أن أفوت إنسانًا بذل مجهوده في تخليص ثأرنا من أخصامنا؟ ولولا هو لم يبقَ منا إنسان» وكان وجاق العزب لهم صولة وخصوصًا بعد الواقعة الكبيرة، ولا يقع أمر بمصر إلا بيدهم ومعونتهم، فلما أيسوا منه قالوا له: «إذا كان كذلك فأنت سياقٌ عليه في قضية أخينا إبراهيم جاويش» فوعدهم بذلك.

وذهب إلى عثمان بك وكلمه في خصوص ذلك فقال: «هذا شيء لا يكون ولا يفرحون به» فألح عليه في الكلام فنفر فيه، وقال له: «اترك هذا الكلام»، وأشار إلى وجهه بالمذبة فانجرح أنفه، فأخذ في نفسه رضوان كتخدا واغتم، وقال له: «حيث إنك لم تقبل شفاعتي دونك وإياهم، ولا أدخل بينك وبينهم» وركب إلى بيته، وأرسل إلى إبراهيم جاويش عرفه بذلك فقال: «الآن ملكنا غرضنا» فركب في الوقت وأخذ صحبته حسن جاويش النجدلي، وذهبوا إلى عمر بك فوجدوا عنده خليل بك ومحمد بك صنجق سته، فأجمعوا أمرهم واتفقوا على الركوب على عثمان بك يوم الخميس على حين غفلة وهو طالع إلى الديوان، فأكمنوا له في الطريق، فلما ركب في صبح يوم الخميس وصحبه إسماعيل بك أبو قلنج خرج عليه خليل بك ومن معه، وهجم على عثمان بك شخص وضربه بالسيف في وجهه فزاغ عنه ولم يصب إلا طرف أنفه، ولفت وجهه، ودخل من العطفة النافذة إلى بيت مناو، ورأس الخيمية، وخاف من رجوعه على بيت إبراهيم جاويش، ومرَّ على قصبة رضوان على حمام الوالي، وهرب أبو قلنج إلى بيت نقيب الأشراف، وبلغ الخبر عبد الله كتخدا فركب في الحال؛ ليتدارك القضية ويمنعه من الركوب، فوجده قد ركب، ولاقاه عند حمام الوالي، فرجع صحبته إلى البيت، وإذا بإبراهيم جاويش الطويل وحسن جاويش النجدلي تجمعوا ومعهم عدة وافرة، وأحاطوا بالجهات، وهجموا علي بيوت أتباعه وإشراقاته، وأوقعوا فيها النهب، وأحرقوها بالنار، وركبوا المدافع في روس السويقة وضربوا بالرصاص من كل جهة، وأخذوا ينقبون عليه البيت، فلما رأى ذلك الحال أمر بشد الهجن، وركب وخرج من البيت وتركه بما فيه، ولم يأخذ منه إلا بعض نقود مع أعيان المماليك، وطلع من وسط المدينة ومر على الغورية، ودخل من مرجوش، وخرج من باب الحديد، وذهب إلى بولاق، ونزل في جامع الشيخ أبي العلا، ولم يذهب أحد خلفه بل غَمَّ أمره على غالب الناس، وعند خروجه دخل العسكر إلى بيته ونهبوه، وسَبَوْا الحريم والجواري، وأخرجوا منه ما يجل عن الوصف، واغتنى كثير من السراجين وغيرهم من ذلك اليوم، وصاروا تجارًا وأكابر، ولم يزالوا في النهب حتى قلعوا الرخام والأخشاب، وأوقدوا النار، وحضر أغات الينكجرية أواخر النهار، وأخرج العالم، وقفل الباب، وأعطى المفتاح للوالي ليدفن القتلى، ويطفيء النار، وأقامت النار وهم يطفئونها يومين وكان أمرًا شنيعًا.

وأما عثمان بك فإنه لما نزل بمسجد أبي العلا وصحبته عبد الله كتخدا أقاما إلى بعد الغروب، وذهبوا إلى جهة قبلي من ناحية الشرق، فلم يزالا إلى أن وصلا إلى أسيوط عند علي بك حاكم جرجا، واجتمعت عليه طوائف القاسمية الهاربين الكائنين بشرق أولاد يحيى وغيرهم.

وأما ما كان من إبراهيم جاويش القازدغلي فإنه جعل مملوكه عثمان أغات متفرقة، وكذلك رضوان كتخدا جعل مملوكه إسماعيل أغات عزب، وشرعوا في تشهيل تجريدة، وجعلوا خليل بك قطامش أمير العسكر، ووعدوه بولاية جرجا إذا قبض على عثمان بك، فجهزوا أنفسهم، وجمعوا الإسباهية، وسافروا إلى أن قربوا من ناحية أسيوط، فأرسلوا جواسيس لينظروا مقدار المجتمعين فرجعوا وأخبروا أنهم نحو خمسماية جندي، وعلي بك وسليمان بك وبشير كاشف وطوايفهم، فأشاروا على عثمان بالهجوم على خليل بك ومَن معه فلم يرضَ، وقال: «المتعدي مغلوب» ثم إنهم أرسلوا إلى إبراهيم جاويش يطلبون منه تقوية فإنهم في عزوة كبيرة.

فشرع في تجهيز نفسه، وأخذ صحبته علي جاويش الطويل وعلي جاويش الخربطلي وكامل أتباعهم وأنفارهم، وسافروا إلى أن وصلوا عند خليل بك، ووصل الخبر إلى عثمان بك ففكر في نفسه ساعةً، ثم قال لعبد الله كتخدا القازدغلي: «أنتم تفارقوا بعضكم» وأشار عليه بأن يطلع إلى عند السردار، وأنا أذهب بجماعتى حيث شاء الله وجزاك الله خيرًا، وهكذا تكون المحبون، فقال له: «اذهب صحبتك» فحلف عليه وطلع عند السردار، وعدى عثمان بك ومن معه وأنعم القاسمية الواصلين إليه، ورجعوا إلى أماكنهم، وسار هو من جهة الشرق إلى السويس، ثم ذهب إلى الطور فأقام عند عرب الطور مدة أيام، ووصل إبراهيم جاويش ومن معه إلى أسيوط فوجدوه قد ارتحل، وحضر إليهم السردار فأخبرهم بارتحال عثمان بك وتخلف عبد الله كتخدا عنده، فأرسل إليه علي جاويش الطويل فأحضره إلى إبراهيم جاويش وعاتبه، وارتحل في ثاني يوم خوفًا من دخول عثمان بك إلى مصر، ولما وصل إبراهيم جاويش إلى مصر اتفقوا على نفي عبد الله كتخدا إلى دمياط فسافر إليها بكامل أتباعه، ثم هرب إلى الشام، وتوفي هناك، ورجعت أتباعه إلى مصر بعد وفاته.

ولما وصل عثمان بك إلى السويس أرسل الخبر بوروده البندر وصحبته سليمان بك وبشير كاشف بطوايفهم، وأنهم أخذوا من البندر سمنًا وعسلًا وجبنًا ودقيقًا وذهبوا إلى الطور، فعملوا جمعية في بيت إبراهيم بك قطامش، واتفقوا على إرسال صنجقين، وهما: مصطفى بك جاهين، ومحمد بك قطامش، وصحبتهما أغات بلوك وإسباهية وكتخدا إبراهيم بك وكتخدا عمر بك، وطلعوا إلى الباشا فخلع عليهم قفطانين، وجهزوا أنفسهم، وأخذوا مدفعين وجبخانة، وساروا، ووصل الخبر إلى عثمان بك فخاف على العرب، وركب بمن معه، وأتى قرب أجرود، فتلاقى معهم هناك، ووقعت بينهم معركة أبلى فيها علي بك وسليمان بك وبشير كاشف، وقتل كتخدا إبراهيم بك، وكان عثمان بك نازلًا بعيدًا عن المعركة فأرسل إليهم، وأمرهم بالرجوع، وارتحل إلى الطور.

وأما التجريدة فإنهم قطعوا رءوسًا من العرب ودخلوا بها مصر، وكان عثمان بك أرسل مكاتبة سرًّا إلى محمد أفندي كاتبه التركي يطلبه أن يأتيه إلى الطور، وأنا أريحكم من عثمان بك، وأذهب به إلى الروم فلا يرجع.

فأحضر إبراهيم جاويش رجلًا بدويًّا طوريًّا، وسلمه له فأركبه هجينًا، وسار به إلى الطور فلما وصل إليه واجتمع به زين له الذهاب إلى إسلامبول، وحسَّن له ذلك، وأنه يحصل له بذلك وجاهة ورفعة، ويحصل من بعد الأمور أمور، فوافق على ذلك وعزم عليه، وقال لمن معه: «كيف الرأي؟ تذهبون معي؟» قالوا: «نحن نذهب إلى مصر لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، نكون حاضرين» وركب عثمان بك ومحمد أفندي ومعهم جماعة عرب أوصلوهم إلى الشام، ومنها ذهب إلى إسلامبول، ودخل علي بك وسليمان بك وبشير أغا إلى مصر، وبعد مدة ظهر بشير أغا فأرسله إبراهيم جاويش قائمقام على أمانة في الصعيد، ولما وصل المترجم إلى إسلامبول، وقابل رجال الدولة أكرموه، وأنزلوه بمنزل متسع بأتباعه وخدمه، وعينوا له كفايته من كل شيء، واجتمع بالسلطان، وسأله عن أحوال مصر فأخبره فقال له من جملة الكلام: «وما صنعت مع إخوانك حتى تعصبوا عليك وأخرجوك؟» قال: «لكوني أقول الحق، وأقيم الشرع فعلوا معي ما فعلوه، ونهبوا من بيتي ما يزيد على ألفي كيس، ومن وسايا البلاد، والخيار الشنبر ألف كيس، وحلوان بلادي ألف كيس» فأمر بكتابة مرسوم، وطلب أربعة آلاف كيس، وعينوا بذلك قابجي باشا وبكرمي سكز جلبي الذي كان إلجي في بلاد الموسكو وبلاد فرنسيس، وحضروا إلى مصر في أيام محمد باشا الذي تولى بعد يحيى باشا المعروف باليدكشي، وذلك أواخر سنة سبع وخمسين.

فلما قرئ ذلك المرسوم قالوا في الجواب: «أما البيت فقد نهبته العسكر والرعايا، والأوسية والخيار الشنبر نهبته أتباعه وخدمه والعرب والفلاحون، وأما حلوان البلاد فعندما يتحرر الحساب فيخصم منه الذي في عهدته من المال السلطاني، وما بقي ندفعه مثل العادة عن ثلاث سنوات.

فقال الكرمي سكز جلبي: «حرروا ثمن البلاد والخيار الشنبر، واخصموا منه ما عليه، وما بقي اكتبوا به عرض محضر، ويذهب به قابجي باشا، ويرجع لكم الجواب» ففعلوا ذلك، وذهب به قابجي باشا وصحبته إسماعيل بك أبو قلنج بخزينة سنة ست وخمسين، ولما عرض قابجي باشا العرض بحضرة عثمان بك قال: «ليس في جهتي هذا القدر، ولكن أرسلوا بطلب الروزنامجي وأحمد السكري كتخداي وكاتبي يوسف وحيش».

فكتبوا فرمانًا بحضور المذكورين، وأرسلوا صحبة جوخدار معين خطابًا إلى محمد باشا وبكرمي سكز جلبي، وذكروا فيه أن بكرمي سكز جلبي يحضر بثلث الحلوان بولصة، فلما وصل الجوخدار جمع الباشا الصناجق والأغوات والبلكات، وقرأ عليهم ذلك المرسوم، فقالوا في الجواب: «إن مصر من يوم هروب المترجم، وخروجه من مصر لم نرَ كتخداه ولا يوسف وحيش الكاتب، وأما الروزنامجي فهو حاضر، ولكنه لا يمكنه النقص ولا الزيادة؛ لأن حساب الميري محرر في المقاطعات، والحال أن ابن السكري كان ممن نافق على أستاذه حتى وقع له ما وقع، وأخذه إبراهيم جاويش عنده وجعله كتخدا، وبعد مدة جعله متفرقة باشا، ثم قلده الصنجقية وهو أحمد بك السكري أستاذ يحيى كاشف أستاذ علي كتخدا الموجود الآن الذي كان ساكنًا بالسبع قاعات وبها اشتهر، ثم إنهم أكرموا سكز جلبي، وقدموا له التقادم، وعملوا له عزائم وولائم، وهادوه بهدايا، ثم أعطوه بولصة بثلث الحلوان، وسافر من مصر مثنيًا ومادحًا في القطامشة والدمايطة والقازدغلية، ثم إنهم أرسلوا عثمان بك إلى برصا فأقام بها مدة سنين، ثم رجع إلى إسلامبول، واستمر بها إلى أن مات في حدود سنة التسعين ومائة وألف، وأما يوسف وحيش فالتجأ إلى عبد الرحمن كتخدا القازدغلي، ولما سافر عثمان بك من أجرود إلى الشام، وارتاحوا من قبله قلد إبراهيم جاويش عثمان أغا تابعه أغات المتفرقة وجعله صنجقًا، وهو عثمان بك الذي عُرف بالجرجاوي وهو أول أمرائه، وكذلك رضوان كتخدا الجلفي قلد تابعه إسماعيل أغات العزب والصنجقية، وعزلوا يحيى باشا، وحضر بعده محمد باشا اليدكشي، وتقلد إمارة الحج سنة ست وخمسين ومائة وألف.

وترك المترجم بمصر ولدين عاشا وشابت لحاهما، وبنتًا تزوج بها بعض الأمراء، واتفق أنه سافر إلى إسلامبول في بعض المهمات، ولم يقدر على مواجهة صهره، ولم يقدر أحد على ذكره له مطلقًا لشدة غيرته وحدة طبيعته، وفي أواخر أمره أقعد، ولم يقدر على النهوض فكانوا يحملونه لركوب الحصان فإذا استوى راكبًا صار أقوى من الشباب الصحيح، ورمح وصفح وسابق، ولم يزل بإسلامبول حتى مات كما ذكر وكما سيأتي في تاريخ سنة وفاته.

ومات مصطفى بك الدفتردار من إشراقات عثمان بك، وذلك أنه سافر أميرًا على العسكر الموجه إلى بلاد العجم، ومات هناك سنة خمس وخمسين وماية وألف.

ومات أيضًا إسماعيل بك أبو قلنج، وكان سافر أيضًا بالخزينة عن سنة ست وخمسين وماية وألف، ومات بإسلامبول ودُفن هناك.

ومات الأمير عمر بك ابن علي بك قطامش، تقلد الإمارة والصنجقية سنة تسع وأربعين وماية وألف في رجب بعد واقعة بيت محمد بك الدفتردار، ولما قتل والده علي بك مع أستاذه محمد بك اجتمع الأمراء والاختيارية بباب الينكجرية، وأحضروا المترجم، وطلعوا به إلى الباشا، وقلدوه الإمارة ليأخذ بثأر أبيه، وجرى ما جرى على أخصامهم، وظهر شأن المترجم، ونما أمره، واشتهر صيته، وتقلد إمارة الحج سنة أربع وخمسين ومائة وألف، ورجع سنة خمس وخمسين وماية وألف، ولم يزل حتى حصلت كائنة قتل خليل بك ومن معه بالديوان سنة ستين وماية وألف فخرج المترجم هاربًا من مصر إلى الصعيد، ثم ذهب إلى الحجاز ومات هناك.

ومات علي بك الدمياطي ومحمد بك، قُتلا في اليوم الذي قُتل فيه خليل بك قطامش وعمر بك بلاط بالديوان في القلعة في ولاية محمد باشا راغب كما تقدم، ومحمد بك المذكور من القطامشة، وكان أغات مستحفظان فحصل دور السفر بالخزينة إلى عمر بك ابن علي بك المذكور فقلده الصنجقية، وسافر بالخزينة عوضًا عنه سنة سبع وخمسين ومائة وألف.

ومات أبو مناخير فضة، وذلك أنه كان ببيت أستاذه رضوان كتخدا في ليالي مولد النبي وكان جعله باش نفر عنده، فأقام يتفرج إلى نصف الليل، وأراد الذهاب إلى بيته فركب حماره، وسار خلفه عبده من طريق تربة الأزبكية على قنطرة الأمير حسين، وإذا بجماعة من أتباع الدمايطة ضربوه بالسلاح، وهرب العبد والخدام، وظنوا أنه مات فتركوه، ثم رجعوا إليه بعد ساعة فوجدوا فيه الروح فحملوه على الحمار، وساروا فلاقاهم أوده باشه البوابة، وهو من الدمايطة، فقال لهم: نزلوه فوجد فيه الروح، فكمل قتله، فذهب العبد، وعرف جماعة رضوان كتخدا فحضر منهم طايفة، وشالوه ودفنوه في صبحها، وأرسل رضوان كتخدا عرف إبراهيم جاويش بذلك، فعزل الأوده باشه وولي خلافه، وذلك في أواخر سنة ستين وماية وألف قبل واقعة الدمايطة.

ومات علي كاشف قرقاش، وهو من أتباع عثمان بك ذي الفقار المخفيين، وذلك أن أوده باشا البوابة الذي تولى بعد عزل الأوده باشه الذي كمل قتل أبي مناخير فضة سرح بعد المغرب، وجلس عند قنطرة سنقر، وإذا بإنسئز بالطريق، وهو مغطى الرأس؛ فقبضوا عليه، ونظروا في وجهه، فوجدوه علي قرقاش، فعرفوا عنه إبراهيم جاويش فأمر الوالي بقتله فقتله، والله أعلم بالحقائق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤